توقيع د.أنطوان معلوف كتابه "المدخل الى المأساة والفلسفة المأسوية"
الحركة الثقافية _ انطلياس في الرابع عشر من نيسان 2010
كلمة الأب جوزف عبد الساتر
المدخل إلى المأساة (التّراجديا) والفلسفة المأسويّة
حفنة من تراب جنّة عدن جُبلت بأنامل الرب، وبنفح من روحه، تجسّم بين يديه الإنسان، ـ رجل وامرأة ـ صورة مثله ومشروع ألوهة، مشروع أبد في زمن، زمن لا ينتهي وعيد دائم لا يعرف المأساة. تلك هي عناصر المسرحية، حدودها الكون متّسع، والجنة مسرح، وأنغام الملائكة خورصها، وأطياب الجنّة ديكورها، وجمهورها الأنا والذات حينها، وبعدها فإنسان كل زمان ومكان، أي الحاضر أبدًا، عنوانها: مأساة أو المأساوية، خاتمتها: حياة أو موت (الكاثرسيس الفيثاغورية أو الذيثيرمفوس ـ الزارـ).
حدثٌ خرّب كل هذا العمل وأفقد الانسان الانسجام والتناغم مع الذات (العطايا بالفطرة ـ (les dons prenaturels، وحرمه التمتّع بصحبة الرب الذي عصاه، طائعًا شرًا أشقاه، فكان مأساة، وتولّدت المأساوية. فنتج الحدث المأسوي؛ "وهو يثير في النفس ما يسمو على المشاعر العاديّة حزنًا أو أسفًا، ويجري في ديمومة احتفالية من غير نسيج الزمن العادي، ولا يملك الدخول إليه إلا من مَلَك حسًّا مأساويًا، أو صدفت مشاعره عن رؤيا مأسويّة...". فكان التساؤل: هل المأسوية هي تجريدabstraction لأحداث مأسوية؟ (النهج الفلسفي الأرسطوطاليسي)، أم أن المأسوية الموجودة في عالم المثل توَعّي فينا الحدث المأسوي؟ (النهج الفلسفي الأفلاطوني). أمر شغل العالم والكون قاطبة فكرًا وفنًا وعلمًا وشعرًا ومسرحًا واحتفالا طقوسيًا ودينيًّا منذ أقدم العصور؛ بدءًا بالحضارة اليونانية، حوالي خمسة وعشرين قرنًا ق.م.، مرورًا بالحضارة الشرق أوسطية، بلوغًا إلى الحضارات الحديثة.
ويبقى الانسان هو المحور؛ فالحدث المأسوي لا يمكن تجاهله إنما تجاوزه وإلا يغرق الانسان في المأساة الحقيقية وهذه هي المأسوية، كمن يخاف من خوفه، وهذا هو الخوف بالحقيقة، أو كمن يتعب من تعبه، وهذا هو التعب بالفعل. "ولا يقف في وجه المأسوية مثل الايمان بالعناية الإلهية، حين ترى الله حاضرًا قبل الخواء، وتاليًا، قبل "الكون"، من الأزل إلى الأبد، "ضابطًا الكل"، حتى قيام الساعة، أو يوم القيامة، عادلا، يجزي المحسنين خيرًا، والمسيئين عقابًا إن لم يكن عاجلا، وهم على الأرض، فآجلا بين جحيم أو نعيم، جاعلا الشرّ و"الوقائع الرهيبة" امتحانًا يختبر به إيمان عبيده به، فإذا هي، لو ثبت العبد على إيمانه، سبل خلاص ورحمة". "ولكن الإيمان بالعناية الإلهية لا يمنع المأسوية من أن تُطلَّ برأسها بين حين وحين...".
"كان موت أخي هو الحدث المأسويّ.. وقد كان يصدف أن أقول أحيانًا: "هنيئًا لمن لم يعرف مثله في موت قريب، أو خيانة حبيب، أو ظلم صديق، أو حرب قويّ ظالم على ضعيف صاحب حق"، ولكنّي سرعان ما كنت "أستدرك" فأرى أن موت أخي وحده جعلني أسبر أعماق المصير البشري، أعماق حقيقة الكون، وأعطاني الشجاعة والصدق واليقين، أعطاني الوعي الحقيقي، أو الوعي المأسويّ".
دكتور أنطوان فكأني بك، لا كمن يجيب، حقّا قام، على تحية المسيح قام، بل أيضًا، وأنا شاهد على ذلك. والسلام.
الأب جوزيف عبد الساتر
رئيس دير مار الياس انطلياس والحركة الثقافية
"المدخل إلى المأساة والفلسفة المأسوية" للدكتور أنطوان معلوف
مكتبة لبنان ناشرون، 2009 (373 صفحة)
أنطلياس 14-4- 2010
جاء في الصفحة 144 من الكتاب: كيف تتجلّى المأسوية في وعي الإنسان؟ وقد صُدّر الجواب بالآتي: "لابدّ من القول بأنّ من لم تتجلَّ له المأسوية، وتجرحْ وعيه، وتبقَ جرح وعيه، لا يجوزُ له التكلّمُ عليها. وهو إن حاولَ ذلك بانَ عيه الافتعال." - انتهى –
وتحاشيا لقراءة افتعالية، رأيت إلى منتج الكتاب وهو يخطّ مكتوبَه، مشبوحا بمأسوية المآسي، مسكونا بآبائها الطيفيين: إسخيلوس وسوفوكل وأوريبيد، مشحونا بمانيّا التطرّف والتخطّي، معلّقا بين أرض وسماء، ممزقا بين آلهة وعالم، ساعيا للقبض على الأصلِ الحقيقي الثابت في منبعه الأوّل، معانقا الحقّ والعدل في مطلقهما، متجاوزا المهمّشات، مُقدِما باندفاعٍ لا يصدّ. ومن ثمّ، وضعت ذاتي في دائرة نفوذ كتابه حتّى سكنني، وأدّعي أنّه هو الذي يتكلّمُ فيّ، أو يتكلّمُني وهو حالٌّ فيّ... فاعذروني عن قراءةٍ سريعة قد تكون سيّئة، بخاصّة أنها تتقدّم إلى الواجهة بديلا عنه، لتحيا من موتِه المذرّر إذ تشظّيه وإن مؤقّتا، هو الذي لا يعدلُه بين كتب المآسي في لغتنا العربية كتاب.
فما الذي يفصح عنه؟
أوّلاً، تماهي العقلِ الذي أنتجَه مع العقل اليونانيّ ، فالدكتور معلوف من جيلٍ مثقّف في طور الانقراض، ومن قلّةٍ في ثقافته المأسوية الغربية والمشرقية، وفي تكوينه الذهني الهلليني. هدف إلى تقديمِ المأسوية، من دون حصرٍ وتحديد يقيّدانها، وهي المنفلتةُ المتخطّية كلَّ الحدود. وإذا به يفكّكُها إلى عناصرها، في عمليةٍ ارتداديةٍ يسعى منها إلى بلوغِ مكوّنها الأصلِ في نقائه، ثمّ يعيدُ تركيبها مستخدما في خطواتِه الاستدلالَ بالحذف والجدل، فتنمو بين يديه وتتنامى جدليا؛ إذ هو يقولُ ما ليست هي وصولا إلى ما هي، وما هو منها وما ليس هو منها، مسوّغا وموضحا: ما فيها من روح الاحتفال، بدءا من الذيثيرمفوس، وانتهاء بمآتم الأبطال، وما ليس منه. وما يمكن أن يكون فيها من الزار المصري ومن عاشوراء، وما ليس منها. ما فيها من ديونيزوس وروحِ التخطّي ومن المحاكاةِ والتمثيلِ حتّى الحلول وما ليس منها. ما فيها من الكاثرسيس المطهّر وما ليس منها. ما فيها من فعلِ الآلهة ولأقدارِ والمصائر وما ليس منها. وما فيها من الصوفيةِ ومن العودةِ الخالدة وما ليس منها. وما يقربُ مثوسَها من الخرافة والأسطورة وما ينافيها. ما فيها من الرؤيا والبطولةِ وما ليس منها. وأيُّ حدث يمكن أن يكونَ مأسويا أو لايكون؟ وأيُّ زمن هو المأسوي أو لا يكون؟
وإذ تجمّعت لديه عناصرُ المأساةِ النظيفة، أعاد بناءها الهرمي، واعتبر نموذجَه مثالا، انطلاقا ممّا اصطفاه من آبائها. وقد لحظ تحوّلاتِها وانزياحَها عن الأصل، وانحدارَها نحو الدراما وليدةِ الزمنِ البرجوازي، بدءا من الانزياحِ عن روحِ الاحتفال، انتهاء بالتخلّي عنه وعن روح التخطّي. وبذلك التشكّلِ النموذجي وزن شهرزاد الحكيم، وقدموسَ عقل وجادَه...
ثانياً، معالجة عدد من الإشكاليات وطرح وطرح الفرضيات المناسبة لكلّ منها:
ومن الإشكاليات البارزة في الكتاب: الأصل/ التوابع- فعل الآلهة والأقدار/ فعل الإنسان- الحتميات والضرورات/ الحرية والاختيار الإنساني – المطلق/ النسبية- الحسم/ اللاحسم- المفارقة/ الحقيقة- الأسطوري والخرافي/ الميثوس المأسوي- الحقّ والعدل/ التسويات- المأسوي/ العالم- التطرف والتخطي/ العقل والاعتدال- المأساة/ الدراما- البطولة/ الوعي المأسوي- الكاوس/ الكوسموس... وقد طرح لكلّ إشكاليةٍ فرضيةً ، همّه في كلّ حين أن يقدّم معرفة ناصعة بالمأساة، ودور الإنسان القاطع فيها ناحيا نحو العلمانية...
وجوهرُ المأسوية هو الميثوس. والميثوس رمزٌ عن حقيقةٍ حيّة يعانيها البشرُ في كلّ زمان ومكان، واختصارٌ رائعٌ لتصوّرات الإنسان وتطلّعاته واعتقاداته التي تؤلّف رؤيتَه إلى الكون والمصير، وإشباعٌ لرغباته واشتياقاته الإنسانيةِ العليا.
والميثوسُ المأسوي يرفضُ الكأنّية، أي يرفضُ التظاهرَ والقناع والمخادعة والصلحَ والوسطَ والتسويات. يطلبُ أن يكونَ كلّ شيء أو لاشيء. أن يكونَ أو لا يكون. من هنا، فالبطلُ نفسه ميثوس؛ إذ يختزلُ تصوّرَ الشعبِ لأرقى نماذجِ الإنسان، في رؤيةٍ ديناميةٍ قدرية تتيحُ له مجالَ طبعِ الكون بطابعه الإنساني. والميثوسُ المأسوي أتمُّ أنواعِ المثوس تعبيرا عن الوضع البشري. ومن المثوس: أبطال المآسي، وممّا نعرفه، اليوم، ميثوسُ الشهيد، وميثوسُ الحروبِ وطقوسِها الاحتفالية، وميثوس أرضِ الميعاد، وميثوس الإنسان المتفوّق (= نيتشه) ...
ومع أنّ الرؤيا المأسويةَ تدرك أنّ النهايةَ تحصلُ وفقاً لرغبةِ الأقدارِ والآلهة، إلاّ أنّ البطلَ يندفع إلى المغالبةِ وتخطّي المقدّر، محاولا اختلاسَ مصيرِه نظيرَ اختلاسِ بروميثيوسَ النارَ من الآلهةِ ومنحِها للبشر، فعوقب. والبطلُ في مغالبتِه تلكْ، يسعى لمعانقةِ الأصلِ الثابت الحقيقي، مع إدراكِه أنّه عاجزٌ ومنهزم. وفي ذينِكَ الانهزامِ والمغالبة مأسويتُه. وهو على الرغم من هزيمتِه منتصر؛ لأنّه يختمُ الأقدارَ بخاتمه. وإرادةُ الآلهة والأقدار لا تلغي إرادةَ البشر: أورست لم يخترْ أن يكونَ في وضعِ من يقتلُ أمَّه. لكنّه اختار ثأرَه. فقد طبعه القدرُ بقتلِ أبيه، لكنّه عادَ فطبع القدرَ بقتلِه أمَّه. وهكذا، كان قدرُه أن يكونَ ابنَ القتيل والقاتلة، وبما أنّ عليه في النهاية أن يعيشَ بكرامة فقد اختارَ متحدّيا القدر...
وكم نحن اليوم، في ظمأٍ إلى أورست يشهرُ سيفَ العدلِ على ما يراه ظلما أيّ يكن مرتكبه، وإلى بروميثيوس يختلسُ نارَ الآلهة حبّا بالناس، وإلى فعل إنسانيّ يواجه فعل الأقدار.
والميثوس المأسوي يدرك أنّ الإنسان مقيّد بالحتمياتِ والضرورات، لكنّ بطلَه الخارق المسكون بروح التخطي يندفع إلى فرضِ حريتِه عليها، فيتعانقُ في داخله القدرُ والحرية عناقا رهيبا، ما يمنحُه شرف أن يكون إنسانا، وطبعا، ليس منه إنسانُ زمنِنا، إنسانُ اللامبالاةِ والسلعة.
وفي المأساة عودةٌ للأصل. والمأسويةُ هي الأصلُ لا المأساة، نظيرَ ما الموتُ هو الأصل لا الجنازةُ ولا الاحتفال. المأسويةُ أصلٌ سبق اعتباراتِ العقل والعلم والفن والنظام والتحديدات. والمأسويُّ في سعيه إلى الوضوح والحسم لا يجد أمامه إلا العالم، وهو عالمُ اللاوضوحِ والنسبية واللاحسم، وهذا الخلافُ الجذري بين المأسويّ والعالم يجعل من كلّ منهما نفيا للآخر...
ومع أنّ المأسوية هي في جوهرها فنّ الحسم، غير أنّها تثيرُ أسئلةً لاجواب حاسما عنها، من هنا مفارقاتها. وسرُّ المفارقة أنّ كلّ قدرة بشرية هي سلاحٌ ذو حدّين؛ فطبيعةُ أوديب أحدثت له منتهى السلطان حين دحرَ أبا الهول، ثمّ هي نفسُها أحدثت له منتهى الهزيمةِ والعار. وكذلك، فقد كان على أورست أن يختارَ بين أمرين كلاهما فاجع: البطولةِ والجريمةِ بقتل الأم والعيش بعدها بطلاً مجرما، أو عدمِ قتلِها والعيش في عارٍ وراحة... ويدعونا العقل، إزاء الرؤيا المأسوية، إلى التساؤل: أكان أورست مذنبا أم بريئا، في ما أقدم عليه من قتل؟ أما كان يجدر به تناسي قتلِ أبيه، أم واجبٌ وعدل أن يثأر له؟ وهل نرى حقّا ما يراه غيرنا باطلا؟ أنطلب البطولة بما فيها من تضحيات وآلهة ندم، أم نطلب السعادة بما فيها من تسويات وتنازلات؟ وهكذا، من مأساة الإنسان عدم وجود جواب حاسم.
وتتجسّد المفارقة بوجهيها في صورة الإله المشبوح على الصليب: إنّه قادرٌ وضابطٌ الكلَّ من جهة، وإنّه المذَلُّ بالقوّة العمياء من جهة ثانية... فكيف لايطرح الوعيُ المأسوي أسئلتَه التي لا حسم قاطعا فيها: فقتل الزوجة/ الأمّ زوجَها أغاممنون عدلٌ في نظرها بوصفها أمّا فجعت بابنتها. وقتلُ أورست أمَّه عدلٌ في نظرِ شاب فجع بأبيه. ويتساءلُ معلوف: أيعني هذا أنّ الحقَّ حقان، أم هو من نصيبِ القاتل والمقتول معا؟ إنّما المأسوي مذنبٌ وبريء في آن.
وإذ يعارك أبطال المآسي أقدارَهم تقهرُهم وتنزل بهم إلى الهاوية، لكنّهم في قهرِهم يعتلون قمّة الحياة، ففي الأعمال الكبيرة تضحياتٌ كبيرة: بالأعمال يقهرُ الإنسانُ القدرَ، وبالتضحياتِ يقهرُ القدرُ الإنسان. وبين العملِ والتضحية، القدرِ والإنسان، تتألّقُ المفارقة المأسوية.
وكلّ هذا من بثّ الكتاب ، وهو قليلٌ من شمسِ هذا المبحث المبهر...
وأمام الأسئلة الكبيرة التي يطرحها كتاب "المدخل إلى المأساة"، أسمح لنفسي بطرح أسئلتي الصغيرة:
فإن لم يكن عندنا وعي مأسوي، فنحن ممتلئون وعيا بكارثيتنا. فلِمَ أيقظ مؤلّفه جرحنا النازف، وأطلق إنساننا الأعلى، ليستيقظ فينا الوعد الطيفي بسدّ نقصان لا يملأه أيّ مأمول؟!...
أنظروا إلينا، اليوم، كيف يسخّفون فينا التفكّر بوصفنا مثقّفين أحرارا غيرَ متمركزين: فإنّ وعينا يبلغ حدّ الانهيار المرضي، حينما يكتشف وجود لعبة سلطوية لمركزيات متنافرة/ متضافرة، متنافرة إيديولوجيا، ومتضافرة بإضفاء جملة من الكمالات المزعومة، على واقعنا المأسوي المتردّي السياسي/ الاجتماعي/ الوطني الذي توغل في إفساده من جهة، وتستمرّ في تجميله من جهة ثانية، خصوصا عندما نجدنا ملزمين بأن نرى بعيني تلك المركزيات رؤيتها، وبتسويغ مأساتنا وتقبّلها وحراستها وتلوينها بلون مستقبل خادع. وبذلك، تعمل تلك المركزيات المتسلطة على إعدام وعينا، وتشييئنا، وامتلاكنا. إنّما في هذا قهر عنفي يردّ إنساننا إلى الصمت عبر حذفنا إيديولوجيا بالامتثال، ومعنويا بالإرهاب، وإنسانيا بالتشييء. ألا تلحظون كيف انحدرت مجتمعاتنا إلى اللامبالاة والغرائزية، فصمتت عن تهميشها، وتنافست على تبجيل مصاصي دمائها، وقدّست مجمّلي موتها، وانحنت أمام مشرّعي اغتصابها وقاتلي أبريائها؟...إنّنا في زمن السادية بامتياز، وزمن اللامعياريةِ وازدواجية القيم، بل الجمع بين قيمٍ متنافرة، زمن انشطار الذات وتبدّدها في اللامعنى: فما الحبّ؟ وما الانفتاح؟ وما الحرية؟ وما الديموقراطية؟ وما السيادة؟ وما الكرامة؟ وما الحقّ؟ وما العدل؟ وما السلام؟... ألم تفقد مفاهيمها الأصلية، لتكتسب دلالات زائفة من المركزيات المتنافرة؟ ألم تزدوج وتتناقض في آن، وتتعانق وتتعايش في كلّ منا، مع الكراهية والتشرذم والحتميات والامتثال والانقياد والذل والباطل والتسويات والعنف؟ وهكذا، نسقط جميعنا في التفاهات ونستريح في نومة أهل الكهف ...
إنّنا لا نملك لمواجهة هذا الوضع سوى الكرنفالية الساخرة، ليس من قاهرينا وحسب، إنّما منّا ومن جرحنا كذلك. وهكذا، شهدنا تجليات العقل العليا، وانحداره إلى اللاعقلانية. فقامت مآس ومآس خطّط الإنسان لإحداثها بأكثرَ ممّا لعبت الأقدار. ومع ذلك، ما عاد لكلّ الكارثيات صدى في الأدب الذي لم تعد له سوى أزمنة المآسي الغابرة، والتلذّذ بكتابة هامشيته. فهل انتهى زمن الأدب والإنسان الأعلى؟
وفي هذا الزمن الكارثيّ، أشرق علينا هذا الكتاب يذكّرنا بعظمةٍ فقدناها لعلنا نستيقظ، فشكرا لمؤلّفه منحَنا كتابَه الرائع.
د. نبيـل أيوب، أستاذ النقد الأدبي للدراسات العليا في كلية الآداب
المدخل إلى معرفة الذّات
صديقي الدكتور أنطوان
قرأت كتابك: "المدخل الى المأساة والفلسفة المأسوية"([1])، أواسط الثمانينيّات من القرن الماضي، عندما كنت أكتب بحثاً موجزاً حول "البروميثيّة في أدب جبران"، نُشر في كتابي: "في أدب النهضة والمهجر"([2]) ولم يكن الحوار قد نشأَ بيننا، بعد. واحتفظتُ يومذاك، بالكلمات الأساسية التي شرحتَها، في مقام نَصِّكَ النقديّ، وأُعجبتُ بطريقتِكَ في تحليلِ المعلومات، وبالجدّ في المعالجة، وبتكثيفِ الأسئلةِ والأجوبة، وبالتواضعِ في تسهيلِ ما هو صعبٌ ومستحيل، وأنتَ تخوضُ في مجالات المأساة والمأسوية، والاحتفالاتِ والتخطّي، وتأخذُ بيد القارئ متوقّفَينِ معاً، أمَام ديونيزوس وغلغامش وأيّوب، وأُوزيريس.. والزّار والعاشوراء، وغيرِها من الوجوه والمشاهد والمواقف والآفاق، مُشيراً الى الرّؤى الديناميّة والأُخرى الباردة، وإلى هويّة البطل المأسوي، وما يُميِّز روحَهُ مِنْ روح الإنسان العادي. ولن أمتدحَ ثقافتكَ والموضوعُ يستدعي لغاتٍ وفلسفةً ولاهوتاً وأدباً ونقداً ولغةً وطاقةً على الفَهمِ استثنائيّةً، فأنتَ الهادئُ ميزَتُكَ في ثورتكَ، وأنتَ الصّامِتُ حلاوتُكَ في بلاغتكَ.
وكان جذّاباً ذاك الالتفاتُ من قِبَلِكَ، تارةً، تحطُّ في بلاد أَسخيلوسَ، المعلِّمِ الدينيّ، وسوفوكليسَ تُشغله مشكلاتُ الأَخلاق، وأُوربيدس في تحدِّيهِ لأخطرِ المعتقدات، وأُخرى تردُّنا إلى حروبِ حضارةِ اليوم، وإلى أزمةِ الحداثةِ وشِعاراتها، وإلى احتفاليّة الموت في بيتكَ وفي قلبكَ، عندما غدا جُرحُكَ جُرحاً كونيّاً، وشعرتَ بأنَّ الكونَ كلَّه مهدَّد([3]). وهذا الوعيُ المأسوي، وهذا الرّبط ما بين الماضي الميثَويّ والحاضر المأسويّ، جَعلني أتذكَّرُ عِبارة ميرسايا إلياد: “on est toujours contemporain d’un mythe”([4]) وأتأمَّلُ في كونِ الشّاعرِ الصّافي، لا ينتمي إلى ماضٍ أو مكانٍ أو زمانٍ لأنَّه شريكٌ في ورشةِ خلقِ العالم، منذ الأزل حتّى الأبد. وقد فتحتُ عَيَنَّي على الجُهدِ الّذي بذلتَهُ ليكونَ كلٌّ منّا بَطلاً يَجْبَهُ قَدَرَهُ، يرسُمُ طريقَهُ بضوءِ عَينيهِ، يَصنعُ زَمانَهُ، يَثقُ بعزيمتهِ وبالارادةِ كي لا يبقى ضحيَّةً وتابعاً، وخارجَ الرّوحِ المأسويّةِ الخلاّقة. إنَّه طريقٌ يحتضنُ الأبطال، ويُعَلِّمُ جَبْهَ الوُحوش في عتمةِ العالم... يكْشُفُ أمامَ أهلِ الغرابةِ والجنونِ والتألُّهِ طاقاتِ الانطلاقِ والتَّحَرُّر والتطهُّر واليقظة([5]).
وذكَّرْتَني، وأنتَ تَتَغَّنى بالمسرح وبرسالته، وبإلهِهِ، وبكونِهِ حَقلاً لاكتشافِ النّفس، والحقيقة التي هربَ نيتشه من وَهْجِها... بغاستون باشلار عندما وَدَّ لو كانَ طبيباًيُعالِجُ أزماتِ النّفوسِ ليَقْتَرِحَ على مرضاه قراءةَ شعر بودلير. فالمسرحُ، والشّعرُ قطعةٌ من روحِهِ، يُشعلُ في الذّات تألُّقَ الحياة، خارجةً على اليوميّ، والمألوف، فتهتزُّ وسَطَ أناشيدِ القصائدِ الكوراليّة، وتَروحُ تَسعى إلى فعلٍ - أُسطورة، إلى الخوض في غِمار أحداثٍ (وليس حوادث)، تَسقطُ معها الأَقنعة، كما المظهر والنِّفاق والمُخادَعَة لصالحِ الجوهر والهُويّة المأسوية المتخطّية([6]). ولعلَّك، بهذه الفلسفة التي تُمَثِّلُ رؤيةً تُمَيِّزُ فِكرَكَ، كنتَ تُمَهِّدُ الطريقَ لإزميلك الجادّ، ولِبَعْلِ بابِلَ، ولعَنْتَرَةَ وعبلةَ، ونجمةِ أَنطاكية، وهي مسرحيّاتُكَ الستُّ التي حَبَّرْتَها بمهارةِ العقل والذّوقِ والخيال، منذ 1970، ولنْ أَجرحَ وداعتكَ بالكلامِ على الجوائز، وبالبُعدِ العالميّ والإشراقات المُمَيَّزة التي واكبتْ عملكَ وشخصكَ، لكنِّي أَتوقَّفُ عندَ قولِكَ :"الكاتبُ المسرحيّ يبقى ثانويّاً إنْ لم يكنْ صاحبَ رؤيا حارّةٍ تتناولُ مصيرَ الكون، ومصيرَ الإنسان، والرؤيا شعر([7])، فأنتَ صاحبُ هذه الرؤيا، يحلو للنّحلِ أنْ يَحُطَّ على رؤوسِ أَصابعك، وحولَ عينيكَ، كما كان يحطُّ على شَفَتَي أفلاطون. وذهبتَ في تعاطُفِكَ مع الآخر، إلى حدِّ القول : "المناخ المأسوي لا يقوم إلاّ متى شعرَ المُشاهد بأنَّه هو نفسه، بشكل من الأشكال، موضوعُ العمل المسرحّي([8])، وشئتَ له أنْ يَشُكَّ، ويعرِفَ ويُقاومَ قَدَرَهُ لأنَّهُ مِنْ دون رؤيا ديناميّة، لنْ يكونَ لحياتهِ معنىً([9]). وقد اجتهدتَ لتحقيقِ ما سمَّاه جيلبار دوران
(gilbert Durand) :
« Humanisme ouvert qui sera l’humanisme de demain, et plus que jamais nous ressentons qu’une science sans conscience, c’est-à-dire sans affirmation mythique d’une espérance marquerait le déclin définitif de nos civilisations. »([10])
أوَ لمْ يَرِدْ في كتاب ميرسايا إلياد « le sacré et le profane »:
« Nous devons faire ce que les dieux firent au commencement. »([11])
ولفتَ نظري ما قلتَ عن الفنّ، في معرضِ تحليلكَ لفحوى المأساة والمأسويّة، فرأيتَ أوّلاً، أنْ "لا قوانينَ صارمةً في الفنّ"...، وأنَّ المسرحيّةَ المأساة يُمكنُ أنْ تتميَّز بالجودة من دون أُصول أَرسطو([12]). ثم مَيَّزْتَ ثانياً، الشّعرَ المأسويّ من خلال اتّحاد القول بالعمل، لا يَنفَصمان([13]). وتوقَّّفْتَ ثالثاً على الجماليّة النّاتجةِ مِنَ الرُّعب الكونيّ، فما يحصلُ مِن كوارثَ في عالمنا، ومِن صراعاتٍ بينَ الخَواءِ والنَّسَق، بين الوحشِ والنّظام، إنّما يَتَحَوَّلُ إلى مادّة تُلْهِمُ الفنّانين، إلى نبعٍ يَنْهَلونَ منهُ الموضوعاتِ المُشتعلة. وفي هذا الإطار، فتسويغُ حربِ طروادةَ الوحيد أنَّها صارتْ مادّةً لرائعةِ هوميروس "الإلياذة"([14])، وهكذا قُلْ عن موتِ بياتريس دانتي، ومصائبِ أيّوب، وخَيْباتِ غِلغامش، فَمِنَ المَراراتِ تَنْهَضُ الإبداعات. لقد شئتَ لنا أَنْ نُدرك، في ويلات الحروب، ملاحمَ مَهيبةً نَجْني مِنها الجمال([15]). وذَكَّرَني ذلك بنصٍّ جُبرانيّ في "المجنون" هو : "في خَيْبَتي غَلَبَتي"، حيثُ يجدُ البطل المأسويّ عُزلته وتفرُّدَهُ، في الخَيْبَة بدلاً من الإنتصار، ويغدو الإنكسارُ أحْلى على قلبهِ مِنْ ألفِ انتصار، وتتحوَّلُ الخيبةُ إلى شجاعة لا تموت، تضحكُ في العاصفة وتقفُ بثبات أَمام وجه الشمس([16]). أولمْ تقلْ أنتَ "إنَّ الفنَّ وحده قادرٌ على تحويل أَفكار الاشمئزاز الناشئة عن رُعب الوجود، وعَبَثه إلى تطوّراتٍ جميلةٍ تجعلُ الحياة ممكنة([17])، أولمْ تَقُلْ أَيضاً "إنَّ الفنَّ تأكيدٌ للإنسان تجاهَ القدر، وتأكيد للنظام تجاه الّلانظام، وللخلق الحُرّ تجاه خلق المصادفة، وللّنَسَقْ تجاه الخواء؟([18]). ثمّ ساوَيْتَ ما بين الشاعر ورجل الدّين، في موقفٍ رابع، وقلتَ إنّهما مُؤَهَّلانِ، أكثرَ من الآخرين، للرقصة الديونيزيّة، لتنيظم الاحتفال، لمواجهةِ الرعب بالجَمال، والقدرِ بالإنسان، والمأسويّة بالمأساة([19]). والمأسويّةُ هذه، لا يمكن وصفها إلاّ بالرمز، بالكناية، بالشّعر، ولأنَّها لا تُشرَحْ فهي جُرْحُ العقل الدائم([20])، لكنَّه جرحٌ لا يخلو من سحر يَدفع باتّجاه الانسلاخ عن جميع بهارج الخارج، وتخطّيها، للالتقاء بالحقيقة في الداخل([21]).
وفي موقفٍ خامس، نصحتَ بتحرير الفنّ عندنا، من تقليدِ فنون الغرب، وبالعودة الى تُراثنا المأسويّ، وبالكفّ عن التطفُّلِ على الحضارةِ العالميّة([22]).وكنتَ في ما كتبتَ من نقدٍ رزين، ومسرحٍ بهيّ، على تألُّقٍ، فكأنّكَ وأنتَ تُحَدِّثُ عن التُّحفة الأدبيّة، سادساً، تُعَبِّرُ لاواعياً، عن نَصِّ ذاتِكَ الّذي جَمَعَ حقيقةً إنسانيّة إلى جمالٍ فنّي، في قِرانٍ بينهما، صادقٍ رائعٍ أَدّى إلى خَلْقِ الميثوس([23]). أولمْ يَلْحَظْ ميرسايا إلياد أنّ الإنسان الغارق في الحداثة يبقى من دون الخيال والميثوس « Un être borné, médiocre, triste, malheureux. »([24])
من هنا أهمّيةُ الموضوع الذي عالجتَ، على صعوبته. وأنتَ توقّفتَ، غيرَ مَرَّة، على المسألة الصوفيّة، في مقام بحثكَ فذَكَرْتَ حالاتِ الجَذْبِ والسُكْرِ والاستنارةِ والرّقصِ والقُدرةِ على كشف الغيب والتنبؤ([25]). وتكلَّمْتَ على المانيّا والتّسامي والانتشاء فوق آلام الوجود، والتطهُّر بالموسيقى، والارتقاء بالانفعالات إلى أقصى مداها لإزالتها([26]). وطرحتَ قضية توحُّد البطل مع المُطلق فيغدو واحداً غير محدود([27]). وفي مقارنة المأسويّة بالصوفيّة قُلْتَ إنَّ البطل المأسويّ يسعى إِلى مغالبة العالم في محاولة لطَبْعِهِ بخاتم الإنسان، في حينِ يسعى الصوفيُّ إلى الغَيبة عن العالم، والانجذاب نحو الله([28]). وفهمتُ مِن سياق الكلام، أنَّ المُجاهدة الصوفيّة نَسَقٌ يُناهض المأسويّة([29]). فهل المقصود أنَّ طريق المُجاهد الصوفيّ، وهو ينأى ليقترب، ويزهد ليملُك، ويُفرغ الذّات من العالم ليملأها بالله، إنّما يَعبُرُ طريقه من دون صليبٍ ومعاناةٍ وآلام؟ أوَليستْ الرحلةُ هنا، معركةً أيضاً، لا تخلو من مشهد الإنسان - الإله المَشْبوح أو المَمْسوح على صليب قيامته؟([30]). أوَليسَ الإنسان الذي يُظَنُّ أنَّهُ يُصَفّقُ سعيداً، مُتهللاً، وَسْطَ أدغالِ الآسِ والرَّيْحان([31]) هو هو يرقصُ باستمرار، رقصة الاحتفال المأسويّ، ويُلَحِّنُ ألحانَ أوجاعهِ، يَنْهَشُهُ الزّمان، ويَهُزُّهُ لهبُ الانتظار، ويعصُفُ به الصّراع الأورفيُّ – الغنوصيّ، ما بين سجنٍ وهواء، نسقٍ وخواء، خيرٍ وشرّ، جسدٍ وروح، غربةٍ وسكينة... وإذا صَحَّ أنّ هُناك عودةً إلى التّجَسُّدِ (التقمُّص) أو عودةً أبديّةً (نيتشه)، فالمأسويّ والصوفيّ شريكان في التَرْكْ والمُواجهة وفي الصَّلب.
لعلَّ هذا الأمر ساعدني، بعد تكريرِ قراءةِ كتابك، على رؤية جذور الجنون المقدّس، لدى الميثويّ والصوفيّ معاً. وأنتَ، إلى قراءتكَ هوميروس ونيتشه وباسكال وبرغسون وڤاليري وهولدرلن وغوته وبودلير وكلوديل وكورناي وفولتير، وغيرَهم، شئتَ أنْ تتوقَّف غير مرّة، على تجارب بروميثوس وغلغامش وأيّوب، فاستعدتُ معك قول الكتاب في "سفر أيّوب" : "الّذين في التُّراب يُسحقون سحقَ العُثِّ، يُحَطَّمونَ غيرَ مُبالًى بهم، إلى الأبد يهلكون، إنَّهم يَموتون ولا حكمةَ لهم([32]). وبعد أنْ سمعتُ صوت الأهوال في أذنه، ورأيتُ كيف هُشِّمَ، وأُثْخِنَ بالجِراح، وَكَلَّ طَرْفُهُ مِنَ الكآبةِ، واحترقَ عَظْمُهُ وصارتْ كَنَّارَتُهُ للنِّياحة([33])، تأمَّلْتُ كَفَّيّ الله المَكْسوَّتين بالنّور، تُنْقِذان نفسه، وعادتْ كواكبُ الصُّبح تُرَنِّمُ له، لأنّه عَرَفَ كيف يَحمل صليبَهُ هاتفاً : "إنّي أعلمُ بأنَّ فاديَّ حَيٌّ وسيقومُ آخِراً على التُّراب([34]). هذه اليقظةُ الأيّوبيّة على المصير المأسويّ حَمَلَتِ الذّاتَ على تَخطّي ذاتِها بقوّة الدّاخل، وبفداء مِنْ خارجٍ أيضاً (إنَّ فاديَّ حيّ). وقد صَدَقَ كتابُ الاقتداء القائل: "وبمقدارِ ما يُسْحَقُ جسدهُ بالبلوى، تزدادُ روحُهُ قوّةً بالنّعمة الدّاخليّة"([35]). وهكذا عُصِرَ جسدُ أنْكيدو، في غلغامش، وطُرِحَ فريسةَ الموت، فهزَّتْ كآبةُ الرّحيل قلبَ غلغامش، قال: "مَنْ يستطيع الصعود الى السماء، الآلهة وحدهم، يسكنون مع شمش إلى الأبد، الجنس البشريّ يستطيعُ أنْ يُحصي أيّامه"([36])، وسمع صوتاً يقول له : "يا غلغامش أين تتجوَّل هائماً؟ سوف لنْ تجدَ الحياة الأبدية التي ترومْ، فعندما خلقتِ الآلهة الجنس البشريّ، احتفظوا بالحياة الأبدية في أيديهم"([37]). لقد طلبَ أيّوبُ الكثير من ذاته ومن فادِيه، وطلبَ غلغامش الكثير من ذاته، وحاولَ أنْ يكتشفَ العَظَمَةَ فيه وليس في الخارج. لكنَّه فَقَدَ عُشبةَ الخلود، وانكسرَ حُلمهُ، وعادَ إلى حدود مجتمعه بطلاً في أوروك. على أنَّ بروميثوس تَمَرَّدَ على إرادة "زوس"، في نِتاج غوتي، فقال لهرمس الوسيط: "قُلْ لهُ لا أريد، إرادتي قبل إرادته، نحنُ في صِراع أبديّ([38]). وكان بروميثوس أريسطوفان، في "العصافير"، قال أيضاً:
“ Je suis toujours l’ami des hommes, moi ! Je hais tous les dieux.”([39])
ولم يكنْ مُستغرَباً أنْ يقول جبران إنّه ببروميثوس تحقَّقَتْ رغباتُ الإنسان، وبه تحطَّمَتْ قضبان القفص الذي قَيَّدَ رجاءَ النّاس، فأُطلقَ وصارَ حراً، وكادتْ صورة بروميثوس المشبوح لا تنفصلْ عنده، عن صورةِ يسوعَ الممسوحْ، شأنَ ما حَصَلَ في الفِكر الثيوصوفي([40]). لقد نَهَشَ نسر "زوس" كبده، فلم يُبال لأنَّه حقَّقَ إنسانيّته وذاته، في عالم يَسحقُ الإنسان... وأرادَ بعزيمتهِ أنْ يتنبَّهَ البشرُ الى أهميّة وعي العَظَمَةِ التي فيهم([41])، وإلى إمكانيّة التغلّب على قَدَرِ الفانين الذي أهلكَ صديقَ غلغامش. ولا غُلُوَّ في قولي إنَّ كُلاًّ منا، نحن أبناءَ آدم، يَحملُ الكثيرَ من مأسويّة الثلاثة، حاجةِ أيّوبَ إلى الأمان في الإيمان، وحاجة غلغامش إلى معنى في غربة الوجود، وحاجة بروميثوس إلى التألُّه: "أنتم آلهةٌ، وأنا أيضاً إله..."([42]).
وبعد، قال أفلاطون في "الجمهورية" :
« Tout être parfait, qu’il tienne sa perfection de la nature ou de l’art, ou de l’une et l’autre, est le moins exposé à un changement venu du dehors ».([43])
ونحن، لَئِنْ خَرَجْنا من الجِدِّ الذي في المأساة والمأسويّة، مُرهَقين، مُتَرَجِّحينَ ما بينَ البطولة المأسويّة فينا، وفضاءِ الآلهةِ والأقدار، خارجِ ذواتنا، فلا مجالَ أمامَنا سوى أنْ يتحوَّل كُلٌّ مِنّا إلى جادٍّ بَطَلٍ بإزاء لودْ، الوحشِ، ليخلقَ دُنيا جديدةً معطرةً بأزهارِ دمهِ والأريج. وسواءٌ عنده أهوَ في رحلة النَّصرِ أم الهزيمةِ، عندما يتحوَّلانِ إلى طريق التخطّي والتغلُّب([44]). وفي اعتقادِ الباحثِ المُتفائلِ المؤمنِ، أنطوان معلوف، أنَّ إرادةَ الآلهة والأقدار لا تُلغي تماماً إرادة البشر([45])، عِلماً أنَّهُ عَرَفَ كيف يُوقظُ العذوبةَ في العذاب، والأحلامَ في الآلام، والإنسانَ في البيان... وبالتالي، فكتابُهُ إنحناءٌ نحو جذور، وتطلُّعٌ نحو النّور، وهو مدرسةٌ ترتقي بالذّات الإنسانيّة إلى ميثويّةٍ حيّة معيشة، ويُمَثِّلُ محطّةً فكريّة وتأمّليّة نادرة، في تاريخ الإنسان والخيال والجمال. وهو، كما قرأناه في "نجمة أنطاكية"، وغيرها، يتحلّى بسموّ الروح، وبرقيّ الجمال، وبالأصالة في فهم التّاريخ، وبرؤية نافذة جوهرُها أنَّ "الحبّ هو الله"([46])، وأنَّ على المرء أنْ يبتنيَ نفسَهُ من جديد، دائماً، مِثلَ ديمتير (Déméter)، رَبَّةِ الأرض، حين جمعَتْ أشلاءَ ديونيزوس، رَبِّ الخمر، ونفَخَتْ فيه الحياةَ، بعدَ أنْ مَزَّقَه عمالقةُ الخواءِ، الطياطين([47]). أَوَليسَ الأدبُ الخالدُ هو الذي يُحوِّل فينا فرحَ الوجود إلى خلود؟ أَوَليسَ هو الذي ينشر عطره حولنا، كما عطر ديمتير، ويحوطُنا بنوره المبارك، على مثالها، وقد قيل عنها :
« Elle révéla sa beauté tandis qu’un parfum délicieux se répandait autour d’elle ; elle brillait d’une telle lumière que la vaste maison en fut tout entière éclairée ».([48])
أوليسَ المدخلُ إلى المأساة هو المدخلَ إلى معرفة الذّات؟
مداخلة د.جان داود
(تأتي الكلمة في جزأين، وقد أدرجتُها في نقاط أترك الربط بينها لنقاش يلي تلاوتها)
** عندما تكون اللاعب فأنت في حركة لن تكون بعدها ما أنت عليه قبلها (لجهة مسائل سابقة من غضب أو توتّر...). المتلقّي أيضاً، أمام الإبداعات الحقّة واللّعب الجميل، لن يكون بعد ما شاهده هو نفسه بما كان عليه قبل ما شاهد.
شاهدنا بالأمس (13 نيسان 2010) في لبنان، مباراة في كرة القدم بين سياسيّين انتموا الى فئات متنافسة لا بل متصارعة ومتقاتلة لسنوات. الفكرة ذكيّة: وتطرح شكلاً جديداً لذكرى حربٍ أَلَمَّت بالوطن، حرب رأينا فيها حربَ الغرباء على أرض لبنان – وان بواسطة بعض اللبنانيين أحياناً. المباراة تطرح شكلاً جديداً وهادفاً للذّكرى: شكل يرغب في محو الصُّوَر السّوداء. (نرى في هذا النمط من إحياء الذّكرى استراتيجيّةً جيّدة إنْ اقترنَت على الأرض بممارسات تُعيد بناء الوعي الحُرّ وروح العدالة والخروج من العصبيّات والاصطفافات التّبعيّة).
في الملعب، غاب الوجوم عن وجوه اللاّعبين... حلَّت روح رياضيّة، ابتسم المُشاهِد، ابتسم النّاس في بيوتهم، تحمّسوا، ضحكوا، ضحكوا بصدق، ضحكوا لمشاهدة رجل يخرج من بذلة رسميّة وتعابير مُتكرِّرة مرسومة ضمن صورة أرادها كسياسي، ضحكوا لمشاهدة لاعب الكرة يسقط أرضاً، إنّه ليس مُجرَّد لاعب كرة، إنّه سياسيّ نائب أو وزير أو رئيس حكومة؛ أحبوا ركلة منه... شعروا بشَبَه بينهم وبينه، إنّه يلعب... واللّعب سمة تواصل اجتماعيّ وقرار إراديّ... نتج عن المباراة استرخاء ما: حبور وابتسامة على وجه رئيس الدولة يشاهد المباراة، استرخاء خلف الشّاشات وتخطٍّ. الأمر مماثل للّعب على الخشبة (المسرح)... وهو يحمل الى تخطٍّ ما، تخطٍّ قصير النَّفَس أو الأجَل؛ ولكنّه يؤسِّس لمشروع تخطٍّ أو يؤسِّس لحركةٍ جديدة في الذات بين هؤلاء، لنقل الصّراع إلى مناخ يلغي التّوتّر الدّاخليّ، ويلغي التّشنُّج... (القواعد حاضرة تضبط اللعبة، والأجواء ايجابية لأنّ الجميع منضبط في قواعد اللعبة والاحتفاليّة - وعندما ينضبط الجميع في قواعد لعبة الدولة سيكون ارتقاء بها)... اللعب هذا يُحدِث تنفيساً ما... إنّه يفعل فعل الكوميديا في المُشاهِد في تخطٍّ آنيٍّ للمأساة الأساسيّة للوطن.
هل ينساق كلامنا السّابق على اللعب والتّطهّر الحاصل باللعب بأشكاله على الكلام على الكوميديا القائمة باللعب، كما على المأساة القائمة باللعب؟؟
اللّعب أيّها السّادة، يحمل الى التّخطّي (إنّه يحمل الى ناتج نفسيّ حاصل عبر حركة الميتيفيكاسيون (mythifier) والديميتيفيكاسيون (démythifier) عبر تعبئة أو حلول أو تفريغ)، ولكنّه قد لا يكون باستمرار مأسويّاً. فالكوميديا قد تحمل الى التّخطّي، والكوميديا نفسُها في التجريد الرياضيّاتي أو القيمة المطلقة (en valeur absolue) شكل من أشكال المأساة ( واني أعتقد أنّ الإدراك المأسوي شرط كامن لكتابة الكوميديا، ويجب ألاّ يشكِّل عائقاً عن كتابتها... إلاّ أنّ ما هو متداول في معيوشنا تحت عنوان الفنّيّ، قد أخذ الكوميديا الى دَرْك استهلاكيّ والى ابتذال، فأسقط عنها فعلها من هالةِ تماس مع المأساة؛ كما أسقطت الدراما عن المأساة فعلها الكُلّيّ، وكما تُسقِطُ اليوم بعضُ الأعمال المُدرَجَة تحت عنوان الدّراما القيمةَ الجمالية عن الدراما نفسها...) الوعي المأسوي (وهو من مراحل أُولى لارتقاء الوعي) في الأساس يُحرِّر من المأساة أو يحمل بها الى الوعيَ، الى الإبداعيّ، لارتقاء بذاته، بالإنسان وبالكونيّ في آن. المأساة كما الكوميديا كما الأنواع والأشكال المختلفة للتعبير المسرحي ناجمة عن حتمية والتصاق الذات بالفن والفنّي حيث الفيّي شكل من أشكال الالوهيّ. المأساة أو التراجيديا هي صورة عمّا يمكن أن يحملنا اليه المسرح: مشروع تخظّي المأسوي بمعنى المُفجِع. والوعي المأسوي أو الادراك المأسوي (ولا أربط تعبير الوعي المأسوي بلغة أرسطو وقاموسه) هو مرحلة من مراحل الوعي في بحثه عن كماله.
هل غابت المأساة عن النتاجات الفنّية أو هي أُسقطت أو تحوّلت لأن الوعي المأسوي في مسارااته قد اختلف؟ أم أنّ الحاجة الى المأساة انتهَت بحلول العقل في ما آل اليه؟ أو أنّ عودة الى جذور الذّات تفرض أن يحلّ مكانها الشعور بالحاجة الى اللّعِب واللّعِب أساس في كينونة المسرح؟ أو أنّ سقوط المأساة تمّ بوعيٍّ دينيّ؟
** سقوط المأساة (في الزّمن الميلاديّ) حَصَل بوعي دينيّ جديد، وعيٍ رَفَضَ الآلهة المأسويّة ذاتَها... رفضَ الآلهة الوثنيّة: الآلهة الوثنية آلهة حرب، آلهة ضياع، آلهة غضب، آلهة انتقام، آلهة حقد... الوعي الجديد - الوعي المسيحي - قال بالمحبة، وقال بالقيامة، والقيامة مآل. بالتالي، بات الموت عبوراً الى القيامة، وباتت مأسوية الموت هُنا بالنّسبة للمؤمن - في عمق إيمانه - أمرٌ مُحبَّب في كونها تحملُ عزاءً ورجاء القيامة... وما النّحيب الحاصل في المآتم إلاّ حالة عاطفيّة وضعفٌ إنسانيّ حيال عدم فهم ما تمّ ويتمّ، وعدمِ عَقْلِه ولا صلة للايمان بالنحيب. الإيمان يُحوِّل الموت ومأساته الى احتفال قيامة، والقيامة نهاية سعيدة تنفي المأسويّ في خواتيم الأمور... (القيامة تحمل معنى التّخطّي، والتّخطّي هدف للاحتفال المأسويّ، وهو غاية المسرح برأيي).
* الكنيسة رفضَت أشكال المآسي والكوميديا ( والرفض هذا حاصل بشكل أساسي لصلة المأساة كما الكوميديا بالزمن الوثني) الى أن أتى القدّيس أُغسطينوس ورأى في المسرح نعمةً من السّماء واستخدمه للتّبشير وكان "مسرح الأسرار والتبشير" حيث المأسوي آلام المسيح، والمأسوي هُنا زمن مبتور أو محدود لأنّ القيامة آتيّة، في حين أنّ المأسويّة لا تُحدِّد امتدادها في الزّمن ولا تُحَدِّد نفسها بمـا يُبطل فعلهـا.اليقيـن يلغي التّوجه نحو المـأسـاة لأنّ المواجهة وإنْ حاصلة، عادت لتنتهي بكلمات السّيد: "فلتكن مشيئتُك". الموت حاصل بفعل بطوليّ: التّضحية من أجل الخلاص، خلاص الانسان. وهو إراديّ من "يسوع" الإنسان وهو مأسويّ على مستوىً ما، إلاّ أنّه إذ يتمّ تحقيقاً لمشيئة الله ينفي (الفعلُ) عن نفسه الإراديّة، والإرداة شرطٌ من شروط المأسويّ فيبات الأمر نسبيّا في مأسويّته.
* العاشوراء أقرب الى المأساة، لأنّ موت الحسين لا تليه قيامة تُخرِج من الحُزن... على العكس تليه تعبئة... احتفالات العاشوراء تحمل تنفيساً آنيّاً ولكنّها تحمل تعبئة مستمرة... سِيَر شهداء المسيحيّة واضطهادهم بسبب معتفدهم، تشكّل موضوعاً للمأساة وفيها مادّة مأسويّة عندما يكون فيها تحدّي إرادة السُّلطَة من أجل حقٍّ ذاتي بمعتقد مختلف... وهي تتمّ بفعل إراديّ مِمَّن كُرِّسوا شهداء. المأساوية تشترط الإرادة، والفعل المأسوي هو فعل بطولي إرادي ينتج عنه خيرٌ عام.
* اليقين يلغي المأسوي, والمأساة التي نعود لنكتبها يتمّ تأطيرها خارج اليقين القائل بالقيامة.... وغياب المأساة عبر العصور ارتبط بحضور اليقين... وباتت المأساة في النتاجات الكلاسيكية الفرنسية (كورناي، راسين....) مأساة افتراضيّة بالنسبة للزمن المسيحي. ممّا يدفعني الى قول والى افتراض نسبية ما في المأسوي والمأساة أضيفها الى تفاصيل علينا أن نبحث فيها (فاليقين نفسه الذي قد يلغي فكرة المأساة والمأسوي يعود الى طرح ظروف موائمة لعودة المأسوي. حيث الرّغبة في معارضة اليقين والتسلّح بالارادة تضعنا أمام فكرة المأساة المحتملة الناتجة عن استخدام الارادة والحرّية لنقض ما في اليقين).
* إنّ المأسويّ وإنْ ارتبط على مستوىً ما بالمُفجِع والمُحزِن فهو لا يقوم فقط عليه... إنّه يقوم على ارتباطه بالجميل والخير... من جهة ثانية إنّ عدم تحقّق الخير العام لن ينفي المأسوّية الكامنة في الدّافع: إنّ سقوط عامل في ورشة وتهشّمه لن يُشكِّل المأساة... بالمفهوم المُتداوَل للمأساة... لكن إنْ أتى موت العامل نتيجة قراره في تحدّي الخطر لإنقاذ رفاقه يجعل فعلُه بطوليّاً وبالتالي يكوِّن مادّة للمأساة... حيث يرتبط فعلُه بالإرادة والحُرّيّة وبقرار ذاتيّ بالتّضحية من أجل الخير العام... هُنا أيضا سؤال: في حال لَم يَنتُج عن فِعل العامل المذكور إنقاذ للآخرين فهل ننفي عن موته صفة المأسويّة وهل يتساوي موته بموت الآخرين لجهة الفعل البطولي؟ بالطبع تتكوَّنَ بإقدام العامل على التضحية حالة بطولة...( قد يواجه البعض الفعل البطولي للعامل يقوله أنّ أرسطو يريد البطل من الآلهة أو أنصاف الآلهة أوالملوك أو أبنائهم... انه أراد ذلك رغبة في تعظيم شأن انتماء البطل لوقع أقوى للفعل المأسوي ؟ هُنا أيضاً فرصة لنقاش: أليس وعينا الإنساني في حركته وفي القيمة العليا التي يعطيها للإنسان هو مصدر الشعور بالمأسويّة؟ ألا ترون معي من جهة أُخرى أنّه لا يمكن للجلاّد عندما يفقد الحسّ بالإنساني، أن يعي المأسويّ الصّادر عن فعله أو عمله، كما وأنّه في حال وعي الجلاّد لمأسويّة فعله فما مدى مأسويّة هذا الفعل بالنسبة إليه؟ قياساً على صورة الجلاّد[49] الذي تخدّر وعيه الإنساني أتساءل: هل الشّعوب التي تُربَّى على التبعيّة وتُقاد الى تضحية بذاتها هي مأسوية لمجرّد رغبتها في التضحية بذاتها؟ وهل الفعل الإرادي في حالها هو فعلاً إرادي أم أنّه ناتج عن تعبئة ضربت الوعي الحرّ؟ والمأسويّة ترتكز على الوعي ولا حرّية خارج الوعي وبالتالي فعل بعض الجماعات تلك أقرب الى الإنتحاري وليس الى المأسوي بما في المأسويّة من بطولة...والشعور بالمأسوي ناتج عن وعينا نحن الآخرين الذين ننظر بوعي انساني الى قعلهم؟
الموضوع شيِّق ويحمل الى كلام يحمل الأضداد الهدّامة والبنّاءة في آن للنّظريّة.
الموضوع شيِّق ممتع وهو في صُلب الفلسفة... وأنطوان معلوف في معالجة الموضوع (موضوع المأسوي) يذهب الى جذوره ويجعله أكثر إغراءً وأكثر إمتاعاً.
** معلوف يربط المأساة استناداً الى أرسطو بأساسيّين: الاحتفال والتخطّي. وفي كلامي على هاتين المسألتين نقاط :
* لا ينتج عن الاحتفاليّة والتّضحية فعلٌ مأسويٌّ إنْ لَم يرتبط فعل التّضحية بإرادة الضّحيّة (البطل في الفعل المأساوي).
الاحتفال الطّقسيّ، إنْ تمَّت التّضحية بحيوان، ليس بمأساة أو مأسوي (باستثناء الدلالة الرّمزيّة للضّحيّة) لأنّ لا إرادة للضّحيّة في موتها... وتبقى مُجرَّد أداة تضحيّة. حتى ولو كانت الضّحيّة إنساناً لا إرادة له في أن يكون ضحيّة فستقتصر المأسويّة على وعينا الإنساني ولن يكون الموت بطولياًً لأنّ لا إرادة لهذا الإنسان في موته، المأسويّ هُنا ينتج عن وعينا الإنسانيّ وعن إدراكنا أو إيماننا بعدم حقّ الجماعة أو الآخرين بتقرير مصير الفرد والتّضحية به وهذا الشعور الناتج يتأتّى عن التماهي مع الضحيّة والخوف على الذات، أو عن الشفقة (بحسب أرسطو).
* برأي ديكارت: "أنا أفكر اذن أنا موجود". عملي في تكوين المُمَثِّل يحملني الى قناعة جديدة : أنا أفكّر إذن انا أبحث في سرّ الوجود، أنا أحتفل (احتفاليّة باللّعب) إذن أنا موجود.
أنا أحتفل (احتفاليّات باللّعب) إذن أنا موجود، أتواصل بشموليّة مع سرّ الوجود، التواصل شموليّ بالحدس والأحاسيس، بالجسد وما قبل وبعد الجسديّ، بالعقل والبصيرة، بما قبل العقل وما بعده. من هُنا احتفاليّة المسرح (وهي مولودة الوعي الفنّي – والحسّ المأسويّ بعض هذا الوعي) هي أرقى أشكال الفنون تبلغ تجلّيها في التجريد الحاصل في حال الموسيقى وهي تتجلّى في نقل اللّعب والّلاعبين الى حالة أثيريّة... الموسيقى احتفاليّة قائمة بأجسادِ أثيريّين.
* في تمارين مُحدَّدَة أعمل عبرها على تكوين المُمَثِّل احتفاليّات طقسيّة فَرَضيّة يتمّ فيها إطلاق الذّات أو إزالة ما يعيق الذّات من الانطلاق، فتأخذ وعياً بذاتها ومُقدّراتها ويتمّ وعي ويكون تكريس للذّات المتجلّية وتحديد لموقعها الجديد من محيطها وكونيّتها وقدرتها على الفعل... بَنَيتُ التمارين على الاحتفاليّة لأنّ فيها مدخلاً الى التّخطّي، التخطي الحاصل عبر إزالةٍ للمعوّقات واكتشافٍ لطاقةٍ واكتشافٍ للذّات وإطلاقِها في تخطٍّ لقمعها وتخطٍّ الى ما خفي عليها من ذاتها...
التطهُّر حاصل والتخطّي حاصل إثر التمارين أو بها, ولكن هل نضعه في خانة المأسوي؟ يجب أن يرتبط المأسوي في التراجيديا بفكرة الخير: الخير المُطلَق وليس خير الفرد... وإنّ عدم تحقُّق الخير يضفي مأساويّة على الحدث (وليس فقط لا يلغي المأساويّة).
* بِتُّ أعطي أهمّية للطقوسيّة لدى الفرد كما لدى الجماعة، والفعل قائم بالفرد كما بالجماعة. في عملي على المُمَثِّل قلتُ بما أطلقت عليه تسمية : المنهج الصّوفيّ، والصّوفيّة هذه ليست صوفيّة دينيّة؛ إنّها صوفيّة قائمة في سعي الإنسان الى مُطلَقِه. وهي صوفيّة مُتحرِّرَة من مفاهيم الزُّهديّة... هي صوفيّة تُقدِّس الجسد؛ هي صوفيّة تسعى بالمادّة الى مُطلَقِها كما تسعى بالوعي الى مُطلَقِه... وبالإنسان الى ألوهته... ألوهة الإنسان في الفنّ. أو تألّه المُبدِع يتمّ في تخطّيه المستمر إبداعات وإبداعات... في تخطّيه للحيوانيّة، ولنزعة القتل والعنف والأنا المريض...
صوفيّتنا صوفية تقدّس الجسد وتسعى به الى مُطلَقِه، هي اقتحام العالم عبوراً الى أصله الإلهيّ الكامن فيه... فينا... في المُمَثِّل... هي اقتحام المأساة والمأسويّ بإرادة خلاّقة وصفاء خلاق... هي اقتحام المأساة والمأسويّ في تراكمهما باللعب والبساطة... اللعب يقوى على المأساة ويعطيها قوّة وبُعداً في آن. والصّوفية الفنّية لا تنفي ولا تلغي الوعي الفنّيّ، على العكس إنّها ترتقي به إنّها نهضة له.
الصوفيّة التي أقول بها هي حركة تواتر وتكامل وأحياناً تناغم بين الأحاسيس والشّعور والحدس والعقل... حيث يرقى (بها) الشّعور الى مُطلَقٍ ما فيسعى العقل الى عقل هذا الحدس وتخطّيه، ليعود الحدس أو الشّعور الى حركته، بما يُكوِّن تلك الحالة البحثيّة الدّاخليّة والمعقولة في آن. تحت عنوان الصّوفيّة أضع إدراك الذّات في إشراقتها، إدراك الجسد في طاقاته القصوى، إشراقة الحسّ الدّاخليّ... وصوفيّتنا لا تنفي العقليّ ولا تنفي المَنطِق. إنّها حركة ما قَبْل وما بَعد العقل كما أنّ العقل نفسه هو حركة ما قَبْل وما بَعد الأحاسيسس والحدس... أستحضِر الى ذهني لتحديد العلاقة بينهما (العقل والحدس، الوعي والحس الدّاخليّ...) اللاّمتناهي الصِّغَر الذي بحلوله على واحد منهما يرتقي به ليـتدخَّل الآخر عبر لامتناهي صغرٍ جديد، وبحلوله على الآخر يرتقي به مُجدَّداً ليعود الأوّل الى تدخّل نوعيّ... حتى إنْ انتهى الإثنان الى قيمة مُطلَقَة يتساويا فيها تفاعلاً (إنْ في حركة تكامليّة أو صراع الأضداد بما يحمل الى اللانهائي). بشكل من الأشكال يمكنني أن أفترض أنّ الصّوفيّة في مسارها المدرحيّ، كما العبثيّة في ما هي ناتج عن رغبة العقل في أجوبة عن مسائل الوجود، هما من أبرز تعابير حركة الوعي في بحثه وهما منافذ تخطّي الوعي المأسوي لذاته. وفي الصّوفيّة وما تحمل إليه يكمن الجميل. مأساة الإنسان الحقيقيّة اليوم وغداً هي موت الإبداعيّة. إنّ مأساة الإنسان الحقيقيّة هي العقل في قصوره والأحاسيس والحدس في موتها، وحرّية الإنسان وأبرز معالم وجوده تكمن في الإبداعيّة وكسر حدود العقل والتخطّي.
* التخطّي بحثٌ عن المطلق: شاع أنّ الإنسان غير كامل (لأنّ الكمال لله)... ولكنّ هذا الكلام يحتاج الى إعادة نظر... حيث برأيي كُلّ إنسان كامل بالقوّة ولكنّ الكمال نفسه محكوم بألاّ يكون موجوداً في مُطلَقِه وإلاّ تأثّرَت وسقطَت واحدة من مُسبِّبات الوجود: الكمال نفسه... إنّ الإنسان نفسه، كما الكون، يبرِّر وجوده أو يعطي معنىً لذاته في حركة تطوّره بهذا المتناهي الصِّغَر المتحرِّك... المتناهي الصِّغَر المتحرِّك مادّيّ حيناً وروحيّ حيناً ومدرحيّ حيناً آخر... وفي أيّ من تلك الحالات دافع الى تخطّي الذّات، وخارج هذا التّخطّي الإنسان يستنقع: غاية الوجود التّكوّن بداية والتّخطّي نهاية... الفلسفة نوع من التّخطّي بالبحث ومنها متعة العقل، والتّخطّي بالجسد ومتعته تمجيد القوّة الماديّة، والتّخطّي بالكُلّيّ هو تخطٍّ مدرحيّ في آن إنّه قائم بالجمال... بالجميل الفنّيّ... من هُنا ضرورة الفنّ ومن هُنا الطّبيعة الفنّيّة الكامنة في الإنسان، تُفجِّرها أو تُحرِّكها أحداث وفي بدايات التعبير الفنّي المأساة والكوميديا.
ما المأسويّ ببكاء على الأطلال، وما المأسويّ تخطٍّ من أجل رأبِ فراغ... المأسويّ تخطٍّ من أجل الجميل والجميل مُطلَقُ كُلٍّ منّا... والرّضى الحاصل في الاحتفالات الديونوزيّة أو الطّقوس هو ناتج عن لعبٍ، عن احتفاليّة الجسد، عن احتفاليّة تشارك فيها بنفسك في الاحتفال الرّاقص أو في اللّعب وتشارك فيها ببديل لك في اللّعب على المسرح أو في اللّعب الكامن في نصٍّ أو قصيدة، لعبٍ يتمّ بمخيّلتك، أو في موسيقى احتفاليّة أثيريّة، أو في اللّعب على أشكاله في بعض المباريات الرّياضيّة التي يعشقها البعض... مع الفوارق في مستويات الفعل التّطهيريّ أو التّعبيريّ الحاصل. كُلّ طقوس هي حالة بحث مدرحيّ لارتقاء: ارتقاء الوعي بالفنّيّ... باللّعب.
* يبقى أنّ المفردات في حركة الوعي نفسه تفرض تساؤلات وأسئلة :
هل التّخطّي حاصل بالتنفيس؟ هل هو حاصل بكسب الثّقة بالذّات؟ هل هو حاصل بقرار؟ هل هو حاصل بدوافع نفسيّة؟ هل هو حاصل بدوافع إراديّة؟ هل هو ناتج احتفاليّة؟ هل التّخطّي شكل من أشكال التّسامي وتحوّل الميول أو الغرائز الى مشاعر علوية...؟ هل التّخطّي مُجرَّد تحويل لمسارات الطّاقة أو هو فائض في اندفاعها...؟ هل التّخطي هو مجرَّد مُحرِّض على التّطهّر أو هو حركة أولى في الدّوافع إليه؟ هل التّخطّي هو تلك الإشارة الأولى أو الحركة الأولى التي يدفعنا إليها الوعي الكامن أو ما يدعوه برغسون : "التطوّر الخلاّق حيث يبيِّن أنّ الوعي الأعمق أي وعي الديمومة الباطنيّة هو أساساً الشّعور بالحياة الكلّيّة أو الاندفاعية الحيويّة المرتبطة بغريزتنا"، وهذه الاندفاعيّة الغريزيّة والاحتفال الطقسيّ الذي يُحرِّك كُلّ تلك الطّاقة في حركة جسد-نفسيّة تشكِّل الانفجار الأوّل أو البيغ بانغ للحظات العقل وبنائه؟
* التّخطّي ممكن على مستويات وهناك منه: تخطي الذات الفرديّة، تخطّي الذّات العامّة، التّخطّي الحاصل لدى الفرد بمسار فرديّ، التخطّي الحاصل بالجماعة، تخطي الأنا وبذل الذّات، تخطّي المأسويّة، تخطي المأسوي....ألا تكون بذلك المسرحيّة المأساة تخطٍٍّ للمأسويّ نفسه، وتخطٍّ للخوف مِمّا يتسبّب بالمأساوي...؟ أم أنّ المأساة (في المسرح) هي القدرة على تخطّي الشّعور بالخوف مِمّا يتسبّب بالمأساة؟
-II-
* أشكر الدكتور والصديق أنطوان معلوف على ثقة غالية... أتاح لي فرصة الانكباب مُجدَّداً على موضوع فلسفيّ يشغلني (باستمرار). لقد وضعني في حال استنفار ورغبة في الخلاف معه ولكن يبدو أنّها رغبة في خلاف بين مؤمنَين بالجميل، تُخالِفه لتتّفق معه أو تتفِّق معه لتخالفه، وفي الحالين تنتج متعةٌ هي متعة الوعي الفلسفيّ أو متعة العقل... ومتعة العقل خلاف ما يظنّه البعض ليست متعةً باردة...
* أرغب في كلام ونقاش في عمق الكتاب وفي قيمته العلميّة، ولكنّ المناسبة تفرض عليّ أن أُولي صاحب الكتاب حقّاً، فأتكلّم على جرأته وإقدامه على بحثه المُعمَّق في موضوع جعل كتابه مدخل الى المأساة والفلسفة المأسوية على ما أتى به الصّديق محمد المديوني (مدير معهد الفنون في تونس_ أتى باحثاً خلال انعقاد مؤتمر بيروت للمسرح المُنعقِد في العام 2001 مخاطباً الدكتور معلوف عن كتابه ": إنّه أوّل كتاب عربي يبحث في المأساة. كما ربط المعلّم سليمان البستاني الأدب العربيّ باليونان وفكرهم في قمّة نتاجهم الفلسفيّ، الأدبيّ، والمسرحيّ، عبر ترجمته الإلياذة، يمدّ أنطوان معلوف جسر تواصل مع الفكر النّقديّ للمسرح، مع أرسطو والمأساة. منذ أرسطو لَم يعرف التعريب أو النقد في العالم العربيّ كتاباً يبحث في المأسويّ، فيجوز أن نقول بأنّ معلوف كان في كتابه بمثابة أرسطو للحالة النّقدية في العالم العربيّ والتّأسيس لبحث في مجال المأساة والنّقد المسرحيّ. صاحب الإزميل (حصَلَت على جائزة أصدقاء الكتاب التي تقدمها لجنة مهرجان بعلبك / فرقة المسرح الحديث / بيروت 1964 / بعلبك صيف 1964 / المهرجان الدولي للمسرح الجامعي 1965) انبرى في كتابه "مدخل الى المأساة والفلسفة المأسوية" ليواجه فوقية وتشاوف الغربيّين... ويُقدِّم للعرب مفخرة...
* ألفُت الى أنّه قد صدرَت الطبعة الأولى من كتاب معلوف عن المؤسسة الجامعية للدراسات والنّشر والتوزيع في العام 1982...، وصدرت في العام 2009 عن مكتبة لبنان ناشرون طبعة (وجدتُها منقَّحَة) ذُكِر أيضاً أنّها الطبعة الأولى... غداً يصطادون الفرصة ليؤخّروا ولادة كتابك ربع قرن ونيِّف، وقد سبقتهم بقرون ونيِّف.
* أرغب أيضاً في التّوقّف لأحيّي أنطوان معلوف عندما يتناول في كتابه سعيد عقل في قدموسه. جيّد أن نرى معلوف يدرس سعيد عقل (الشّاعر بكلّ معنى الكلمة لأنّه مأساويّ ودراميّ...) ويعيد سكبه من منظار فلسفة المأساة.
نَدُر مَن كانت له جرأة تناول سعيد عقل في مسرحه، وكأنّ الأمر يلوِّث لأنّ عقل كتب شعراً كلاسيكيّاً أو كتب المأساة بالمفهوم الأرسطوي. هل في الأمر هروب، أو في الأمر جهل، أو في الأمر ادّعاء معرفيّ لأنّ عقل كتب المأساة كلاسيكيّة وشعراً في زمن عرف بدايات المسرح العبثيّ...؟ أو أنّ في الأمر تغافل ناتج عن ذاك المرض القاتل الذي ينافي عظمة روح الإبداع نفسها: الرّغبة في أن يكون كلّ نتاج على صورة ناقد مَزعوم (أفضّل استخدام مفردة ناقد بين مزدوجين).
إنّ في رفض تعدّديّة أشكال التّعبير مناهضة لحُرّيّة التّعبير وأشكاله، وموقف مناهِض لحركة الإبداعيّة. التّعدّديّة أمرٌ يؤمن به المُبدِع ويُقدِّسه:المبدع يحترم نتاج الآخرين في اختلافهم... المُبدِع الحقّ يفرح لإبداعات الآخرين ويستمتع بها، لا يخشى الكلام عليها، يحترمها، يتّفق معها أو لا يتّفق، ولكنّه يتوقّف عندها باحترام... من هُنا سمة أُخرى من سمات معلوف : شجاعة تناول مُبدِعين لبنانيين وعرب والكلام عليهم بسخاء ونبل وسموّ.
* أرغب أيضاً في الإشارة الى أننا لَم نعرف معلوف مُمَثِّلاً مُحترِفاً ولكنّ معلوف امتلك الوعي المأسويّ فامتلك وعي المُمَثِّل أو هو امتلك وعي المُمَثِّل فامتلك وعي المأسويّ: في هذه الخانة أضع قراءته الذكيّة لستانيسلافسكي يختصرها في مقولة: "لا شأن للشّخصيّة المسرحيّة. أنت (أي المُمَثِّل) تملي عليها ذاتك لا العكس...". فنرى أنّ أنطوان معلوف فهم ستانيسلافسكي في خلاصة نهجه وأسمح لنفسي بالقول على ضوء كثير من تجارب شهدتها أو سمعتُ عنها بأنّه نجح في فهم منهج ستانيسلافسكي حيث لَم ينجح محترفون مِمَن أخذوا على عاتقهم إعداد المُمَثِّل بطريقة ستانيسلافسكي.
* أنطوان معلوف يعبر الأساطير ويبحث في سرّها، يبحث عن بصيرة المواجهة: "مواجهة الرّعب بالجمال، والقدر بالإنسان، والمأسويّة بالمأساة" (140). فالنَّفَس الذي كتب به مسرحيّته "جاد" يحمل روح احتفالات ديونيزوس الآتي من الشرق، ويُقدِّم نموذجاً لمأساة تنفرد بخصوصيّة وبقِيَم فينيقيّة فيجوز أن أقول : أنطوان معلوف، أنت مِن قوم قدموس، "قوم غير الغزاة، ننزل قَفراً فنخلّيه أنهراًُ ومدائن" كما يقول سعيد عقل في قدموس.
* أتمنّى لصديقي الدكتور معلوف العمر المديد لنرى له كتابات جديدة تُشكِّل فتوحات جديدة... كما كان الأمر بالنّسبة لكتابه "المدخل الى المأساة والفلسفة المأسويّة" في المكتبة العربيّة. برأيي، شكّل الكتاب أكثر من مدخل، ودخل في عمق الموضوع، وانبرى مُدافعاً عن الشرق وعن الوعي المُتكوِّن لدينا والسّابق لوعي آخرين. كما رصّعت روحُ الشرق وروحُ احتفالاتنا احتفالاتِ الإغريق وأثمرت مسرحاً، كتاب معلوف رصّع فضاء المكتبة العربيّة وشكّل طليعة الكتب الباحثة في المأساة والمسرح، والكتب الجدّيّة في هذا المجال نادرة. معلوف تصدّى، كيف وقف أهل المهنة إلى جانبه؟
من أبرز الإشارات الى سوء علاقتنا بالوعي المأسويّ الحالة النّقديّة الغائبة والتي لَم تكوِّن ذاتها...ومن أبرز الدّلالات على تقصير مُؤسِف حيال الحالة البحثيّة والفكريّة والفنيّة هو الإجحاف وعدم حماية مسرحنا ونتاجاتنا ومسارات الحركة المسرحيّة نفسها (وإن بدايات المسرح من وطننا قبل الإغريق – أُحيل القارئ هُنا الى كتاب لي بعنوان "في مكان العرض المسرحي، بحثاً عن حالة مثالية،)... من إشارات الإجحاف عدم إعطاء كتاب أنطوان معلوف حقّه على مستوى النّقد في لبنان والعالم العربيّ وعلى مستوى الإعلام: النّقد ميت، والإعلام استهلاكيّ... إنّما يعكس ذلك واقعاً متردّياً مريضاً مُسطَّحَاً لا أقول طاووسيّاً فللطاووس ريش جميل إنْ تباهى به تباهى بموجود، أمّا الإعلام والزّاعمين الرّيادة في المسرح فقد تباهوا وهم مجرّد زاعمين... يتطوّسون ولا ريش لهم، يتطوّسون ولا خصب في جلدهم يَُنبت ريشاً أو ما شابه.
نحن في بلديقتل أبناءه باستمرار، يفترسهم أحياء، يفترسهم حرباً، يفترسهم جهلاً،
"النقد" السّائد غالباً ما هو حالة افتراس وقتل للإبداعيّة... أغلب أهله يبني وجوده على افتراس الآخرين. من يسهر يا سادة على النتاج الفكري ويروِّج له؟ أيّ إعلام وأيّ نقد؟ ما يحصل اليوم برأيي: بعض الصغار يسرقون الكبار ولا رقابة. ينقلون نتاجهم أو يستنسخونه في عمليّة إعادة ترتيب للمفردات أو للأفكار... كيف نحمي النتاج وكيف نكوِّن التّراث؟ كيف تناول النّقد بعض الأعمال الطليعيّة، وكيف يعيد تقييمها...
هناك باستمرار حلقات بحثيّة أو احتفاليّات أو... عن المسرح الفرنسي أو الإنكليزيّ أو الأميركي. ماذا عن مُبدعينا ومُفكِّرينا وأدبائنا وشهدائنا... أو كيف نروِّج فكر جبران أو نعيمه أو شعر سعيد عقل أو أنسي الحاج أو أعمال وكتاب معلوف، أو سواهم من المُبدِعين المخضرمين والشّباب...
* أتساءل هل كان مصير فكر جبران وأدبه ليكون على ما هو عليه لو لَم يحمه الوعي الغربيّ والتّرجمات... وهل كان كتاب مثل "مدخل الى المأساة والفلسفة المأسوية" ليبقى محدود الانتشار وتقتصر قراءته على بعض المختصّين لو كان لمُفكِّر غربيّ ذي انتماء ما؟ أما كانت حصلَت جهود لتكريسه مرجعيّة علميّة بمثابة أناجيل النّقد؟؟
* للحركة الثّقافيّة في انطلياس في مجهودها تحيّة، والكلام اليوم على "المدخل الى المأساة والفلسفة المأسويّة" وعلى أنطوان معلوف حلقة أساسيّة في صرح حركتنا المسرحيّة، هو مُجرَّد بداية وإعلان مسؤوليّة لالتزام الحركات الثقافيّة بالجميل والتّخطّي.
انطلياس في 14 نيسان2010
د. جان داود
كلمة الدكتور انطوان معلوف
وجب علينا أن نتقدّم في العمر حتى نبلغ الشباب حرّاً من القيود ، ونستردّ حميّتنا الأولى .
وإنّي أتقدّم في العمر، بحكم العادة، وعساي أفوز بالشباب، على غير علمي، ولكنّي حين أنظر إليكم ملء عيني على المنصّة وفي الصالة، وأنتم، ديناً ودنيا، النخبة الأعلون، فإنّي أعود بالعمر أدراجه وأستردّ حميّتي الأولى.
ولن أثقل عليكم فأكتفي بالجواب عن سؤالين : لمَ هذا الكتاب؟ وما علّمتني المأساة؟
في رأي الغربيين أنّ حضارتهم بدأت حين التقت المسيحيّة بآداب اليونان. وأما وأنّ أجمل ما كتب هؤلاء التراجيديا أي المأساة الناضحة برؤيا مأسويّة ديناميّة حارّة ديمقراطيّة علمانيّة، وأما وأنّي لم أعثر في العربيّة على دراسة توفّي لها حقّها إلاّ خطرات في أدب طه حسين وتوفيق الحكيم وسلامة موسى ولويس عوض ونخبة من بعد، فقد حسبت أنّ معالجة الموضوع شاملاً حتّى جذوره الأولى في حضارات مابين النّهرين ووادي النّيل وجبيل فينيقيا ، وبقاياها حتّى اليوم في الزّار والعاشوراء ،في دراسة أكاديميّة، أمرٌ حسن، فكان هذا الكتاب.
وما علّمتني المأساة؟
علّمتني المأساة أن لا شيء يقف في وجه القدر الطاحن إلاّ الإيمان بالعناية الإلهيّة. ولكنّ هذا الإيمان لا يمنع الشكّ من أن يطلّ برأسه بين حين وحين، ولا يمنع يسوع في بستان الزيتون من أن يهتف : " يا أبتاه أبعد عنّي هذه الكأس!"، ومن أن يصرخ على الصليب : " ربّي، ربّي، لماذا تركتني؟"، ولا يمنع صمت المسافات اللامتناهية من أن تبثّ الخوف في قلب المفكّر باسكال. ذلك لأنّ الإيمان بالعناية في عالم معظم ما فيه ومَن فيه تجربة عليها لا لها، إنّما هو مجاهدة دائمة يشنّها المؤمن على ذاته وعلى العالم حتّى يبقى معتصماً بحبل الله مهما اتّسع تحته شدق الهاوية.
وعلّمتني المأساة أنّ أبطالها هم " نحن " في أنقى وأعلى ما في نفوسنا من اشتياقات دفينة الى تقويم الإنسان ، تحفة الخالق السّائرة الى الزوال ، والى مواجهة الموت بالحياة ، والحياة بالصدق والبراءة ، والنبل والتضحية وتنمية طاقات الإنسان حتّى المشاركة في الخلق . أمّا اذا كرهنا المأساة، ونفرنا من تطرّف أبطالها وعنادهم وحسمهم الوقح في المفارقات ، فذلك دليل على أنّنا بدأنا " ننحطّ ". هل توافق المأساة مزاج التاجر " الفجّ "، والسياسي " القحّ "،والرجل الراضي من الحياة باللذّة العابرة؟
علّمتني المأساة أنّ الإنسان إمّا ذو وعي مأسويّ وإمّا ذو وعي غير مأسويّ. وليس كلّ إنسان مدعوّاً إلى التخطّي واليقظة. ولا شكّ في أنّ المأسويّة تباغت كثيرين بإطلالتها من تحت ركام المثاليّات والعقلانيّات، ولكنّهم يسرعون إلى طمسها، ويسلكون من جديد الطّرق المعبّدة وكأنّهم لا رأوا ولا سمعوا.
علّمتني المأساة أنّ بطلها لا يعرف الحقد. يعرف الرحمة أو الإعجاب. الحقد من الأمور التي تلهيه عن المطلق. وهو، في وعيه العميق لمأسويّة الوضع البشريّ، يدرك ضعف الإنسان، ضعفه الأصيل في مصير كونيّ يسحقه، فلا يملك له غير الرحمة. وهو أيضاً يدرك قوّة الإنسان متى وقف بوجه الخواء ينقش اسمه على جبين أبي الهول، ويمهر العمى الكونيّ بخاتم الإنسان فلا يملك له غير الإعجاب.
علّمتني المأساة " أنّ عجائب الكون، ولا حصر لها ، أروعها الإنسان". وهذا القول ورد في مسرحيّة لسوفوكليس بطلتها أنطيغوني.
وأنطيغوني هذه من بنات لبنان فهي حفيدة قدموس . وقد نطقت في المسرحيّة نفسها ببيت من الشعر اعتبره اللاهوتيّون انجيليّاً قبل الأناجيل بخمسة قرون ، وهو أجمل ما قال الإنسان ، ونقترح أن ينقش على تمثال لها في وطنها . قالت :
ما خُلقت حتّى أبادل النّاس حقداً بحقد ،
بل حتّى أبادلهم حبّاً بحبّ !
ويبقى سؤال : ما القصد من وراء هذا الكتاب ؟
كتاب " المدخل الى المأساة والفلسفة المأسويّة " محاولة (قيل إنّها رائدة )من المحاولات للتعويض عن إغفال النقَلة السريان ،أيّام العبّاسيين ، المسرحَ اليونانيّ القديم ، و خصوصاً مآسي اسخيلوس وسوفوكليس واوريبيد ، على امتداد القرن الخامس قبل الميلاد ، ما حال بين العرب وبين اكتشاف الفن المسرحيّ ، نصّاً شعريّاً وتمثيلاً . ومن يدري فلعلّهم لوعرفوه وكتبوه ومارسوه و " وعاشوه " لكانت اغتنت حضارتهم ببعد مأسويّ ديناميّ إرادويّ عَلمانيّ وديمقراطيّ ، ولكان تغيّر وجه تاريخهم . ولكان ، ومن يدري ، أبو تمّام والمتنبّي كتبا مسرحيّات ربّما طاولا بها شكسبير وكورناي ! و لكان العرب اكتشفوا المسرح قبل ألف سنة فما انتظروا حملة نابليون ، والمسرحيّة ، كتابةً وتمثيلاً ، على يد مارون نقّاش عام 1847 .
وقد كان في روعي ،وما زال ، هاجسان : محاولة تلقيح المسرح العربي بالمأساة ، من وحي المعاناة العربيّة ، ومحاولة تلقيح الفكر العربيّ بالفلسفة أو الرؤيا المأسويّة .
وفي ظنّي أنّ الهاجسين ، متى صارا واقعاً ، قد يسهمان في محض الفكر والذهنيّة ب"أشياء"
تعين على مجابهة المصير ، وخلع الأقنعة ، والصّدقيّة مع الذات والآخر ، وقبول الآخر المختلف حرّاً لا عبداً ، و لا نسخة طبق الأصل ، وتصوّر التاريخ خطّاً الى أمام لا شخص فيه يكرّر شخصاً ، ولا حدث يكرّر حدثاً ، ولا دائرةً تُعيد وتُستعاد .
اما بلغ العرب عصرهم الذّهبي ، أيّام العبّاسيين ، شعراً ونثراً ، وفلسفة وفكراً ، وطبّاً وفلكاً وابتكارات علميّة من بعد ، حين نقل اليهم السريان فلسفة اليونان وعلومهم وطبّهم ؟
ومن يدري فلعلّ الرؤيا المأسويّة تدخل ، ولو على خفر ، مدارسنا وجامعاتنا ، في نصوص مختارة من شعراء اليونان ومؤرّخيهم وفلاسفتهم وخطبائهم ، وما زال أهل الغرب يطالعونها ويتمثّلونها ويحاولون أن يطاولوها ، وكثيراً ما يعجزون !
وما زلنا في لبنان ، مثلاً، وفي غياب تلك النّصوص التي صنعت القسط المعلّى في حضارة الغرب ، ما زلنا نشمّر ونلحق بأزياء الغرب ، أدباً وفنّا وفكراً ، فلا نمسك بأطرافها إلاّ بعد أن يكون قد استهلكها ، وجاز عنها الى غيرها . لحقنا بالرومنطيّة في اوائل القرن العشرين ، وكان الغرب قد تخطّاها الى الرمزيّة ، وتلقّفنا الرّمزيّة حين كان الغرب يستهلك السورياليّة وما زلنا نتحرّش بالسورياليّة فيما الغرب يبحث عن سواها .
ولعلّ الحلّ في الدّخول الى حضارة اليوم من الباب الإغريقيّ ، فمنه دخلت اوروبا ميادين حضارتها . وهذا ما أدركه ليوبلد سنغور، الشاعر بالفرنسيّة و عضو الأكاديمّة الفرنسيّة ، فإنّه حين كان رئيس جمهوريّة السنغال ، أدخل في مناهج التعليم اللغة اليونانيّة وآدابها ، وأنشأ بكالوريا اللغات القديمة ، وفي طليعتها اليونانيّة .
وأملنا ، والأحداث المأسويّة تتلاحق ممعنةً في تمزيق وجداننا وبلادنا بين النّسق والخواء ، والكون واللاّكون ، أن تنفح الماسويّة في ما نصنع من شعر وفكر ورسم ومسرح ورقص وغناء وموسيقى، وسينما وغيرها، فنكفّ عن النسخ الفجّ ، والدوران في الفولكلوريّة الرتيبة ، والطّنين والرنين وإثارة الطّرب السّهل . وأملنا أن تحمل الينا ، في مطالع القرن الواحد والعشرين ، أصداء عالم ينهار وعالم ينهض، ويسعى إلى صناعة الآيّام الآتية ، وربما صناعة الإنسان الجديد !
أما كفانا مذلاّت ونحن مهمّشون ، ونهبٌ لمن نهب ،وكأنّنا الكرام على موائد اللئام ؟
[1]أنطوان معلوف، المدخل الى المأساة، مكتبة لبنان، الشركة المصرية العالمية للنشر، ط1، 2009
[2]ربيعة أبي فاضل، في أدب النهضة والمهجر، دار الركن، 2005، ص 29 – 74
[3] المدخل، ص 66، 145 و 146
[4]Mircea Eliade, mythes rêves, et mystères, gallimard, Paris, 1957, p. 30
[5]المدخل، ص 79
[6]ن.ص. 80
[7]أنطوان معلوف، صفوة المؤلفات الكاملة، مكتبة لبنان، ط 1، 2005، ص ط
[8]أنطوان معلوف، المدخل، م. س. ص 44
[9]ن. ص 57
[10]Gilbert Durand, L’imagination symbolique, p. u. de France, 1998, p. 30
[11]Mircea Eliade, Le secret et le profane, gallimard, Paris, 1965
[12]المدخل الى... ص 43
[13]ن. ص 89
[14] ن. ص 93
[15] ن. ص 94
[16] جبران، المجنون، م.ك. دار صادر، ط 1، 2002، بيروت، ص 19- 20
[17] المدخل، ص 94
[18] ن. ص 140
[19] ن. ص 140
[20] المدخل، م.س. ص 143
[21] ن. ص 147
[22] ن، ص 365
[23] ن. ص 336
[24] Mircea Eliade, Images et symboles, gallimard, 1980, p. 28
[25] المدخل، ص 11،18
[26] ن. ص 51 – 52
[27] ن. ص 111
[28] ن. ص 152
[29] ن. ص 152
[30] ن. ص 337
[31] لويس عوض، نصوص النقد الادبي، دار المعارف بمصر، 1965، ج 1، ص 96 (الضفادع لأرسطوفان)
[32] سفر أيوب، ف 4، آية 19
[33] ن. ف 16، 13 – 15
[34] ف 19، الآية 25، ف 36، 14 – 24
[35] الاقتداء بالمسيح، نقله عن اللاتينية أحد المرسلين البولسيّين، المطبعة البولسيّة، 1955، (مقدّمة بولس سلامة)، ص 150
[36] نجوى نصر، أساطير ما بين النهرين، دار جامعة أكسفورد للنّشر، بيسان، ط 1، 1997، ص 177 – 184
[37] ن. ص 184
[38] Jacqueline Duchemin, prométhée, histoire du mythe, société d’éd. Paris, 1974, p119, 120
[39] Ib. p. 89
[40] جبران، م. ك. معرّبة (يسوع ابن الإنسان)، م. س. ص 141
[41] المدخل، م. س. ص 76، 79
[42] في أدب النهضة والمهجر، م. س. ص 36
[43] Platon, la république, Ed. Gonthier, Paris, 1963, p. 70
[44] المدخل، م. س. ص 76، أيضاً: أنطوان معلوف، صفوة المؤلفات الكاملة، مكتبة لبنان، ط 1، 2005، ص 49
[45] ن. ص 69
[46] صفوة المؤلف، نجمة أنطاكية، ص 207
[47] ن. ص 189
[48] Edith Hamilton, La mythologie des dieux, ses Héros, ses Légendes, Marabout, 1997, p. 60