تكريم أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي
المخرج السينمائي جورج نصر
قدّم التّكريم:الأستاذ جان خالد
أدارت اللقاء: الدكتورة تراز الدويهي حاتم
كرّمت "الحركة الثقافيّة- أنطلياس" علم الثقافة وأحد أبرز رواد الإخراج السينمائي الأستاذ جورج نصر الذي أدرج اسم لبنان في عالم الفنّ السّابع بفضل أفلامه وعطائه المتواصل.
رحّبت الدكتورة تراز الدويهي حاتمبالأصدقاء والمهتمين بإعلاء شأن الثقافة في لبنان، وقدّمت نبذة عن حياة ابن مدينة طرابلس الذي بدأ التّخصّص في الهندسة المعمارية، بيد أنّ مسيرته عرفت تحولّاً جذرياً بانتقاله إلى الإخراج السينمائي، إذ تلقّى دروس الإخراج في مدينة لوس أنجلس (هوليوود) وتدرّب في استوديوهات عدة في الولايات المتّحدة وفرنسا، قبل أن يعود إلى لبنان في العام 1955 محافظًا على أصالة لبنانيّته وتعلّقه بالوطن. وعلى الرّغم من التّحدّيات التي اعترضت سبيله، نجح في إنجاز أعمال تأثّرت بتجاربه الشخصية، مثل معاناة اللبنانيين المهاجرين إلى القارّة الأميركيّة. وأشادت الدكتورة الدّويهي-حاتم برؤيته التي "جعلته استباقياً رائداً حمل أحلامه إلى الشاشة".
وتُركت مهمة تقديم المحتفى به لكاتب ومعدّ البرامج التلفزيونية الأستاذ جان خالد، عضو الهيئة الإدارية لنقابة السينمائيين اللبنانيين، الذي وصف المحتفى به قائلاً إنّه قامة تمرّدت على الزّمن ولا تزال تتحدّاه، حاملةً مشعلاً أضاء صرح السينما اللبنانيّة أكثرَ من نصف قرن، وبخاصّة من خلال فيلم "إلى أين" الذي أخرجه الأستاذ نصر في العام 1957 وعُرض في مهرجان "كان" السينمائي، وفيلم "الغريب" في العام 1962 الّذي لم يكن بطله يعرف شيئًا عن السينما، غير أنّه أدّى دورًا مقنعًا أشاد به النّقّاد الأوروبّيّون والأميركيّون، وبرهن المخرج من خلاله أنّ المخرج النّاجح يصنع الممثّل، وليس الفيلم فحسب. وعلى الرّغم من النّجاح الذي حقّقه الفيلم عالميًّا، لم يحظ بأيّ دعم في لبنان، بيد أنّ هذا لم يمنع المخرج من متابعة الطريق والسّعي إلى الارتقاء بالسّينما اللبنانيّة، واقفًا وحده في مواجهة الأفلام المصريّة التّجاريّة ذات الإنتاجات الضخمة من جهة، وانحدار مستوى السينما اللبنانية من جهة أخرى. وختم الأستاذ خالد قائلاً إنّ جورج نصر لا يزال "شعلة مضاءة وكتلة من النشاط"، ساعيًا إلى التركيز على مواهب طلّابه، في فضاء السينما اللبنانية المظلم، وبخاصّة أنّها تحوّلت إلى سلعة تجاريّة استعراضيّة فارغة من أيّ مضمون فنّيّ أو اجتماعيّ أو ثقافيّ.
وتُرك المنبر للمحتفى به المخرج جورج نصر الذي تحدّث عن عشقه للصّورة وللكاميرا منذ نعومة أظافره، وعن اعتقاده بأنّ الفنّ السّابع هو الوسيلة الأكثر فاعليّة من أجل نشر ثقافة الوطن وجغرافيّته وشعبه ونمط عيشه في أربع رياح الأرض. لذلك، قرّر بعد أن أنهى دروسه في لوس أنجلس العودة إلى لبنان لصنع سينما فعليّة، بيد أنّ عراقيل كثيرة اعترضت سبيله، مثل فقدان الدعم والتّشجيع من الدّولة والمسؤولين اللبنانيّين، وتأميم صناعة السينما المصريّة في ستّينات القرن المنصرم ومجيء السينمائيين المصريين إلى لبنان. وعلى الرّغم من ذلك، فهو لم يندم يومًا على اختيار الإخراج، لأنّه يعشق مهنته ويعشق وطنه لبنان، وهو اليوم منصرفٌ إلى التّعليم وتوجيه المخرجين الشّباب نحو صناعة أفلام فذّة تخدم لبنان وترتقي به.
وكانت شهادات بالمحتفى به من المخرج والنّاقد السينمائي محمّد سويد، والأستاذ إميل شاهين، والمخرج المسرحيّ الدّكتور رئيف كرم، والمخرج الشاب أمين درّة.
وفي الختام قدّم أمين عام الحركة، الدكتور عصام خليفة شعار الحركة إلى المحتفى به ونسخة عن "النصّ الأصليّ لعاميّة أنطلياس الشهيرة، عاميّة 1840.
كلمة الدكتورة تراز الدويهي حاتم
أيها السيدات والسادة،
استهل هذا اللقاء بالترحيب بكم اصدقاء ومهتمين باعلاء شأن الثقافة في لبنان، نتشارك بتكريم علمٍ من اعلام الثقافة اللبنانية وأحد أبرز رواد الاخراج السينمائي الأستاذ جورج نصر.
ففي هذا اليوم، الثاني عشر من آذار 2013 الذي خصّص له في المهرجان وحمل اسمه، تحية من الحركة الثقافية – انطلياس الى القادم من الشمال، من المدينة الحالمة على شاطئ المتوسط. فهو يجيبك عند السؤال: انا ابن طرابلس. وقد نشأ في أحد احيائها القديمة، حي الرمانة، يوم كان التآخي والعيش الواحد سمة المدينة الجميلة. أتمّ دراسته في مدرسة الفرير – طرابلس التي خرّجت اجيالاً من المتميّزين اينما حلوا بسعة ثقافتهم وسمو اخلاقهم والتزامهم القيم الوطنية الكبرى. بعدها بدأ التخصص في الهندسة المعمارية في لبنان وقصد الولايات المتحدة الاميركية لمتابعة دراسته. الا ان مسيرته الاكاديمية عرفت تحولاً جذرياً بانتقاله الى الاخراج السينمائي. كان ذلك في مدينة لوس انجلس دراسةً وفي استوديوهات عدة في اميركا وفرنسا تدريباً. بعدها كانت عودته الى الوطن عام 1955.
تحية الى من جسّد الريادة في اعماله، مبدعاً اغنى تراثنا الثقافي في المجال الفني السينمائي. وقد نجح في مواجهة الكثير من التحديات الصعبة دون أي احتضان او مساندة رسمية وافتقاد أي من الشروط المساعدة. ما عرف الهوان ايام المصاعب والاحداث. وكما امام قساوة الطبيعة ايام الشتاء تموت الاعشاب وصغار النبت ويبقى من الشجر البواسق والسنديان. هكذا استطاع مكرمنا ان يحقق بعضاً من اهدافه وكان اول انجازاته التي اثمرت وتنوعت في ما بعد، فيلمه الأول: "الى أين؟ متأثراً بمعاناة اللبنانيين المهاجرين الى اميركا. وكأن جورج نصر ابتغى هذا العمل اداة للتعبير عن تجربة ذاتية او ربما تجارب متقاطعة. ويقيني ان من يطّلع عن كثب على قناعات جورج نصر يجد فيها اضاءة للنص السينمائي ما يدعو الى قراءته بكثير من التأنّي. وما يميزه ان شغفه بالسينما وسعة ثقافته سمة من سمات رُقيه فهو يمتلك رؤى جعلته استباقياً رائداً حمل احلامه الى الشاشة. ومن خلال افلامه وعطائه المميز كان للبنان حضوره ولو الخجول في عالم الفن السابع.
تحية ايضاً الى جورج نصر اللبناني الأصيل، المتجذر في ارضه، يحيا به لبنان ويفخر فيه. فقراءة سريعة لعناوين اعماله في الاخراج السينمائي، افلاماً طويلة او قصيرة وثائقية ام تلك الاعلانية المذكورة في كتاب اعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي للسنة الثانية والثلاثون 2013 ترجيعُ صدى لخصائص لبنانية تراثية وحضارية مميزة.
في يومك، ايها العلم الثقافي المكرم، اود ان اقدم لك وشاحاً من العطور الى جانب الاوسمة المتعددة التي نلتها خلال مسيرتك المهنية.
جورج نصر، أرض الأفلام
بقلم محمد سويد
في سنوات الحرب – أو الحروب – بدأت علاقتي وبعض صداقاتي مع المخرجين اللبنانيين من محاورتهم صحافيًّا في أحدث مشاريعهم، أو من مشاركتي ضمن الفرق الفنية العاملة في تنفيذ أفلامهم. لم تكن هذه حال علاقتي بجورج نصر.
بقسوةمتعمّدة أقول إنّ أعوام الحرب كانت جميلة، إذ توقفت الحياة عن كلّ شيء عدا إطلاق النار وإنتاج الأفلام. حتى اليوم، لم يبلغ عدد الأفلام المنتجة في لبنان ما كان عليه طوال الفترة الممتدة من 1975 إلى 1985. إثنا عشر فيلمًا سنويًّا تقريبًا بثّت الروح في جسم سينمائي محتضر وأنعشت آمال المتعطلين وأعادت مخرجين إلى العمل وفتحت أبوابًا لجيل جديد من المخرجين والفنيين وسبل الإنتاج المشترك. لم تكن هذه حال جورج نصر. من بعيد، بدا عسيرًا ومحصّنًا بسمعة منعت انخراطه في ما سًمِّيَ "سينما الحرب" التي أُنتجت غالبيتها بأموال المقاولين وجنحت إلى الرخص وأدركها الانهيار تزامنًا وانهيار الأمن وانحلال الدولة.
من بعيد أيضًا، بدا لي جورج نصر أنه شخص يصعب التحدّث إليه ووجدت في غيابه عن الإنتاج ذريعة لعدم التقرّب منه.كان يرفد هذه الذريعة شعور معظم أبناء جيلي آنذاك بضرورة القطع الحاسم مع تجارب الآباء، وجورج نصر واحد منهم. أحيانًا، تشبه مخاصمة الأب التوق إلى التصالح معه. لعلها حالي، أو هكذا انطلقت علاقتي بجورج نصر من رغبتي في إجراء مقابلة تتناول تجربته وتوقفّها عند ثلاثة أفلام روائية طويلة.
من طريق الصديق المشترك صالح العجم، اتصلت به والتقيته في شقته الكائنة في الطبقة السادسة من مبنى بركات في محلة قريطم في رأس بيروت، مبنى عملاق في كل طبقة منه ما يقارب عشر شقق، متعددة الفئات والانتماءات والإقامة الموقتة لمن جاءها طلبًا للأمان ونأيًا عن السكن في المناطق القريبة من خطوط التماس، مبنى أشبه بجمهورية موقتة في بلد موقوف على سلمهوحربه، أناسه، المهاجرون إليه والمُهجّرون منه.
في تلك الفترة من ثمانينيات القرن الماضي، حين لم تكن أشرطة الفيديو المنزلي وأقراص الدي. في. دي متوافرة، ظلت معرفتي بجورج نصر محدودة بما قرأته في الصحافة المحلية وفي بحث المؤرخ الفرنسي الراحل عن السينما اللبنانيّة، فهو صاحب أشهر إنجاز تحقّق لهذه السينما في باكورة أفلامه، "إلى أين؟" (1956)، ومخرج أول فيلم لبناني ناطقٍ الفرنسية، "الغريب الصغير" (1961)، وأضيف أنه أول لبناني درس السينما في كاليفورنيا واقترنت دراسته باطلاعه على نُظُم العمل في استديوهات هوليوود، فضلاً عن أن "إلى أين؟" كان أوّل فيلم لبناني يُعرض ضمن لائحة الاختيارات الرسميّة لمهرجان كانّ عام 1957.
قبل الحرب، لم يُتح لي أن أشاهد من أعماله سوى شريط دعائي قصير أخرجه للجيش اللبناني ونال عنه جائزة في مهرجان دولي للأفلام العسكرية أقيم في فرنسا. كنت دون الثامنة عشرة يوم رأيت ذاك الشريط على شاشة التلفزيون. حسبت أن منفذي الفيلم، بمن فيهم مخرجه، كانوا جميعًا عسكريين. وظلت صورة العسكري ماثلة في مخيلتي كلما جيء على ذكر جورج نصر. وبالفعل فعندما طرقت باب شقته وفُتح لي، وجدت نفسي قبالة رجل ذكرني طوله وقيافته بهيبة الضباط القدامى، إذ حيّاني بالشدّ على يدي.
لكن قوة الشكيمة الظاهرة على محياه، والتي أعتبرها سمة من سماته الجمّة، لا شأن لها بصورتي المتخيلة عنه. فكلّما زاولت السينما، قسَوْت على نفسك أكثر، يحاكي الأمر في ذلك "الضرب بالسياط"، على قول ردده جورج نصر وما زال أمام محدثيه. قصته مع السينما هي قصته مع لبنان والعالم. قصّة سوء طالع واجهه مخرج لم يقدم نفسه يومًا خارج عشق الوقوف خلف الكاميرا، غير أنه اكتشف أن ثمّة سينما وأشياء أخرى إلى جانبها أرخت ظلها الثقيل على تجربته. تصوَّرَ أنه يمكن صنع الأفلام في عالم بلا سياسة وغفل عنه أن في الجوار رجلاً آخر سيجعل مشواره السينمائي معثرًا ولو في شكل غير مباشر. إنه جمال عبد الناصر. عام 1956، خاض عبد الناصر معركة السويس، وفي العام نفسه انطلق جورج نصر في تصوير "إلى أين؟". اختصر الغرب اسم الزعيم المصري الراحل إلى "ناصر"، ولما كان المخرج اللبناني يكتب اسم عائلته في الأجنبية "Nasser"، فوجئ بشن بعض الفرنسيين حملة عليه بعد عرض فيلمه في "كانّ" عام 1957. ظنوا أنه سليل عائلة الرئيس المصري. لكن اللعنة ليست في عبد الناصر فحسب وإنما في مصر، وتحديدًا في السينما المصرية التي أممها النظام الناصري وفرّت إلى لبنان مطلع ستينيات القرن الفائت، جاعلة فرص قيام اللبنانيين بإنتاج أفلامهم وبمحكيتهم شبه مستحيل. هكذا تأخر عرض "إلى أين؟" عامين ويزيد، والسبب عدم توافر صالة غير مرتبطة ببرمجة مسبقة لفيلم مصري، وحين وُجدت الصالة وأُطلق الفيلم على شاشة "أوبرا" في ساحة الشهداء، طرأ ما لم يكن في الحسبان: وقوع النزاع الأهلي المسلح عام 1958.
رغم استقرار الأوضاع مجددًا، تعذر على جورج نصر استثمار الإشادة النقدية الواسعة بفاتحة أعماله. وصل إلى "كان" ولم يصل إلى قلب عاصمته. جوبه بالرفض. في مواجهة الأبواب الموصدة، خامره الظنّ أن الحلّ في إنتاج فيلم يكون ناطقًا الفرنسيّة مما يسهل تسويقه ويختزل المسافة إلى العالمية. كتب "الغريب الصغير" وأخرجه،لكن اللعنة هذه المرة لم تكن مصرية ولا لبنانية، وما اختبره في باريس كان أسوأ مما واجهه في بيروت. بعد انتهائه من الفيلم، بلغه استياء منتجه مما رأى وإقدامه على تعديل المونتاج حاذفًا مشاهد ومضيفًا مشاهد صورها مخرج آخر كي يصير الفيلم مقبولاً تجاريًّا. انتهت التجربة بخيبة كبيرة وكاد جورج يفقد الأمل في انتهاز فرصة جديدة. كتب وكتب من دون طائل. انتظر أكثر من عشرة أعوام حتى تبنت نقابة الفنانين السوريين إنتاج فيلمه الثالث "المطلوب رجل واحد" (1973)، وتبقى هذه التجربة فريدة ونادرة، إذ لم يسبق لنقابة سورية أن مولت فيلمًا. قال جورج إن "المطلوب رجل واحد" كان ثمرة بروتوكول تعاون وقعته نقابتا الفنانين السوريين والفنيين السينمائيين اللبنانيين، وكان يفترض أن يتطور التعاون في مزيد من الأفلام إلاّ أن الحرب في لبنان حالت دونه.
أمضى اللبنانيون الحرب بحثًا عن ملجأ. أما ملجئي فكان ليال طويلة صحبة جورج. عشت خلالها حلو ذكرياته ومرّها. بنشوة الفتى الحالم، استعاد دخوله الأول إلى بلاتوهات هوليوود واندهاشه بخدعة تصوير الثلج. أطلعني على سيناريوات عدّة، كتب واحدًا منها لفاتن حمامة ووافقت النجمة المصريّة ثم أُحبط المشروع. كأن قصة جورج مع السينما تتمّات مفتقدة لأجمل البدايات. لم يثبط ذلك عزيمته ولا أوقفته استحالة السينما عن الاستمرار فيها ولو في مشاريع الآخرين. عمل مدير إنتاج لفيلم الألماني فولكر شلوندورف عن الحرب اللبنانية، "المزوّر"، وأخرج إعلانات وأشرطة وثائقية، ودرّس أخيرًا السينما في معهد "الألبا"، مستعملاً كاميراه وعدّته الخاصّة ناقلاً إلى طلاّبه حبه الأول للسينما مثلما شغل فكره وحرّك قلبه بعدما سافر إلى الولايات المتحدة وفاجأ عائلته بتحوله من دراسة الهندسة إلى السينما.
في نقابة السينمائيين، قضينا أعوامًا من الزمالة والتفرّغ لإعداد قانون تنظيم مهنة السينما. رافقت جورج في أمله المزمن في احتمال قيام سينما لبنانية ويقينه في أن فيلمه المقبل آت. لو لم تأت الحرب، هل كان في استطاعته أن يخرج فيلمًا رابعًا أم أنه لن يجد المنتج في لبنان ويكرّر بحثه عن الإنتاج في بلد آخر؟ المؤسف أن لبنان بخل على جورج في عدم إعطائه غير فرصته اليتيمة "إلى أين؟". تخفيفًا من قسوة الأمر، قال جورج مرارًا إن لمشكلته وجهًا آخر وهو أنه لا يحب طرق الأبوابالتماسًا لإنتاج فيلم.
حتّى أمد غير بعيد، كانت أفلامه ضائعة الأثر والحقوق بين باريس ودمشق. كادت تمسي ذكريات شفهية موثقة في مقابلات صحافية. حين بادر "معهد العالم العربي" في باريس إلى المساهمة في ترميم "إلى أين؟" وأثمرت المساعي الشخصية للمخرج حصولَه على نسختين من "الغريب الصغير" و"المطلوب رجل واحد"، صار متيسرًا مشاهدة الأفلام ومناقشتها وعرض البعض منها في احتفالات تكريميّة. المفرح أن هذه الأفلام عادت من غربتها عودة أبطالها إلى قراهم ومدنهم ويومياتهم. "إلى أين؟" فيلم العودة إلى الأرض وطيّ صفحة الهجرة، و"الغريب الصغير" فيلم الإقامة بما فيه من حدّة الواقعية الإيطاليّة ورومانسيّة نظيرتها الفرنسيّة، و"المطلوب رجل واحد" فيلم الحفاظ على الأرض ورفض أصحابها استغلالهم كبيادق شطرنج بأيدي الإقطاعيين. من لا يعرف مقدار حبّ جورج نصر لأرضه لن يكون في وسعه أن يعرف عنه أكثر مما وصل إلى مسمعه. ذاك الشمالي المقيم في حيائه، خرج ذات مرّة من طرابلس وطار إلى هوليوود. كان عاشق السينما وغريبها. قبل نحو عشرين عامًا، أخبرته برغبتي في إخراج فيلم وثائقي عنه. وافق. بدأنا في بيته البيروتي. شيئًا فشيئًا، راح يأخذني إلى حيث صوّر "إلى أين؟" و"الغريب الصغير"، إلى حصرون وملاحات القلمون وشاطئ أنفة. أعادني إلى تلك الأماكن ربما ليعود مثل أبطاله إلى أرضه، أرض الأفلام.