ولادة «ديك»
جوزف أبي ضاهر
كلمة شكر في ندوة كتاب: «ديك»
الحركة الثقافيّة ـ أنطلياس
2014/10/22
في كلِّ ولادةٍ فرحٌ وارتباكٌ.
الفرح بالإطلالةِ على الحياةِ.
وأما الارتباك فبعضُ شكٍّ بقبول الحياة للمولود الجديد.
هذا الشعورُ لامسني منذ صدورِ كتابي الأوّل سنة 1973، ويواجهني اليوم مع صدور كتابي الثالث بعد الخمسين.
المولود شرعيّ،
أقسم بذلك،
والفرح حقيقيّ،
لكن الارتباك ما زال يحشُرُ نفسه، وسيظلّ، أمامَ ملامحِ كلِّ فجرٍ يطلّ.
... والفجرُ أطلَّ مع بشرى صياح الـ «ديك».
آمَلُ ألا يتحوَّلَ صياحُهُ نكرانًا، فتتشوّهَ الصورةُ، وأَخسَر حبًّا طالما سَعَيت إليه بكلِّ ما أملك، وما أُعطيت.
بمحبةٍ وشكرٍ أتوجّه إليكم جميعًا قلبًا قلبًا وأقبّل كلَّ جَبهةٍ.
والشكرُ والمحبّةُ أحمِلُهُما دائمًا إلى الحركةِ الثقافيّةِ التي وسَّعت لي مِنبَرها وقلبها، وغَمرَتني بمحبّتِها، من أولى الاطلالات وما زالت.
أشكر أمينها العام الدكتور أنطوان سيف وجميع الأعضاء والعاملين تحت خيمتها الأوسع من التحديد.
أشكر الأصدقاء الذين أعطوا لصياح الـ «ديك» فجرًا ورحابةً من سَمْعِهم ووَقْتِهم وفِكرهم ورهافةِ أقلامهم:
الفنّان الأستاذ حسن جوني، الدكتوره نتالي الخوري غريب، الشاعر والأديب قزحيّا ساسين، والدكتوره نجاة الصليبي الطويل.
... وآمل أن يستأهل هذا الـ «ديك» منكم ما يستحق.
--------------------------------------------------
كلمة قزحيا ساسين
جوزف أبي ضاهر في "ديك وحكايا صغيرة"
ديك لا يدركه ثعلب النسيان
من أين أتى جوزف أبي ضاهر بديكه في زمن انقراض الديكة، وفي زمنِ ساحاتٍ اشتاقت إلى أن تحتضن بشهيّةٍ ظلاًّ لبيضة بلديَّة؟!
نسج جوزف شبكته من شعره ذي الشّيب الحلال، ورماها عميقًا في مياه الأمس وهو منتظر غدَه "ليحرقصه" بأمسه.
قصصٌ قصيرةٌ جدًّا. زحمة بدايات ونهايات على الورق. بين البداية والنهاية بلْعَةُ ريق. قصّاصٌ مصاب بالبُخل اللغويّ. يَصرفُ من لغته باقتصادٍ شديد. هذا هو التّحدّي. أن تقول أنت، وأن تترك لقارئك ما يقول هو. أن تترك لخياله، ولذاكرته، ولقلبه، متعةَ الإبحار والتأليف معك...
ديك جوزف، القصّاص، طالعته ريشة ريشة، فتحتُ قلبي لحنجرته فأفرغت فيه كلَّ صياحها. تألّمتُ، لأنَّ الجمال يؤلم، ولأنّي لم أكن على علم بأنَّ صاحب الدّيك يكتب عنّي وعنه. وهذه خطيئة الكبار الرائعة، أنّهم يقولون الآخرين حين يقولون أنفسهم.
ديك جوزف متعدّد الرّيش. فلكلّ ريشة أناقة وجعٍ خاصّ. وسأمرّ بهذا الريش على عجل، كيلا أطيل فتصيحوا عليّ احتجاجًا.
في "ياسمين"، عطرُ الفقرِ والتشرّد طالعٌ من وجهين يبيعان الياسمين والطفولة في ليل بيروت. وحين تغيب البائعة الصغيرة، يبوح الياسمين بحزنه وحزن البائع الصغير: "ما عاد الليل اتّسع، لصغير وحده، يبيع الياسمين الأبيض، لرجال يخاصرون ليل نساء". وفي "كسرة خبز"، أمّ تهزّ سرير ذاكرة جوزف، يشبع أولادها بقليل خبز وكثير عاطفة. أمّا هي فـ: "غلبت الجوع. كسَرَتهُ بكسرة ولو من دون زيت وملح". وفي "مجمرة العاصفة"، بيتٌ "مسكون" تسكنه الخرافة، وعلى درجه ترقص السّماء ملوِّحة بقرون الشياطين، ويعلن خوري الضيعة الانتصار برش ماء شبع صلاةً. وفي "شجرة الجنّة"، يهز جوزف قلمه لرجل قصر يعيش عن الناس، ويشبع عنهم، ويمنع الحلمَ عن ليلهم ليحلم عنهم. وهم، تلهيهم رسمةُ شجرة على باب بيت، فتعطيهم كلّ ما يحتاجونه على الأرض، لكن بعد الموت بقليل. وفي "من أجل تفاحة" امرأة تجوع إلى جسدها، تحاول رجلاً من المطر يكسر قجّةَ أنوثتها. حتى المطر أدار ظهره لنافذتها المفتوحة، ولسريرها الذي سيبقى مشروع سرير لأنّه بلا رجل، وحتّى ملاك الرحمة لم يحملها على ظلّه تحت قنطرة الموت: "خاف يفتضح أمره... ويُطردَ ثانيةً من أجل تفّاحة". وفي "ذهبت إلى المدرسة ولم أدخلْها"، يقف جوزف في غابة ظلال بين طفولته وطفولة حفيده "أودن"، يرشحُ من ذاكرته زيت "عروس الزعتر والزيت" ويغطّي شاشة "الأي باد" في يد "أودن"... كأن جوزف أبي ضاهر في ديكه الفريد يقول لنا: إذا شئتم قصّة طويلة عمر اكتبوها قصيرة، لأنّ طول القصة يأخذ من طول عمرها. ولأنّ يومنا أصبح ذا نفس قصير ويرتاح لما يشبه نَفَسه. ولا بدَّ من الاعتراف بأنَّ قِصرَ قصّة جوزف مسوّر بالعمق على بساطة شمسٍ تعانق جبلاً بيدين ترتديان عُرْيَهما فقط. وجوزف خبير في الغوص على النفسِ في أعماق صاحبها، بحثًا عن بصمة تقول بطلها، وعن معنى يجسّد قيمة يضيق صدر الشكل باحتضانه.
وجوزف يجلس أبطال قصصه على مقاعد ذاكرته أوّلاً، يسقيهم القهوة. يقوم بواجباته معهم. ثم يوصي خياله، قبل أن يرتاحوا على بساط السّرد، بأن لا يصادر براءتهم وعفويّتهم، وبأن يبقيهم أولاد الحياة لا أولاده. إذًا، يخشى جوزف على أبطاله ضباب المجاز، لذلك، يلجأ إلى مجاز متصالح مع الحياة، ويلحّ على قلمه بأن يعتمر الوضوح تاجًا، ذلك الوضوح الذي هو منتهى الصناعة والمتعوب عليه كثيرًا، ليس الوضوح الذي يضجُّ بالفراغ والتشابه والابتذال.
وفي هذا السياق أيضًا، يراعي جوزف مزاج كلمته، فهو ديمقراطيّ معها إلى أبعد حدّ، لا يأخذها رغمًا عنها إلى حيث لا تريد، إنّما يراعي شهيّتها ويتبعها، يوصِلها، في قصته، إلى حيث ترغب في الإقامة. ولغة أبي ضاهر مقطوفة من أغصان الصوت الخضراء، لا من أغصان شجرة القاموس اليابسة، وعليه، فإنه لا يمضي إلى القاموس راغبًا في بعث الكلمة الميتة حيّة، لأنه لا يؤمن بدعوة الأموات إلى حفلة راقصة...
ربّى جوزف أبي ضاهر ديكه في محبرة ذات ذاكرة عاطفيّة، فقلبه بوصلة ذاكرته، وعلى ظهر قلمه حاول تهريب أمسه من النسيان. وقال للتراب: أبي، وأمّي، والراعي، وخوري الضيعة... صاروا أنا قبل أن يصيروا أنت. إنّه شكل من أشكال التحنيط بالحبر، أو إعادة الولادة بالشدّ على رحم الكلمة لنعيد إنجاب أبطال ذاكرتنا.
وقارئ الـ"ديك"، لا يتأخر ليعرف أن أبي ضاهر يعيش في زمن وينتسب إلى زمن آخر. لماذا؟ لأن الانسان ليس له أن يقيم روحيًّا في زمنين. لا يمكنه أن يستبدل صياح الديك بصياح الخليوي قرب التخت. وأكثر من ذلك، إن الماضي ينجح في أن يصير كثيرًا وكثيفًا، وينجح في التّحوّل من حقيقة إلى أسطورة.
إن "ديك" جوزف أبي ضاهر يقفز من حديقته إلى ذاكرة قارئه، وينقر ليوقظ في لحمها عسل الفرح. وإذا ما قُرئ مساءً فقصصه تطرد النوم بأجنحة نشيطة. وهذا الـ"ديك" يليق به الصياح صباح العيد على المصطبة، لا في الطنجرة، وكيف لا؟ وهو الديك الذي يُطلعُ ضوء الأمس في صباح الغد... وببضع كلمات: إنّه ديك لا يدركه ثعلبُ النسيان.
قزحيا ساسين
--------------------------------
شجرة الجنّة
في قديم الحكايات، أن حاكم مدينةٍ تبعَ هواه في الباطل من الأعمال.
أنفق ما جُمعَ من مالٍ في الخزينة على رغبات وشهوات، حتّى إذا فرغت الخزينة قامرَ برهن إهراءاتِ قمح كانت تموّن مدينته والمدن المجاورة... وخسر كلّ شيء.
مدَّ الجوع رأسه إلى أبواب البيوت.
كُشفَت معاجن الخبز على فراغ. بكى الصغار وهاج الكبار.
طوَّقت الأصواتُ المحتجّةُ أسوار القصرِ.
خَرجَ الحاكم إليهم باسمًا، ليُعلن خديعة تسدُّ الأفواه على أمل. قال: من زمن ولم يَغمض لي جفن. سَهِرتُ على رعايتكم، وحمايتكُم، تأمين القوت والأمان لكم. وما حصل يخرج عن كلِّ إرادةٍ، ولكن ليس عن إرادتي. سأبعثُ إليكم بـ"رسّام" القصرِ ليرسم على أبواب بيوتكم وجدرانها "شجرة الجنّة"... هي شجرة مباركة مقدّسة، لم يُعطَ حقّ الإفادة منها إلا من أعطي رعايتكم.
ما إن ينتهي الرسّام حتّى تورقَ هذه الأشجار، وتزهرَ، وتُعطي في أيامٍ ثمرًا لا ألذّ ولا أطيب. من يأكل منه يشبع عمرًا، ويعيش دهرًا، ولا يحتاج إلى خبزٍ تستميتون الآن للمطالبة به قهرًا لجوعٍ فيكم.
بعد اليوم، لن يعرفَ الجوعُ طريقًا إليكم.
وَعَدَ، وأقسمَ... وصَدَّقوا.
تفرّقتِ الأصواتُ والنّاس، وهدأت النفوس، إلا نفَسُ رسَّام القصر، وكان سمعَ ورأى، فهزّه الخوف من داخل.
قال للحاكم:
- كيف لي أن أرسم شجرَ جنَّةٍ ما سمعتُ به من قَبل، ولا عرفتُ له صورًة وشكلاً؟
هدّأ الحاكم من روعه، وسأله بخبثٍ ساخر:
- أما سمعتني أقول لهم إن الجوع لن يعرف طريقًا إليهم بعد اليوم؟
- بلى.
- إبدأ برسم شكل غريب على أبواب البيوت وعلى جدرانها، هم أيضًا لا يعرفون شكلاً لشيء غير موجود.
- ولكن...
- مهلاً، قبل أن تنتهي المدّة التي سترسم فيها أشجار الجنّةِ... وستطول، يكونُ أصحابُ البيوتِ في عدادِ الأمواتِ... هل سمعْتَ يومًا أنّ الموتى يطالبون بخبزٍ لهم ولعيالهم؟
هذا كان في قديم الحكايات.
أما حديثها فتعرفونه، والتذكير به "ضربٌ في ميتٍ" و"الضربُ في الميتِ حرام"!
جوزف أبي ضاهر
--------------------------------------
(مداخلة ناتالي الخوري غريب)
جوزيف أبي ضاهر، ديك وحكايا صغيرة، ندوة في الحركة الثقافية إنطلياس-22-10-2014
مقدّمة:
الوليمة: ديك محشيّ حكايا، فيها من حكايا الجدّات متعةُ السهر في العشايا الغابرات. وفيها من حكايا الشبّان تأريخ البطولات في المسايا الحمراء. وفيها من ألف ليلة وليلة أخبارُ الفحولة غيرِ المتخيّلة، وفيها من أدب أبي ضاهر رقّةُ البوح وفنُّ اللمعة والومضة في طرب العصافير ودهشة البواكير.... لكن ما يميّزها، هو ديك تأنّق "بعرف أحمرَ أحمر"، فصيح هو، وفي فصاحته صياح تألّق ببلاغة الرغبات في احتفاليّات الذكورة والأنوثة في مراتع القمّة كما الخيبة(أحصنة الخشب).
ديك لكنّه يوقظ فجر اللذات أنّى يشاء، بحسب مواقيت الاشتهاء، فلا ينكشف إلا لقمر يهلّل طربًا بفصاحة الشهوات التي لا تعترف بسنّ يأس أو تقاعد.
هذا الكتاب ستّون حكاية قصيرةً جدًّا، لكنّها تؤطّر البدايات التي لا تعترف بالنهايات..
فيخبرنا أنّنا في البدايات طردنا من الجنّة، لأنّ أحدهم أسقط ورقة التين عن شهوة زرعت فيه، أُعطي له كلَّ القدرة على التحكّم بها.
وفي النهايات وقعنا حين وعينا أنّ التفاحة هي امتحان لإعطائنا صكّ الفردوس والغفران.
وما بين البدايات والنهايات تخبر هذه الحكايا عن توق ملحاح لمن استطيب جنّة اللذّات، والوصايا تنهيه في حكمةِ قولِها بألف لا، ناهيةٍ عن كلّ شهوة ومتعة، ما عادت جازمة ولا حازمة إلّا لمن أراد تصديقها.
-المضامين الفكريّة:
للاقصوصةتلك القدرة على تصوير الصراعيّة الكامنة في الذات المتساءلة دومًا عن إمكان تحقيق مطامحها ومطامعها بين الأحلام والواقع....
-في أنسنة الرغبة: لقد جعل المؤلّف الرغبة إنسانًا لها كيانُها، ويتوجّب احترامُ طبيعتها، هي الرغبات التي تعي ذاتها في أوّل انكشاف لها عند عتبات الأسرار (كما في حكاية ديك، وغابة الهواء، وصولًا إلى أفولها(وجه). وقد ميّز الأديب بين الرغبة والشهوة، بما هي"نزوع مصحوب بوعي، فهي شهوة واعية". أي شهوةٌ مصحوبة بتصوّر و حكم (فاعلية عقلية).كما نجده في حكاية(إعراب التفاح ممنوع) حيث يصوّرصراع الرغبة بين العقل والغريزة، مظهرًا دور الوعي أي الرأسِ بما هو عقلٌ، وتحكّمه بالجسد. وكيف يكون الوعي محافظا تسييجًا ومنعا من السقوط في غير المسموح: فيقول:" وحيدة ولدت في رأس الرأس .الرأس عقل. العقل هامة المعرفة.ص 71. تحته سرب تفاح تغاوى، فلحقت به العيون اشتهاء، ...وحدها "المولودة" فوق ظلّت عاصية..تحسد وتمانع...ظلّت وحدها...من تنتظر؟ من يكتمل بها عقلًا، ويتكاملان معرفة؟ ربما....سقطت هامدة على تراب ..ضمّها. من قال ضمّها؟ عبرت عبرة. الضمّ في لغة التراب غيره في لغة الحياة.لا همّ. إعراب التفاح من دون ال"ضمّ" ممنوع!،" والحال أن الرغبات لا ينبغي أن تكون مجردَ انفعال بل فضيلةً أخلاقية تترجم العيش وفق أوامر العقل والأفكار المطابقة على حد تعبير سيبنوزا.(فالتفاحة تحسد لكنّها تمانع) ".( وتغض طرفًا يودّ استسلامًا) ..وإن كان لا بدّ من ضمّ، فلن يضمّها أحد إلا التراب.
-أما في صراخ الرغبات:نجده يصوّر جموح الشبق في البدايات وما تؤول إليه النهاياتُ في حكاية(النهر) الذي اتُّهم بأنّه غدّار، والواقع أنّها رمت بنفسها فيه شهوة ورغبة وهاجسًا-كذلك في (حكاية قميص) وأزرارِه التي تفتّقت شهوة لم يعد بالامكان كبتُها، وفي المقابل، يتناول الرغبة بعد إشباعها ردحًا من الزمن كما في جكاية(ليس تهمة) بطريقة غرائزيّة ليصبح الغمز من مثل "كرم على درب" لبيت ما عاد له قفلٌ حياء وتمنّعًا.
-ب-فلسفة الحلم والتمنّي:
ومن الموضوعات التي أضاء عليها الأديب هي فلسفة الحلم كملجأ أخير لتحقيق المبتغى، فالحلم عند أبي ضاهر يحمل سمة الصيرورة ويصبح طاقة إيجابيّة فاعلة محوّلًا التمنّي إلى واقع. فيرسُم بيديه ما يريده ويتمنّاه أو يحلُم به.(كما في أقصوصة قبّعة، وغمزة وشجرة الجنّة، ما يشبه الاشتهاء)
-ومن الأحلام رغبة الاستمراريّة عبر إنجاب الذكر فخرا وبطولة، والتفلّتُ من عار أن يكون المرءُ أبَ البنات(تأخّرت يا ملعون).
-حلم اجتراح المعجزات وتدخّل الآلهة في الإنجاب للزوج العاقر(ولدا مثل القمر"ولوكان ذلك من الجار عند استدارة قمر أوّل الصيف،) كما في أقصوصة (قمر صيف).
وحلم مجيء العريس ولو كان اللجوءُ إلى السحر سبيلًا والغناء بالمقلوب قضاءً على العنوسة كما في حكاية( يستأهل).
-في فلسفة الخطيئة: والكلام على الضمير الزائف المنسوج خوفًا من عيون الناس، ففي الجسد تتمّ الخطايا وخرق الوصايا، والخوف ليس من غضب الإلهة في خطايا الجسد، بل من الوقوع في النميمة والظّن والحمق، هي الخطايا المميتة.(حكاية راع ومجمرة العاصفة والخيط الأبيض وكرم على درب)
2- في فنّ القصّة القصيرة جدّا:"الاسم-الرمزية- المقوّمات.
الإبداعيّة الأدبيّة تحتّم التجديد، وتقرّ بديمومة التوليفة بين الأصالة والحداثة، تكيّفًا مع مستجدّات السياق الزمني المتسارع الإيقاعات.فكان هذا الجنس الأدبي الجديد، فنَّ القصّة القصيرة جدًّا. وقد أطلق الدارسون عليه عدّة مصطلحاتوتسميات للإحاطة به من كل جوانبه الفنية والدلالية، القصّة القصيرة جدا، لوحات قصصية، ومضات قصصية، ومقطوعات قصيرة، وبورتريهات، والقصة القصيرة الشاعرية، والقصة القصيرة اللوحة....
وأدب القصّة القصيرة جدًّا، كما يقدّمها الأديب جوزيف أبي ضاهر هي فنّ النص المختزل وفنّ إيجاز الحكاية في بلورة صورة الرؤيا الموحية مع كثافتها الغنيّة بالأنسنة والتشخيص والتجسيد الإحيائي ضمن بلاغة الانزياح والخرق الجمالي.
فالرموز في نصوصه غير مسبوقة، لأنّها محبوكة في تلافيف الحكاية، وتلاوين المتاهة، مع الإبقاء على متعة التشويق في مقوّمات الأقصوصة، تتواطأ معها أسلوبيّةُ السهل الممتنع مع الإدهاش في العبرة، من دون الإغراب في الفكرة، وتعيد القراءةَ، فتسرّ بما خلصت إليه..أمّا الجمل الموظّفة فتتميّز بالإيجاز والبساطة في وظائفها السرديّة والحكائيّة، لا إسهابَ وصفيًّا يعيق صيرورتَها الجدليّة الديناميكيّة..بل ومضاتٍ تخييليةِ زئبقيّة تتمتّع بخاصيّة الحركة والإيحاء مع سمة الارتكان إلى الإضمار والحذف المتمثّلة ب ثلاث نقاط يترك لك فسحة من التلهي بالكبائر من الكلمات أو الصغائر...
ومن التقنيات اللافتة التي استخدمها الأديب في لوحاته القصصيّة، تسخير الأمثال الشعبيّة، كموروثات تحمل خلفيّات ثقافيّة وشعبويّة تشكّل تارة حافزًا لتحقيق الحلم وتارة عائقًا أمامه، ليتمكّن من هدم السائد من المفاهيم ومن ثمّ إعادةِ البناء بإيجاز.. من دون أن يخلو الأمر من تهكّم وسخرية (كما في حكاية المرأة العاقر) ليظهرَ الفجوة بين أوهام الناس ورغباتهم وصراعَ التسامي على عاداتهم وتقاليدهم وموقعَ الأقاويل والنميمة أو شغف الايمان من أجل العجائب.
خاتمة:
هذه هي حكايا الديك: في البدايات خجل الفطرة في اكتشاف المرّة الأولى، والقبلة الأولى تغمرها فرحة الأزاهير في جموح التحوّلات..
وفي النهايات لعنة العادة في وقاحة طبعها وتطبّعها، بعد تخاذل الضمير عن دور الحساب، لكنّ الديك بُحّ بعد أن أصبح حصانًا ولكن من خشب (كما في قصه سهرة)
وفي الختام ، لا بدّ من الإشارة إلى جديد هذه الأقاصيص في أنّها تستفزّك كقارئ، بل قلْ تتحّداك في قدرتك التأويلية على فكّ رسائلِها المشفّرة، فتدغدغ شهوتك المعرفيّة، وتمتحن ذكاءك وتمنحك نشوةَ المنتصر الذي تغلّب على لعبة الكاتب. فتضحك في سرّك والعلن. والمرآة حاضرة تظهر تراشق الغمز بينك وبين الكاتب، في تبدّل الأدوار، أن مررتُ بالتجربة، والمتعة الأكبر في أن تمتحن غيرك كما امتحنك..في متعة الكشف عن المرغوب- المحجوب في المكبوت لا يفضحه إلا صياح الديك في حناجر الضوء.
---------------------------------------------
كلمة الدكتورة نجاة الصليبي الطويل
في تقديم كتاب "ديك... وحكايا صغيرة"
للشاعر جوزف أبي ضاهر
لِمَ نتوقف عن قراءة الحكايات أو الحكايا ؟ أهي حقاً حِكرٌ على الأطفال وكلّنا نعلم انها تستطيع أن تنجّي من الموتِ كما تُخبر "الف ليلة وليلة" ؟ ربما لم يهتم الراوون والحكواتيون بعالمِنا الطفوليّ الخياليّ حيث يتكلّمُ الجماد والحيوان ويثرثر الضوءُ والألوان. غفلَ الكتّاب عن قوةِ تأثير الخُرافاتِ والأساطير التي تصبح من تراث ثقافة الشعوب. المهم أننا نحن الكبار الناضجون بحاجة للحكايا تُغني عالمَنا، تسلّينا، تضحكنا، توقظ فينا الطفولة، الماضي، الآمال الراقدة والأحلام المكبوتة والمتخفية، وسط عالم واضح المعالم والحدود، مخطوط باشخاص وحيوات، القائم بنظريات وتقاليد متوارثة.
ليس من السهل سرد "الحدوثات على الكبار" فلا نستطيع جذب إصغائهم بسهولة، وإنما برع جوزف أبي ضاهر في جعلنا نقرأ، نضحك، نفكر، نقلب الصفحات، ونطلب المزيد. هذا بشهادة الكثيرين من زملائي في الحركة، وقد قدّم لهم الشاعر هذا الكتاب مشكوراً.
ما هي عناصر هذا الفضاء الواقعي، الذي يصبح بريشة ابي ضاهر واسلوبه، ينضح شعراً وعناصر مفاجأة وفانتازيا، يصعب معها تصنيف هذا العمل ؟
يتربع مساحة الغلاف البيضاء، كانتظار القارئ، العنوان "ديك وحكايا صغيرة". منذ البداية يُطرح الغموض والتساؤل مع عنوان ازدواجي، واقعي من جهة ومجازي من جهة أخرى. يتساءل القارئ عن أي ديك سيُخبر ويستحضر الكثير من الصور المرتبطة في الذاكرة الجماعية الشعبية بما فيها من سلبيات أو ايجابيات، ولكنها بالتأكيد تفترضُ الكثيرَ من الفكاهة والتندّر من جانب الراوي، الذي ربما هو "ديك" ايضاً في نظرته الثاقبة الى العالم، يسردُها في "حكايا صغيرة"، وهي بالحقيقة كبيرة وأساسية. يجمع هذا العنوان بين الدلالة الرمزية لموضوع الحكايا من خلال تحديد الشخصية الأساسية "الديك" وما يرتبط به من مفاهيم وعوالم. من جهة أخرى، تحدّد العبارة الثانية "حكايا صغيرة"، الشكل النوعي للسرد، الذي يحمل الكثير من الآفاق الواسعة، غير المنتظرة.
يجذب هذا العنوان بكثير من التشويق الى عالم نعرفه، ونتواطأ مع الراوي في ولوجه من جهة، كما يدفعنا الى الحذر من المفاجأة، وانتظار اللاواقعي والمُبتكر.
ترتكز هذه الحكايا على الكون بعناصره الأساسية؛ إنها الأرض والتراب الذي يتعاطف مع الحبة- النبتة؛ إنها الأشجار والغابات مع نزلائها من العصافير كالدوري (ص. 7(، من النمل ومن الفراشات؛ إنها الهواء والعاصفة (ص. 28) ويد الريح (ص. 38)؛ وتهدر الماء أنهراً (ص. 34)، تصبُّ في البحر (ص. 36،46)، تكلِّل هذا العالم سماء صافية أو غيم، أو برق، ينهمر مطراً، تواصلاً مع الصخر والتراب؛ ويكتمل هذا المشهد بضوء القمر والشمس التي تعدّد ذكرها مرات عديدة في 9 حكايا.
تشكّل هذه الطبيعة إطاراً للضيعة اللبنانية بحقولها وقمحها، بمواسمها، صيّاديها وتقاليدها وعاداتها اليومية وباحتفالاتها. كعادة الأم التي تسجّل تواريخ زواجها وميلاد اولادها على درفة الخزانة أو ختم احتفالية المساء بسيجارة (ص.73). انها لعبة الوجوه والمرايا، إنها الأصوات المعهودة، وروائح الورد والياسمين. وللدانتيل الاسود مكانته وذكرياته، حنيناً الى الأم ومنديلها.
إنها مواسم الفلاحين وغلاتها (ص. 84) وموائدهم، وهناك سيد القرية وقاضيها (ص.69) ولا يوجد فيها ديوك كثيرة فقط، إنما دجاجات وبَيْض. صباحاتٌ وفناجينُ قهوة وعطورٌ وزعترٌ وزيتٌ "لتفتّح الذهن"... وتساهم تعابير "كالجندرمة" (ص. 54)، وأمثال شعبيّة لبنانية بتعزيز هذا الجوّ القرويّ:
"اللي بياكل خبز وزيت لبطو بتهد الحيط" (ص.24)
"شواربو ورا دينيه وماشي ورا مرا" (ص.47)
"العادة البشعة ما بيلغيها غير الكفن" (ص.32)
إنها القرية اللبنانية، المسيحية بصورة خاصة، او ضاحية مدينة في ما مضى. (ما عدا ذكر المدينة وبيروت في قصيدتين) وترد في هذه الحكايا اعياد العنصرة، ومار الياس الحيّ (ص.30) ويُذكَر الميرون يُمسح به الجبين. ومن الشخصيات بونا جناديوس وبونا مارتينوس وبونا حنا (ص. 84) وجبّتهم السوداء. "ويندَه صباح الأحد الجرسُ الناس" (ص. 87) الى الكنيسة، فتحضر مع كل ما يرتبط بها من ايمان وتراتيل جوقة (ص. 58) وبخور. ويضرع الجميع لشفيع المزارعين والزرع.
وتصلي أم البنات السبع "حتى تعبت الصلاة وما ملّت" نسبة الى قول السيد المسيح: "صلّوا ولا تملّوا". كما ان "الكذب خطيئة مميتة" (ص. 87)، نسبة الى احدى الوصايا "لا تكذب". كما يأتي على ذكر المسيح "يلعب الصغير مع المسيح" (ص. 78)
ويحيك أبو ضاهر جيداً هذا العالم فيفرشه بتعابيره المُردّدة شعبياً وأمثاله وكليشهاته ليس التعبيرية فقط انما الفكرية أيضاً.
ينطلق من هذا العالم الواقعي صوتٌ لِعَيْنٍ ثاقبة، ساخرة، لأذنٍ مسجّلة وانتقائية. يسرد الراوي خبرية وكثيراً ما ينسحب وراء شخصياته فيصعب عليك التمييز بين رأيه ومقولاتهم. إنها الأساليب البلاغية للكتّاب وللشعراء منهم خاصة. كما يُنهي حكاياه بجملة – قفلة صادمة، غالباً ما يطغى عليها النفي والنقاط الثلاث دعوة للتفكير والتعجب. "النمل لا يحتاج الى مساعدة"... بداية ونهاية وتحوّل فيه روح الفكاهة والدعابة، تتشكّل رموزٌ جديدة: الشعر بدراً بين يدين والشمس ضوء شاهد على ليلة الرغبة (ص. 16) ورسم شجرة الحنة رمز الايمان بالأحلام...
ومن خصائص اسلوبه المميّز هذا، ايجاز مُلفت يكتنزه ايقاع ونبض متقطع مغاير للمناخ العام. يعبث بهذا الواقع ويحوّله فيصبح الفجر عذباً يغسل وجهه كما تغتسل المرأة "بالرغبة" والجنّ تسكن "غابة الهوا" وتسمع صفيرهم ولهاثهم ويتهمونها بالعقم (ص. 7)
وهناك بالاضافة الى التحول داخل القصيدة الحكاية ايضاً تحوّل الاشياء والعناصر
حين اغفت تحوّلت المرآة وجهاً
"خرجت الشمس من دون قميص يستر ما لم يعد بحاجة الى ستر".
ويتزوج الدوري الشجرة و"تُبحّ غابةُ الهواء ويتبعثر صداها" فيخلق الصور من فرج التعابير فيكون "صوت الأحلام" (ص. .1)0 وكلمات الجسد (ص. 13) وشجر الكلام كما صارت مساحة القفص الذهبي "لا تتسع لضجر وجه".
ويستطيع الفلاح الانفصال عن جسده "نفّض الفلاح جسده خلعه علّقه في الحقل ورجع الى بيته"، "ولكن الشمس رأته قبله لمحت جسده معلقاً فلبسته أعجبها وما عادت خلعته" (ص. 19)
كما "اخذ الفلاح قلبه الى الحقل وخبأه" (ص. 63)
ويصبح للصيف قدمان ويدان وجبين "دخل الصيف حافياً الى الكرم. أزاح باطراف اصابعه خصلات من العشب المذهب وجلس" مسح قطرات العرق عن جبينه ... ارتاح
ثلاث جمل ويمتد الصيف أمامنا بصوره الجديدة المبتكرة.
"غرّر النهرُ بها فحملها الى البحر ليضمها إلى حورياته"
وهناك صياد يتزوّج "عروس البحر" (ص. 36)
وشجرة تتعرّى "امام الناس" (ص. 38)
وورق "ثرثار يبوح حتى بالنبض" (ص. 56)
وعروق يد الأم - الزارعة "تصبح جذوراً لشجرة أم" (ص. 62)
ورسم القبعة يحمي من الشمس (ص. 88)
شعرتُ بنفسي وأنا أحاول رصد مفاتيح هذه الحكايا جزاراً يشبه جزار حكايته. بينما هو كاتب الحكايا وراويها، رسام أجنحة ملائكة، وعصفور الدوري سارق الجدّة الخَفيّ، وهو من اسقط العروس من الحكاية لأنها نسيت أن تفتح شباكها وهو مَن يختم الحكاية على ليل وحلم، وهو مَن "شرع قلبه للشمس (ص. 76) وفتح دفتر شعره، فتح كل "قوارير العطر وكتب بحبرها" وكما رسّام "شجرة الجنّة" يخطّ الأحلام والذكريات. يفتح كنز حكاياته امثالاً وعِبَراً كعلبة أمّه تضمّ صورته بدل الجواهر والأساور، فتتدحرج حكايا الماضي الجميلة وتبتسم لومض الكلمات والدعابات ويدق قلبك مع الخاتمة "ذهبت الى المدرسة ولم أدخلها" وكأنها تغلق الحلقة الدائرية للحياة التي تبتدئ ولا تنتهي، وتستمر الحكايا لمن يلتقطها وينمنمها.
فمبروك لك ولنا هذه الحكايا.