ندوةحول كتاب لبنان والعروبة
للدكتور رغيد الصلح
2008/01/09
إدارة الدكتور انطوان ضومط
في هذه الامسية سنناقش في رحاب الحركة الثقافية – انطلياس كتاب الدكتور رغيد الصلح المعنون " لبنان والعروبة الهوية الوطنية وتكوين الدولة". وهو يتمحور حول المسار السياسي للاحزاب والقوى السياسية والطائفية اللبنانية خلال ثلاثينيات القرن الماضي الذي ادى الى الميثاق الوطني، مركزا على المرحلة الممتدة من عام 1936 وحتى 1943 .
ان هذا الموضوع استحوذ على مؤلفات تأريخية كثيرة، يستند معظمها الى ارشيفات الدول التي كان لها تأثير فاعل على مجريات الاحداث في لبنان والمشرق العربي عموما وتلك التي كان تأثيرها اقل قدرة.
ولكن الرؤية التاريخية للاحداث عند بعض من تناولوا هذا الموضوع تأثرت بالذاتية بنسب متفاوتة، لأنهم تبنوا جزئيات من نظريات تأريخية تماهت مع تطلعاتهم الى تاريخ لبنان الحديث والمعاصر اكثر مما تلاءمت مع موضوعية الاحداث. فجعل بعضهم فريقه السياسي محور الاحداث وبوّأه مركز الصدارة، وفريق آخر اتخذ موقفا اكثر اعتدالا، وقلة من المؤرخين تميّز تأريخهم بنسبة عالية من الموضوعية. وهذه الكتابات التأريخية تعكس بطريقة ما الواقع السياسي الانقسامي في لبنان الذي تزال خطوطه العريضة فاعلة شدة اوخفوتا تبعا للظروف والحالات، على الرغم من تبدل بعض التسميات الحزبية واستمرار بعضها الاخر. وتأسيسا على ذلك لم ينشأ لبنان شأن الاوطان الاخرى بتآزر ابنائه وتطلعاتهم الواحدة، وبتعبير ادق لم تشدهم رؤية مستقبلية محددة. بل رافقت قيامَه كدولة مخاضاتٌ سياسية عسيرة كثيرة تأتت من صراعات جدلية بين المكونات الاجتماعية اللبنانية الطائفية اذا لم نقل العرقية تماشيا مع مقولات بعض المجموعات. والطائفية المتجذرة في نفوس اللبنانيين وتصرفاتهم منذ العصور الوسطى سيطرت ما تزال على عواطفهم وامعنت ولمّا تزل تهديما بالعقلنة وحذفا لها من القاموس السياسي. فافرزت احزابا سياسية متعددة اسمي بعضها قوميا عربيا، والبعض الآخر قوميا لبنانيا فضلا عن احزاب اخرى غير قومية مثل الحزب الشيوعي. واندرجت تحت التسميتين القوميتين عناوين عدة: كحزب الوحدة الوطنية، والجبهة الوطنية، والكتلة الوطنية والكتلة الدستورية، والكتائب اللبنانية... او كالحزب القومي السوري، والقومي العربي والنجادة...
وقد تصارعت هذه الاحزاب على مكونات بنيوية اساسية: كالموقف من نهائية لبنان كوطن، ومن الوحدة العربية الجزئية او الكلية، وشكل المدلول القومي موضوعا خلافيا حادا لالتباس علاقة الدين بالقومية؛ فكانت بوجه عام القومية اللبنانية صنوا للمسيحية. والاسلام مرتكزا للقومية العربية؟
وادعي ان التأريخ للبنان المعاصر لا يستقيم ويأخذ ابعاده الحقيقية الا من خلال دراسات بنيوية حقيقية للعلائق المجتمعية لمكوناته السكانية الطائفية، وللمسارات السياسية التي رافقتها عبر المفاصل الاساسية التي تركت بصماتٍ واضحةً على العلائق بين الفرقاء اللبنانيين تمظهرت بالتوقوقع والحذر المتبادل. فكان دعاة القومية اللبنانية ومن يسير في فلكهم تضامنا او ائتلافا حذرين من الاندماج بالمحيط الاسلامي الواسع حفاظا على استقلال بناهم الاجتماعية والدينية والسياسية، وبتعبير اوضح كي لا يذوبوا في ذلك الخضم. واستمر دعاة القومية العربية يرفضون الاعتراف بنهائية الكيان اللبناني وتاقوا ابدا الى الوحدة العربية الجزئية او الكلية بدافع ديني اساسي كون الدين اعتبر احد مكونات القومية العربية، او على الاقل بهذا جاهر بعضهم. وكان يوجّه الفريقين عوامل نابعة من مسارات تاريخهم خلال العصور الوسطى والحديثة، ومن فقدان الثقة المتبادلة التي وصلت احيانا الى مستوى التخوين.
وزاد في الطين بلة دور الدول الاستعمارية المتصارعة على السيطرة على عالمنا، ولا سيما تلك التي ادعت حضانة الطوائف والمذاهب في المشرق العربي خلال العصور الحديثة في ظل الحكم العثماني، مدفوعة بمصالحها الذاتية، فتدخلت في شؤوننا الداخلية غير آبهة احيانا بالدولة المنتدبة.
واستمرت الطوائف والاحزاب والقيادات السياسية من مختلف التلاوين تختبئ خلف الاحداث وتستغلها لمصالحها الشخصية، بالتكاذب حينا وبالرئاء احيانا من دون الاخذ بعين الاعتبار مصالح الوطن الحقيقية. فكانت تتم تسويات آنية مبنية على ما سمي الديمقراطية التوافقية من دون تحديد واضح لها، او تفسير لمضمونها، حتى باتت في ايامنا هذه موضع اشكال وجدل سياسي وصل الى مستوى عال جدا من التوتر يهدد مصير الوطن الصغير.
ورب قائل اليوم، وعن جهل ربما، ان التاريخ يعيد نفسه لتبرير مسارت الاحداث التي نعيشها حاليا. وجوابنا على ذلك ان التاريخ لا يعيد نفسه اطلاقا، انما فيه ثوابت تتمحور حولَها ظواهرُ للحدث الواحد تتأثر بالظروف الداخلية والخارجية على اختلاف تلاوينها. ان الاحداث والحالات عبر الزمن التاريخي لا تستعاد ابدا احداثها عمليا، اذ لكل مرحلة تاريخية خصائص وعوامل ودوافع لا يشاركها فيها اي حدث او مفصل تاريخي آخر . وبالتالي فاننا لا نستعيد راهنا تاريخا مضى انما زلنا مفتقرين للعقلنة لكي نجتاز عوائق الثوابت التاريخية التي طالما اجهدتنا وانهكتنا ظواهرها المتتالية عبر الزمن التاريخي.
ايها الاصدقاء لن اعبر المسارات التاريخية ما بين 1936 وحتى 1943 التي يتناولها كتاب الدكتور رغيد الصلح فاسحا في المجال امام المنتدين الكرام لدراستها وتحليلها وتعليلها. انما اود ان اسأل باسم اللبنانين: اما آن لنا ان نفرز قادة يجلسون بصدق الى طاولة حوارية عقلانية يشترعون نظاما سياسيا سليما لا يأخذ بالتسويات الآنية والمصالح الذاتية للفرقاء المتنازعين بل بمصلحة الوطن العليا التي نأمل ان تحولنا الى مواطنين حقيقيين؟
مداخلة د. محمود حداد
يوثق كتاب الصديق الدكتور رغيد الصلح لمرحلة مهمة غير موثقة في تاريخ لبنان السياسي الحديث والمعاصر. وهو يفعل ذلك راصداً القوى السياسية والإيديولوجية المحلية والإقليمية والدولية التي لعبت كلها من خلال استراتيجياتها وتكتيكاتها ادواراً بارزة في مرحلة الانتداب الفرنسي خاصة.
ولا شك في ان تتبع مسار هذه الادوار جميعاً تظهر انها كانت اداوراً وأوزاناً متحركة غير ثابتة سوى في رؤية كل طرف لمصالحه على الأمدين القريب والبعيد ومدى تطابقها او تعارضها مع اللاعبين الاكبر في الاطار اللبناني ولا يستطيع القارئ اعطاء تقييم موحد هنا لأن الخيوط الرفيعة كانت تتشابك كما هو الحال عادة، مع الخيوط السميكة وتتداخل مع العوامل اللبنانية والعربية والدولية. وقد قام المؤلف بجهد مشكور لسرد كل هذه التطورات من دون تدخل إيديولوجي في سياقاتها فالقى على القراء مهمة تفسير الاحداث كل كما يراها.
ولعلي أصيب وأخطأ حين أحدد بعض الخيوط القليلة التي اعتبرها ابرز من غيرها في الكتاب.
كتب الاستاذ جهاد الزين في صحيفة النهار بالامس (8/1/2008، ص 9) معلقاً على مبادرة جامعة الدول العربية الاخيرة لحل الازمة اللبنانية الحالية:
"... بمعزل عن مدى فرص نجاح مبادرة الحل العربي في المدى المنظور، فإن جوهر المبادرة يحمل معاني بالغة الدقة في سياق تطور النظام السياسي اللبناني والنظرة العربية اليه.
"فالنص نفسه، نص المبادرة يؤدي الى:
"1- اعادة توليد ارجحية مارونية في السلطة السياسية اللبنانية عبر تأكيده ان يكون لرئيس الجمهورية كفة الترجيح".
ومع ان هذا التوجه العربي اهتز بعد 1975 وحتى اتفاق الطائف فان المبادرة العربية الاخيرة تعني عودة حاجة عربية الى توليد ارجحية صريحة للرئيس المسيحي اللبناني".
اذا كان هذا التحليل صحيحاً فلربما تخفت الاصوات التي تتحدث عن تهميش الدور المسيحي واسلمة البلاد.
ما صلة هذا بكتاب لبنان والعروبة: الهوية الوطنية وتكوين الدولة"؟ لاحظت خلال قراءَتي للكتاب ظاهرة جديرة بالاهتمام والدراسة وهي انه كلما كانت تقترب الكتل اللبنانية الاساسية من المسلمين والمسيحيين من بعضها البعض، ظهر تشجيع عربي وشعور بعدم الارتياح عند السلطة المنتدبة لذلك.
فعلى اثر مؤتمر الساحل الذي عقد عام 1936 والذي تخلى فيه القادة المسلمون عن مطلب الالتحاق بسوريا اتخذت فرنسا جملة خطوات لتحذير القوميين اللبنانيين من القوميين العرب ولترهيب الدستوريين من القوميين العرب في لبنان (ص95) أي ان سلطات الانتداب كانت ترفض مشاركة المسلمين الاوسع في النشاط السياسي رغم وبعد قبولهم بكيان لبنان الكبير.
في 1943 وقبل الانتخابات النيابية التي كان لا بد ان تتفق فيها كتل وشخصيات من مشارب مختلفة اصدر الرئيس اللبناني ايوب تابت وبإشارة من المندوب السامي الفرنسي بالطبع، عدداً من المراسيم إعادت توزيع الحصص الطائفية لمجلس النواب. فخفض عدد النواب من 63 الى 54 لكن عدد النواب الموارنة خُفض واحداً من 20 الى 19 في حين خفض عدد نواب السنة من 13 الى 10 وجرى تقليص النسبة المئوية لكل النواب المسلمين بمن فيهم السنة والشيعة والدروز من 46% الى 40% الى 60% وهكذا جرى هندسة ازمة طائفية لم تنته الا عندما وافق الزعماء اللبنانيون على اقتراح زعيم حزب الوفد المصري بتقسيم المقاعد النيابية بنسبة 5 مقابل 4 لصالح المسيحيين وهكذا، اكدت القيادة الاقليمية العربية ارجحية دور المسيحيين انما بصورة لا تجرح المسلمين كثيراً. وفي اكثر من مناسبة اهمها ما جرى بعد توقيع بروتوكول الاسكندرية لإنشاء جامعة الدولة العربية فان اكثر من دولة عربية شجعت الموقف اللبناني غير القابل بالفيدرالية او المركزية.
وقد وجدت نفسي أقرأ باهتمام ما جاء في الكتاب (ص 25) من انه كان لرئيس الجمهورية الماروني العام 1934 سلطة تعيين عدد من النواب يوازي ثلث عدد النواب المنتخبين وقارنت هذه المعلومة باقتراح جامعة الدول العربية الأخير الذي يعطي لرئيس الجمهورية الماروني كفة الترجيح الوزاري من خلال حصة في تعيين وزراء تابعين له خارج نطاق الأغلبية والأقلية النيابية.
اما فيما يتعلق بمسيرة الاتفاق بين القوميين اللبنانيين القوميين العرب اللبنانيين بشأن استقلال لبنان العام 1943 فمن المعروف ان الكتلة الوطنية السورية لعبت دوراً مهماً في اقناع اللبنانيين الذي كانوا لا يزالون مرتبطين بفكرة الاتحاد مع سوريا بنسيان هذا المشروع والعمل على الاستقلال من داخل الكيان اللبناني. اما دور مصر وفي أًوج المرحلة العروبية الناصرية (والتي يشير اليها الكاتب) فانها احترمت الكيان اللبناني والتزمت بالتعهد الذي قطعته على نفسها بان يكون تعاملها مع لبنان محدداً بالاقنية الرسمية اللبنانية على الا تسمح السلطات اللبنانية لاية قوة إقليمية بالعمل ضد الجمهورية العربية المتحدة انطلاقاً من لبنان وقد ظلت العلاقة بين مصر الناصرية ولبنان الشهابي ممتازة حتى ما بعد 1967.
طبعاً لكل قاعدة استثناء، ولكن استطيع القول ان انطباعي العام الذي خرجت منه بعد قراءة كتاب الدكتور الصلح ان تاريخ لبنان اتجه منذ الانتداب حتى اليوم اتجاهين:
1- اتجاه عربي يحرص على دور المسيحيين وعلى تأكيد وجود كيانه واستقلاليته.
2- اتجاه دولي يحاول ان يتقرب من المسلمين وان كان هذا الدور متعثراً بسبب تأييد الغرب لاسرائيل.
ونرجو ان نصل الى يوم لا نعود نتحدث فيه عن الهوى المسيحي والهوى الاسلامي في السياسة اللبنانية بل عن الهوية اللبنانية وضرورة تدعيم دولتها بمعزل عن الطائفية أكانت في المؤسسات الرسمية ام غير الرسمية.
الدكتور مسعود ضاهر
صراع الهوية بين الكيانية اللبنانية والقومية العربية
تكمن أهمية هذا الكتاب في أن مؤلفه لا يكتفي بدراسة العلاقة بين الهوية الوطنية وتكوين الدولة اللبنانية،كما ورد في العنوان، بل يضيف إليه بعدا آخر هو علاقة الكيان اللبناني بمحيطه العربي،ونشوء الأحزاب السياسية القومية اللبنانية،والقومية العربية،وأفكارها،ومدى إعتناقها هوية لبنان العربية أو تنصلها منها.كما يتحدث
بالتفصيل عن المفاوضات والمعاهدات بين فرنسا وكل من سوريا ولبنان التي سبقت إستقلال البلدين و" ضبابية"الموقف السوري من الإعتراف بإستقلال الكيان اللبناني".
هكذا تتضح جوانب أساسية للمقولات النظرية التي تضمنها هذا الكتاب المتميز الذي أعده رغيد الصلح في الأساسأطروحة دكتوراه قدمها إلى جامعة أوكسفورد عام 1986 ،وصدرت بالإنكليزية عن المركز اللبناني للدراسات في لندن عام 2004 .
إنطلق الباحث في معالجة موضوعه من مخزون ثقافي وسياسي مهم.فهو سليل أسرة عرف عنها محبة لبنان والعالم العربي والإهتمام بقضاياهما.كما أن الوثائق الوفيرة،
المحلية والخارجية التي إستند إليها،والتجربة السياسية لوالده كاظم الصلح ومواقفه المهمة في الدفاع عن إستقلال لبنان أعطته المزيد من الأفكار المعمقة التي أغنت الكتاب. وقد أفرغ فيه الكثير مما في جعبته الثقافية الغنية بمفاهيم شائعة دون أن
يحاول تحديد أي منها .فمن هم " الراديكاليون"،و" القوميون اااللبنانيون" و" القوميون العرب " و... في لبنان ؟ إنها قوى هلامية غير محددة المعالم،وتستعصي على التحديد العلمي من حيث النشأة،وتقلب المواقف. وبعد أن أوغل في رصد الخلفيات الثقافية والإجتماعية لمواقف القوى والأحزاب اللبنانية من الكيان اللبناني خرج بإستنتاجات سجالية.فقد كانت مواقف الغالبية الساحقة من القوى اللبنانية،الكيانية منها والعروبية،متقلبة إلى أبعد الحدود .وكانت مواقف " ضبابية" حسب تعبيره،تجاه شعار "إستقلال لبنان". إذ لم يكن الموقف ضبابيا فقط من جانب السوريين تجاه مضمون الإستقلال بل أيضا من جانب الأحزاب والقوى العروبية نفسها.
حملت فصول الكتاب العناوين التالية:"المعاهدات مع فرنسا وإنعكاساتها على سوريا ولبنان،سنوات نظام المعاهدات،إندلاع الحرب العالمية الثانية وتعطيل نظام المعاهدات، الحكم البريطاني – الفرنسي المشترك، لبنان المستقل والمحادثات الثنائية بشأن الوحدة العربية، لبنان الكبير وجامعة الدول العربية. وتمحورت موضوعاته ضمن فترة زمنية تمتد ما بين 1936 و1943 . وهي الفترة التي طرحت فيها مسألة إتحاد لبنان مع سوريا أو إستقلاله نهائيا عنها وفق صيغة توافقية بين القوميين اللبنانيين والقوميين العرب تم إعتمادها لاحقا في الميثاق الوطني لعام 1943 .
تحدث المؤلف عن رؤية إيديولوجية خلافية ناجمة عن نشأة كل من" القوميين اللبنانيين" و" القوميين العرب".وقد صفها المؤلف بقوله:
" تنبع العلاقة بين القومية العربية والقومية اللبنانية من إختلاف جذري من حيث النشأة والتطور. فالساحة اللبنانية هي مهد القومية اللبنانية،وتحديدا في المناطق ذات الغالبية المارونية في جبل لبنان. في حين كان مهد القومية العربية في المدن التي كانت تابعة لولايات سوريا وبيروت وحلب" .
وبعد أن تعاون القوميون اللبنانيون والقوميون العرب ضد السلطنة العثمانية في أواخر حكمها،تفجرت الخلافات بينهما عند إعلان الفرنسيين لدولة لبنان الكبير والبدء بإنشاء مؤسسات الدولة العصرية فيه كالبرلمان،والدستور،والجمهورية،وإدارات الدولة.
وأبرز نقاط الخلاف أن القوميين العرب في لبنان ناضلوا ضد فرنسا بصفتها دولة أجنبية محتلة. فتعاونوا ضدها مع إخوانهم في سوريا وباقي الأقطار العربية لتحريرها من الإحتلال الأجنبي،وبشكل خاص الفرنسي والإنكليزي. وإعتبروا أن إحتلال فرنسا لسوريا وإحتلال بريطانيا للعراق وفلسطين والأردن شكل صفعة قوية لكل عربي .
كانت المعركة شرسة جدا في لبنان إذ إعتبره الفرنسيون المعقل الأساسي لنفوذهم في المشرق العربي. فتعرض القوميون العرب فيه للنفي،والتشريد،والسجن.وشنوا على الإنتداب الفرنسي حملات عنيفة من الخارج،ونعتوا الدولة اللبنانية بأنها مصطنعة،
لأنها أنشئت من قبل الفرنسيين لضرب الوحدة السورية والوحدة العربية.
بالمقابل،تمسك القوميون اللبنانيون بدولة لبنان الكبير التي جسدت بعض أحلامهم في دولة عصرية تمت ولادتها بمساندة فرنساالتي كانت تعتبر بمثابة " الأم الحنون" لدى كثير من الموارنة وبعض مسيحيي الشرق. وبفضل تعاونهم الكامل مع إدارة الإنتداب الفرنسي تأسست ركائز الدولة العصرية في لبنان،وتمتع فيها الموارنة بشكل خاص،
وأصدقاء فرنسا من باقي المسيحيين ومن الطوائف الإسلامية ،بموقع متقدم في مراكزها العليا .فغاب عنها القوميون العرب الذي رفضوا التعاون مع إدارة الإنتداب أو رفضت تلك الإدارة التعاون معهم. لكن تطور الأحداث خلال فترة ما بين الحربين العالميتين أحدث تبدلات جذرية في بنية النظام السياسي اللبناني ،مما إستتبع مواقف محلية جديدة أسست لرفض الإنتداب والإجماع على المطالبة بإستقلال لبنان عن فرنسا بحدوده المعلنة عام 1920.ومن خلال بناء مؤسسات الدولة اللبنانية نال المتعاونون مع إدارة إلإنتداب مكاسب إقتصادية وثقافية وإدارية كبيرة .فترسخ شعار المطالبة بضمان دولة لبنان الكبيرة ضمن حدود المعلنة .
وسرعان ما إتسعت دائرة اللبننة لتشمل جميع الطوائف بدرجات متفاوتة. وذلك وفق صيغة عقلانية ترفض كل أشكال العزلة أو الإنعزال عن العالم العربي،كما ترفض كل صيغ الوصاية والإنتداب المفروضة من الخارج. وكشفت الممارسة العملية لإدارة الإنتداب الفرنسي عن وجه إستعماري بشع.إذ إغلبت مصالح الإحتكارات الفرنسية على مصالح اللبنانيين،ومن ضمنهم الموارنة.فبرزت مواقفجريئة لزعماء موارنة، دينيين ومدنيين. فأطلق البطريرك الحويك،الذي كان سابقا من أشد أنصار فرنسا،عبارته الشهيرة : "فرنسا كالشمس ،تنير من بعيد وتحرق من قريب".
وبعد أن طاول إستغلال شركة إحتكار التبغ الفرنسية( الريجي) عمال التبغ في لبنان،وكان معظمهم آنذاك من الموارنة،أصدر البطريرك عريضة كتابه الشهير:
" لبنان وفرنسا" الذي شكل أهم وثيقة تدين سياسة الإنتداب الفرنسي في لبنان.
ومع أن المؤلف أشار إلى تلك المواقف بصورة سريعة إلا أنه بقي أسير المنهج التحليلي السائد في لبنان والذي يحلل مواقف الزعماء اللبنانيين وفق إنتماءاتهم الطائفية. فرأى أن "الدعامة الأساسية للكيانية في لبنان لم تكمن لا في الإديين( الكتلة الوطنية) ولا في الدستوريين بل في الكنيسة المارونية المتمثلة في البطريرك أنطوان عريضة ". ص39. وأن آل سلام " برغم نظرتهم القومية وغير المذهبية،كانوا يتصرفون كقادة للطائفة الإسلامية في لبنان". ص 48.
إلا أنه لم يغفل دور الراديكاليين من الحزب الشيوعي اللبناني والحزب القومي السوري الذين عملوا على تعبئة الرأي العام اللبناني ضد نظام الإنتداب وفق مباديء وشعارات قومية وأممية وليس طائفية.ومثلت القوميين العرب "عصبة العمل القومي" و"الحزب القومي العربي".وكان لبعض الناشطين من طلبة الجامعة الأميركية دور أساسي في فضح الهجرة اليهودية،والنضال ضد سياسة الإنتداب.وكان رياض الصلح وأنسباؤه في طليعة دعاة القومية العربية في لبنان.ولفت الإنتباه إلى أن القوى القومية العربية في لبنان كانت بوجه عام،ومنذ البداية،" لا تحبذ ضم الأراضي ذات الغالبية المارونية إلى سوريا،ولم توافق على سورنة الأراضي اللبنانية المتنازع عليها".ص 64 . وطالب الدستوريون بإحترام العمل الدستوري والإعتراف بإستقلال لبنان ضمن حدوده المعلنة لعام 1920 .وشدد" حزب الوحدة اللبنانية" على إيقاظ الروح الوطنية اللبنانية والمحافظة على إستقلال لبنان ضمن حدوده المعترف بها دوليا". ص 67.
كما أن الكتاب حفل بمعطيات تاريخية غير دقيقة مبنية على مقتطفات مجتزأة من الأرشيف البريطاني أو الفرنسي. وكان أحرى بالمؤلف أن يناقشها بالتفصيل،ويظهر عدم دقتها، بما يرسخ الدور التثقيفي الرائد الذي سيلعبه هذا الكتاب في الدفاع عن عروبة لبنان لدى الأجيال الجديدة من اللبنانيين،ومن جميع الطوائف والإتجاهات السياسية وساط الشاب اللبناني. وأبرز تلك المقتطفات،على سبيل المثال لا الحصر:
- "حتى الإديون(!) وجدوا أنفسهم مجبرين على مجاراة التيار ودعوا إلى شكل من أشكال العروبة.وتعهدوا بتوطيد علاقات لبنان مع سائر العالم العربي" ص 234 .
-حقق لبنان المزيد من المكاسب عبر معارضته العلنية لمخطط سوريا الكبرى.263 .
- " حاول الفرنسيون الأحرار مرارا الإبقاء على لبنان كنظام مضاد للنظام الإقليمي العربية الآخذ بالظهور في المشرق العربي .وبفضل ضغوط القوميين العرب حول الفرنسيون سياستهم نحو تحقيق هدف أكثر واقعية .فبدل تحويل لبنان إلى كيان معاد للعروبة إتخذوا خيارا بجعله بلدا غير عربي. إلا أن هذه الصيغة لم تلق قبولا كبيرا. إذ كانت القوى الجاذبة في العالم العربي تضغط لتكريس عروبة لبنان " ص 212.
- " في إجتماعات القاهرة 9 - 13 كانون الثاني 1944 أشار اللبنانيون إلى أن التعاون بين سوريا ولبنان المبني على المجلس الأعلى للمصالح المشتركة معادل للوحدة الإقتصادية. وأن بإمكان سوريا ولبنان توحيد برامجهما التربوية ثقافيا وإجتماعيا بعد مضي فترة من التعاون الوثيق. لكن لبنان فضل الحفاظ على إستقلاله في مجالي السياسة الخارجية والدفاع .وفي موضوع علاقاته العربية أيد لبنان تعاونا مبنيا على السيادة والمساواة بين الدول العربية،وأعرب عن إهتمامه بمصير الشعب الفلسطيني،ودعا إلى مشاركته في المناقشات بشأن الوحدة العربية" ص 264.
- " إشتركت ثلاث مجموعات رئيسية لبنانية في الحملة على بروتوكول الإسكندرية
لعام 1944 ،وهي: البطريرك عريضة وبعض الإكليروس اللبناني،الإديون،وأنصار الحضارة المتوسطية بقيادة هنري فرعون وميشال شيحا.وكان البطريرك يرفض أية مشاركة لبنانية في وحدة عربية أو مشروع فدرالية عربية.وإعتبر إده أن البروتوكول لا يلائم سيادة لبنان،ودعا إلى إنسحابه من الجامعة إلا إذا عدلت مبادءها"285 -287.
- " بين 1936 و1945 تطور لبنان من كونه " مقرا لنفوذ فرنسي" و"وطنا مارونيا" كما فهمه مؤسسو لبنان الكبير إلى بلد ذي " وجه عربي" كما أعلن زعماء الحكومة الأولى للإستقلال سنة 1943 " . وكان الهدف صيغة وفاقية بين لبنان والقومية العربية من خلال توفير حل يوفق بين تطلعات كل من القوميين اللبنانيين إلى حماية سيادة وإستقلال لبنان وبين الأهداف التوحيدية للقوميين العرب " ص 317 . وإتخذت خطوات تنفيذية كإعلان إستقلال لبنان وإعادة التأكيد على العربية كلغة رسمية للدولة، وإبرام إتفاقية مع سوريا حول"المصالح المشتركة" و"الإنضمام إلى جامعة الدول العربية
- " إتهم رياض الصلح بأنه يضع المصلحة العربية فوق إستقلال لبنان... وأنه على إستعداد لتقديم تنازلات على حساب إستقلال لبنان" ص287 و 289 .
لعل أبرز الإستنتاجات التي توصل إليها هي التالية:
- هشاشة التوافق بين الأحزاب التي كونت التحالف الحاكم في لبنان على سياسة لبنان العربية،وسهولة تصاعد الأزمة الطائفية. وكان هذان العنصران كفيلين بإلحاق الضرر بالنظام السياسي اللبناني،وبتعطيل تطور المؤسسات التي أضحت وسيلة للتعبير عن الرأي العام وحل الأزمة والمحافظة على المجتمع المدني. لذلك دافع الدستوريون والقوميون العرب عن النظام البرلماني اللبناني في وجه منتقديه.
وساعدت مشاركة لبنان في إنشاء جامعة الدول العربية ساعدت على إظهار "الوجه
العربي" للبنان.كذلك وفرت مشاركة لبنان الفرصة للبنانيين من أجل فهم أنفسهم والعالم خارج حدودهم". . فالأخطاء الجسيمة التي إرتكبها المسؤولون الفرنسيون في المشرق هي التي دفعت بعض القوميين اللبنانيين للإنضمام إلى القوميين العرب في تشكيل تحالف أنتج صيغة " الوجه العربي " للبنان . وتبلورت صيغة من التحالف الهش بين القوميين اللبنانيين والقوميين العرب . وقد تركت الباب مفتوحا لتفسيرات مختلفة لعروبة لبنان،منها أن لبنان أقل عروبة من الدول العربية الأخرى،والمغالاة بتقدير دور لبنان في إفشال المشاريع القومية العربية . وكان دعاة العروبة النفعية في لبنان يظهرون مواقف معادية للقومية العربية وتستدعي دوما تأمين الحماية للقوميين اللبنانيين في مواجهة القومية العربية .
بعض الملاحظات الختامية
بعد سلسة الإنقلابات العسكرية التي شهدها العالم العربي منذ الحرب العالمية الثانية بدأت تتبخر أحلام القوميين العرب الطوباوية في تحقيق " الإستقلال الفوري الكامل والشامل لجميع الأقطار العربية،وإقامة نوع من الوحدة في ما بينهم". وتفرق شملهم بعد أن عجزوا عن التلاقي،فبدأوا يصدرون المناشير التحريضية من خارج العالم العربي. مع ذلك،تمسك القوميون العرب،على إختلاف تشكيلاتهم،برفض دولة لبنان الكبير وإتهامها بأنها دولة مصطنعة أو صنيعة الإستعمار الفرنسي.وتناسى هؤلاء أن الحدود الجغرافية لجميع الدول العربية قد رسمت في دوائر الإستخبارات الأجنبية.
وساعدت الصيغة الميثاقية على إلتزام فرنسا بإستقلال لبنان ليتحول لاعبا فاعلا في تأسيس النظام الإقليمي العربي عبر جامعة الدول العربية،وفي المنظمات الدولية.
اللافت للنظر أن الدولة السورية المستقلة إعترفت بإستقلال لبنان دون أن تبادر إلى إقامة علاقات دبلوماسية معه على غرار ما قامت به مع باقي الدول العربية،المجاورة لها أو البعيدة عنها. كما أن القوميين العرب من اللبنانيين الذين حكموا لبنان إلى جانب "القوميين اللبنانيين" لم يبادروا إلى طرح هذا الموضوع بجدية.وهنا مكمن الخلل في معالجة مسألة هوية لبنان العربية كدولة مستقلة.
ليس من شك في أن بعض النقاد سيجدون أن فصول الكتاب تعطي فقط لمحة شمولية عن هواجس الهوية القومية،وعروبة لبنان.كما أن المادة التاريخية فيها غنية بمعطيات كثيرة مستقاة من مصادر الأرشيف العائلي،والمحلي، والخارجي.إلا أن المنهج المعتمد كان تقليديا،وبقي أسير المواقف الطائفية من الإنتداب،وعروبة لبنان،والإستقلال.
ولم يعالج المؤلف المادة الغنية لديه بمنهج تاريخي ديناميكي أو تطوري يقدم تفسيرا مقنعا للتبدلات التي شهدتها القوى السياسية في لبنان .فهي قوى زئبقية،تبحث عن مصالحها الشخصية دون أن تتمسك حتى النهاية بالمباديء والشعارات الطوباوية التي رفعتها.كما أن الكلام على مواقف قوى هلامية غير محددة مثل "القوميون اللبنانيون" و"القوميون العرب في لبنان" لا يعبر بدقة عن نسبة تمثيل حقيقي على أرض الواقع. وحبذا لو إستفاد المؤلف من الدراسات الرصينة التي قام بها عدد لا بأس به من المؤرخين اللبنانيين المعاصرين الذين قدموا إضافات نوعية في السجال الدائر حول عروبة لبنان.
بقي أن نشير إلى مقالة والد المؤلف، كاظم الصلح،الشهيرة "مشكلة الإنفصال والإتصال في لبنان" التي نشرت في جريدة "النهار" بتاريخ 11 آذار 1936.فقد أثارت ضجة سياسية ذات أبعاد ثقافية. إذ جاهر بإستقلالية الكيان اللبناني إنطلاقا من الإيمان الراسخ بعروبته من جهة، وبإنفتاحه على العالم العربي والعالم من جهة أخرى.
واثبت أنه من المغالاة القول بأن "القوميين اللبنانيين" يرفضون عروبة لبنان أو أنهم يطلبون تخلي "القوميين العرب" فيه ع عروبتهم أو عن قضية الوحدة العربية،بل أن يقبلوا بلبنان دولة مستقلة ووطنا نهائيا لجميع أبنائه.
لقد تناقضت مواقف المتشددين من "القوميين اللبنانيين" و"القوميين العرب" بحيث أعاقت الجهود الهادفة إلى توطيد النظام الديموقراطي في لبنان. فتم تغليب التوحيد بين اللبنانيين على حساب التوحيد مع العرب لدى الطرف الأول ،أو التوحيد مع العرب على حساب التوحيد بين اللبنانيين لدى الطرف الآخر. وأدى الإقصاء المتعمد للقوميين العرب عن البرلمان إلى إضعاف الحياة البرلمانية في لبنان.وعندما شارك القوميون اللبنانيون والعرب في حكم لبنان بعد الإستقلال لم ينجح تحالفهم إلا في ترسيخ عروبة نفعية،أي الحد الأدنى من العروبة مقابل الحد الأقصى من المكاسب الإقتصادية،
وإنفتاح لبنان التام على الأسواق العربية وفتح أسواقه وخدماته أمام الرساميل العربية. كما أن الصراع المستمر بين القومية العربية والقومية الصهيونية في فلسطين أجبر لبنان بعد الإستقلال،خاصة في الربع الأخير من القرن العشرين،على الإنحياز إلى جانب عروبة الإنتماء والمصير وليس العروبة النفعية فحسب.وكثيرا ما فضل القوميون العرب الدفاع عن قضية فلسطين أكثر من الدفاع عن لبنان كوطن حر ودولة مستقلة وذات سيادة تامة على كامل أراضيها.
كان قادة الإستقلال يطمحون بأن يصبح لبنان منارة للديموقراطية في العالم العربي بعد تطوير مؤسساته الديموقراطية. فطالبوا زعماءه بالعمل على إلغاء الطائفية التي هي "وصمة عار على جبين لبنان"،وبتأسيس أحزاب سياسية لبنانية تتخطى الإنقسامات الطائفية والمذهبية،وتطلق أوسع مشاركة لبنانية في الحياة السياسية. كانت لديهم أحلام وردية بأن يصبح لبنان قادرا على لعب دور أكبر في النظام العربي الجماعي ليسوق من خلاله نظامه الديموقراطي. لكن الإنقلابات العسكرية في العالم العربي أضعفت العروبة في لبنان وفي جميع الدول العربية.فتراجعت الديموقراطية في بلاد العرب. وكانت المفارقة الكبرى أن النظام الديموقراطي في لبنان فقد القدرة عن القيام بدور فاعل في الحياة السياسية العربية،وأصبح اليوم عاجزا عن حماية نفسه،وهو بحاجة إلى رعاية من دول عربية ودولية للإستمرار .وأصيبت فيه الحياة السياسية بشلل شبه دائم بسبب المواقف المتشنجة لزعماء الطوائف والميليشيات المتناحرة التي تهدد مصيره كوطن حر ودولة مستقلة.
ختاما،لقد قدم هذا الكتاب المهم وثائق غنية تؤكد أنه ما من باحث منصف يستطيع نكران عروبة لبنان،أو دوره في النهضة العربية. لكن السؤال المنهجي: من يمثل عروبة لبنان؟ وماهي صيغة العروبة في بلد متعدد القوميات والطوائف ؟ وهل هي عروبة الدين،أو العرق،أم هي عروبة نفعية، تحصن وجه لبنان العربي،أم عروبة الميثاق الوطني،أو عروبة " لبنان غير المشًرق وغير المغًرب"؟
أسئلة كثيرة توسع المؤلف في الإجابة عن بعضها،ولامس البعض الآخر. لكن العروبة التي يحتاجها لبنان هي العروبة الثقافية أو الحضارية التي ينتسب إليها طوعا جميع اللبنانيين،على إختلاف طوائفهم،ويدافعون عنها بصلابة. فهي جزء مضيء من تاريخهم الثقافي،حملوا رايتها بكفاءة عالية وبرعوا فيها أكثر من أي شعب عربي آخر.
كلمة الدكتور وليد عربيد
لبنان و العروبة، الهوية الوطنية، تكوين لبنان، الكيان... مصطلحات تواكب تاريخ البلد وأشكالياته... و لاشك ان المسألة الكيانية و أزماتها أصابت كل الكيانات العربية او غالبيتها على الأقل، وربما ينسحب هذا الأمر على كيانات المنطقة. لكن لبنان يبقى الحلقة الكيانية الضعيفة، أذا نظرنا الى تاريخ الصراع في المنطقة منذ أتفاقية سايكس-بيكو عام 1916، و حتى اليوم، مرورا" بنشوء الكيان الصهيوني، و تعدد المشاريع الغربية، و ابرزها المشروع الأميركي الذي يشكل الأصل لما يحصل للمنطقة عموما".
ولعل ما جرى في لبنان منذ الأستقلال عام 1943، يطرح الأشكالية الكبرى، و هي ترتبط بهويته بالأساس. في حين ان جزءا" رئيسيا" من الصراع اليوم يتصل ايضا" بتحديد هوية لبنان و موقعه الأقليمي. و لذلك لا يمكن عزل الواقع الراهن عن الأزمات السابقة، و ان تعدد اللاعبون و تبدلت المشاريع. فيما الصراع العربي الأسرائيلي دخل في منعطف جديد.
أيها السيدات و السادة،
من هذا المدخل يمكن قراءة كتاب رغيد الصلح.وهو و ان كان في اصله رسالة اكاديمية، انما هو مرجعا" لفهم الدينامية التي سار عليها الكيان اللبناني و الصراع المتصل به. و مستندا" لكشف العلاقة بين السياستين اللبنانية و العربيو في المنعطفات التاريخية للمنطقة العربية، خصوصا" و انه يستحضر أرشيف الخارجية في كل من بريطانيا و فرنسا و الولايات المتحدة الأميريكية.
ايها الأصدقاء،
أستطاع رغيد الصلح، المحلل السياسي، المؤرخ، الباحث ، الأكاديمي عبر مقالات و دراسات نشرها في الدوريات و الصحف العربية على المساهمة في تطوير الفكر العربي النهضوي بالأضاءة على كثيرمن مواضيع، تهمنا جميعا، و هي: الحداثة و التطوّر و الديمقراطية في الوطن العربي.
في مؤلفه بين ايدينا غاص رغيد الصلح في الكراتين العتيقة وو ثائق الأرشيف البريطاني و الفرنسي و الأميركي كما أجرى مراجعة علمية للمستندات و الوثائق القديمة المتواجدة في مكتبة عائلته ، ايضا، قام بزيارات مكوكية لبعض الدول لأجراء المقابلات ذات الطابع البحثي- الأكاديمي مع شخصيات سياسية لبنانية. كل ذلك، ساعده على مناقشة اطروحة دكتوراه من جامعة اكسفورد اعرق الجامعات البريطانية.
العروبة و لبنان في تكوين الدولة و هوية الوطن ليس عناوين رئيسية في قاموس رغيد الصلح سليل العائلة الصلحية. هذه العائلة أعطت لبنان عددا من رجالات الدولة عملوا من، دون ادنى شك، على تدعيم الصيغة اللبنانية و الحفاظ على وحدة وسيادة الوطن .
لست هنا لأكيل المديح للصديق العزيز بل لمناقشة كتابه الذي يحمل عنوان "لبنان والعروبة" الصادر عن دار الساقي في لندن.
في قراءة موضوعية، قام الكاتب، بطرح اشكالية اساسية في علاقة الكيان اللبناني بمحيطه العربي و ما نتج عن هذه الأشكالية من أنعكاسات سلبية على الساحة الداخلية هددت في مراحل تاريخية معينة على حصول أزمات سياسية خطيرة و صلت الىحد الأنفجار و تفتت الوطن و الدولة. لذلك، ان هذا الكتاب يعتبرحاجة ضرورية للمكتبات العامة و الجامعية لفهم الحيوية الداخلية للبنان و أرتباطه بالتالي بالتقاطعات الأقليمية و الدولية و ازمات منطقة الشرق الأوسط و انعكاساتها على الكيان اللبناني.
يتساءل الكاتب عن التحديات التي واجهت صيغة الميثاق الوطني اللبنانية المتفاهم عليها عام 1943حيث يشير الى أن قمةالتحديات كانت قد توّجت بأتفاق الطائف عام 1989. كذلك، يتساءل عن عدم توافق اللبنانيين على موضوع هوية لبنان الوطنية التي كوّنت لفترة طويلة من الزمن عاملا" خلافيا" سببت بتدخل القوى الدولية.
هذه الأسئلة الهواجس التي طرحها المؤلف خلال مرحلة تحضيره الكتاب، نراها تعود طارحة بظلالها على الساحة الداخلية من خلال الأزمة الحالية. لاشك ان الظروف و الهواجس من دولية و أقليمية و حتى داخلية قد تغيرت الى حد بعيد لكنها لم تحسم التشّكل النهائي للهوية اللبنانية. فهوية لبنان و ان كان اكدها أتفاق الطائف بعد الأزمة-ألأنفجار( 1975-1990) و الصراع بين القومية اللبنانية و القومية العربية و ان كان اصبح سؤالا" للتاريخ فقط، انما تطوير التركيب السياسي لهذه الهوية لم يصل الى محطة تؤمن الأستقرار.
فمعاناة لبنان في الحقبة التاريخية التي كان مفهوم لبنان الكبير في نظر مؤسسيه و في نظر عدد كبير من دعاته، كيانأ" مسيحيا" حيث اعتبر الموارنة اكثر الطوائف و لاء" للدولة الحديثة العهد في بداية العشرينات. ومن هذا المنطلق، ساد الأعتقاد بأن رجحان كفة الموارنة ضروري لأمن و أستقرار لبنان و استمراره. كما انه برزت الأنعكاسات الثقافية لأعتبار لبنان دولة مسيحية حيث تبنت شريحة كبيرة من أبناء الطائفة المارونية للثقافة الفرنسية. و يشير الكاتب الى ان قلة من الفرنسيين الداعمين لفكرة لبنان الكبير و قلة من المتطرفين للقومية اللبنانية اتبعا سياسة الأنعزال المتشدد في مواجهة القوميين العرب.
حاول الكاتب بكل صدق ان يشرح المواقف المتضاربة للأطراف المتصارعة ذات الآراء المختلفة حيال لبنان الكبير و قد اثرت في طريقة تكوين مفهوم لبنان لدى جميع الطوائف و في تكوين نظرة بعضهم الى بعض، و الى المنطقة المحيطة بهم.
في الواقع، مايربط الماضي بالحاضر هو ما أشار اليه رئيس وزراء برطانيا تشمبرلين بعد توقيع معاهدة ميونيخ بين المانيا و بريطانيا: " نشهد اليوم... أعادة رسم الحدود المتفق عليها في مؤتمر فرساي...ان المشكلة لاتكمن في ما أذا كان يجب اعادة ترسيم هذه الحدود بين الحين و الآخر بل اذا كان ذلك سيتم بالمفاوضات و المناقشات او بالحرب" . و للدلالة على التاريخ بالراهن ما أشار اليه الكاتب عن قول و نستون تشرشل في اواخر آذار عام 1941 بخصوص سوريا ولبنان و خوفه من سقوطهم تحت النفوذ الألماني : " كان سلاح الجو الألماني يهاجم قناة السويس من قواعد الدوديكاليز و كان باستطاعته ان يقوم بعمليات ضد سوريا لو ارادا، و خصوصا" بواسطة القوات المجوقلة. ويتابع تشرشل فيما كان الألمان يسيطرون على سوريا و مصر و المنطقة الحيوية لقناة السويس، كانت المصافي النفطية في عبدان تحت التهديد المباشر للهجوم الجوي المتواصل. كذلك كانت شبكة المواصلات البرية مع فلسطين في خطر.قد تكون هناعلى السياسة في مصر في حين ان موقفنا الدبلوماسي في تركيا و في انحاء الشرق الأوسط سيضعف تدريجيا".
أما نظرة الفرنسيين الأحرار الى علاقات لبنان مع سائر العالم العربي حيث ان فرنسا جعلت لبنان قاعدة في سياستها تجاه سوريا و لبنان....ان لبنان الموحد ضروري لمصالحها الأستراتيجية كما هو ضروري لمصالح بريطانيا بسبب الموقع الجغرافي و البحري للبنان المتواجد بساحله المقابل لأوروبا و هو بالتالي رأس جسر يؤمن الوصول للعمق العربي.
و للدلالة، ايضا"، بعلاقة التاريخ بالحاضر نشير الى ما تتطرق اليه الكاتب عن الدور الأميركي حتى قبل أستقلال لبنان حيث تنامت اهمية الولايات المتحدة كقوة عالمية و مع ازدياد مصالحها في الشرق الأوسط.هذه المصالح الثقافية و الأقتصادية تنامت في اواخر عام 1942 مما ادى الى انتشار المبعوثين الأميركيين المطلقي الصلاحيات و السفراء الجوالين والشيوخ الزائرين.
و لعل الزيارات المكوكية للوفود الأميركية اليوم تذكرنا ببعض مفاصل تلك المرحلة.
أيها الأصدقاء،
مايطرحه رغيد الصلح في كتابه تجعلنا نفكر مليا" في طبيعة الصراع الناشىء اليوم، و الممتد من حقبات مشاريع مختلفة منذ حقبة الأستقلال. فاللبنانيون لم يستطيعوا بناء دولة عابرة الطوائف بعد اتفاق الطائف، بل كرسوا صيغة طائفية جديدة برعاية اقليمية و دولية. هذه الرعاية التي تجدت استقرارا" في التسعينات اهتزت صراعا" على السيطرة بين مشاريع دولية و أقليمية، تمركزت الطوائف اللبنانية على ضفافها، و أضحى الصراع الداخلي بين مكونات الصيغة و حقوق الطوائف امتدادا" لمصلحة المشاريع الخارجية.
أن الأشكالية اللبنانية، عادت لتطل من جديد، انما الحدة بدأت تهدد الكيان نفسه. و لعل نشوء كتلة تاريخية على غرار ما حصل قبل الأستقلال تعيد الأعتبار للداخل تبقى مهمة رئيسية للبنانيين الذين عليهم ان يقفوا موحدين لحماية الكيان و أعادة بناء الدولة على أسس مختلفة، او على الأقل تطوير الصيغة التي تتحكم بتوازنات طوائفها اليوم بالدستور و بالقوانين و بكل شيء.
بنهاية القول، اختم بالتأكيد ان موسوعة رغيد الصلح تنير لنا الطريق لفهم افضل لتاريخنا و محطاته المفصلية.و هو التاريخ الماكر الذي لم نخرج منه بعد.
رغيد الصلح : لبنان والعروبة ، الهوية الوطنية وتكوين الدولة. دار الساقي، بيروت 2006.