ندوة حول كتاب الأب يوحنا صادر الأنطوني: إشارات ورموز
الحركة الثقافيَّة- أنطلياس
3 أيَّار 2007
كلمة الدكتور ناجي كرم
كلمة الخوري ناصر الجميِّل
كلمة الدكتور ناجي كرم
مع كل صدور كتاب يدغدغنا شعوران متناقضان. نشعر بادئ الأمر بحسرة كبرى إذ نتذكّر أن لبنان كان، قبل الحرب، مطبعة الشرق ولم يعد. ونعزّي أنفسنا تاليا بأن ولادة كل كتاب جديد هي الدليل على أن اللبنانيين قادرون على استعادة دورهم الطليعي في الطباعة والنشر.
ومع كل صدور كتاب عن التراث أو الصروح الأثرية والتاريخية ينتابنا الشعور المزدوج إياه. فترانا نتألّم من اندثار معالم أثرية وتاريخية بسرعة مخيفة. فبين نزول النص الى المطبعة وصدور الكتاب يكون عدد من هذه المعالم قد اختفى الى غير رجعة. ونروح نعزّي أنفسنا بان الكتاب الجديد قد حفظ لنا على الأقل وصفا أو صورة عن هذه الرسوم الجدرانية أو تلك التقنية في البناء أو هاتيك الكتابة اليوناينة او السريانية.
لكن التعزية تبقى مجرّد وهم طارئ. فكم من كنيسة نجفت رسومها الجدرانية وكم من جامع ضربت جدرانه بالرمل وهي التقنية الأسوأ في معالجة الحجر، وكم من بيت تاريخي أزيل من الوجود لكي يشقع مكانه بناء من الباطون البشع حتى الأذى.
وفي كتابات الأب يوحنا صادر بعض من الأدلة على ما أوردنا. ولنذكر على سبيل المثال لا الحصر كنيسة ما تدرس في بحديدات. فالصور التي نشرت في كتابه "الرسوم الجدرانية في الكنائس المارونية" باتت اليوم وثيقة مهمة نظرا للإهمال اللاحق بهذ الكنيسة التي تعد كنزا عالميا.
ونخشى أن يكون كتابه الجديد "صلبان ورموز" قد بات، من هذا المنحى، وثيقة للتاريخ. أما جوهره وأما مطرحه في المكتبة العلمية وأما قيمته فأرجو أن تظهر فيما سيقوله الأصدقاء والزملاء.
وأنا على يقين بأننا سنخرج من اللقاء حاملين بعضا من جديد. فالأب يوحنا فنان ومؤرخ للفن. بل هو من معلمي الجمال عبر الزمن. ومعه دخلت عالم الجماليات وفلسفاتها ونظرياتها يوم كنت طالبا. وكان عتبي عليه يومذاك أنه بدأ بالحقب الكلاسيكية صعودا ولم يلامس الجمال الكنعاني الفينيقي. إلا أن ذلك لا يقلل في أي حال في من قيمة استاذ وراهب ولاهوتي، مبدع وباحث كرّس حياته للكنيسة وسخر علمه وفنه لخدمة رسوليتها.
حضرة الأب الرئيس، حضرة الآباء المحترمين، أيُّها الأحبَّاء،
أستوحي كلمتي من كتاب الأب يوحنا الحبيب صادر.
لطالما تساءلتُ ماذا بقي من هياكل الفينيقيِّين التي ارتفعت على مدى السنين الطوال، وعبَّرت عن توقهم إلى المطلق؟ وماذا بقي، في لبنان، من معابد اليونان والرومان الذين طوَّعوا حضارات المشرق؟ هل صحيح أنَّها ذهبت إلى المتاحف العالميَّة واستعادتها كلَّها الاحتلالات والاستعمارات والانتدابات والوصايات؟ هل يُعقَل أن تندثر حضارات استعملت الحجر، بكلِّ أنواعه وطبقاته وألوانه، واستخرجت منه آلهتَها وأباطرَها؟
المعروف أنَّ المسيحيَّة في لبنان ليست طارئة، بل كانت منذ اللحظات الأولى. ولكن، ماذا بقي من آثار الكنائس، الأولى في العالم المسيحي، التي ارتفعت في سماء لبنان منذ انتشار المسيحيَّة؟ أين هي آثار أوَّل كاتدرائيَّة في الأمبراطوريَّة الرومانيَّة التي بناها الأسقف بولينوس، في صور؟ وأين هي آثار سائر بازيليكات أبرشيَّات فينيقيا الساحليَّة: صيدا والجيِّة، وخلدة، وبيروت، وبيبلوس، والبترون، وطرابلس، وعرطوز، وعرقة؟ وغيرها من الأسئلة التي يطرحها العالِم الفضولي، اليوم، ولا يجد لها جوابًا شافيًا، بسبب النقص في الأبحاث الأثريَّة، وبسبب جهلنا لوثائق الألف الأوَّل، أو بسبب ندرتها.
ولا يسعني في مداخلتي هذه إلاَّ أن أضيف إلى ذلك تساؤلات جديدة لم أجد لها بعد أجوبة شافية ومقنعة، وأضعها برسم البحَّاثة وعلماء التاريخ والآثار.
*******
السؤال الأوَّل يتعلَّق بالتنظيم الكنسي الأوَّل الذي قام في فينيقيا، وعلى أساسه تشكَّلت الأبرشيَّات القديمة، يوم كانت مملكة صور عاصمة كلِّ هذا المدى الساحلي:
أ - إذا سلَّمنا جدلاً بأنَّ المسيحيَّة انتشرت أوَّلا في المدن بشكل عام، ساحليَّة كانت أم جبليَّة، فما مدى التفاعل بين مسيحيَّة السواحل والمدن وبين الوثنيَّة التي ظلَّت مزدهرة في مناطق فينيقيا الجبليَّة إلى ما قبيل مجيء الإسلام، في أفقا، وسواها؟ لماذا فشلت في تبشير من بقي وثنيًّا في المدى الأقرب جغرافيًّا إليها؟
ب - وإنّي أطرح السؤال بشل آخر، هل تولَّت مسيحيَّةُ المدن، التي كانت تحت التأثير البيزنطي الثقافي، تبشير سكَّان الجبل المتأثِّرين بالثقافة السريانيَّة والآراميَّة؟
ج - هل كانت اللغة، يا ترى، حائلاً دون إنجاح هذه البشارة؟ وهل فعلت الفروقات الإثنيَّة والحضاريَّة والثقافيَّة فعلها في تأخير التواصل، وفي التمسُّك بعناد بديانة الجدود؟ لماذا لم يلجأ سكَّان الجبل إلى أبرشيَّاتهم القريبة وإلى أساقفتها الشهيرين؟ أم إنَّ الكنيسة القريبة لا تشفي! ما هو مفهوم الكنيسة في ذلك الزمان ودور الأسقف والكنائس المحليَّة؟ كمن يذهب اليوم إلى مديوغورية أو فاطيما أو غوادلوبّي، أو إلى لورد للتبرُّك من العذراء مريم، في حين أنَّ حريصا ومغدوشة وإيليج والنوريّة لا تقلُّ عنها أهميَّة على صعيد الحج الديني؟
د - واستطرادًا، ما هي طبيعة التواصل بين الفينيقيّين والسريان والبيزنطيِّين؟
هـ هل اعتبر سكَّان الجبل الفينيقي تدخُّل قسطنطين وخلفائه عملاً استعماريًّا ضدَّهم، لمَّا أرسلوا حملات عسكريَّة لتدمير معابدهم الوثنيَّة، واعتبروا قراراتهم تحدِّيًا لهم وإلغاءً لخصوصيَّتهم فتمسَّكوا بوثنيَّتهم أكثر فأكثر؟
إنِّي لا أرى تفسيرًا آخر، غير القرب القومي والرباط الحضاري، للجوئهم إلى مار سمعان العمودي وإلى تلامذة مار مارون أو إلى القديس يوحنا فم الذهب، والتنصُّر على يدهم بحسب الخبرة السريانيَّة.
********
أسئلة عديدة طرحتها وقادتني أبحاثي إلى التبحُّر في الأيَّام الأخيرة للوثنيَّة وفي مرحلة التعايش الأخير بينها وبين المسيحيَّة. واسمحوا لي أن أدخل في بعض التفاصيل.
و - الأيَّام الأخيرة للوثنيّة: بالعودة إلى ما كتبه المؤرِّخون، وإلى نصوص القوانين والمراسيم والمراسلات والسيَر، وإلى ما خلَّفه آباء الكنيسة الدفاعيُّون، يتبيَّن، أوَّلاً، أنَّ الديانة المسيحيَّة ظلَّت طويلاً ديانة غرباء، أو ديانة شرقيِّين يتكلَّمون اليونانيَّة، بالمقارنة مع الديانة الوثنيَّة التي هي "ديانة محليَّة"، أو ديانة "أبناء البلد" ويتكلَّم أبناؤها اللغة اللاتينيَّة، أو الفينيقيَّة، أو الآراميَّة....
لم تكن الوثنيَّة كتلة واحدة، بل فسيفساء من الديانات مرتبطة بالنظام السياسي القائم. فأنْ تكون تقيًّا، في الديانات الوثنيَّة، يعني أنَّك تؤمن بآلهة المدينة (La Cité) وتحترمها، الأمر الذي لم يقبل به، قبل المسيح بثلاثة قرون، سقراط الفيلسوف. فالسلوك له أهمّيّة أكثر من الإيمان، وعدم التقيّد به يلتقي مع اللاديانة. ومع تسلّم قسطنطين السلطة، ابتداء من العام 312، ابتعدت السلطة شيئًا فشيئًا عن العبادات القديمة واعتبرت ذاتها بحلٍّ منها، لكنَّها اكتفت بالمحافظة على النظام العام (بدون تجمّعات ولا ثورات Sine turba ac tumultu). وبلغ تساهل الأباطرة المسيحيِّين مع الوثنيِّين إلى حد الإبقاء على أعيادهم ومنع الاحتفالات الشاذّة منها. وعندما فقدت العبادات الوثنيَّة كلّ دعم رسمي لها تحوّلت إلى إيجاد بديل عن المسيحيَّة التي رفضوها وزادَ تعلّقهم بالشمس كإله. ومع أنَّ الأمبراطور تيودوسيوس الأوَّل قد منع هذه العبادات، في 8 تشرين الثاني سنة 392، وباشر بتهديم الهياكل، كلُّ ذلك لم يؤدِّ إلى إلغاء مَن تمسّك بالوثنيَّة دينًا.
ومن كان يتخلّى عن الوثنيَّة كان عليه أن يتأقلم مع ديانة جديدة، وطقوس جديدة، حسبما تأمر السلطة السياسيَّة. ولم تكن عمليَّة التأقلم أمرًا سهلاً. فمن وقت لأخر، وفي مناسبات حسّاسة، كان يستيقظ الحنين إلى التقاليد الوثنيَّة العريقة. ومع ذلك، لم يكن "المجتمع المسيحيّ والمجتمع الوثنيّ" يشكِّلان كُتلتين منفصلتين، بل متداخلتين كثيرًا إلى أبعد الحدود. فسكّان الريف بَقَوا على "أمانتهم" للآلهة، وأظهرت الطبقة الأرستقراطيّة مزيدًا من الاحتقار نحو الديانة المسيحيَّة؛ وإنَّ النهج العامّ الذي سار عليه آباء الكنيسة، بتأثير من الفلسفة الأفلاطونيّة الحديثة، كان يتّجه نحو التوفيق فيما بين هو متناقض وما هو متباعد.
وهكذا استمرّت الوثنيَّة ضمن جماعات على مدى القرنين الخامس والسادس، في الشرق والغرب معًا، علمًا أنَّ مناصريها أُبعدوا عن السلطة السياسيَّة والإداريّة، ابتداء من 14 تشرين الثاني من العام 408، وعن السلطة العسكريّة، في 7 كانون الأوَّل من العام 416، واستمرّوا في المسؤوليّات المدنيّة وفي التعليم. ولكن، مع مجيء يوستينيانوس إلى السلطة غابت معه حريّة الضمير، ودخل الوثنيّون معه في الخفاء وانكفأوا ومُنع عنهم التعليم[1]، وأُجبروا أحيانًا على اعتناق المسيحيَّة. ومع ذلك، لم تزل الديانة الوثنيَّة في كلّ مكان، بل استمرَّ معتنقوها يمانعون ويقاومون، في السرّ والعلن. وسيعيد الأمبراطور يوستينيانوس، في العام 529، إصدار القوانين اللاغية، ليس فقط العبادة، بل المعتقد الوثني من أساسه. ومع ذلك، لم تسلم الأمور، وبقيت الوثنيَّة على صلابتها إلى ما بعد عهد الأمبراطور طيباريوس (578-582)، فإلى ما بعد الفتح الإسلامي.
ولم يكونوا الوحيدين في تحمُّل الإلغاء، بل شكَّلوا مع المانويِّين، واليهود، والغنوصيِّين، والهراطقة المسيحيِّين فريقًا واحدًا. أمَّا سقوطهم فسيشكّل ثورة سياسيَّة وفكريَّة ودينيَّة. ولمَّا منعهم يوستينيانوس، في العام 529، من ممارسة التعليم، فضّلوا التخفّي أو التنحّي، إلى أن جاء الإسلام وقضى نهائيًّا عليهم.
ز - السقوط السياسي للوثنيَّة: ذكر تيودوريطس القورشي، حوالي العام 450، أنَّه في العام 386، أصدر الأسقف مرشللوس أمرًا بتهديم معبد زفس الكبير في مدينة أفامية. وهذا هو المعبد الأوَّل الذي يصدر أسقف أمرًا بهدمه ويطلب من الحكم السياسي تنفيذ القرار. لكنَّ مرشللوس ألقي القبض عليه وأُحرق حيًّا لمَّا حاول القيام بتهديم معبد في البقاع اللبناني، حوالي العام 389.
أمَّا حجارة الهياكل المهدّمة فقد استعملت في بناء الجسور، والطرقات، وقنوات المياه، والأسوار. وكان الرغبة في تفريق هذه الحجارة وتشتيتها. وكان الرهبان رأس الحربة في القيام بتهديم هياكل فينيقيا، بتشجيع من يوحنا فم الذهب، في العام 405، الذي كان آنذاك منفيًّا في أرمينيا. وبقيت المناطق الجبليَّة من لبنان عصيًّة على المسيحيَّة، في حين انتشرت الكنائس في جبال أخرى مثل الأمانوس، شمالي أنطاكيَّة.
في الواقع، حصلت ارتدادات كثيرة إلى المسيحيَّة، لأسباب متعدّدة؛ البعض قرّر اعتناقها لأسباب خاصَّة، كما حصل في بيروت، في العام 349، إثر الزلزال. يومها، أسَّس الوثنيُّون جماعة "نصف مسيحيَّة"، ولجأوا إلى كنيسة، أثناء الهزَّة، والتزموا بأن يطلبوا العماد إذا سلموا. وبعدما زال الخوف، نفَّذوا وعدهم، ولكن بدون أن يتخلَّوا عن عاداتهم القديمة. وإذ لم يتمكّن "هؤلاء المسيحيّون الجدد" من التقيّد بالواجبات الكنسيَّة، انفصلوا وشرعوا يجتمعون في "أماكن عبادة" خاصَّة، عائشين على الطريقة الوثنيَّة: ولائم بحجة دينيَّة، وممارسة العرافة... مشكّلين عثرة على طريق المسيحيَّة.
وفي القرن الخامس، غدا اعتناق المسيحيَّة تتويجًا لحياة مَن يشغل وظيفة مرموقة في الأمبراطوريَّة. لكنَّ السؤال الذي ينبغي طرحه هو التالي: هل يمكن للمرتدّين أن يتخلَّوا بسهولة عن عاداتهم الوثنيَّة؟ أما كان الخوفُ سببًا لارتدادهم؟
ح - التعايش الوثني - المسيحي: بعض الزواجات كانت مختلطة؛ الزوج كان وثنيًّا، في حين كانت الزوجة مسيحية، وأصغر منه سنًّا. وكان أولادهما الذكور، أحيانًا، وثنيّين، والبنات، مسيحيَّات على دين أمّهنَّ.
وعلى الرغم ممَّا قامت به القوانين التي أصدرها تيودوسيوس الأوَّل من "سحق وقهر وإلغاء" للوثنيَّة على الصعيد المدني والديني، فإنَّها حافظت على حيويَّة سريَّة في نفوس الأفراد وقلوبهم. وقد يصل الأمر إلى نوع من التعايش بين العبادتين، تمامًا كما حصل في نواحي عديدة: في جنوب مصر، حيث استمرّت عبادة الإله إيزيس وأوزيريس، لغاية بداية القرن السادس؛ وفي بعلبك، على الرغم من تشييد كنيسة في ساحة معبد جوبيتر الكبير، منذ عهد الأمبراطور تيودوسيوس الأوَّل، أي منذ نهاية القرن الرابع، كانت عبادة "بعل البقاع" لا تزال مستمرَّة، في العام 555، سنة الزلزال الكبير الذي هدم الهياكل الوثنيَّة. ولم يتمكّن المبشّرون بالإنجيل من "هدم الوثنيَّة" التي استمرَّت في البلدات والقرى الجبليَّة المجاورة لهياكل بعلبك، إلى ما بعد حكم يوستينيانوس. واستمرَّت أيضًا، "بعناد هادئ" في نواحي عديدة من الأمبراطوريَّة: في أفريقيا الشماليَّة، وفي إيطاليا، وفي إسبانيا، وفي غاليا (فرنسا)، وفي جنوب غرب آسيا الصغرى، وفي سوريَّا، وفي مصر...
أمَّا الاضطهادات الأخيرة، التي تعرَّضت لها الوثنيَّة، فكانت على عهد طيباريوس، خليفة يوستينيانوس، في السنة 580 وما بعد. فلمَّا أرسل قائدًا عسكريًّا لمعاقبة التمرُّد اليهودي والسامري، طلب منه، أيضًا، أن يعرِّج على بعلبك "للاهتمام بالوثنيِّين". فألقى الرعب في نفوس البقاعيّين، وأوقف منهم الكثيرين، وأهان الكثيرين، وصلب البعض، وقتل البعض الآخر. وصار من الصعب الاستمرار في الديانة الوثنيَّة؛ فالويل، كلُّ الويل، لمن يُظهر أيَّ عادة مرتبطة "بالديانة القديمة". ومع ذلك، لم تنته الوثنيَّة ممارسةً، ولم تختف بعد المدِّ الإسلامي، بل استمرَّت إلى ما بعد القرون الوسطى تحت شكل الوثنيَّة الفلسفيَّة، مسهمة في ولادة العالم الذي نعيش فيه اليوم.
*******
قافلة عديدة من العلماء والبحَّاثة اجتهدوا في تقديم أجوبة وتفسيرات على هذه التساؤلات. بعضهم رحَّالة أوروبيِّون، وما أكثرهم، وبعضهم منقِّبون، ولعلَّ أبرزهم إرنست رونان، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ وبعضهم مرسلون أمثال آباء من الرهبانيَّة اليسوعيّة أمثال لامنس ورونزفال وتالون، أو كتَّاب في مجلَّة متحف بيروت، أو مجلَّة "سيريا"، أمثال الأمير موريس شهاب، أو هواة بارعون أمثال أدولف أولمان، وآخرون، وهم كثُر كثُر...
لكنَّ إسهام الأب يوحنا الحبيب صادر في هذا المجال، لا يقلُّ أهميَّة عمَّا سبقه. يحاول في مؤلَّفاته ومحاضراته (ولعلَّ آخر خبرة معه كان إسهامه في سدني، في المؤتمر الماروني الأوَّل لأبرشيَّة أوستراليا المارونيَّة، في خلال الصيف الفائت) تقديم بعض من التفسيرات والشروحات وفكّ الرموز، والدلالة إلى بعض الإشكاليَّات. ويأتي إسهامه، في هذا الكتاب الأخير الذي نحن بصدده: "إشارات ورموز"، ليسدَّ فراغًا ويفتح كوَّة في مجال البحث والتنقيب، ويقول لنا أنَّ تراث الماضي الذي نبحث عنه لا يزال موجودًا، لا بل تبدَّلت وجهة استعماله. لأنَّه، في هذه المرَّة، يقارب هذه المواضيع من باب علوم متعدِّدة: علم الآثار مشفوعًا بعلم اللاهوت، وعلم الآباء، وتاريخ الكنيسة. جال وراقب ما لا يراه عامَّة الناس، أو لا يعيرونه أيَّة أهميَّة. تعقَّب، بصبر وجهد، بعضًا من الكنائس القديمة في لبنان، وحاول قراءة معالمها القديمة الدفينة فيها، وثنيَّة كانت هذه الذخائر الثمينة أم مسيحيَّة. وإنَّ ما قام به لهو إسهام حميد ويستحق الشكر والثناء.
فضله أنَّه عاد إلى شواهد حسيَّة وسلَّط الضوء على العمل الإرسالي والرسولي الذي قام به سمعان العامودي والقديس يوحنا فم الذهب ورهبان مار مارون تجاه من بقي وثنيًّا في الجبل اللبناني. وكل ذلك يدلُّ على مدى التحاكي والتعاون وعمق الاتصالات وسهولتها في ذلك الزمان، داخل المدى السرياني.
ويبقى السؤال الكبير الذي يُشغِل البال والذي يحاول الأب يوحنَّا أن يطرحه في كتابه هذا؛ وهو موضوع لطالما تساءل المتعاطون بشأنه: إلى إي زمان نعيد تموضع الموارنة وتمركزهم في لبنان. وهل كلُّ الموارنة أتوا من سوريَّا؟ وهل تلقَّوا الرسالة المسيحيَّة على أيدي تلامذة مار مارون؟ وماذا حلَّ بالوثنيَّة؟ ومن يدَّعي معرفة الجواب إذا لم يقم بأبحاث أثريَّة على الأرض؟ هناك نظريَّات تركِّز على الشرح التاريخي واللاهوتي؛ لكنَّها ليست شافية. ما زلنا نتخبَّط في مواضيع عديدة. وغدا تاريخ كنيستنا، في الماضي، تاريخًا دفاعيًّا جافًا.
في المجمع البطريركي الماروني دار الحديث بإسهاب عن النسك الرسولي؛ ذلك أنَّ النسك والرسالة وجهان لعملة واحدة. لا ينفصل النسك عن الرسالة، ولا الرسالة عن النسك. لا يقوم صراع الحضارات إلاَّ على مستوى الحريَّة السياسيَّة. كيف جرى الانتقال من الوثنيَّة إلى المسيحيَّة، عقائديًّا، وليتورجيًّا؟ أين الحقيقة؟ ما السبيل للخروج من هذا التخبُّط الذي طال أجيالاً؟
في الختام، إنِّي أقترح أن تتبنَّى كنائسنا المشرقيَّة وجامعاتها، إذا أرادت حلَّ هذه المعضلة، أن تكرِّس بعضًا من بنيها وبناتها للتضلُّع من اللغات القديمة الضروريَّة ويشكِّلوا فريق عمل منظَّم لفك رموز تاريخنا: أعني الفينيقيَّة، واليونانيَّة، واللاتينيَّة، والسريانيَّة، والتركيَّة. هل يُعقل أن نكتب تاريخ أرضنا وشعبنا ونجهل اليونانيَّة مثلاً التي عمَّت ثقافتها، قبل الميلاد وبعده؟ أو التركيَّة التي حكمت شعوبنا أربعمئة سنة؟ أمَّا إذا اكتفينا من التاريخ بالاستناد إلى المراجع المتوفِّرة والمترجمة فلا حول ولا....
1 - ما عدا مدرسة حرّان الأفلاطونيّة، في أعالي بلاد ما بين النهرين، التي استمرّت بعد الفتح العربي لغاية
وصول السلاجقة الأتراك، في القرن الحادي عشر.