شهادات في الاستقلال
كلمة الدكتورة دعد بو ملهب عطالله
كلمة ناصيف نصَّار
كلمة كمال حمدان
كلمة منير بشور
كلمة زياد عبد الصمد
كلمة أنطوان سيف
انطلياس 25/11/2008
"شهادات في الاستقلال"، عنوان لقائنا هذا المساء، لقاء سنوي عمره نيّف وربع قرن: بعنوانه، وصيغته الجمعيَّة، وغاياته الوطنيَّة، ليس للاحتفاء ولا للاحتفال بعيد الاستقلال، مع ما تحمله المناسبة من فرح عمومي يتوسَّل إخفاء الجراح والتعالي المؤقت عن المصاعب والمصائب والأزمات، بل لافتعال وقفة تأمُّل للتبصُّر بأحوالنا وتلمُّس رأب أصداعها عن طريق الإحاطة الموسَّعة.
ليس الاستقلال كحدث تاريخي ما نقاربه، بل كواقع يومي. فالشهادات الجمعيَّة المتعدِّدة والمتنوِّعة بالمواقع والمواقف، وحتى الأعمار، رسمت على مدى ربع قرن ما يمكن تسميته، بكثير من التحفُّظ وكثير من الأمل بالمعرفة والتنبُّه، تاريخاً مونوغرافياً للوعي اللبناني بالاستقلال، تاريخاً يسجِّل النبض بالمشاعر والارادات والطموحات، وما يصاحبها ويعقبها من انتكاسات واحباطات... وانتصارات محدودة لا يمكن ان تطمسها، مع ذلك، فداحة السلبيات. الوعي بالاستقلال الذي لأبناء جيلنا الطويل، هو وعي شقيّ إذ يتمحور حول مقولة مركزية لم تخرج مرةً وللساعة في حياتنا العامة من دائرة الشك: الاستقلال بمعناه المطلق كما توحي به التقاليد اللغوية، والاستقلال النسبي كما توحي به الوقائع العمليَّة المؤلمة، والاستقلال المغيّب باستباحة مؤسساته والتنكر لفصل سلطاته، كما تدفع به إلى حدِّه الأعلى الرؤى التشاؤمية. فبين مقولة "وطن في حالة انجاز دائم" ومقولة "وطن ثابت الانجاز"، نهائيٍ كما يقول دستورنا الجديد، يصبح للسياسة عندنا بوصلة ومعنى تبتغيه. وما عداه يغدو ما دون السياسة الكبرى، أي ما دون الشأن العام ومرادفه في الترجمة هو: ما دون الجمهورية؛ هذا "الما دون" الفئوي الطائفي او المناطقي، العشائري العائلي او الطبقي. خطورته تتفاقم بقدر ابتعاده عن الجمهوري الشمولي.
في منتصف ثمانينات القرن الفائت، في إطار "الحروب الملبنَنة" بأسيادها الخارجيين وفَعَلتها البلديين، المتمادية تدميراً وقتلاً وتهجيراً، والمقطِّعة الأرض بالحوجز الميليشياوية، والمهددة للجمهورية اللبنانية المستقلة بالانحلال والاحتلال والتفتيت، ردُّنا كان لقاءً ثقافياً شعبياً مؤكداً على محوريَّة الاستقلال، استقلال الدولة اللبنانية الواحدة، عبر شهادات متنوِّعة من مواطنين متنوّرين من كل القطاعات المهنية ومن مختلف الاتجاهات والتيارات. سميناه حينذاك: شهادات في الاستقلال. لقاء ثقافي بالجمهور يتمُّ في اللحظة نفسها وتحت العنوان نفسه وللغايات الوطنية عينها (مع الاشارة الى ذلك علناً)، في أمكنة ثلاثة من لبنان عزلتها عن بعضها الحواجز الأرضية: في انطلياس في "الحركة الثقافية"، وفي طرابلس في "الرابطة الثقافية"، وفي بيروت العاصمة في "ندوة الدراسات الإنمائية".
أماكن ثلاثة. زمان واحد. دلالة وطنية واحدة، "ولو كره الحواجزيُّون". وكان من حماس مؤسس "ندوة الدراسات الانمائية" الدكتور حسن صعب ان حوَّل هذا النشاط الى مؤسسة موسَّعة أطلق عليها أسم: "الهيئات المتعاونة من أجل استقلال لبنان ووحدته وسيادته وإصلاح نظامه السياسي" التي اصدرت توصياتها لاحقاً في مؤتمر صحافي عُقد في بيروت في 28 شباط 1989.
لكل مرحلة همومها الاستقلالية، الداخلية الأمنية والمعيشية، وفي محيطها الاقليمي والعالمي وأزماته المتلاحقة، نحيطها في هذه المرحلة بنخبة متنوّرة متنوِّعة، وبعقلانية أيضاً وخصوصاً باتت اليوم أكثر ندرةً. مقاربات فرديَّة، إلاَّ أن جمهعا المضمر يذهب باتجاه استقلال أكثر وفاءً لمقولته الأصلية ولمعناه المعجمي، وأكثر انغرازاً في وعي مواطنينا اللبنانيين. هذا الوعي الذي يتوحَّد، على تنوُّعه الغني والنموذجي، في رحاب ثقافة الحرية والديمقراطية التي ترفد لبنان الوطن، وطننا، والثقافة العربية الحديثة، كما نطمح، بقيمة ذاتية وانسانية متعاظمة.
د. انطوان سيف
الأمين العام للحركة الثقافية - انطلياس
من الاستقلال إلى التحرّر
عامة كان التحرّر سبيلا إلى استقلال الشعوب، أما بالنسبة للبنان فإن الأمل هو في أن ينتهي الاستقلال يوماً إلى التحرّر. فالاستقلال ليس مجرّد عيد أو ذكرى أو احتفالٍ بقدر ما هو تحرّر من قيود مفروضة نتيجة انعدام توازن القوى في وقت من الأوقات بين الشعوب والدول. على الأغلب، قد يمكن القول بداية إن اللبنانيين كانوا، طيلة القرن الفائت، وهم ما زالوا يتوقون إلى ممارسة حقيقية لاستقلالهم سياسياً، وخاصة قانونياً أي سيادياً.
وإذا كان الميل عامة إلى ربط الاستقلال حصراً بالانتداب الفرنسي ففي ذلك إغفال لنهاية استعمار عثماني دام مئات السنين وخلّف إيديولوجيات أو هو شجّع انطلاقها كتلك التي قامت على أركان ولاية سوريا التي نشأت في سياق إعادة النظر في التقسيمات الإدارية في السلطنة العثمانية عند بلوغ هذه الأخيرة مراحل الانهيار النهائي... ومن تطبيقات مثل هذه الإيديولوجيات وريثة أواخر العهد العثماني والستراتيجيات الأوروبية والإقليمية التي واكبت أولى الحروب العالمية ، لا بدّ من ذكر مشروع المملكة الفيصلية من ضمن المشروع الأوسع أي المملكة العربية الكبرى... وكان بالتالي على لبنان الكيان "المستقل" النهوض وتثبيت الذات والمعاناة ودفع الأثمان المرتفعة في مجاراة كما في مواجهة مثل تلك الإيديولوجيات والمشاريع.
والآن، مع بداية القرن الحادي والعشرين، يجد لبنان نفسه أمام تحدّيات كبرى تختلط فيها العناصر التقليدية مع المعطيات الجديدة دولية كانت أم إقليمية. فلبنان اليوم ورث إذن عن الأمس القريب جداً، أي القرن الماضي، إسقاطات التحولات والحروب ذات الأبعاد والوجوه والأدوات المتعدّدة. وهو ما زال يحاول تثبيت استقلاله وسيادته رغم العوائق المتعددة مثل بقايا الاحتلال الإسرائيلي والتدخلات الخارجية المختلفة والوصايات والارتباطات غير المتكافئة سيادياً والمواقف المحلية المنطلقة، أقلَّه في بعضها، من إيحاءات ومرتجيات غير لبنانية بالضرورة...
يمكن وصف فحوى مثل هذه المحاولة على أنها إرادة تحرّر من قيود وظروف وإسقاطات لحالات لم يكن اللبناني هو صاحب القرار الفعلي فيها بحيث لم تكن له فيها الكلمة الفصل التي تعبّر عن مختلف الهواجس والتطلعات... صحيح أنه في المطلق عامة يبقى للتأثيرات المختلفة دورُها في القرارات كما في الإنجازات، لكن لا بدّ من أن تكون القرارات نابعة عن إرادة ذاتية واضحة وليس فقط عن مجرّد ظروف أشمل وقرارات أعلى.
هكذا يأتي الكلام هنا، مع المناسبة الاستقلالية الخامسة والستين، عن إرادة تحرّر استقلالية سيادية دلالة على كون الاستقلال السياسي المعلن لا يعبّر عن الطموحات الكبرى لدولة صغرى في النظامين الدولي والإقليمي. لكننا ندرك تماماً، في الوقت نفسه، أن المعايير المادية الجغرافية السياسية لم تعبّر يوماً وحدها وكلّياً عن التطلعات الجيوسياسية بالرغم من كونها تساهم فعلياً في رسم خطوطها كما في ارتسام نتائجها وانعكاساتها.
ومن المسائل الوطنية المؤرقة حالياً، يمكن التوقف عند مسألة التحرّر سياسياً وقانونياً من الهيمنة والوصاية ومن الاحتلال ومن إسقاطات ورواسب ومفاعيل هذه الظاهرات. بالطبع، قد يبدو الأمر مستغرباً أو مستحيلاً أو حتى غير ضروري. لكن، لا يمكن الاكتفاء بالكلام عن الاستقلال المعلن أو بالتغنّي والاحتفال به.
بالفعل، إن الاستقلال في عصرنا يتلازم مع السيادة، والإثنان يلتقيان مع الحرية والمسؤولية. هذا يعني، برأينا المتواضع، أن "حرية تحديد سياسة الدولة تعني الاستقلال، بينما تكون حرية ومسؤولية ممارسة هذه السياسة تعني السيادة" أو يكون "الاستقلال هو المبدأ والسيادة هي الممارسة"[1]. هذا يعني أن الحرية تبقى في صلب الاستقلال سبيلاً وممارسة. وبالتالي، يبقى التحرّر شرطاً أساسياً لكي يأتي التعاون والتجاور والتحالف بين الدول من ضمن إرادة الأنظمة والسلطات المعنيّة الحرة، كما أنه يبقى هدفاً بذاته للشعوب عامة في ممارستها الاستقلال السياسي السياديّ.
ومن المعروف أن حركات التحرّر في العالم هدفت إلى تحرير الأرض والشعب وفرض الإرادة الوطنية على أية إرادة أخرى خارجية. فإذا تأمّن تحرير الأرض من الاحتلال ولم تتحرّر الإرادة والقرار يبقى الاستقلال منقوصاً والسيادة محدودة. ويبقى لبنان واللبنانيون بحاجة إلى استكمال الاستقلال بممارسة حقوقهم والعمل على تحقيق طموحاتهم الكبرى التي لا بدّ من أن تنطلق من كون أن لا إرادة ولا قرار من خارج إرادتهم وقرارهم حتى في ما قد يكون موضوعياً في مصلحتهم مثل التعاون المتبادل على سبيل المثال لا أكثر...
بالفعل، إن أفضل ما تعمل عليه الدول منذ عقود هو ترسيخ التعاون في ما بينها حتى التكامل في بعض الحالات. لكنه من المعروف أن التعاون لكي ينجح ويستمر ولكي يكون تعاوناً متوازناً لا بدّ من أن يكون نتيجة تلاقي الإرادات الحرّة المختلفة المتضافرة بشكل متزامن ومتجانس ومتوازن في آن واحد. أما التعاون الذي يقوم في ظروف مختلفة، وإن كان مفترض به أن يؤمن مصالح معينة، هو يبقى وليد معطيات وظروف تحمل في طياتها هيمنة واستقواءً.
في سياق التعاون، الظاهرة التي شاعت خصوصاً في القرن العشرين على إثر الحروب المختلفة المدمرة ومع بروز ظاهرة تكامل المعطيات والحاجات، تبيّن نظرياً وواقعياً أن للتعاون : -قاعدتين، الأولى اندماجية التوجّه في أساسها والثانية بسيطة قد تنتهي إلى التكامل إذا توافرت مع الوقت الشروط لذلك؛ -وسبيلين، الأول استقوائي ينطلق من الهيمنة والسيطرة على قرار التعاقد من قبل الطرف الأقوى في العلاقة، والثاني تفاهمي ينطلق من حرية القرار والتعاقد المتوازن في شروطه وظروفه.
حالياً، من أبرز الأمور المطروحة على الساحة اللبنانية، إضافة إلى موضوعي تحرير ما تبقى من الأرض محتلاً من قبل العدو وتثبيت الحدود الدولية، موضوعُ إحياء معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق بين لبنان وسوريا وبالأخص في شقها الأمني كبداية على الأقل. والسوءال الذي يطرح على هذا الصعيد هو : هل يحتمل الاستقلال، وبالأخص إرادة التحرّر المكمِّلة له لزوماً، تفعيل هذه المعاهدة بالذات وهي وليدة وربيبة ما أصبح متعارف عليه محلياً وخارجياً ب"عهد الوصاية"؟ في هذا الظرف، تشير بعض المواقف إلى كون تحصين الساحة اللبنانية يقتضي، إضافة إلى جملة أمور داخلية في المبدأ، أن "تعود الثقة إلى العلاقات اللبنانية السورية وأن تُفتح آفاق التعاون على مصراعيها بين البلدين في مختلف المجالات نتيجة الترابط المصيري بينهما"[2].
يأتي هذا الكلام في سياق إقرار التبادل الدبلوماسي ما بين الدولتين وما يطرحه ذلك على صعيد مسألة "العلاقات المميزة" وما تعنيه من مؤسسات وهيئات مشتركة نشأت عن معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق التي وضعت في ظل ظروف غير طبيعية وغير صحية. ويبدو أن "التنسيق الأمني" هو الذي يتقدّم على سواه حالياً. ولهذا الأمر مبررات متنوعة وعديدة منها الموضوعي الآني ومنها الستراتيجي المستمر. وقد تكون مسألة إبقاء الهيئات واللجان المشتركة المطروحة حالياً بالتوازي مع الاتفاق على إقامة العلاقات الدبلوماسية هي الأكثر لفتاً للانتباه، فالنقاش حولها اكتسب حماوة واضحة...
وهنا، من الممكن القول، بإيجاز مطلق، إن إرادة حذف السنوات القليلة الماضية وكأن شيئاً لم يكن تبدو أمراً مستهجناً. فالبعض يعتبر أن موضوع العلاقات لا يتجاوز "تعديلات" تجعل تلك المعاهدة وما بني عليها من هيئات مشتركة كالأمانة العامة والصلاحيات المعطاة لها مثلاً "تتناغم مع صلاحيات البعثات الدبلوماسية منعاً للتناقض"[3]. في مثل هذا الموقف تناسٍ للظروف والمعطيات التي أطاحت من الجانب اللبناني بالمعاهدة أقلّه واقعياً وعملياً. حتى وإن أتى ذلك من دون إعلان رسمي جازم، ألا يدلّ على أن هنالك مشكلة من الواجب أخذها بعين الاعتبار، ومن الجانبين، كون تناسيها يعني بشكل ما أن يلتئم الجرح على زغل...؟
ألا يبدو منطقياً أن يُعمد إلى العمل على تأسيس علاقات متوازنة و"ندّية" تأخذ "حسن الجوار"، وليس فقط الجوار الذي تفرضه الجغرافية وأواصر القربى، بعين الاعتبار كقاعدة فلا تكون مسألة مجرّد "أخوّة" قد تعني، أو تفسَّر، هيمنة الأخ الأقدر إن هو شاء على الأضعف؟ وهنا لا بدّ من التوقف عند الثقة أو "عودة الثقة"، التي يجب أن تكون متبادلة على مختلف المستويات، وهي الركن المحوري الذي لا يمكن التقدّم بشكل سليم وصحّي بالتغاضي عنه، وهي لا تكون إلا بالتحرّر من المطامع كما من المخاوف.
ربما يكون بناء العلاقات الدبلوماسية بشكل صحيح واحترامُ أسسها وأطرها وقواعدها القانونية المتعارف عليها دولياً الطريقَ الأقصر والأضمن لتطوير علاقة ثقة مجدية للطرفين بالتوازي والتوازن. مثل هذه العلاقة مؤهلة لأن تؤكد وتضمن الاستقلال المحرَّر من شوائب ماضية وتسمح بأن تبنى عليها أفضل وأصلح القرارات السيادية. وفي هذا ما يدعّم استقلالاً ناجزاً.
أخيراً، إن التحرّر يساهم في منع الاستقلال في عالمنا من أن يتحول "حلماً ضائعاً أو إنجازاً يتبخّر" ويحدّ من القلق على الاستقلال. ولما لم يكن الاستقلال يوماً هبة أو مجرّد ذكرى، إن التحرّر وحده يجعله "مكتسباً للتثمير اليومي المستمر" ويجعل "صون الاستقلال من ضمن اللعبة الداخلية بالدرجة الأولى"[4] رغم التداخلات الخارجية المتنوعة.
هذه جلسة للتأمُّل والتبصُّر في أحوالنا، كما قال رئيس الجلسة. لذا أنا أقول انني لا أزال منذ أربعين سنة أتأمل في واقعنا من خلال كتاباتي منذ 2005 استأثرت السياسة وبخاصة الاستقلال بالعلاقة مع سورية وكأنّ هذا الأمر هو وحده يعني الاستقلال. الاستقلال أوسع وأكبر من هذه العلاقة مع سورية.
عندي فكرة أود طرحها عليكم: الاستقلال برأيي هو واجهة، هو انعكاس لاستقلالين: استقلال ثقافي واستقلال اقتصادي. الاستقلال يعني الحرية في أخذ القرار وحدنا.
أنا أتكلم عن الاستقلال الثقافي (وأترك لزميلي الدكتور حمدان مسألة الاستقلال الاقتصادي). هل نحن كنّا مستقلين ثقافياً؟ في الخمسينات من القرن الماضي شعرنا بأننا مستقلون من خلال بعض المؤسسات التي أنشأناها. أما اليوم فالأمور تبخَّرت. سآخذ كلمة "ثقافة" بمعنىا البنى العليا الفكرية والفنية والأدبية...
أتكلم عن المؤسسات الثقافية ومدى عملها من أجل الاستقلال الثقافي:
أولاً: الجامعات في لبنان هل هي دليل استقلالنا الثقافي. جامعاتنا العديدة اليوم تقوم على التبعية للخارج...
ثانياً المؤسسات الطائفية: انثروبولوجياً هي لا تؤكد نزعة الى الاستقلال بل كانت تابعة للخارج، وأصبحت اليوم اكثر تبعية للخارج. في الثمانيات، المجمع الماروني، حاول الاستقلال. ولكن في التسعينات حلَّ السينودس محلَّه، وبعد ذلك نشأ "المجمع اللبناني" الحديث الذي لا يعبِّر عن استقلال لبناني حقيقي...
وهكذا الأمر من حيث الثقافة وما يسمَّى الاستقلال الثقافي عند المؤسسات الطائفية اللبنانية السنيّة والشيعية... كي أبقى في الطوائف الثلاث الكبرى في لبنان. والطوائف الأخرى وضعها مشابه.
نحن لا نسعى الى الاستقلال ولم نسعَ جدياً إليه، لذا لم نحصل عليه. هذه هي شهادتي في هذه المناسبة. وهي شهادة وليست محاضرة. وشكراً.
أن ينتزع بلد ما استقلاله هو هدف يسمو من دون شكّ على غيره من الأهداف. فهو البداية، ومعه تتجسّد ارادة الشعب في ادارة شؤونه بنفسه دون تبعية لمستعمر أو لغاصب أو محتل. لكنّّ التحدي الحقيقي يتمثّل في مدى قدرة هذا البلد على الحفاظ على مقوّمات استقلاله المحقّق، أي على الاستقرار السياسي والتقدّم الاقتصادي والاجتماعي اللذين يحكمهما انتظام عام ومؤسسي في الحقوق والواجبات بين الأفراد، قائم على مفهوم المواطنة.
أيننا من تلك المقوّمات بعد مضيّ 65 سنة على استقلالنا الناجز؟
على المستوى السياسي لا بدّ من الاقرار بعجز وفشل الطبقة السياسية في بناء مجتمع مستقّر ودولة عصرية وموحّدة. فالنظام السياسي اللبناني شكّل حقل تجارب بامتياز لكل الأوهام والرهانات حول احلال توازن طائفي مكان آخر، أو بالأحرى احلال هيمنة طائفية مكان أخرى باعتبار أن مفهوم التوازن الطائفي لا يستقيم على المستوى السياسي الا اذا كان ثمّة طرف أساسي فيه يضطلع بالدور المسيطر. هذا ما كان عليه واقع الحال في الفترة التي سبقت تفجّر الحرب الأهلية، وتكرّر هذا الواقع في الفترة التي تلت الحرب وصولا الى تاريخ اغتيال الرئيس الحريري، ثمّ عاد ليبرز أخيرا - وربما ليس آخرا - في الفترة التي أعقبت ذلك الاغتيال. ولا شكّ في أن التدخلات الخارجية، على اختلاف مشاربها، قد ساهمت في اذكاء تلك الأوهام والمراهنات. وما كان يمكن لحقل التجارب هذا أن يستمر لو لم تتم تعبئة الناس كجماعات طائفية محكومة بعصبيات ما دون دولتية تتغذى من علاقات الارتهان التبعي التي تشدّ تلك الجماعات الى قياداتها الطائفية-الطبقية. وقد أفضى تجذّر هذه العلاقات الى عدم تبلور تشكيلة اجتماعية واسعة وذات تطلعات اصلاحية كفيلة بكسر الحلقة المفرغة لعملية اعادة انتاج مقومات النظام الطائفي السائد.
على المستوى الاقتصادي لم تكن المحصّلة أفضل بكثير. فبعد نحو عقدين على انتهاء الحرب الاهلية لا يزال نصيب الفرد من التاتج المحلي - الذي يختصر بشكل مكثّف العديد من المؤشرات الاقتصادية الأساسية - دون ما كان عليه عشية تلك الحرب. وبالرغم من أن جزءا مهمّا من عملية اعادة الاعمار قد انجز، الا أن فاتورة هذه العملية - وبخاصة الفاتورة المترتبة عن خدمة الديون الداخلية والخارجية التي تطلبها تمويل الاعمار ونفقات أهل الحكم - قد تجاوزت بنسبة كبيرة قدرة البلد والشعب على التحمل، لا سيما أن تلك العملية قد تزامنت منذ عام 1993 مع سياسة للتثبيت النقدي كرّست استقرار معدلات الفائدة على مستويات مرتفعة نسبيا، وسهّلت بالتالي للمقرضين اقتطاع جزء وفير من الفائض الاقتصادي في شكل ريوع تمتص جزءا من الاجور والأرباح. هذا مع العلم أن عملية الاعمار قد ركّزت الى حدّ كبير على اعادة تأهيل وبناء مرافق البنى التحتية، من دون ايلاء اهتمام كاف للنهوض بقطاعات النشاط الاقتصادي الأساسية، وبخاصة الرراعة والصناعة والنشاطات الخدمية ذات القيمة المضافة العالية. وقد انطوى ذلك على خلل اضافي في الهياكل البنيوية للاقتصاد المحلي، وهو الأمر الذي تجلى في تزايد ضمور الوزن النسبي لقطاعي الزراعة والصناعة في الناتج المحلي القائم - بحسب ما تشهد عليه نتائج المحاسبة الوطنية اللبنانية - في مقابل توسّع وزن القطاعين العقاري والمصرفي- المالي.
من الطبيعي أن تنعكس على المستوى الاجتماعي محصلة المشهدين السياسي والاقتصادي. فقد اتجهت "الطوائف"، محفوزة بالبنية الهشّة والملتبسة للدولة اللبنانية، نحو بناء شبكات للأمان والحماية الاجتماعية خاصة بها. وغالبا ما تحقّق ذلك عبر التمويل الطوعي وأحيانا القسري المؤمّن من جانب الدولة نفسها تحت صيغ شتّى بما في ذلك نظام علاقات المحاصصة وتبادل المنافع بين أطراف النظام. وهذا ما عزّز قدرة التشكيلات الطائفية المسيطرة على فرض التعامل مع الناس كرعايا تابعين لهم وليس كمواطنين أحرار متساوين في الحقوق والواجبات تحت سلطة الدولة المركزية المدنية والواحدة. وقد سعت هذه التشكيلات الى استغلال قدرتها على التصرّف بالمال العام لهذا الغرض، لتكريس سيطرتها على "جمهورها" بصفته جمهورا طائفيا يخصها. وبالرغم من ارتفاع انفاق الدولة مؤخرا على الخدمات العامة - لا سيما خدمات الصحة والتعليم الرسمي و"الرعاية" الاجتماعية التي تستهدف الحالات الخاصة - الا أن مدى فعالية هذا الانفاق وما يصل منه تحديدا الى أصحاب الحقوق، بقي موضع شك ومساءلة على نطاق واسع. وعبر تفاعل النتائج المترتبة عن تعاظم ظاهرات الغلاء والتضخم والتشوّه الضريبي والبطالة واختلال سوق العمل وضعف الاجور ونظم التامينات الاجتماعية العامة، تساقطت شرائح واسعة من الطبقة الوسطى خصوصا في صفوف الاجراء، وارتفعت معدلات الفقر المديني والريفي على غير صعيد. وفي مواجهة هذه الأوضاع المتردية، جرى استسهال الترويج الرسمي والاهلي للهجرة كأداة لتجاوز الهريان المتفشي في النظام الاجتماعي.
ان استعادة معاني الاستقلال ومقوماته تكون بالتصدي الناجع والمترابط لهذه المشكلات كافة، بدءا من المستوى السياسي ووصولا الى المستوى الاقتصادي-الاجتماعي. والعبرة ليست في توصيف عناوين ومضامين المعالجات التي تطال هذين المستويين، وهي عناوين ومضامين باتت معروفة ومحدّدة على نطاق واسع. بل العبرة هي في توفير الشروط المؤاتية لولادة خلطة من القوى الاجتماعية غير الطائفية، القادرة على بلورة وتجسيد مشروع مستقبلي للاصلاح. واذا كانت أجزاء مهمّة من الحركات النقابية والشبابية ونقابات المهن الحرّة ومنوسطي المنتجين وصغارهم، اضافة بالطبع الى التشكيلات السياسية غير الطائفية، مرشّحة لأن تكون في عداد هذه القوى، فان دورا أساسيا في هذا الاطار يبقى ينتظر الجمهور الواسع من المثقفين ممن انكفأوا ربما لسبب أو آخر، ولكن من دون أن يغادروا مواقعهم أويلتحقوا بشكل ذيلي بشبكات المصالح الاقتصادية والمالية والاعلامية و"الثقافية" التي تدور في فلك اصحاب السلطة والمال داخل البلد وخارجه.
يسرني جداً ان اكون في رحاب "الحركة الثقافية" في انطلياس، وأن أساهم من على هذا المنبر، مع مجموعة متميزة من المفكرين الطليعيين في طرح الافكار وفي التأمل والتبصّر وتقديم شهادة بمناسبة استقلال لبنان. ومع ان مكان عملي وسكني هو في رأس بيروت على الطرف الآخر من هذا الشاطئ الجميل، فإن انطلياس على امتداد الذاكرة، من حركة عامية انطلياس الى الحركة الثقافية فيها، تبقى في القلب، وتبقى بشكل أخص ذكرى المبادئ والآمال التي اطلقها وناضلت من أجلها نخبة من قادة الحركة الطلابية في الجامعة اللبنانية في اواخر الستينات ومطلع السبعينات من القرن الماضي - تبقى ذكرى هذه المبادئ والآمال حيّة في وجداني ينعشها بشكل مفرح وجودي اليوم على هذا المنبر لطرح الأفكار والتأمل والتبصّر.
ولقد تغيّرت أشياء كثيرة منذ تلك الأيام - أيام الستينات والسبعينات من القرن الماضي: الجامعة اللبنانية تغيّرت كثيراً وتمزّقت الى اربعين فرعاً أو أكثر. وإلى جانبها نمت جامعات ومعاهد أخرى كثيرة من كل الأشكال والالوان يبلغ عددها اليوم هي أيضاً أربعين او أكثر. وبين هذه وتلك، وفي كلّ اتجاه، وقعت الحرب، حرب الخمسة عشر عاماً. والحرب وقعت ثم توقفت، ولكنها لا تزال مستمرّة.
كان منظراً بهيجاً عشية عيد الاستقلال حينما أطلق فخامة رئيس الجمهورية نداءه امام مائة وخمسة وستين شاباً وشابة من مختلف الجامعات، قائلاً "لنبدأ فوراً ومعاً ورشة الإعمار ولننتقل بسرعة من واقع السلطة الى واقع الدولة" (النهار 21/11/2008). لا شك ان رئيس الجمهورية بدماثته ورفعة خلقه رغب ان يتحاشى استعمال الكلمة الجارحة هنا، ولكنها الكلمة الصحيحة والدقيقة، وهي التسلّط فيدعو الشبان والشابات الجامعيين كما المواطنين جميعاً الى الانتقال بسرعة من واقع التسلّط، لا السلطة، إلى واقع الدولة.
دولة الرئيس برّي أيضاً، وفي اليوم نفسه، وقف عشية يوم الاستقلال مخاطباً مائة وثمانية وعشرين طالباً وطالبة ينتمون الى مدارس مختلفة من لبنان في برنامج "برلمان الشباب - نائب ليوم واحد" قائلاً لهم: "إن وجودكم يفتح الباب على عيد استقلال لبنان غداً... وقد تحررنا من واقع الأزمة السياسية التي عصفت ببلدنا، وكادت ان تجعله ينقسم عمودياً. وهو امر لن يتكرّس بالرغم من محاولات البعض..." (النهار 22/11/2008).
أيضاً دماثة الرئيس بري وحنكته جعلته يحترز في الكلام، فأدخل على عبارته المهمة كلمة "كادت": الأزمة السياسية التي "كادت" ان تجعل بلدنا ينقسم عمودياً.
لكن هذا الاحتراز لم يبدُ ضرورياً أو مناسياً عند اعلان نتائج دراسة ميدانية في الوقت نفسه تقريباً. فقبل يوم او يومين من عيد الاستقلال، عُقد في قصر اليونسكو حفل برعاية معالي وزيرة التربية بهية الحريري، بدعوة من برنامج الامم المتحدة الانمائي ووزارة التربية، لإطلاق دراسة بعنوان "التربية والمواطنة" كجزء من التقرير الوطني للتنمية البشرية في لبنان. والدراسة قامت على مسح آراء طلبة الصف التاسع في لبنان وأفكارهم. مديرة المشروع الدكتورة مهى يحيى لم تتردد في ان تعلن ما توصلت اليه الدراسة من استنتاجات فقالت: "إن قدراً أكبر من القلق هو ان الانقسامات العمودية الحادة على اسس طائفية في المجتمع اللبناني تربّي جيلاً جديداً من الشباب اللبنانيين يتجذّر حسّه الوطني بعمق في دحض الجماعات الأخرى" (النهار 21/11/2008) أكرر: "يتجذّر حسّه الوطني بعمق في دحض الجماعات الأخرى".
ماذا يمكن للتعليم ان يفعل؟ إلى أي حدّ هو مسؤول عن تجذّر هذا الحسّ الوطني الذي يتعمّق بين طلبة الصف التاسع من اللبنانيين بمقدار ما يواجهون بالرفض الجماعات الأخرى؟ أم ان التعليم بريء من كلّ هذه الآثام. كيف يمكن للتعليم ان يقيم الجسور والروابط بين الانقسامات العمودية، كيف يمكنه ان يساهم في الانتقال من التسلّط الى الدولة؟
الوزيرة بهية الحريري، في حفل اليونسكو ذاته، دعت إلى ما سمّته: "ورشة عملية بين شركاء النهضة التربوية في لبنان... ننتقل من خلالها من نقد الواقع الى تحريك الواقع" (النهار 21/11/2008).
إنها دعوة كريمة من سيدة كريمة بدون شك. الارادة السياسية، الرغبة السياسية، اذن موجودة على الأقل كشعار. وليس للتعليم عذر ولا لأنصاره وللساعين إلى الاصلاح عذر، أكان التعليم تابعاً او متبوعاً.
بالرغم من أن أدراج السيدة الوزيرة مكتظة بالمشاريع والمطالب التي من شأنها، او من شأن بعضها على الأقلّ، أن يحرّك الواقع، فسأغامر من على هذا المنبر وأدلي بدلوي، وأقترح أشياء صغيرة صغيرة، لا على قدر الأربعة والاربعين مليون دولار هبة كريمة، وانما أصغر بكثير - أصغر على طريقة ما ذكرته الدكتورة ندى مغيزل في كتابها الرائع "أشياء بسيطة".
لن اقترح توحيد الكتاب المدرسي في مادة التاريخ، كما جاء في "اتفاق الطائف"، ولا توحيد الجامعة اللبنانية التي اصبحت مندثرة ومخطوفة، ولا تعزيز التعليم الرسمي وحماية التعليم الخاص أيضاً كما جاء في الطائف، وانما أشياء بسيطة لعلّها تساعد، مثل أن:
اولاً: نتوقف عن الاشادة بالحوار، والتغني به والتكلّم عن أهميته وعن احترم الآخر والى ما هنالك، وبدلاً عن ذلك ان نتكلم ونعلّم كيف نمشي في الطريق، وماذا يعني الرصيف المخصص للمشاة، واين نقف واين نسير والى ما هنالك. يُفترض بالمحاور أولاً بأول ان يكون واعياً أن الآخر موجود، وان يقبل هذا الوجود ويفسح له في المجال - خاصة الضعيف، خاصة الذي يختلفون عنك. انا كرجل متقدم في السنّ، اصاب بالدهشة عندما امشي على الرصيف وأجدني وجهاً لوجه امام شاب يمشي او صبية تمشي او مجموعة من هؤلاء يمشون في اتجاهي، فاضطر الى الانحراف الى طرف الرصيف واحياناً الى خارجه لأفسح في المجال، لكن أحداً منهم لا ينحرف وتضرب كتفي احياناً بالاكتاف لكن احداً لا يهتمّ ولا ينظر كأن لا شيء يحدث، كأن لا أحد هناك. أو تأتي سيارة وتقطع الطريق أمامي لتقف على الرصيف، ويترجل سائقها ويمشي بدون ان ينظر وكأن لا شيء يستحق الاهتمام، كأن لا آخر هناك. الحوار مع الآخر واحترام الآخر، كلام لا معنى له. كان ذلك في المؤتمرات الكبرى او في الصغرى ان لم يبدأ من رصيف الشارع، فيعترف كل واحد منا بأنه ليس الوحيد وان الآخر موجود، وان يترسّخ هذا في دواخلنا كطبيعة ثانية قبل ان ندعو من على المنابر بأصوات عالية الى الاعتراف بالآخر.
ثانياً: إلغاء مادة الانشاء من مناهج اللغة العربية واستبدالها بمادة نقد النصّ ومراجعته وتصليحه بدءاً بالصفوف الابتدائية وحتى العليا. الكلام الانشائي مصيبة في لبنان وفي ديارنا العربية بعامّة. الكلام الانشائي باطنه محاكاة وتحايل، وظاهره انتفاخ للذات وتقليد للآخر دون الاعتراف به. بدل الانشاء لنعطِ التلميذ او الطالب نصاً، ولنطلب منه او منها نقده او تصحيحه او ادخال تحسينات عليه، والخروج منه بنصّ افضل، كما يفعل قلم التحرير في المجلات المحترمة. هذا يعوّد التلميذ او الطالب، ليس على استعمال مهارة النقد وحسب وعلى القراءة المندمجة، وانما ايضاً على الشعور بالآخر والاعتراف به وتمثل افكاره واحواله.
ثالثاً: التوقف عن الحديث على ضرورة توحيد الكتاب المدرسي وخاصة كتاب التاريخ، والتوقف عن وضع اللوم عليه لما يصيبنا من آثام. توحيد الكتاب المدرسي لن يكون له فائدة، هذا بالاضافة الى انه سيكون، إذا ما توحّد، لا طعم له ولا رائحة. الأهم منه بكثير تسهيل اختلاط التلاميذ والطلاب (والأساتذة) في المدرسة الواحدة "عبر الانقسامات العمودية الحادّة". بدل تشجيع ثقافة الإعاشة والإتكال على الآخر. كان ذلك في الداخل او الخارج، تشجيع السلوك الذي يساهم في اختراق الانقسامات العمودية في البلاد - عن طريق المنح لقاء الالتحاق بالمدرسة من اللون الآخر، او نقل الطلاب مجاناً من مكان لآخر، أو اختراع برامج وأنشطة مشتركة في مناطق حيادية او مشتركة بين عواميد الانقسامات وبين المدارس على انواعها، الرسمي والخاص.
هذه اقتراحات او افكار بسطية اطرحها في هذا اللقاء الجميل، على أمل ان تفتح أمامنا حلولاً من نوع جديد لمشكلات قديمة في التعليم، لعلها تنجح في إقامة الجسور والمعابر وفي تمتين الروابط بي اللبنانيين عبر الانقسامات العمودية وتنقلهم من آفاق التسلّط الى رحاب الدولة، وتفتح آفاقاً جديدة من الآمال لهذا البلد المعذّب.
شهادة في الاستقلال من منظور المجتمع المدني
زياد عبد الصمد
المدير التنفيذي لشبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية والامين العام للجمعية اللبنانية لديمقراطية الانتخابات
تمر ذكرى الاستقلال هذه السنة ولبنان يواجه منعطفات تاريخية تضعه امام احتمالات خطيرة.
اول هذه المنعطفات هي الازمات الدولية ذات الابعاد الثلاثة: المالية والاقتصادية، والتي تشير اكثر التقديرات تفاؤلا الى ان المنطقة العربية ستتأثر بها وقد لا يكون لبنان بمنأى عنها. وازمة الغذاء التي يتوقع أن تتفاقم خلال الاشهر المقبلة بما يهدد الامن الغذائي في معظم بلدان الجنوب، لاسيما تلك التي لا تملك السيادة على الغذاء كلبنان. وأزمة تغير المناخ التي تهدد التنوع البيولوجي ونوعية الحياة والانماط الاستهلاكية.
أما اقليمياً، فتحتدم الازمات في فلسطين والعراق وتزداد تعقيداً، كما تشتد وطأة النزاعات المذهبية بين تطرفين يكادان يطيحان بقوى الاعتدال.
وتراوح الازمة الداخلية مكانها في لبنان، وهي بلا شك انعكاس للوضعين الدولي والاقليمي، الا انها ناتجة ايضا وفي الاساس عن ضعف بنيوي غير قادر على ادارة التناقضات المحلية.
وبعد مرور 65 عاما على استقلال لبنان، وعلى الرغم من نجاحات عديدة حققها المجتمع المدني اللبناني في مراحل ومنعطفات تاريخية عديدة وبمختلف مكوناته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الا انه فشل في تأسيس نظام ديمقراطي ثابت وبناء المواطنية الحقيقية. ولعل احداث السنوات الاخيرة، حيث ساهم المجتمع المدني بفاعلية في صيانة الاستقلال والسيادة والوحدة الوطنية ومنع الانزلاق الى الحرب الاهلية، تؤكد على تفوق المجتمع السياسي التقليدي المطيّف وعلى قدرته على اجهاض اي خطوة اصلاحية تقدمية تساهم في تخلص الوطن من سيطرة الاقطاعيات السياسية والتقليدية فيه، وبالتالي الخروج من دوامة النزاعات الطائفية والمذهبية.
لبنان الذي نريده، هو لبنان العربي الديمقراطي المتنوع، لبنان لكل ابنائه ومواطنيه والمنفتح على محيطه وعلى العالم الخارجي. لبنان كامل السيادة على اراضيه كافة، لبنان الحر من اية قيود داخلية وكل ارتباط خارجي. الا ان ذلك لا يتحقق الا من خلال التأسيس لمواطنة فاعلة وشريكة تبنى على اساس عقد اجتماعي جديد في دولة الحق والقانون ووحدة المؤسسات حيث تسود العدالة الاجتماعية.
ان اولى العقبات التي يواجهها المجتمع المدني في مواجهة هذه الرؤية هي طبيعة النظام العالمي الراهن الذي يلقي بظلاله ويفرض شروطه على السياسات الوطنية، مستخدماً ادوات متنوعة. انه المصدر الاول لانتهاك استقلالية وسيادية القرارات الوطنية في ظل حاكمية تديرها مؤسسات دولية لا تتمتع بالديمقراطية والشفافية والمساءلة والمحاسبة.
فالسيادة والاستقلال الحقيقيَّيْن لا يُبنيان الاّ على اساس "الملكية الوطنية للقرارات السيادية" بشكل غير مجتزأ وعلى كل الصعد. كما يقومان على مبادئ المواطنة والقدرة على صياغة الخيارات الوطنية انسجاما مع رؤية وتطلعات ومصالح واولويات المواطنين. ولعل السياسات والخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي تؤدي الى الرفاه والعدالة واعادة توزيع الدخل هي من ابرز مؤشرات السيادة.
إلاّ ان النظام العالمي الراهن يمتلك من الادوات ما يكفي لتقييد حرية الخيارات الوطنية. لاسيما من خلال الحاكمية العالمية ذات المعايير المزدوجة. فمن جهة، نراها تروّج لسياسات الليبرالية الجديدة واتفاقيات تبادل تجاري غير عادل، ومن جهة ثانية، تعطي البعد الامني مفهوما ضيقا على حساب حقوق الانسان السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وعلى حساب الاستدامة البيئية والمساواة في النوع الاجتماعي. وبالتالي، فان المحافظة على السيادة والاستقلال لا تتم الاّ من خلال تحصين الاستقلال والسيادة والوحدة الوطنية في نظام وطني وبنية داخلية تستطيع مواجهة تحديات هذا النظام العالمي.
لقد فشل نظام الطائف (الجمهورية الثانية كما يحلو للبعض تسميته) في بناء دولة الحق والقانون وفصل السلطات وبناء المؤسسات الدستورية والسياسية والادارية، مؤسسات تقوم على مبدأ المشاركة والمساءلة والمحاسبة والتداول السلمي للسلطة. لقد فشلت جمهورية الطائف في الغاء الطائفية السياسية كنظام حكم اثبت عدم استدامته وعجزه عن ادارة الاختلاف والتنوع وحل النزاعات بشكل ديمقراطي.
هنا يأتي دور المجتمع المدني، حامي الحقوق وحارس الحريات والمدافع عن السيادة والاستقلال. ان المجتمع المدني هو المجال الواسع الذي يفصل بين آليات السوق الفاحشة ونزوات التسلط لدى الحكم، وهو لعب ويلعب دورا موحدا وجامعا على اساس احترام حرية المعتقد والاختيار والتعبير، كونه الاطار الذي يجمع كل الحركات التي تعبر عن مختلف الحالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ولا يوحّدها، لا بل يحافظ على اختلافها وعلى تنوع مصالحها واهدافها. المطلوب من المجتمع المدني في لبنان أن يعمل من اجل الغاء التمييز المخالف للدستور بين ابناء المجتمع الواحد، وتعزيز دولة المؤسسات الديمقراطية، المكان الطبيعي للحوار وللاختلاف وللاتفاق.
ان تحصين الاستقلال وتعزيز السيادة وتمتين الوحدة الوطنية لا تتم الاّ من خلال دولة الحق والقانون، دولة المؤسسات الديمقراطية، وهذه هي مهام المجتمع المدني، فإما أن يأخذ زمام المبادرة لتحقيق ذلك، وإلاّ بقينا رعايا في ظل حكم الطوائف والمذاهب والاقطاع السياسي.
1- من محاضرة لنا حول : مفهوم الاستقلال في العصر الحاضر، بتاريخ 27 أيار 1993، في استقلال لبنان وتحدّيات المرحلة الراهنة، الحركة الثقافية- أنطلياس، 1993.
3- من مقابلة للأمين العام للمجلس الأعلى اللبناني-السوري نصري خوري، مجلّة البناء، العدد 1105 بتاريخ 15 تشرين الأول 2008.
2- راجع المحاضرة المذكورة أعلاه حول : "مفهوم الاستقلال في العصر الحاضر" في استقلال لبنان وتحدّيات المرحلة الراهنة.