ندوة حول كتاب مشير باسيل عون
الفكـر العربـي الدينـي المسيحـي
مقتضيات النهوض والتجديد والمعاصرة
19 نيسان 2007
كلمة الأب بولس روحانا
كلمة الدكتور جيرار جهامي
كلمة وجيه قانصو
كلمة الأب جورج مسّوح
أيّها الأعزاء،
بدعوة كريمة من الحركة الثقافيّة - انطلياس، نلتقي في هذه الندوة الفكريّة حول كتاب جديد للأب الحبيب والصديق لنا جميعاً مشير باسيل عون، استاذ الفلسفة وحوار الأديان في جامعة الروح القدس؛ والكتاب الذي جاءَ في سبعة فصول - وهذا رمز الكمال - هو بعنوان: "الفكر العربي الديني المسيحي. مقتضيات النهوض والتجديد والمعاصرة". وقد صدر في العام 2007 عن دار الطليعة في بيروت.
لن استفيض في هذه المقدّمة الوجيزة - كما هي العادة في الندوات - بالتعريف بشخصيّة المؤلف الجذّابة على أكثر من صعيد، وبمساره الجامعي وبمؤلفاته العديدة والمتنوّعة في مجالات الفلسفة واللاهوت وحوار الأديان، وان بدت بعض تلك المؤلّفات للوهلة الأولى صعبة الفهم نظراً الى تركيبتها اللغويّة وبعض مفرداتها غير المألوفة بالنسبة الى القارئ العربي العادي.
أكتفي بالقول في هذه المناسبة أن الأب مشير هو جامعي متمرّس ومحترف، يقضي اثمن أوقاته في التعليم والبحث والتأليف، من دون أن يُهمل في برنامجه اليومي والأسبوعي تلك المساحات الإنسانيّة التي يملأها بالصداقة والمودّة والأخوّة، وتلك المساحات تُضفي على العمل الأكاديمي وبخاصة على العمل الديني واللاهوتي نكهتَهُ الإنسانيّة التي بدونها يتحوّل الى عمل تنظيري مجرّد غير مرتبط بالإنسان وبهمومه الوجوديّة وبترقّيه الروحي والإنساني والثقافي.
واللافت عند الأب مشير في مساره البحثي هو عزمُه الراسخ في صياغة فكرٍ عربي ديني مسيحي يحاكي همومَ الإنسان العربي وتطلّعاته، أمسلماً كان أم مسيحيّاً أم علمانيّاً، في سبيل ارساءِ حضارة التلاقي والتفاعل المخصب بين أبناء هذه المنطقة. ويشكّل ذلك دعوةً صريحةً الى الإنعتاق من كبوة الفكر الديني المذهبي المنغلق على ذاته وهو يأبى أن تلفَحَهُ رياحُ النقد العلمي المطّهرة.
ويعرض الأب مشير باسهاب وواقعيّة للمعوّقات - وهي كثيرة ومتجذرة في التاريخ - التي حالت وتحولُ دون قيام مثل هذا الفكر. ولكنّه لا يستسلم لوطأة تلك المعوّقات، بل تراه يفتّش، ولو منفرداً، مستنداً الى ثقافة فلسفيّة ولاهوتيّة رصينة اكتسبها في جامعات لبنان وأوروبا، وإلى معرفة دقيقة بالفكر العربي الإسلامي، تراه يفتّش عن الوسائل الملائمة لتذليل تلك المعوّقات ولتجاوزها، بهدف الوصول إلى آفاق فكريّة ودينيّة خلاصيّة أرحب.
وإني إذ اهنّىء باسمكم الأب مشير على عطاءاته الفكريّة الكثيرة والجديّة وبخاصّة على كتابه الجديد الذي يجمعنا في هذه الندوة، اشكر حضرة المشاركين الدكاترة جيرار جيهامي ووجيه قانصو والأب جورج مسّوح على اسهامهم في تسليط الضوء على المحاور الأساسيّة التي يتضمّنها هذا الكتاب.
عندما يساورُ القلقُ النفسَ الناطقةَ، وتشطحُ بها التساؤلاتُ والهواجسُ لا بدَّ من أن يتلقَّفها اللسانُ ليعكسَها ألفاظاً ومصطلحاتٍ معبِّرة عن الصور والمشاعر والمثاليات كتمثّلاتٍ يجسِّدُها ويترجمها إبداعات وكشوفات. وهذا ما دعانا إلى القول في المنحى التأسيسي لفكر عربي مسيحي الذي ارتقبه المؤلِّف وسعى إليه: إنه الانتقالُ من التقليد إلى الإبداع في مجاليْ تقعيد علمِ لاهوتٍ مسيحيٍّ عربيٍّ معاصر، وتجديدٍ لغويٍّ معاً يزخِّمُه ضمنَ بيئتِه وأطرِ واقعِه المشرقيّ (موضوع مقالنا الأخير في هذا الصدد). إنها محاولةُ ترسيخِ سبلٍ منهجيةٍ متجدّدة، ومعجميةٍ معبِّرةٍ عن التفكير اللاهوتي كما يراه من زاوية المواءمة والتآلف بين الفكر النقدي المعاصر والفكر العربي المسيحي الذي يناسبه ويتناغم مع بُناه ووساطاتِه التعبيريّة.
والهمُّ يجولُ في كيفية توليفِ فكرٍ جامعٍ، وزرعِ حقولٍ ومساحاتٍ مشتركةٍ يتلاقى فيها التنوُّعُ والتبايُنُ عند بناءِ صياغاتٍ لاهوتية تؤمِّنُ التبادلَ بين علمِ الكلام وعلمِ اللاهوت وهما ينطُقان باللِّسانِ العربي. مع الإشارة إلى أن هدفَ العلمين في أيّامنا لم يعُد الانتقالُ من الفاعل إلى الفعل، أو من الوحي الإلهي صوبَ الإنسانِ نظريّاً فحسب، إنما تكريسُ هذا الوحي في سبيلِ خدمةِ الإنسان. وهذا ما قصده ربما مشير عون في رسمِ جغرافيةِ اللاهوتِ المسيحي عند قولِه في توطئةِ الكتاب: "ولذلك نشأَ مثلُ هذا البحثِ اللاهوتيِّ وهو يتطلَّبُ في عمقِ مقاصِده فهمَ المعاناةِ الإنسانيةِ وإجادةَ الاستنطاقِ الإيماني واستثارةَ التفكّر اللاهوتي". ولهذه الغاية كرَّسَ الفصلَ الأوّل من الكتاب "لاستخراج أفضلِ السُبُلِ التي تمكّن المؤمنين المسيحيين من التعبيرِ الأنسبِ عن معاني اختباراتهم الإيمانية في قرائنِ الثقافةِ الإنسانيةِ التي تكتنفُ وجودَهم".
وكما إننا لا نستطيعُ فصلَ علمِ الكلامِ عن مسارِه الجدليّ وحروبِه اللفظيةِ التي سادتْ في البيئةِ الاسلامية ضدَّ أهلِ البِدَع- كعلمِ مواجهةٍ لكشفِ الشهاداتِ الحقّةِ، وتحريرِ القيمِ من بعض تطبيقاتِها العرجاء، وتصحيح بعضِ المفاهيمِ الدخيلة- كذلك ليس بإمكاننا فصلَ علم اللاهوت عن صراطِه العقيدي والفكري، طبيعةً ومنهجاً وغائيةً؛ ولا سلخَه عن إدراكِ الإنسانِ المسيحي لأنواعِ الحكمةِ الطبيعيةِ والعليّةِ والصوفية. فعندما خرَّجَ القدّيس توما الأكويني في القرن الثالث عشر اللاهوتيات علماً قائماً في ذاته، فعلَ ذلك لفهمِ حقائقِ الإيمانِ في نورِ الله الموحي، وبواسطة الفكر المتدرّج الذي جعلَهُ الله بين أيدينا (فلسفة الفكر الديني، ج 3، ص20).
يومَ حاول المفكِّرُ النقديُّ المعاصر محمد أركون تركيزَ مناحي الأنسنةِ في السياقاتِ الإسلاميةِ على صورةِ سياقاتِ الحضاراتِ الغربيةِ الإنسانوية، وانعكس خطُّه صراعاً تصادميّاً بين أهلِ العقلِ والنقلِ، أهلِ التحديثِ والتقليد، بتُّ اليومَ أتوقَّعُ لمحاولةِ مشير عون التجديديةِ أن تلقى المصيرَ نفسَه، بمعنى أن تستثيرَ الجدليّةَ عينَها نظراً إلى عدم انخراطِ فكرِ البعض في مجاري الحداثة وما بعد الحداثة لا سيّما اللاهوتيين منهم دفاعاً ربما عن مراكزهم داخل الكنيسة، أو خوفاً على المؤمنين من أهل البدع كما يدّعون، أو الاستسلام الفكري والسبات العقلي. إن الفكر الديني لم يعدْ مكرًّساً للعقائد الجوفاء، أو مستبعِداً النظرَ الفلسفي والوضعي. ستعودُ الحياة إلى هذه العقائد يوم تعود هي للاستجابةِ إلى همومِ الإنسان في حاضرِه ومستقبله. فحداثتُنا لا يمكن أن تنقلبَ عن مسارها الطبيعي في ظلِّ ثورةِ العلمِ ومنهجيةِ النقد، لتقعَ مجدَّداً في فَخِّ تكريسِ التقليدِ وروابطِ التراثِ المهترئةِ لهشاشةِ غائيتِها تحت عنوان: المحافطةُ على الهويّةِ والمذهبِ والذات. وعيُنا الحداثي لا يستطيع أن يفارقَ نُظُمَنا المعرفيّة. هذا لا يفترضُ أن نفقِدَ الهويّةَ لنتغرَّبَ ونذوبَ في هويّةِ الغيرِ وإن وفدتنا العلومُ من بلاده بل نهضمُ ونتفاعل. نعم إن الفلسفةَ لم تعد خادمةَ الدين كما يوحي ماضيها، لكن الدينَ أيضاً لم يعُد خادم الوحي فحسب، إنما انقلبَ لخدمةِ الإنسان وقضاياه. وما أكثرها! هكذا يجب أن يُستساغ اللاهوت العربي الجديد. من هذه الزاوية تندرجُ محاولة مشير عون وتُقتطع حِصَّتُه من قالَبِ الفكر العربي النقديّ المعاصر. يقول في صدد انقلاب علم اللاهوت وتحوّلِه مطوّراً: "إن محاولةَ علم اللاهوت التوفيقُ بين سُلطةِ العقلِ وسُلطةِ النقلِ تظلُّ خاضعةً لتطوّرِ الأوضاعِ الثقافية وتبدُّل الذهنيةِ الكنسيّةِ في سياسةِ شؤونِ الفكرِ وتدبيرِ أمورِ الجماعة" (ص 33). تطوُّرٌ وتبدُّلٌ حاصلان لا محالة نظراً إلى أن الحياة تمجُّ الجمودَ والفِكرَ ينبُذُ السُّكونَ.
انطلاقاً من هذا القلقِ الإصلاحي لهيكلِ اللاهوت كعلمٍ قابلٍ للتطوير من داخل، وعملٍ ملتزمٍ حريّةَ التطبيقِ من خارج، نتوقّفُ عند محاولتين قام بهما الزميل مشير في هذا الصدد وهما: تجديدُ المنهج اللاهوتي، ونحتُ لغةٍ مطابقة له.
أولاً- المنهجُ الديني المقلوب وسُبُلُ تقويمه
لسنا اليوم في مجالِ العودةِ إلى مناقشة ما للأصولِ الدينية في الإسلام، والمداركِ اللاهوتية في المسيحية من روابط وفوراق: بين الكتاب المقدَّس والقرآن، بين السُنَّة ومبادئ المسيحية الكنسية، بين الحديث والنقل المأثور عن الرُسُل. إنما نودُّ دراسةَ طرح مشير عون تقعيدَ نهجٍ ديني متجدِّد للخروج من مُعضلةِ المحاججةِ المزمنةِ هذه، ودفعِ علوم الدين نحو إنقاذِ واقعها.
يعيد المؤلِّف، في تجربته هذه، إلى أذهاننا اتهامَ حسن حنفي علم الكلام بأنه علمٌ مقلوب يجبُ تصحيحُ مساره. إذ بينما الوحيُ قصدٌ موجَّهٌ من الله نحو الإنسان، قلَبَ علم الكلام هذا الاتجاه وجعلَ الكلامَ قصدَ الإنسانِ نحو الله. الإنسانُ هو المرسِل والله هو المرسَلُ إليه. هو إذاً، كما يستنتج، علمٌ خارجٌ عن قصدِ الله بل هو مضادٌ له (التراث والتجديد، ج، ص556).
يحاول مؤلِّفنا إعادةَ قلبِ اللاهوت لإرسائِه على هيكليةِ أركانه الحقّة: الإنسانُ هو الهدفُ واللهُ المعين. ولم يكن لينجحَ في هذا التحويلِ التاريخيِّ لو لم يُشِر بالبُنان إلى مآزقِ الفكر العربي الديني المسيحي ومعضلاتِه، في ظلِّ اشكالياته الثلاث: السياسية والاجتماعية واللاهوتية (موضوع الفصل الثالث). فأنتَ لا تستطيعُ اقتحامَ مجالاتِ قراءةٍ عصريةٍ لأيّ نصٍّ أو علمٍ شئتَ بعثَ خفاياه، إلاّ إذا حدّدتَ عثراتِ من قرأه قبلك وتأوَّله، فتتمكن إذ ذاك تجديدَ مغازيه بتجاوزِها.
تلوحُ مهمّةُ الناقدِ هنا مزدوجة: إذ هو لا يستبطنُ الظاهرَ والشائع، إلاّ ليتجرّأَ ويطرحَ على بساطِ البحثِ المحرّماتِ المسكوتِ عنها، ومقاربةِ المقدّساتِ بمنهجٍ وضعيٍّ اختباري. لذلك لا تعودُ الحقائقُ الدينيةُ مغلقةً بسياجٍ دوغمائيٍ ومطبق عليها، ولا بعيدةً عن مرافقةِ العقلِ النقدي المفكّك لها. واستطراداً تبينُ محاولةُ مشير عون انكشافيةً. إذ تفتحُ من جديد بابَ الإشكاليات النصّية التأويلية على مصراعيه، وقد رفضَ أن يسكتَ، ويُحجم عن ترشيدِها نحو مرامٍ حيوية تلائم العصر وعلومه، مواجهاً بعضَ من يحتكرُ الفكرَ الديني وسلوكياته.
من هنا لاحظنا ما كان لثقافةِ مدارسِ علم التأويل في فكره من دورٍ في نفضِ الغبارِ عن تقليدياتِ اللاهوت - وقد يحلو له أن يسمّيه بعلم الفسارةِ- لكنه لا يفرّطُ في المقابل بالأمانة الكلية للإنجيل ومقتضياته مع افتراضه إيّاه "كلاماً بشريّاً في اختبارٍ إيمانيّ موضوعُه يلامسُ الحدودَ القصيَّةَ للوجودِ الإنساني" (ص 74).
استتبع هذا التشخيصُ للداء وصفهَ للدواء المسعِف (في الفصل الرابع من الكتاب) عند استجلائِه الشروطَ النظرية في إنشاءِ هذا الخطاب اللاهوتي المعاصر من مثل التركيز على:
1- فرادةِ اللاهوت وخصوصيته في أوطان الشرق العربي. 2- تعبير اللاهوت عن الحراك الناشط بين القطب الإلهي والقطب الإنساني مما ينهي القطيعة بينهما عمليًّا لأن النظريات لم تثمر يوماً أفعالاً حقّة. 3- مقولاتِ هذا العلم التي يجب أن تُستلَّ من العلوم الإنسانية الوضعية نظراً إلى ارتباطه بالنفسانيات والاجتماعيات والتارخيات.
ممّا يُفضي إلى طرحِ بُعدين يجب النيل منهما:
أ- بُعدٌ وجوديّ منبثق من المعاناة اليومية للإنسان المؤمن.
ب- وبُعدٌ نظريّ يجمعُ شِتَتَ الاختبارات الوجودية الإيمانية ويُدخلها في نسقٍ من التفكير التجريدي.
والغايةُ القصوى تبقى خدمةَ الإيمان في استثمارِ طاقاتِه الدفينة.
هكذا تتراءى لمشير عون عمليةَ النهوضِ والتجديدِ والمعاصرة لعلم اللاهوت. إنه يعيدُ الحياةَ إلى علمٍ ترهّلَ حتى بِتنا نخشى عليه من الاندثار. فإمّا أن يكون الدين، حسب نصر حامد أبو زيد، عاملاً من عواملِ النهوض والتقدّم، وإمّا أن يستحيلَ عاملاً من عوامل النكوص والتخلّف (الخطاب والتأويل، ص 252). لذا يؤمنُ أركون مؤيِّداً هذا المنحى بأن الدين الذي يهمل الاجتهاد الفكري المبدِع والنقّاد لجميع ما يُنتجُه العقلُ، يصبحُ لا محالةَ آلةً خطرة يستغلّها المتلاعبون بالنفوس والقامعون للحريّات الأساسية التي يتطلّبُها كلُّ إنسان لكي يرتقي إلى درجةِ الأنسنة" (معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، ص 8).
وكي لا تبينَ هذه الشروط نظريةً تعجيزيةً لمن شاءَ تغليبَ العمليات على العلميات، قارعَها المؤلِّف بالواقع. وأجرى لهذا الغرض اختباراً شبيهاً بدراسةِ علماء الاجتماع الحقلية: الإطار العام هو الشرق العربي، المختبر: واقع لبنان، الرائز: مجموعة مكوّنات حياة اللبناني المسيحي نفسه وتساؤلاته. فما كانت النتيجةُ البحثيةُ هذه؟ طلبُ الاستمرار في التفاعلِ والمقاومةِ والشهادةِ المسيحية ولكن شرطَ توفّر الحرية، وعدمِ الإكراه في الدين من قِبَل الشريكِ المسلم، والتفاعلِ المستمرِّ مع تقلّبات الحياة. فإذا كان يلتزمُ بقبولِ الآخر باحترام هويّته وماهيّته، فهلاّ التزم الآخر باستيعاب قضيّته ومساعدته على حلِّ مشاكلها البينذاتية؟ قطبُ الغيرية هو الأساسُ والمرجع في الحياة الدينية حسبما يُبرزه سمير خليل. ولا مانعَ من أن يحافظَ كلٌّ على ذاته عند مقابلته الشريك الآخر (لاهوت الشرق الأدنى الحديث في الصلة بين الهوية والغيرية. مجلة المشرق، عدد 75، سنة 2001، ص 25-55).
لن يُكتبَ النجاحُ لمثل هذه الشروط كي تبصرَ النور عند مراعاتِها إلاّ في ضوءِ توافرِ معطياتٍ ثلاث:
1- القبول بالتعددية في حقل الدين.
2- تجديد معاني العروبة الفكرية في حقل الثقافة.
3- الشهادة للحرية والإصلاح في حقل الاجتماع.
هذا النهجُ التاريخيّ والعلميّ يرفضُ الأخذَ إذاً بنماذج جامدةٍ تُعتبرُ معاييرَ مطلوبة لتحقيق علم اللاهوت الجديد، إذ هو كشفيٌّ، موضوعيٌّ، جدليٌّ، أمينٌ على روحية الأصول في تحقّقاتها العمليّة.
ثانياً: تخريجُ لغةٍ دينيةٍ متجدِّدة
عالجَ الأسلافُ، الفقهاء والمتكلّمون، واستطراداً اللاهوتيون، القضايا الدينية والحياتية كمسائلَ جامدة متمذهبة، لا جدال في مقدِّماتها والنتائج المسلّمة وإن اختلفت البراهينُ والدلائل. استعانَ أصحابُها بمصطلحاتٍ دوغمائية لا إمكانيةَ للاختلاف والتقابل في مضامينها. والعقلُ المنتجُ لها إخباريٌّ لا نقديّ، وصفيٌّ لا تفكيكيّ.
لكننا نواجه اليومَ في طرح مشير عون قضايا اللاهوت الجديد في حلّة إشكاليات يتطوّر فيها المضمونُ المعرفيّ وينتقلُ من المعطى المؤطّر دينيًّا إلى ذاك المستخرَج غير المنظور وغير المتوقَّع. ممّا يحتّمُ عليه وضعَ مصطلحٍ ناطقٍ باسم هذا الخطاب المتجدِّد والرافضِ لسيادة المطلقات وسلطان المبادئ العقدية المتماهية.
من هذا المنطلق برزت دعوتُه إلى حوارٍ إسلامي- مسيحي منفتح ومتحرِّر من المحظورات والأحكام المسبقة، احتراماً لحقوق الإنسان المسلم والمسيحي، وتطرّقاً لقضايا وهواجس وأزمات كلّ منهما لاستشرافِ حلولِها الممكنة ضمنَ هيكلِ العيش المشترك.
أيُّ فكرٍ لاهوتيٍّ غنيّ يفتّش عن مكنوزاته هذه والعبارةُ المعبِّرةُ عنه هشّةٌ وجامدة؟. حلاًّ لهذا الإشكال، دعا فريد جبر إلى الكشفِ عن ضرورةِ ربطِ الذهنيات باللسانيات وبالعينيات من جهة، وعدمِ إلصاقِ العوارف الأجنبية الأصل والصيغة بفكرنا وبفلسفتنا واستطراداً باللاهوت العربي التعبير؛ إنما الربطُ بين الاختبار الإيماني الوجودي وطُرق التعبير العربية الأصيلة ليتكيَّفَ هذا الفكرُ مع حُكمِ الواقعِ والتطوّر (التعبيرية والتكاملية- مجلة الفكر العربي 1986، عدد 46، ص 16) (نحو تحقيق فلسفي لبناني حوليات جامعة القديس يوسف- كلية الآداب والعلوم الإنسانية، المجلّد الأوّل، 1980، ص 72).
يقومُ الغَرفُ من هذا المَعينِ السخيِّ عند مشير عون، وفي مجال اللغويات، على ثلاثة قوائم وفي ضوء مجمل المعايير اللسانية:
1- الاشتقاقُ في سبيل الإغناءِ تطويعاً لمعانٍ جديدة لسانيًّا مرتكزاً على موازين متجدّدة (127). نضيف من جهتنا: ولكن ليس كيفما كان.
2- النحتُ توليدًا لكلماتٍ جديدة، واستيعاباً لجميعِ المعاني العقلية (131). نضيفُ من جهتنا: مع ضرورةِ مراعاةِ قواعدِ الجَرسْ الموسيقيّ والابتعادِ عن وحشيِّ الكلام أو المختلّ منه.
3- التعريبُ تسهيلاً للبحث عن أسماء للمسمّيات الحديثة، لا سيّما وإن علاقة اللاهوت بالعلوم الإنسانية باتَ واقعاً نصّيًا وسلوكيًّا (138). نضيفُ من جهتنا: مع تجنّبِ النسخِ الحرفي منعًا لتشويهِ روحيّة اللغة ومعاني مفرداتها الخاصّة؛ مع مراعاة الدقّة في وضع المرادفات وضرورة تفسيرها أحياناً.
يطالبُ المؤلِّفُ، انطلاقاً من إلحاحِه التطويريّ للغةِ اللاهوتِ العربي، بالجمعِ السليم بين جهود اللغويّين وجهود اللاهوتيّين، للسيرِ معاً في هذه السبلِ الثلاث، مع ضرورةِ صيانةِ ذاتيةِ وخصوصيةِ هذا وتلك.
ألم يحن الوقت، كما تشعرون، لوضعِ معجم لاهوتيٍّ جامعٍ لكمِّ هذه المصطلحات وكيفِها، مع مراعاةِ أصول اللغة العربية ومبادئ الفكر اللاهوتي وتطبيقاتهما؟ ألا ينبغي وضعُ هذا المصطلح لملاحقةِ الثابتِ من المعاني اللاهوتية والمتحرّكِ في آن، الحقيقيّ والمجازيّ، الظاهر من النصّ والباطن؟
إذا كان لنا من دعوةٍ هنا فلنعُد إلى تجربتِنا الموسوعية التي حقّقنا في سلسلة موسوعات- المصطلحات العربية والإسلامية، وقد حافظنا فيها على خصوصية الفكرين بأمانة ودقّة لننطلقَ في مشروعِ تحقيقِ موسوعةٍ مصطلحيّةٍ حاويةٍ للمقولاتِ والمفاهيم والألفاطِ اللاهوتية وبروحيةٍ تعدّدية. وهكذا يتبلور مشروعُكم بأدواته اللغوية المجدِّدة.
خاتمة
في محاولته إعادةُ بناءِ علمِ أصول الفقه دلالةً منه على ولادةِ مرحلةٍ جديدةٍ في تطوّر علم الأصول هذا، أَجرى حسن حنفي تحوّلاً من النصّ إلى الواقع، أي من الحرف إلى المصلحة كما يقول... "فإن أصولَ الفقه الجديدة تبدأ من الواقع ومن مصالحِ الناسِ المتغيّرةِ بتغيّرِ العصور. وهو ردّ فعلٍ على ما يحدثُ في هذا العصر من تضحيةٍ بالمصالحِ العامّة باسم النصّ، وتراكمِ مآسي الناس باسم الشريعة" (من النص إلى الواقع- محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه، ج1، ص 46).
فهلاّ تطابقتْ هذه الغائيةُ مع ما يَنْشُدُ ويَقْصُدُه ويتمنّاه مشير عون في مقاربته الجديدة النهضوية للاهوت المسيحي العربي؟ تبقى الإشارةُ إلى أنه يحذّر من إساءةِ فهمه: أكان من قِبَل المتبحِّر في علوم الدين، أم من الملحد المؤسِّس لعلوم الإنسان مكانها، إذ تتمركز اهتماماتُه حول بسطِ أديانٍ تحمِلُ السلامَ إلى الناس وإلاّ لفظَها التاريخُ لتسقطَ في غياهِبِ الظلام". (177).
إنها معاناةُ المثقّفِ الوجودية في شرقِنا العربي، شاءَ مشير عون سلوكَها وحملَ صليبِها عساه يُسهم في قيامة الفكر واللاهوت معاً وفي لبنان أولاً.
سؤال النهضة والتجديد في الفكر العربي الديني المسيحي
أخر مؤلفات الأب الدكتور مشير عون: "الفكر العربي الديني المسيحي: مقتضيات النهضة والتجديد والمعاصرة"1. حيث يطل علينا الأب عون من جديد، بأسئلة وعي وواقع، وجود وكينونة، لم تستطع أجوبة الفكر واللاهوت الجاهزةُ إشباعَها. أسئلةٌ مفعمةٌ بقلق فكري ووجع روحي، يخلُقَان في داخلِك طاقةَ توثُّبٍ تقفُزُ بك إلى مِنطقةِ التحدي وخطوطِ التُخومِ الخطرة، وتوقِظُكَ من سُباتِ يقينكَ وتشُلُّ عصبَ طمأنينَتِكَ وتُعرِّي أوهامَ الأمانِ فيك، وتنقُلُكَ من جديدٍ إلى لحظةِ تلقيكَ الأولى للعالم، وهي اللحظةُ التي تسبِقُ تشكلاتِ الضرورة وسلطة المعنى، والتي تسعيدُ معها لاتناهي إمكاناتِ الإنوجادِ وخياراتِ التحققِ، وتضعُكِ فوق نقطةِ التوترِ الشديدةِ بين توقِكَ الحُرِّ نحو المطلق وتوقِ المطلقِ للظهورِ بك والتجلي من خلالك.
وإذا كانت المقاربة السياسية أو الفكرية في معالجة الواقع المتأزم، تركز على توليد ثقافة تكيف (إيديولوجيا)، وابتكار أُطُرٍ إجرائية لامتصاص تناقضات الواقع وكبح الصراعات فيه، وخلق كيانات عليا ذاتِ قوةٍ رادعةٍ سلطةٍ آمرةٍ. وهي مقاربة تقوم على التخارج بين الشكل والمضمون، والفصل بين الإرادة والنية، بين الفعل ودوافعه أو محركاته الباطنية، بين الإنسان والمؤسسة الجامعة.
في حين، تكمن مقاربةُ الوعي الإيماني وبالتالي اللاهوتي عند الأب مشير عون، في التعاكس المرآتي بين الباطن والخارج، بين المرئي والمخفي، فلا تعود إشكاليةُ الواقع منحصرةً في خلقِ شروطٍ خارجية أو موضوعية لعيش الأغيار بسلام، بل تصبحُ إشكاليةَ وعيِ الذات لذاتها والعالم والله، ومعضلةَ تمثلِ الآخرِ، عبر انوجادك بداخله وانوجاده بداخلك. أي يرتد السؤال اللاهوتي من البحث عن الشرط الخارجي للحياة، إلى البحث عن حقيقة الحياة نفسها والنظر في التكوين الباطني لحقيقة الذات ووجود العالم. وهنا مفارقة الإجراء الإيماني وافتراقه افتقاره عن الإجراء السياسي، حيث يحتجب مع الإستحواذ والغلبة، وتخنقه الحصريات والسيادة، ويتناقص مع كل تهليل بالإزدياد، ويضعف مع كل رغبة بالانتصار، ويتداعى مع كل ادعاء.
نتلمس مقاربة الأب عون اللاهوتية، لمعضلة الوجود والوعي المسيحيين في الشرق والعالم العربي، بالإرتكاز على ضرورة "التجانس بين فحوى الإيمان وبنية الوجود، والإنتقال من مستوى الإبلاغ عن الإيمان إلى مستوى جعل هذا الإيمان فعلا تاريخيا، الخروج من استبداد القول إلى حرية الفكر"، أي تحويل المقولة الدينية إلى حدث، والذات إلى موضوع، والفكرة إلى عيان، وتكثير المطلق وجزئنته من دون أن يخرج عن واحديته أو إطلاقه وشموله.
موضوع علم اللاهوت، كما يقول الأب عون، يفضي بالإنسان إلى اكتشاف هويته الفاعلة، ومهمتُهُ هي أن "يخدُمَ الإيمانَ في استثمار طاقاته الدفينة، لا أن يخدمَ خطابَ الموسّسة الدينية أو السياسية أو الاجتماعية"، إذ أن "حقائق الكلام الإلهي لا تنكشف إلا في انغراسها في سياق الزمن الذي تحياه جماعة المؤمنين".
وهذا لا يتحقق إلا بانبثاق القول اللاهوتيّ العربيّ، بحسب الأب عون، من معاناة المسيحيين الوجوديّة، حيث يقتضي بالشهادة الإنجيليّة أن تستخلص مضامينُ الحقائق الخلاصيّة في نسيج المجتمع الذي يحيا فيه شهودُ السيّد المسيح، إذ أن الإختبارَ المسيحيَ قابلٌ للإنغلال في جميع الثقافات الإنسانية. ولما كان المسيحيّون العرب يحيّون في مجتمع عربيّ تسوده حقائقُ المرجعيّة الدينيّة القرآنيّة وعناصرُ المرجعيّة الثقافيّة العربيّة، فإنهم مدعوون إلى تكييف شهادتهم الإيمانيّة وفكرهم تكييفًا يوائم مقتضيات الإنتماء إلى مثل هذا المجتمع، وإلى تأهيل العقل العربي المسيحي اللاهوتي تأهيلا تتحقق به الشهادة المسيحية الأصيلة في أرض الشرق العربية، وإلى الإفصاح عن تجربتهم الوجودية بصياغات عربية بحتة، بدل الإقتصار على تعريب نتاجات اللاهوت الغربي أو اقتباس بعضا من خلاصاته في صورة الصياغة العربية اللاهثة.
داخل هذا الفضاء العربي، تجبه الوعي المسيحي ثلاث حقول، تشكل مجتمعة عماد النشاط التفكير الديني المسيحي. أولها حقل الدين: الذي يدفع إلى توليد لاهوت حوار بين الإسلام والمسيحية في سبيل تعزيز التعددية الدينية. ثانيهما حقل الثقافة: الذي يحث على إنتاج لاهوت العروبة التي تعنى بتجديد معاني العروبة الفكرية وتحرير الثقافة العربية جمعاء من مخاطر الإنغلاق والتقوقع في حركة الفكر العالمي وربطها بمكتسبات الحداثة الكونية، وثالثهما حقل الإجتماع: بابتكار لاهوت تحرر يعنى بالشهادة للحرية الإنسانية وتوطيد أسباب العيش الكريم وتأصيل الكرامة والمساواة والأخوة الإنسانية.
هذا يعني أنه ينبغي للخطاب اللاهوتي المزمع أن يولد في الشرق العربي، أن يعنى بمهمتين خطيرتين:
الأولى الإفصاح عن مضامين الاختبارات الإيمانية المسيحية في معترك الشرق العربي وتحسس حضور الروح الإلهي في عمق التاريخ الإنساني. وهذا يكون بالإنخراط بعمق في المسعى والمعاناة العربيتين، لتحقيق خير الفرد والمجتمع وصون الكرامة والحرية وتحسين شروع العيش وضمان أسباب التقدم. وتوليد خطاب لاهوتي شرقي عربي، يجيب عن تساؤلات الواقع لعربي وقضاياه ومِحَنه ومعاناته واختباراته. فعلى الفكر العربي المسيحي اللاهوتي، يقول الأب عون، "أن يغدو لاهوت الجمع الحصيف بين الالتزام الإيمانيّ والالتزام السياسي في معترك النضال الإنساني العربي الأرحب. والمسيح: "إمّا أن يكون مسيحَ الوجود التاريخيّ في معترك النضال العربي، وإمّا أن ينقلب تحفةً للتاريخ".
ثانيهما: الحفاظ على النواة الإيمانية الأساسية في الدين المسيحي وإبلاغها بشكل ملائم لمقولات الفكر العربي المقبل. وهذا يتطلب من الفكر المسيحي أن يتلمس إلى المسيح سبيلا من التعبير اللاهوتي، يوفق في مقولاته بين إنتمائه إلى فكر الإنجيل، وبين المستلزمات التي تتطلبها مصاحبة المسلمين في تصورهم الخاص لهوية السيد المسيح.
وهنا ينبه الأب عون إلى أن مجادلات الماضي اللاهوتية، التي رام من خلالها اللاهوتيون إلى إكراه المسلمين على التثبت اليقيني من صحة المعتقد المسيحي، أصبح مسلكا بلا فائدة، بل لعله، أفسد قسطًا من العلاقات المسيحية الإسلامية، لِما انتشر بين العقول المجادلة من التباس في إدراك مقولات الجوهر والطبيعة والأقنوم، وما سبببه من سوء فهم، وصعوبة منطقية في استيعاب معاني التجسد والثالوث والفداء.
هذا يتطلب كما يرى الأب عون، أن يعترف الفكر المسيحي بخصوصية الإسلام الدينية، واعتبار محاورته جزءًا لصيقًا بأيّ إنتاج لاهوتيّ مسيحيّ في الشرق العربي. فالقول اللاهوتي قابل للتغير والتحول، لأنه يأتي ثمرة الإختبار المستمر لحدث المسيح والإكتشاف الدائم لحقيقة المسيحانية الكامنة في كل سلوك إيماني.
وتعليقا على قول يحيى بن عديّ: «بإنّ علماء النصارَى وأهلَ التُّقَى منهم يعتقدون أن كيفية اتحاد الابن الأزلي بالإنسان ليس يعرفها البشرُ على كنهها، وإنّما يشبّهها مَن يشبّهها بما ذكروه على التقريب لا على التحقيق والاستقصاء». يقول الأب عون: "إذا كان الكلام اللاهوتي الذي ينحته المسيحيون في مبحث المسيح هو على وجه التقريب، فلمَ لا يجرؤون اليوم، وشهادتهم ناشبةٌ في تربة التجسد العربية، فيربطون المسيح الكلمة بالله كما يربط المسلمون القرآن الكلمة بالله، من خلال التوفيق الفطن بين إيمان الإسلام بنزول الكلمة في القرآن وإيمان المسيحية بنزول الكلمة في شخص يسوع المسيح. حيث يقتضي منهم هذا التوفيقُ الجرأةَ على تجديد المقولات اللاهوتية المسيحية المتعلقة بالأبوة والولادة والبنوة. وحمل التجسّد المسيحي هذا على معنَى تجلي كلام الله لا يُفقِر العقيدةَ المسيحية أو ينزع عنها خصوصيتها، بل يضعها في موازاة الانسجام مع عقيدة التنزيل القرآني، ويعزز المبدأ القائل بتنوع التدبير الخلاصي الذي يشمل في وجوه شتّى جميعَ أبناء الأرض، ويحقق الإعراض عن التشبّث بالفوقية المسيحية.
ما يريد الأب عن ترسيخه في هذا الكتاب، هو السعي الإيماني لل
هنا أود إثارة النقاط التالية:
1. رفم الفروقات التي عرضها الأب عون، بين اللاهوت المسيحي وعلم الكلام الإسلامي، إلا أنها برأيي فروقات شكلية، إذ لا يود علم كلام، أو علم لاهوت، خارج صياغة التاريخ، وبعيدا عن رهانات المعنى وفضاءات المعرفة والقوى السياسية التي أنتجت كلا منهما. بل نجد تماثلا في مسار التكوين بين العلمين، فكما كان اللاهوت أنشأ لاهوتيا دفاعيا في القرن الثاني زمن يوستينوس وتاتيانس وأثيناغورس، ثم بالإضافة إلى اللاهوت المناهض للبدع والهرطقة ضد الغنوصية والمرقيونية والمونتانية والمونارخية، التي تصدى لها إيريناوس أسقف ليون وترتليانس وهيبوليتس الروماني، حيث كانت الردود والمحاججات مدخلا لتعمق اللاهوت المسيحي، وانضاج الفهم اللاهوتي حول شخص المسيح. كذلك كان الأمر في الكلام الإسلامي، الذي بدأ خطابا احتجاجيا وجدليا بين قوى سياسية، ثم عرف بحسب الفارابي " علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج وفع الشبه"، ثم استحال مع المتأجرين إلى مزيج من الطبيعيات ولرياضيات والإلهيات، متخذا شكلا فلسفيا يعسر معه التمييز بينه وبين الفلسفة، وقد عرفه السمرقندي (متكلم أشعري) في زمن لاحق: "الكلام هو العلم الباحث عن ذات الله تعالى وصفاته وأحوال الممكنات في المبدأ والمعاد على قانون الإسلام".
ما نحتاج إليه في دراسة كلا العلمين، هو الوقوف على العدة المعرفية والأجهزة العقلية والمسلمات التاريخية، والكشف عن ممارسات الحدف والإنتقاء والأصطفاء والإختيار، التي بقيت بمنأى عن أي نقد تفكيكي، والتركيبات العقائدية والإسقاطات العقلية التي خلع عليها ستار القداسة أو التقديس حتى أصبحت وكأنها متولدة عن الوصايا الإلهية.
2. مهما جهد اللاهوت المسيحي في التكيف مع البيئة العربية ذات الخلفية الإسلامية، ومهما سعت إلى أسلمة فكرة التجسد ومماهاتها بتجسد كلمة الله في القرآن، فإن هذه الجهود لن تجد طريقها لتحقيق أغراضها، ما لم يواكبها أو حتى يسبقها ورشة معرفية وحراك فلسفي ينطلق من المعاناة الوجودية الداخلية للمعنى والحقيقة، ويمكن عبر مراكمته من اكتشاف مساحات فكر، يحدث إختراقات في منظومات المعنى النهائية، تطلق توقعات المستقبل وتحرره من أسر النموذج الثابت. وإلا استحال التكيف المسيحي، قوة إسناد جديدة لتغطية الإستبداد ودعم العصبيات وتأبيد التخلف.
وكما نحن بحاجة إلى لاهوت نضال لتحسين شروط الوجود الإنساني، فنحن أيضا بحاحة وعلى ذات الدرجة من الأهمية إلى تحرر في اللاهوت والوعي الديني، يمكن الوعي الديني من ابتكار آليات قراءة ورهانات معنى ووجود جديدة، تجعله قادرا على نقد ذاته وتجاوز عراقيله وانغلاقاته، وتمكنه من تحسين شروط الوعي الديني، وخلق أفاق معنى ديني جديد، وشروط تجارب واختبارات إيمانية.
بحاجة غلى خلق حالة وعي. فلا يعود من حق الدين احكار السيطرة على الذرى العليا التي يتقرر فيها تشكيل الذات البشرية وحم مصيرها بكل حرية وسيادة,
ولنقلها بصراحة، ففي الوقت الذي تتنافس الأديان التوحيدية على ادعاء السبق في قيم حرية الضمير والتسامح والحرية الدينية، فإننا ندرك أن هذه القيم هي من صنع الحداثة والمجتمعات الأوروبية الحديثة ولم تعرفها المجتمعات السابقة لا في الجهة الإسلامية ولا في الجهة المسيحية.
بل على العكس من ذلك، نجد تلك الأنظمة اللاهوتية، ما تزال تنبذ بعضها بعضا لكي تؤكد على ذاتها وترفع من قيمتها إلى مرتبة الدور التاريخي بصفتها المؤمتمن الوحيد والموثوق والمخلص على الوحي.
3. بحاجة إلى الإرتقاء في فهمنا للتعددية الدينية، من وضعية التفهم المتبادل، إلى وضعية التشاراك الإيماني، وتسمح لي بالإنتقال إلى المقلب الآخر. فالبحث اللاهوتي أو الكلامي في التعددية الدينية، ليس بحثا في إمكانية التعايش مع الإخر أو في شروط العيش معه بسلام، فهذا بحث سياسي، بل هو بحث في إمكانية تعدد مصادر الحقيقة وتنوع سبل الهداية ووفرة القداسة وعمومها. كما هو أيضا، بحثٌ في انتفاء آحادية المعنى وتفكيك مركزية الطريق إلى الله. هذا المنحى يسمح لي بالإنتقال إلى المقلب الآخر، ويجعلني، لا أكتفي بتفهم تجربة الأديان الأخرى، بل تحسسها وتمثلها في بنية الشعور وأعماق الوجدان. ولعل هذا هو السبيل الوحيد الذي يسمح باكتمال الزمان الإلهي، سواء في اكتمال البشارة المسيحية وتمامها، أو في تكونن الإسلام وشموله. .
4. برأيي لا بد في استراتيجية الفهم التاريخي لوجود أية دعوة دينية، من التمييز بين ثلاث مراحل من وجودها: مرحلة التأسيس (أو التدشين) ومرحلة التمأسس ومرحلة الإشباع. ففي زمن التأسيس يكون الدين ممتلئا بالنزعة الطهرية التي تحتج على العالم وتحث على تعبئة كامل الطاقة لتغييره بالكامل، حيث يكون باعث وضابط التغيير هو البعد العقائدي الصرف. أما زمن التمأسس، فيعبر عن المرحلة التي تدار بها شؤون الدين وفق قواعد منظمة ومنضبطة في التفكير والسلوك، تراعي توازن القوى الداخلية في المجتمع وجماعات المصالح فيه، بحيث تستدعي تسوية أو مصالحة في العقل الديني، تحقق توازناً بين دافع التغيير وحركية المجتمع واستقراره. أما مرحلة الإشباع، فهي المرحلة التي استقر فيها انتشار الإسلام، بشريا أو جغرافيا. وهي مرحلة، تستدعي مصالحة مع العالم بأسره، أي الإعتراف بمكونات العالم وتعددياته، واعتبارها أصيلة وحقيقية بنفس حقيقة الإنسان والوجود.
صلب رسالة الأب عون في هذا الكتاب، هو التأكيد على أن البشارة المسيحية لا يمكن حصرها داخل تصور أو مقولة، بل هي سعي تاريخي ينغرس في عمق لحياة، وعلى أن فاعلية الوعي العربي المسيحي، يكون بالإنخراط العضوي في الهم الوجودي العربي، وفي المشاركة الإيمانية التي تستجلي مسيحانية الدعوة الإسلامية، كما تستجلي إسلامية الحقيقة المسيحية. ولعل هذا هو السبيل الوحيد الذي يحقق امتلاء الزمان الإلهي واكتماله في كلتا منظومتي الدين. فلا يسع الفكر العربي الديني المسيحي المعاصر، يقول الأب عون، أن يتحدّث عن تجلي الله في شخص يسوع المسيح إلا على قدر ما يعاين في سيرة يسوع المسيح علامات التجلي الإلهي، وعلى قدر ما يرسم في لوحة حياته الإنسانية الفردية والجماعية خطوط الإفصاح الصادق عن حقيقة هذا التجلّي.
الكتاب مبادرة جريئة وعميقة في آن، ومسعى تواصلي يقتحم مواقع الخصومة، ويقلب مشهد المغايرة إلى لوحة تعاكس إنساني، وجهد إستكشافي لتجلي وتمظهر التدبير الإلهي في واقع الإنسان المتعدد.
في ضرورة اللاهوت المسيحيّ العربيّ
في خضمّ الأزمات التي تحياها الجماعات المسيحيّة المشرقيّة المختلفة التراثات، يأتي كتاب الأب مشير باسيل عون "الفكر العربيّ الدينيّ المسيحيّ. مقتضيات النهوض والتجديد والمعاصرة" (دار الطليعة، 2007) ليدلّ، بعين الخبير الضليع، على مآزق الفكر العربيّ الدينيّ المسيحيّ وآفاقه المحتملة في عالم عربيّ يعاني من تنامي الأصوليّات الدينيّة ومن تآكل فسحات الحرّيّة فيه. ولا يتوانى المؤلّف في كثير من مواضع كتابه عن الانتقاد الشديد لحال التدهور التي آلت إليه المسيحيّة العربيّة، ومسؤوليّة المفكّرين الدينيّين عن الدرك التي وصلت إليه هذه المسيحيّة، أو المسيحيّات، المشرقيّة.
يتوزّع الكتاب على سبعة فصول. يعرض الكاتب في الفصل الأوّل "علم اللاهوت المسيحيّ. قضايا التأصيل والهويّة والجدارة والتميّز" لماهيّة علم اللاهوت كما أقرّها المجمع الفاتيكانيّ الثاني، وعلاقة اللاهوت بالفلسفة والعلوم الوضعيّة، ليصل إلى ربط الإعلان الإلهيّ في التاريخ بالاختبار الإنسانيّ. من هنا، يستنتج الكاتب أنّ "الكلام اللاهوتيّ يغدو تأويلاً إيمانيًّا لأحداث التاريخ الخلاصيّ"، لذلك، ليس الخطاب اللاهوتيّ سوى "مسعى الجماعة المؤمنة في كلّ زمن إلى التعبير عن مضامين الكشف الإلهيّ تعبيرًا يلائم مقتضيات الفهم الإنسانيّ والاختبار الإنسانيّ في نطاق مقولات الثقافة الناشطة في هذا الزمن".
وتبلغ الجرأة اللاهوتيّة ذروتها عند مشير عون حين يعتبر أنّ "الكلام اللاهوتيّ هو حتمًا كلام تفسيريّ متقلّب متغيّر متجدّد"، لأنّ هذا الكلام اللاهوتيّ يزعم أنّه يستطيع الإحاطة بالسرّ الإلهيّ المستعصي على البشر، بينما هو في أصل نشأته "معقود على التقصير والعجز". لذلك يدعو الكاتب المسيحيّين إلى الإقرار بشرعيّة التنوع الثقافيّ والاختبارات الإنسانيّة في التعبير عن سرّ اعتلان الكلام الإلهيّ عبر التاريخ. وحلّ هذه المعضلة يكون بأن "يستنجد" أهل اللاهوت بالعلوم الإنسانيّة كلّها، وفي مقدّمتها الفلسفة، وذلك في سبيل تحرير الخطاب اللاهوتيّ من المغالاة الكتابيّة أو التاريخانيّة أو العقائديّة.
يتكامل الفصلان الثاني "الفكر العربيّ الدينيّ المسيحيّ المعاصر في قرائنه الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة"، والثالث "مأزق الفكر العربيّ الدينيّ المسيحيّ بين أزمة الواقع ورؤية الإيمان" في عرض واقع الفكر المسيحيّ في العالم العربيّ، بالاستناد خصوصًا إلى الواقع اللبنانيّ. فالعرب المسيحيّون تتملّكهم هواجس المستقبل والمصير، وذلك بفعل تزعزع مقوّمات الحرّيّة، وانتشار حركات الأصوليّة الإسلاميّة، وتفشّي التعصّب الدينيّ، وتنامي الطائفيّة الضيّقة على حساب المواطنة الرحبة. وهذا ما يؤدّي إلى ترسّخ عقدة الأقلّيّة المضطهَدة ومخاطر الانعزال والتقوقع خوفًا من الذوبان والتلاشي. يضاف إلى ذلك كلّه معضلة هجرة المسيحيّين الذين ينشدون الحرّيّة والرخاء الاقتصاديّ وراحة البال، ممّا يُفقد الكنيسة والوطن الكثير من المواهب المبدعة والطاقات الضخمة...
ولا يرى مشير عون ولادةً لاهوتيّة جديدة للمسيحيّة الشرقيّة الأنطاكيّة المعاصرة الكفيلة بالتعبير عن مكنونات الاختبار الإيمانيّ الذي يحوي في طيّاته تحدّيات التقنية والإلحاد وحوار الأديان وقراع الحضارات الفكريّة، من دون بزوغ الفكر العربيّ الإسلاميّ المعاصر المبدع. فبالنسبة إليه، "لا يستقيم فكر لاهوتيّ مسيحيّ شرقيّ عربيّ إلاّ إذا تفاعلت مقولاته هي ومقولات فكر إسلاميّ معاصر أصيل ما زلنا نترقّب رمن اعتلانه لنا في عناصر كيانه المتماسكة المتناسقة المتكاملة". وبكلام آخر، لا يمكن الفكر اللاهوتيّ المسيحيّ الشرقيّ العربيّ أن يستقيم من دون أن يحاول الإجابة عن تساؤلات الفكر العربيّ الأصيل والمعاصر وقضاياه ومِحنه ومعاناته واختباراته، أي عمّا يعني كلّ مواطن شرقيّ عربيّ في العصر الحاضر.
في الفصل الرابع "الشروط النظريّة في إنشاء خطاب شرقيّ عربيّ مسيحيّ لاهوتيّ محلّيّ معاصر" يبرّر المؤلّف كلامه على اللاهوت المحلّيّ بقوله إنّ اللاهوت كلام بشريّ في اختبار الإنسان الإيمانيّ حيث تلتقي مبادرة الكشف الإلهيّ سعيَ الإنسان إلى المعنى المطلق. فليس مهمّة اللاهوت، على حدّ قوله، البلوغ إلى كيان الله، بل استجلاء آثار حضوره الحيّ وتجسّده في وقائع الإنسان اليوميّة. وفي رأيه أيضًا، يعاني علم اللاهوت المسيحيّ العربيّ في بعده النظريّ "ركودًا وقصورًا وتقهقرًا"، على العكس من بعده الوجوديّ حيث تنمو الشهادة الإيمانيّة التي بمقتضاها يحيا المسيحيّون في أوطان الشرق العربيّ.
ويحدّد المؤلّف في هذا السياق ثلاثة حقول يمكن الاستدلال عبرها على هويّة اللاهوت العربيّ المزمع إنشاؤه وصياغته، هي: حقل الدين، ويتضمن "لقاء المسيحيّة والإسلام والنضال في سبيل تعزيز التعدّديّة الدينيّة"؛ وحقل الثقافة، ويحوي "تجديد معاني العروبة الفكريّة وربطها بمكتسبات الحداثة الكونيّة"؛ وحقل الاجتماع، وقضيّته "الشهادة للحرّيّة الإنسانيّة وتوطيد أسباب العيش الكريم". من هنا، يرى المؤلّف أنّ اللاهوت العربيّ المسيحيّ "لاهوتٌ في لقاء المسيحيّة والإسلام، ولاهوتٌ في العروبة، ولاهوتٌ في الحرّيّة". وتكون، تاليًا، مهمّة هذا اللاهوت الإسهام الفعليّ في تحرير الثقافة العربيّة جمعاء من مخاطر الانغلاق والتقوقع والانعزال عن حركة الفكر العالميّ والتقابس الحضاريّ، ومن مخاطر الإعراض عن المشاركة في رسم صورة الإنسانيّة في الألف الثالث. ويذهب مشير عون أبعد من ذلك حين يربط مصير المسيحيّة بمساهمتها اللاهوتيّة، فيقول إنّ تجديد هذا الفكر "هو الذي سينقذها من محنة الأفول، لأنّ نسمة الفكر الأصيل هي التي تحيي العظام وتنعش الوجود".
في الفصل الخامس "في سبيل نحت عربيّ لاهوتيّ معاصر" يدعو الكاتب، بعد عرض ممتاز لحال اللغة اللاهوتيّة المسيحيّة العربيّة التي لا تخلو من الرداءة، إلى تأسيس "مجمع عربيّ مسيحيّ لاهوتيّ لغويّ" تنحصر أغراضه في دراسة المصطلحات اللاهوتيّة المستحدثة وتعريبها تعريبًا يراعي أصول النقل في اللغة العربيّة. ومن مهام هذا المجمع مواكبة تطوّر علم الكلام الإسلاميّ والعلوم الإنسانيّة العربيّة، والتدقيق في المعاني التي تنطوي عليها مصطلحات هذه العلوم، ووضع معجم عربيّ لاهوتيّ. فواقع الحال أنّ الفكر العربيّ المسيحيّ اللاهوتيّ يعوزه أن يستعين بلغة عربيّة متمكّنة متجدّدة متطوّرة. من هنا، يتأتّى وجوب الجمع بين جهود اللغويّين واللاهوتيّين للسير معًا في سُبل الاشتقاق والنحت والتعريب.
في الفصلين السادس "مسائل الانتماء والقضيّة والمنهج في الفكر العربيّ الدينيّ المسيحيّ المعاصر"، والسابع "مبحث في المسيح الوجوديّ. نحو تصوّر عربيّ لاهوتيّ معاصر للمسيح" يحاول الكاتب الحضّ على تحويل الفكر العربيّ المسيحيّ اللاهوتيّ إلى لاهوت نضاليّ في سبيل الوجود المسيحيّ الحرّ في الشرق العربيّ، وإلى الجمع بين الالتزام الإيمانيّ والالتزام السياسيّ في معترك النضال الإنسانيّ العربي. وهذا يعني أنّ حقيقة المسيح ينبغي لها أن تتجسّد في عمق المسعى الإنسانيّ العربيّ في مختلف تجلّياته الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة والروحيّة. فإمّا أن يكون المسيح مسيح الوجود التاريخيّ في قلب النضال العربيّ، وإمّا أن ينقلب تحفة التاريخ العربيّ المنصرم.
ثمّة تحدّيات عديدة يطرحها هذا الكتاب الجريء في وجه المفكّرين الدينيّين المسيحيّين، ولكن أيضًا في وجه المفكّرين الدينيّين المسلمين. فليس من نهضة للمسيحيّين في عالمنا العربيّ من دون نهضة للمسلمين، والعمل والتفكّر المشتركان بين المسلمين والمسيحيّين ضروريّان للطرفين من أجل مستقبل أفضل، ومن أجل مصالحة دينيّة عربيّة مع الحداثة والمعاصرة. مشير عون أصدر كتابه كمن القى حجرًا في بركة هامدة، عسى أن يُحدث ارتدارات إيجابيّة حتّى لا يأسن الماء أكثر.