ندوة حول كتاب الدكتورة دعد بو ملهب عطاالله:

جيوسياسية الحدود والعولمة، لبنانيًا، إقليميًا، عالميًا

في 2 آذار 2008

 

الدكتور جوزيف أبو نهرا

 كلمة د. محمد المجذوب

 كلمة منذر جابر

 السفير سمير حبيقة

 كلمة المؤلفة د. دعد بو ملهب عطالله

 

ندوة حول كتاب الدكتورة دعد بو ملهب عطاالله

 

 

الدكتور جوزيف أبو نهرا  

 

          ممّا لا شكّ فيه أنّ قضايا الحدود والعولمة هي اليوم من المواضيع الشائكة التي تتناقلها خطوط التوتّر العالي على وقع النزاعات السياسيّة والمجادلات الإيديولوجية. وتزداد سخونتها عندنا بنار التجاذبات الطائفيّة والمصالح الضيّقة، تغذّيها صراعات إقليميّة ودوليّة.

          شهد العالم منذ نهايات القرن الفائت تحوّلاً جذريًّا بالنسبة لمفهوم الحدود بين الدول ودورها. تباينت المواقف بعد التطوّرات البارزة الإقتصاديّة والإجتماعيّة والسياسيّة والعسكريّة. هل نعتبر الحدود حاجزًا واقيًا عند نقاط تماسّ دائمة السخونة، لدرء أخطار الجيران المهدّدين للأمن والإستقرار، فنحصِّن مراكزها ونغلق منافذها كما تفعل إسرائيل في حدودها مع الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة ؟ أو كما تسعى إليه المملكة العربية السعودية في حدودها مع العراق حاليًا ؟ أم هل نعتبر الحدود عائقًا بوجه الإنفتاح والتلاقي والتبادل، فنجعلها بالتالي أكثر مرونة وأسهل عبورًا، أو نسقطها بالكامل كما جرى للستار الحديدي مع إنهيار الإتحاد السوفياتي، ولجدار برلين الذي تلا سقوطه توحيد الألمانيتين ؟ أو كما جرى للحدود بين دول الإتحاد الأوروبيّ الّذي ما زال يتابع توسّعه مسقطًا الحواجز والعوائق في وجه التنقّل والتبادل بين مختلف الدول الأعضاء، شرقيّة كانت أم غربيّة ؟

          هل إنّ الحدود، في المطلق هي بمثابة فعل عنفي ضد الإنسانيّة كما كان سائدًا في فكر عصر الأنوار؟ فهكذا اعتبرها باسكال في كتابه "Les pensées"، وروسّو في كتابه "Discours sur l'origine des inégalités" ؟ أم هل هي بمثابة حماية ضرورية لضمان الحق بالإختلاف، كما اعتبرها المفكّرون الرومنطيقيون في القرن التاسع عشر، ويعتبرها اليوم العديد من الشعوب، وتطالب بها أقليّات إتنيّة أو دينيّة، كما حصل مؤخّرًا في كوسوڤو وكما يسعى إليه الأكراد والباسك وغيرهم ؟

          الإجابة على هذه التساؤلات ليست بالسهولة التي نتصوّرها بسبب إختلاف المعطيات وتنوّع الحضارات والثقافات، وبالتالي تعدّد النظريات والمواقف. ولكن تصبح مقاربة الموضوع أسهل منالاً بعد قراءة كتاب الزميلة والصديقة العزيزة الدكتورة دعد بو ملهب عطاالله، عن جيوسياسية الحدود والعولمة. يساعد الكتاب في إسقاط الحواجز والحدود بين المستحيل والممكن، وبين الصعب والسهل إذ يوضح العديد من الأمور إنطلاقًا من مقاربة أكاديميّة تحيط بمختلف جوانب القضايا المطروحة، فتضيء كاتبته على بعض الزوايا المبهمة بنور الباحثة المتبصِّرة والعالِمة المتبحّرة.

          صدر في السنوات الأخيرة العديد من الكتب الهامّة المتعلّقة بقضايا الحدود والمياه في لبنان، أبرزها ما للصديق والزميل الكريم الدكتور عصام خليفة. لكنّ كتاب الدكتورة دعد بو ملهب عطاالله جديد ومميّز، من حيث مقاربتها موضوعي الحدود والعولمة ليس من الزاوية التاريخيّة بل من الزاوية الجيوسياسية. أما في المضمون، فهي لم تكتفِ بدراسة الواقع اللبناني، فتجاوزته إقليميًّا وعالميًّا. إنطلقت من الناحية النظرية لدراسة الحدود من حيث أنواعها وتصنيفاتها ووظائفها وفعاليتها، على ضوء التطوّر التاريخي وفي ظلّ المخاطر والتهديدات المعاصرة الناجمة عن العولمة.

          يتميّز كتاب الدكتورة بو ملهب عطاالله بمنهجية واضحة صارمة، وبدقّة في تقنيّة الألفاظ والتعابير دونما خلل في المعايير. لا عجب في ذلك، فالمعروف عنها أنّها وردت البحث العلمي باكرًا، فشقّت طريقها بتأنٍّ وأناة، وتصميم وثبات، فما وهنت أو تراجعت، وما هادنت أو سايرت على حساب الحقيقة والدقّة العلميّة. تنطلق في أبحاثها من لبنان وثوابته التاريخيّة والوطنيّة لتطلّ على محيطه الإقليمي وعلى العالم. ولا تلجُ موضوع لبنان إنطلاقًا من معطيات ومسلّمات إقليميّة ودوليّة لا ترعى له المصالح ولا تحترم فيه الكيان.

          أن تقرأ للدكتورة دعد أو تسمعها فأنت في حضرة عالمة تعزف على أكثر من وتر، وفي حضرة رقّةٍ تنسكب بخفر. فلا تشاوف أو تكابر، ولا تناقض أو تنافر بل إنسياب طوعي وَفِر. هي تكتب عن الحدود من دون أن تعرف للعطاء حدودًا، وتُبحر في آفاق العولمة مستكشفة مظاهرها ومخاطرها، من دون أن تقفز في المجهول، فتبقى جذورها الزحلية ضاربةً في أعماق أرض لبنان ومتأصّلة في أبعاد تاريخه.

          كتابها جامع وشيّق، ولا بدّ من الإضاءة سريعًا على بعض الملامح البارزة التي استوقفتني فأشير إلى ثلاثة.

1-       لفتتني في القسم الأوّل من الكتاب الفصول المتعلّقة بمفهوم الحدود الدوليّة في العالم المعاصر. وهو قسم نظري يشكّل إطارًا واضحًا ودقيقًا لفهم الإشكاليّات المطروحة حول قضايا الحدود في لبنان. هنا تكمن فرادة الكتاب بحيث يتلازم فيه القسمان، النظري والعملي، ويتكاملان بإضاءات مشتركة.

 

2-       إلى جانب طابعه الجيوسياسيّ، في الكتاب جوانب تاريخيّة ملفتة تزيد من فائدته وتشوّق في قراءته. فهو يلقي أضواءً تاريخيّة على قيام الدّول وتركيز حدودها في الشرق الأوسط والعالم. كما يؤرّخ لتفكّك الإتحاد السوفياتي وتفتّت الإتحاد اليوغسلافي وإعادة توحيد ألمانيا وقيام الإتّحاد الأوروبي. يشير كذلك إلى تطوّر الأوضاع السياسيّة في العالم وتبدّل مراكز النفوذ مع تأثيره على تطوّر المفاهيم: من شرق أوسط وأدنى في زمن النفوذ الفرنسي والإنكليزي، إلى شرق أوسط كبير وجديد حاليًّا مع النفوذ الأميركي.

3-       لفتتني أيضًا الشموليّة في معالجة الموضوع اللبناني في إطاريه الإقليمي والعالمي، وفي بعديه النظري والواقعي من دون إهمال دور الإيديولجيات وتأثيرها في قضايا الحدود إذ تمّ تخصيص فصل مستقل عنوانه "الإيديولوجيا وحدود لبنان في القرن الحادي والعشرين".

نداء من فوق الدمار إلى أهل القرار في وطني.

          في ظلّ الواقع الأليم الذي يعيشه لبنان، بحيث تتهدّده أخطار كبرى من خارج الحدود بفعل إنقسامات الداخل، وبعد تمادي المسؤولين في التلاعب بمصير البلاد والعباد، أرى من الضروري توجيه نداءٍ ملحٍ إلى ضمائر أهل السياسة والقرار في وطني، إلى أيّة فئة إنتموا، مستثنيًا قلّة تتميّز بصفاء المواقف وبُعد الرؤيا.

          يا أهل القرار المتمترسين خلف 8 و14 آذار !

          لقد تجاوزتم في انتماءاتكم وصراعاتكم حدود لبنان إقليميًّا ودوليًّا، فجعلتم المواطنين الأبرياء وقودًا لمواجهاتكم العبثيّة التي تزلزل الإنسان وتزعزع الكيان. انقساماتكم ومهاتراتكم العنتريّة تهدّد المصير وتجعل الوطن برمّته ضحيّةً للطامعين النافخين في نار الفتنة والمتربّصين للإنقضاض عليه.

          ما بالكم ممعنين في الإستئثار والاستكبار، مسترسلين في الدمار ومستجلبين لنا الذلّ والعار ؟ أما آن الأوان لضمّ الجراح وملء الأقداح لنخب الأفراح ؟ لقد بالغتم في المواقف المتطرّفة وفي العبارات النابية دفاعًا عن مصالح فئويّة أو خاصّة لا تخدم مصلحة الوطن.

سئمنا جميعًا ألفاظ التخوين والتنديد، ومججنا لغة التهديد والوعيد، وكرهنا الناطقين بها، المحتلّين الشاشات والمنابر. إن خطب أو عطس زعيم من هنا أو من هناك هاج الأتباع، فلعلع الرصاص وانفتحت أبواب المقابر.

          أيّها الآذاريّون، أكانت فئة دمكم عيار 8 أم 14، عودوا إلى لغة العقل والضمير. دماء الشهداء والضحايا، ودموع المنكوبين والثكالى، ولوعة المغادرين قسرًا والمهاجرين قهرًا، من داخل الوطن وخارجه، من تحت الركام وفوقه، تستصرخ من الأعماق ضمائركم لجمع الشمل والإتّحاد من أجل إنقاذ لبنان والإلتفاف حوله في مواجهة الملتفّين عليه.

          نتوسّلكم أن تعوا وتتأمّلوا في عِبَر التّاريخ وفي التجارب المرّة للماضي القريب والبعيد، وذلك قبل فوات الأوان وتحويل الكيان إلى عدم، فلا يعود يفيد إعتبار أو ينفع ندم.

          كفى استقواءً من خارج الحدود، كفى إضرارًا بمصالح المواطنين، كفى اقتسامًا لأشلاء الوطن. أملنا الكبير أن تعرفوا حدود مسؤولياتكم، ورجاؤنا الأخير أن تقفوا عند حدّكم، وإلاّ فلا وطن ولا حدود، ولا أحفاد ولا جدود، وألف سلامٍ علينا وعليكم.

 

اللهمّ إشهد إني بلّغت.

كلمة د. محمد المجذوب  

 

ان الاطلاع على المولود الفكري الجديد للزميلة الكريمة قد ادخل الغبطة على قلوبنا وذلك لاسباب ذلاثة:

-    السبب الاول: هو ان الزميلة بوضعها هذا المؤلف الموسوعي حول الحدود في هذه الظروف العصيبة التي يمر بها وطننا العزيز استطاعت ان تتغلب على موجة من اليأس والاحباط كادت تغمر معظم المثقفين الملتزمين. فالأوضاع اللبنانية والعربية المتردية اوجدت في نفوس الكثيرين منهم شعوراً بالاحباط دفعهم الى الاكتفاء بمراقبة الاحداث والانصراف عن الانتاج الفكري. وحاول بعضهم تبرير هذه الحالة بعجز الانسان عن التفكير والتحليل والابداع في جو يسوده القلق النفسي والمعيشي. ولكن هذه الحجة ليست مطلقة ولا تشكل عقبة امام الابداع. فروائع الفكر ظهرت في غمرة ظروف مادية ونفسية قاسية. والمثقف المقدام يستطيع الصمود امام الاعاصير وتحويل المعاناة او القنوط الى اداة لتفجير ينابيع النبوغ.

-    والسبب الثاني: هو ان الزميلة بإقدامها على انتاج عمل فكري رفيع في رحاب الجامعة اللبنانية تأتي بإثبات جديد على وجوب الارتباط والتفاعل بين الجامعة والمجتمع. فالجامعات لا تنشأ في خلاء او فراغ بل تقوم وتتحرك في مجتمع وطني تتأثر به وتؤثر فيه تتحرى همومه وتحاول اكتشاف الحلول لمعالجتها. والجامعة اللبنانية التي امضينا نصف العمر فيها كانت منذ نشأتها تطمح الى ان تكون مصنعاً لرجال الغد ومختبراً للفكر المتجدد ومركزاً لدراسة قضايا المجتمع. ونرجو ان تحافظ دائماً على هذا الطموح وتسير دائماً على هذا الدرب.

-    والسبب الثالث: هو ان الزميلة بتصميمها على الانتاج والنشر في مادة اختصاصها تثبت انها قدوة حسنة لبقية الزملاء فمن الامور التي تسترعي الانتباه في جامعاتنا قلة الانتاج الفكري الابداعي. صحيح ان عدداً لا يستهان به من الزملاء قد بذل جهوداً مباركة واتحف الفكر العربي بمؤلفات رائعة فازت بجوائز تقديرية الا ان هذه الجهود لا تتناسب من حيث النوعية والكمية مع الآمال المرتقبة والعدد الوافر من الاساتذة المتفرغين والمتعاقدين.

ان كتاب الدكتورة يبحث في موضوع الحدود ويعالج مسألة الحدود اللبنانية التي تطرح اليوم الكثير من التساؤلات وموضوع الحدود يشكل بالنسبة الى الزميلة اختصاصاً او اهتماماً فكرياً خاصاً لها فيه باع طويل.

ان القانون الدولي العام يكرس الحدود الدولية ويضفي عليها هالة من القداسة مع ان هذا الوضع لم يعد يتلاءم مع المستلزمات والمستجدات على الساحة الدولية التي تقسم اليوم بتشابك المصالح وتلاشي الابعاد وزوال الفواصل والحواجز وتفاعل الحضارات والثقافات وتحول الكرة الارضية الى قرية كونية مكشوفة تجذب فضاءها الطائرات والصواريخ والمركبات والاقمار الصناعية. ويكفي اليوم الضغط على زر في جهاز محمول في الجيب حتى نخاطب أي انسان في اقصى المعمورة. بل يكفي الجلوس قرب شاشة التلفاز حتى نلمس كيف ان الحدث الواحد الذي يقع في اية بقعة من العالم ينتقل بالصورة والصوت الى كل بقاع الارض خلال لحظات معدودات.

وخيّل الى البعض في نهاية القرن العشرين أي في ظل ظاهرة العولمة التجارية والاقتصادية والثقافية وعبر شبكات المواصلات والاتصالات ان مسألة الحدود الى زوال. غير ان الوقائع والاحداث برهنت على ان عصر الحدود ما زال قائماً وان الدول التي ازداد عددها بعد زوال الاستعمار ما زالت متشبثة بكياناتها الذاتية ومعها بالطبع الحدود القومية.

وهذه الحدود انواع: طبيعية ومصطنعة مستقرة وحية وآمنة وخطوط طول وعرض وهمية. وغالبية الحدود في العالم كانت نتيجة موازين القوى او ثمرة تنافس استعماري. وقد تتحول الحدود في كثير من الاحيان الى حدود داخلية وقد يحصل العكس.

والزميلة الدكتورة دعد تناولت موضوع الحدود من كل الجوانب والزوايا والخفايا والتفصيلات التي يمكن ان تخطر على البال. وبذلك يعتبر مؤلفها موسوعة رائعة تتضمن كل المعلومات والمشكلات المتعلقة بمسألة الحدود في الماضي والحاضر في العالم القديم والعالم الحديث في الغرب والشرق في المنطقة العربية وخصوصاً في لبنان.

ومن الاطلاع على الكتاب نتعلم دروساً ونستمد حِكماً ونتعرف الى مآثر ومواقف مفيدة في التاريخ السياسي والجغرافيا السياسية والعلاقات الدولية. ومنها:

1-   ان الحدود لم تكن يوماً ثابتة ومستقرة وان استقرت لفترة من الزمن فإنها لا تلبث ان تنشط وتتحرك اما من الداخل واما من الخارج. والاستمرار في الكيانات لا يعني الاستمرار في الحدود التي تتعرض في حياة الكيانات للمد والجزر.

2-      ان الدول الصغيرة هي الاكثر تمسكاً بالحدود والاكثر شراسة في الدفاع عنها لانها تحتل بالنسبة اليها عنصر الاستمرار والاستقرار.

3-   ان المستعمرين الاوربيين هم الذين رسموا الحدود الفاصلة بين مستعمراتهم المختلفة وفقاً لمصالحهم دون الاهتمام بمصالح هذه المستعمرات. والتوسع الاوروبي هو الذي اسقط الحدود والحواجز. بل ان الامبراطوريات الاستعمارية الكبرى قامت على حساب الحدود والحواجز. فالحدود كانت اذن نتيجة ارادة اوروبية برزت مساوئها وسلبياتها بعد استقلال المستعمرات عندما وجدت القبائل او المجموعات البشرية نفسها تحت حكم قبائل او مجموعات اخرى تختلف عنها ويصعب التعايش معها.

4-      ان مسألة الحدود برزت بحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وعودة كيانات سياسية الى حدودها التاريخية السابقة.

5-   ان الدعوة الى التجمع والتكامل واسقاط الحدود او التخفيف من حدتها ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين بغرض تحقيق انجازات تتخطى امكانات الدولة الواحدة. وهذا الميل الى اسقاط الحدود بين بعض الكيانات الدولية يتم اليوم بالتفاهم والتعاون بعد ان كان في الماضي يتم بالقوة والتوسيع والهيمنة. وظاهرة التفاهم هذه تتجسد اليوم في الاتحاد الاوروبي وفي بعض الحالات الشبيهة الاخرى.

6-   ان الشركات العالمية الكبرى ومنها الشركات متعددة الجنسيات قادرة على اختراق الحدود واختراق السيادة احياناً. فلهذه الشركات نفوذ كبير وتأثير لا يوصف في سلطة القرار. فبعض الشركات الاميركية ذات المصالح الكبرى استطاعت قلب نظام الحكم في اكثر من دولة في اميركا اللاتينية.

7-   ان المشرق العربي في ظل السلطنة العثمانية لم يعرف الا مسألة الحدود الادارية الداخلية. ولكن مع انهيار هذه السلطنة وتقسيم المشرق الى كيانات دولية اخضعت للانتداب قبل نيل الاستقلال فإن المنطقة اصبحت تضم عدداً من الدول التي تشكو من الازمات والنزاعات والانقلابات.

وقراءة الكتاب اوحت لنا ببعض الملاحظات والانطباعات التي نوجزها بالنقاط التالية:

الملاحظة الاولى: هي ان الدكتورة دعد اتبعت في مؤلفها الاسلوب الشيق الذي يتلخص في تقديم النظرية مقرونة بالامثلة والوقائع والادلة الثبوتية.

والملاحظة الثانية: هي ان الدكتورة دعد التزمت في الموضوعات التي عالجتها حدود المنهجية والموضوعية والصدق والصراحة في عرض الوقائع التاريخية والسياسية. لقد تحدثت عن اسرائيل ككيان دولي، ولكنها لم تتوانَ عن اظهار مخاطر هذا الكيان واطماعه في الارض العربية. واعترفت (في ص 235) بأن سياسة اسرائيل قامت على محاولة تأمين الحدود المؤقتة الواقعية أي حدود "الامر الواقع" المرسوم على الارض في وقت من الاوقات مع تحريكها بواسطة الحروب والتوسع والقضم والهضم. فأكدت ان اسرائيل تعتبر منذ هدنة العام 1949 ان حدودها غير منتهية او غير نهائية وانها تجد حدودها سيئة بحاجة الى تصحيح وان ذلك لا يمكن ان يتم الا على حساب جيرانها ومنهم لبنان. واستشهدت بكلام موشيه دايان بعد حرب حزيران 1967 الذي اكد عدم الحاجة الى "حدود دائمة" وقال: "ان الحديث عن قداسة الحدود في هذه المنطقة مجرد هراء. فالحدود في منطقتنا ليست شيئاً ثابتاً".

والملاحظة الثالثة: هي اننا كنا نتمنى على الدكتورة دعد التخلي بعض الشيء عن التزام الحياد او التجرد التام ازاء القضايا المحلية الساخنة للاعراب، ولو باقتضاب، عن بعض المشاعر الوطنية والانسانية التي تخامرنا جميعاً لدى الحديث عن مخازي عدونا الاسرائيلي.

صحيح انها اعترفت بأن واقع ميزان القوى اقليمياً ودولياً طغى على الحق القومي التاريخي والانساني في فلسطين (ص 188)، وصحيح انها وصفت اسرائيل بالعدو الاول للعالم العربي وبالكيان المغتصب لارض فلسطين (ص 226) الا انها استخدمت تعبير (الجارتين) لدى الحديث عن المفاوضات بين سوريا واسرائيل، ووضعت بين مزدوجين عبارات (المقاومة) و(الجوار الشقيق) و(الشقيقة) لدى الاشارة الى سوريا. ولم تحاول عند التطرق الى قرار تقسيم فلسطين وقبول اسرائيل في عضوية الامم المتحدة وشرعية اسرائيل اضافة تعليق بسيط يذكّر القارئ ببطلان قرار التقسيم الصادر عن منظمة دولية ليس من صلاحياتها تقسيم بلد تحت الانتداب ويذكره بأسلوب الخداع والمراوغة الذي استخدم عام 1949 لضم اسرائيل الى عضوية الامم المتحدة ويذكره بارتكاب اسرائيل المجازر والمحارق في بلادنا العربية وخرقها الدائم للحدود العربية وانتهاكها المستمر للمبادئ والقواعد والقرارات الدولية برعاية اميركية.

والملاحظة الرابعة: هي ان الدكتورة دعد بذلت جهوداً حميدة وصادقة بلا شك لاثبات وجود دولة لبنانية او كيان دولي لبناني سابق للكيان السوري (ص 229) فتحدثت في عدة فصول عن المجال اللبناني واللبنانيين والارض والمصالح الجيوسياسية واسترجاع الحدود التاريخية والطبيعية للبنان والايديولوجيا وحدود لبنان واعادة لبنان الكبير الى الوجود.

في رأينا انه لم يعد هناك اليوم خلاف جدي على وجود لبنان كدولة اعلن استقلالها بحدودها الراهنة منذ بداية الانتداب ومنذ انضمام لبنان عضواً كامل العضوية الى الامم المتحدة وجامعة الدول العربية ومشاركته في اجتماعات مؤتمرات القمة العربية ومنذ اتفاق ابنائه في الميثاق الوطني ووثيقة الطائف على انه وطن مستقل ونهائي وواحد ارضاً وشعباً ومؤسسات. وليس للاصوات النشاز في هذا الصدد أي أثر او تأثير ومسألة الحدود بين لبنان وسوريا لا تثار وتتضخم الا عند اندلاع الخلافات السياسية بين الحكام. وكل محاولة لتغيير الوضع القانوني الدولي للبنان ستمنى بالفشل اذا لم تحظ بموافقة ابنائه.

والملاحظة الاخيرة: هي ان الدكتورة دعد تطرقت في مؤلفها الى موضوع اثار خلافاً وجدلاً في الآونة الاخيرة وهو موضوع لبنانية مزارع شبعا. واعتمدت في اثبات لبنانية هذه المزارع على تصريحات رسمية ادلى بها الرئيس السوري ووزير الخارجية السورية السابق. واعتبرت ان لبنان ارتكب خطأً تاريخياً عندما لم يحتج رسمياً على احتلال اسرائيل لمنطقة مزارع شبعا في حرب العام 1967 وما بعدها وعندما لم يعترض بعد ذلك بالاسم على موضوع المزارع في العام 2000 في رسالته الرسمية الى الامم المتحدة المتعلقة بالخط الازرق والتي خلت من أي ذكر للمزارع.

ونحن نرى الى جانب هذا الخطأ تقصيراً صدر عن المسؤولين في لبنان. فالتصريحات التي يدلي بها المسؤولون في دولة ما في مناسبات معينة تكتسب قيمة قانونية لا تقل اهمية عن الوثائق المكتوبة. وهناك سوابق في الاجتهاد الدولي تؤكد ان طابع الالتزام والالزام في تصريحات المسؤولين اصبح من القواعد الراسخة في احكام محكمة العدل الدولية (مثلاً الحكم الصادر في العام 1933 حول جزيرة غروينلاند بين النروج والدانمارك).

وتفسير هذا الاتجاه المستقر في الفقه والاجتهاد الدوليين يكمن في ان التصرف الذي يصدر بالارادة المنفردة عن ممثلي الدول سواء اكان في صورة اعلان او تصريح او اقرار بوضع معين يعدّ مصدراً للحقوق والالتزامات على المستوى الدولي.

وعندما تجدد الحديث بعد العدوان الاسرائيلي على لبنان في تموز 2006 عن مزارع شبعا اثيرت مسألة ملكية هذه المنطقة ومدى الزامية التصريحات التي صدرت عن كبار المسؤولين السوريين واكدت لبنانية هذه المزارع. وكان آخرها تصريح وزير الخارجية السورية في 7/8/2006 قبيل انعقاد مؤتمر وزراء الخارجية العرب في بيروت. وقد تضمن تصريحه اقراراً واضحاً بأن تلك المنطقة ارض لبنانية.

وتقصير المسؤولين في لبنان يتجلى في امرين: اولاً في انهم لم يستفيدوا من السوابق القضائية التي اشرنا اليها لكي يتخذوا التدابير اللازمة للمطالبة بحقوق بلدهم. وثانياً في انهم لم يتدخلوا لتضمين القرار 1701 الصادر في 11/8/2006 الاقرار السوري بملكية لبنان لمزارع شبعا. فلم يعتد القرار بالاقرار السوري واكتفى في ديباجته باعتبار مزارع شبعا من "مناطق الحدود المتنازع عليها او غير المؤكدة". ويعتبر موقفه من هذه المسألة مخالف للقواعد التي اصبحت مستقرة في القانون الدولي العام. فملكية المزارع ليست موضع نزاع واسرائيل لم تزعم يوماً ان المزارع جزء من ارضها المحتلة وسوريا اقرت بشكل صريح بلبنانيتها وهذا الاقرار يعد تصرفاً ملزماً لها. وكان على مجلس الامن الدولي فيما لو طلب لبنان ذلك، الاعتداد بهذا الاقرار واستلهام الاجتهاد الدولي والزام اسرائيل بالانسحاب من المزارع.

والخلاصة ان جميع ما ابديناه من ملاحظات شكلية لا ينتقص في شيء من قيمة الكتاب الذي اغنى المكتبة الفكرية العربية بانتاج رائع ومميز سائلين المولى العظيم ان يديم على الزميلة الكريمة وافر الصحة والعافية والصبر لتتمكن كعادتها في كل سنة من اتحافنا بكل جديد ومفيد في حقل اختصاصها.

كلمة منذر جابر  

 

اين تقف د. دعد ابو ملهب من قضية الحدود اللبنانية والعربية في كتابها "جيوسياسة الحدود والعولمة لبنانيا واقليمياً وعالميا"؟

تلحق مؤرختنا بالحدث الحدودي حيث تكون الحدود. تصل دائماً الى زعرورة الحدود بعد ان تكون قد انطلقت سريعاً من البدايات. لا تكتب مؤرختنا جيوسياسة الحدود او تباشرها مباشرة "البدل" او كتابة "البدل" قياساً على سباق البدل متسابق يستلم عصا السباق من متسابق آخر في فريقه.

في زاوية النظر الى الحدود أي في منهج الكتاب لغة جديدة تطل بها علينا المؤرخة في حديثها عن صناعة الحدود فالحدود في اعتبارات الايديولوجيات المتزمتة بجانبها الوطني الضيق الاكثر سعة باتت تاريخية لا بل ونهائية تقيم في بعضها جسراً ما بين الازل والابد.

الكتابة لدى د. دعد كتابة في حركة الناس عبر حدودهم وفي تحريك الحدود عبر علاقة الانسان بها أي ان مؤرختنا تستثمر تفاعل الانسان والجغرافيا وسيلة لتحديد الحدود. هذا في الوقت الذي تدور فيه الادبيات العربية على دورتها في الحدود جوهراً مجرداً.

ومع منهج د. دعد لا يمكنك الا ان تتفق معها. وان تتبنى مقولتها وبالكامل غالباً. لا تسمح لك بأن تختلف معها لان منهجها يداخل بين ما تمليه الجغرافيا وبين ما تنصه ظروف الاجتماع والاقتصاد.

اما ما يراه البعض خروجاً عن موضوعية مفترضة، ومن يؤاخذ مؤرختنا على ذلك فليرمها بوردة واحدة ان كان المؤاخذ منا في حلّ من خطيئة الخروج عن الموضوعية "وما يتبع أكثرهم إلا ظناً" (قرآن كريم).

السفير سمير حبيقة  

 

ما هي علاقة الحدود بالحياد؟ سوى الجذر الجامع ما بينهما حد وحاد. بل ان الحدود هي التي تحدد طبيعة السياسة الخارجية ومنها سياسة الحياد. فلو لم تكن سويسرا ما بين فرنسا والمانيا ولو لم تكن النمسا ما بين العالم الشيوعي والعالم الحر (ما بعد الحرب العالمية الثانية) ولو لم تكن فنلندا على حدود الاتحاد السوفياتي بطول 1200 كلم، لما اختطت لنفسها هذه الدول سياسة الحياد.

هكذا لبنان: المنفتح عبر البحر الابيض المتوسط على الغرب ، المشرق من عليائه على الشرق العربي، اتخذ لنفسه عام 1943 سياسة اللاشرق واللاغرب لا انتداب ولا وحدة.

على ان الحياد الذي نتحدث عنه هو:

-    حياد اخلاقي مناقبي: أي لا يكون بين ظالم ومظلوم ولا بين معتدٍ ومعتدى عليه، ليس هو بين اسرائيل والعالم العربي. فلبنان ملتزم القضية العربية، بل هو حياد ما بين المحاور العربية والمذهبية ما بين الشرق والغرب.

-        هو حياد ينبع من الداخل: بحيث يكون الحكم فيه متوازن بين جميع الطوائف وجميع الاتجاهات.

-        هو حياد ولا تحييد: بحيث ينبع من ارادة شعبية حرة.

-        هو حياد معترف به: عربياً ودولياً

-    هو حياد مسلح يدافع عن نفسه بنفسه: من هنا ضرورة وضع استراتيجية دفاعية شاملة ترد عنه اعتداءات اسرائيل وتطمئن سوريا الى انه لن يكون الخاصرة الضعيفة على حدودها

كلمة المؤلفة د. دعد بو ملهب عطالله  

 

بدايةً، كلمة شكر للحضور ولمدير الجلسة والمحاضرين على المشاركة في الندوة حضوراً وتقديماً.

في أواخر القرن العشرين، طُرحت مسألة الحدود بشكل شامل عالمياً. أما الحافز المباشر الأساس لطرح هذه المسألة بهذا الشكل فتجسّد في ظاهرتين بارزتين : الأولى، وهي مزدوجة، العولمة والتطورات التقنية التي ساهمت في تقريب المسافات في معظم مجالات النشاط الإنساني؛ الثانية، التطورات الجيوسياسية الكبرى، ليس أقلّها انفراط العقد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية.

في هذا السياق الدولي الواسع، ونظراً لاهتمامي بالتطورات الدولية عامة، كان لا بدّ من التوقّف ملياً، منذ تلك الفترة عند هذه المسألة بالذات. وفي سياق العولمة، فرَضت علينا الحركة العالمية عبر الحدود نفسَها بنشاطها الاقتصادي والثقافي والبشري، ما يعني حركة الأعمال والمعلومات والبشر هجرة وسياحة وعملاً. وفي الوقت نفسه، كانت قد أدّت الظروف المحلية والإقليمية إلى ان تَطرح مسألة الحدود اللبنانية نفسها على العديد من اللبنانيين مسؤولين وباحثين. وبالطبع كنت في عداد من اهتموا بهذا الموضوع، على الصعيدين، لأدلي بدلوي وإن بشكل متواضع خاصة على الصعيد اللبناني حيث كان جهد بعض الأصدقاء والزملاء، وإن قلّ عددهم، كبيراً وانتاجهم غنيّاً وغنيّاً عن التعريف.

ها أنا اليوم، أقدّم للقارئ بالعربية عموماً، وللبنانيين خصوصاً، بعض ما رأيت أنه من الضروري أن أتشاركه معه من معرفة وتحليل وخاصة من هموم متلازمة مع موضوع الحدود حقوقاً ومقاربات... على مدى الكون ومنطقتنا وبخاصة بحدود لبناننا ذي المساحة المتواضعة والحدود التي تحتسب بمجملها ببضعة مئات من الكيلومترات.

لكن الحدود في الواقع ليست مجرّد خطوط وكيلومترات، إنها أطراف البلاد مهما اتسعت أو ضاقت. لذا يكون عملياً القضم والتعدّي على حدودِ أية دولة يعني جغرافية البلاد بكاملها بغض النظر عن مساحتها. قد تكون المناطق الطرَفية المحاذية هي التي تشعر بالاعتداء قبل غيرها، لكن تأثيرات أي اعتداء لا بدّ أن تؤثّر في القلب...

وقد لا تكون حاجةٌ هنا للتوقف طويلاً عند مسألة نفوذية الحدود في الحياة الدولية المعاصرة. لكن، كما هو متعارف عليه، يجب أن تبقى تلك النفوذية خاضعة تماماً للسلطات المخوّلة في أية دولة في عالمنا. إن اختراق الحدود بأي شكل وبأية وسيلة وبأي من الاتجاهين بين الداخل والخارج، وإن بصورة سلمية، يبقى اعتداءً على الحدود وبالتالي على سيادة الدولة.

إن الدول، بما فيها تلك العظمى، تعمد جاهدة لحماية حدودها لأن في ذلك حمايةً للكيان بكامله. هكذا نجد العديد من السياسات والقوانين والاتفاقيات والتدابير الآيلة إلى ذلك معتمَدة في كل أنحاء العالم. على سبيل المثال لا أكثر، قد أذكّر هنا بسياسة الولايات المتحدة الأميركية المعتمَدة بهدف حماية البلاد من خلال حماية حدودها، خاصة من الهجرة غير الشرعية، عبر كافة المطارات والمرافئ وعبر حدودها البرّية مع المكسيك. هنا نجد الجدران والسواتر المرتفعة تقام منذ سنوات وسياسةَ تشدّد متزايدة ضمن "مبادرة أمن الحدود" التي قالت، في سنة 2006، ببناء جدار على طول الحدود مع المكسيك.

أما بالنسبة للدول العربية، فإن مسائل الحدود العديدة بدأت تظهر منذ العقود الأولى من القرن العشرين أي مع بداية قيام الدول العربية الحديثة. فكانت شبه الجزيرة العربية ساحة نزاعات طويلة حول اقتسام المناطق. من هذه النزاعات ما استمرّ طويلاً ومنها ما كلّف كثيراً. لكن، في نهاية المطاف، إن معظم هذه النزاعات وصلت إلى خواتيمها ورُسمت الحدود والسياسات الحامية لها علماً بأن البعض من هذه النزاعات استمرّ كامناً لعقود لينفجر أزمة كبرى وأبرزها بالطبع الأزمة العراقية الكويتية في مطلع تسعينات القرن العشرين.

بينما بالنسبة للحدود العربية مع الجوار غير العربي فإن المسألة ما تزال حيّة، على الأقل في بعض جوانبها كما هي الحال بالنسبة للحدود مع إسرائيل. هنا، لا يمكن إلا أن نذكر الحدود اللبنانية الجنوبية التي، على الرغم من انسحاب سنة 2000، ما تزال ساخنة بينما الحدود الأخرى هي : إما انتهى الأمر فيها إلى استقرار رسمي كما بالنسبة لكلٍ من مصر والأردن؛ وإما هي ساكنة تماماً من دون الوصول إلى أي حلٍ سياسي-قانوني كما بالنسبة لسوريا.

وهنالك مسائل حدودية مع الجوار ما تزال مطروحة  على غرار الحدود المرتبطة بالجزر ما بين دولة الإمارات العربية وإيران. والمسألة التي تلفت الانتباه هنا هي مسألة "الإقليم السليب" أي اسكندرونة التي، على ما يبدو، حلّت حبّياً ومن دون ضجّة في السنوات الماضية القليلة ما بين سوريا وتركيا. وأما الحدود الفلسطينية الإسرائيلية فما تزال مسألة مرتبطة بالعمق بموضوع الدولتين والسلم. وهي في كل الأحوال شهدت بناء الجدران لحماية إسرائيل على أرض الفلسطينيين...

وتبقى الحدود اللبنانية بكاملها الحدودَ الدولية الحيّة وغير الآمنة. إنها من أكثر المسائل الحدودية إثارة للانتباه في عالم قال القانون الدولي فيه باحترام أراضي الدول. إن الحدود اللبنانية التي أريدت فاصلة بين دولة "لبنان الكبير" و"دولتي" دمشق وبلاد العلويين من جهة، وبينه وبين منطقة الانتداب البريطاني في فلسطين هي حدود الدولة اللبنانية التي حرّم القانون الدولي تالياً الاعتداء عليها.

إن مسألة الحدود في هذه الحالة بالذات تخضع لمسار الحدود مع الجوار غير العربي كما لمسار الحدود داخل العالم العربي. ويقع لبنان حالياً في أزمة، بشكل أخصّ في مسألة مزارع شبعا، نظراً لتشابك المسارين مما يعثّر الحلّ. يضاف إلى ذلك أمر ترسيم كامل الحدود اللبنانية الذي يخضع، عملياً، لإيديولوجية يمكن تلخيصها بعدم ضرورة بحث مثل هذا الموضوع طالما أن الكيان المعني بتلك الحدود هو مكان شكّ أقلَّه بالنسبة للبعض على الرغم من الإقرار بصوت عالٍ بواقع "الدولتين".

أخيراً، يبقى المهم قائماً في البحث عن الذات : كياناً سياسياً، ومفهوماً وطنياً، وبالأخص مضموناً أخلاقياً. عندها تكون الحدود المعترف بها دولياً هي الإطار الجامع والسور الصامد الحامي للدولة والشعب المدافعَين عن تلك الحدود بكل الإمكانات. فالحدود، خطاً كانت أم حيّزاً، تبقى العضو الطرَفي للدولة الحديثة إذا ما أصابه خلل ما، مهما كان مصدره، يتأثر الجسم بكامله سلباً. وسيادة الدول تمارَس حتى الحدود وعلى الحدود، ولا يمكن أن تكون هذه السيادة حصينة إلا بحصانة الحدود نفسها، وكذلك لا تكون الحدود حصينة إلا بتحصين السيادة...    وشكراً.