سلام إلى رئيف خوري، سلام إلى الفكر الذي لا يطويه عقوق الزمن
جاك أ. قبانجي
موعدنااليومقررتهالحياةالتي لا يقهرها الموت. حياة فكر خالف المألوف فكتب لنفسه مسارًا لا يعترف بالإرتهان لمرور الزمن الاعتيادي. أي الزمن الذي، على جاري عادته، هو مجرد تعاقب رتيب يتمّ خارج التعيّن والتحديد. لا بل هو فكر يميّز الزمن الذي يتحقق فيه بسبب من كثافته وقوته التعبيرية. وبالأخص بسبب التصاقه بالزمن الاجتماعي الذي يتمحور حول قوى تقول بالثورة وتعمل لها، وأخرى مرتهنة للماضي تحاول احتجاز هذا الزمن في مسار اعتيادي لا يحتفل بإيقاع الحياة وصراعاتها. هذا الزمن الاجتماعي لا تختزله، بالتآكيد، مواجهة تستعيذ بتلاوين مبسطة وثابتة. بل تمّيزه أفكار تحمل التناقضات التي يعتمل بها الاجتماعي فتضع من يهجس بالعدالة الاجتماعية والمساواة في المواطنة في تعارض صريح وعنيد مع من يعمل للحفاظ على الامتيازات والتفاوتات واحتكار السلطة.
هذا قانون لا يختص بمجتمع دون غيره. ولا بفترة دون أخرى. إنّه قانون الحياة الاجتماعية مهما تعددت التفاسير وتنوع النظر. لكن التعبير عنه، أي عن هذا القانون، هو الذي يكشف حدّة الصراع أو يميّعها. والفكر أبرز وسائط التعبير هذه لآنّه يختص بالكشف والتحليل والتفسير والمآل حين يشحذ أدواته ويُعمل النقد. هنا يختلف المبدع ومستقريء التغيير عن المنكمش بفكره وحبيس الأمر الواقع. ولا أعرف أن ثمة من أحتفى بفكر مشدود للماضي أو مأسور لواقع تمييزي.
رئيف خرري، الذي يحضر مجددًا في مئويته الأولى، لم يترك لنا فكرًا مضيئًا فقط. ولا نقدًا جذريًا يتجاوز بالتأكيد مجرد الإدانة حصرًا. بل هو ترك زادًا غزيرًا من الثقافة النقدية التي ترتكز إلى الصلة الوثقى التي تربط التاريخ والمجتمع بالفكر. هكذا قرأ رئيف تاريخ الثورة الفرنسية. وهكذا إدرك أثرها الاستثنائي على المسار الانساني عمومًا وعلى مسار الشعوب العربية تخصيصًا.
وفي قراءته هذه لم يستسلم رئيف خوري لوهم ترانسدانتالي شائع يعتبر الفكر، بذاته ودون غيره من المحددات، الفاعل المحدد لمسار الأحداث. بل هو يعلن في تعريفات اعتمدها منطلقًا للنظر، أنّ "جماعة الفكر ميالون، في الأغلب، إلى تحميل أنفسهم كل مسؤولية الانقلابات والإصلاحات. والذي نراه أن الفكر الإصلاحي، فيما يتعلق ببعث الأحداث الاجتماعية، يختلف شأنه، فمنه ما تتفق له تجريدات وإيغالات في المثل […] فلايخرجعننطاقالأحلاموالرؤىويقتصرتأثيره[…] علىإيقادالشوقالغامض إلى ما "يجبأنيكون" إطلاقًا،فيظلّ تطبيق محتواه وإخراجه إلى حيّز الفعل متعثرًا، بل متعذرًا. ومن الفكر ما ينظر إلى الواقع فيلمس فيه عناصره التي تشيخ وتنحط، وعناصره التي تنمو وتنهض، فيركّر مذهبه الإصلاحي على العوامل النامية في الواقع حوله، ولا يطمح إلى "ما يجب أن يكون" إطلاقًا، بل إلى "مايمكنأنيكون" بالنسبةإلىوسائل التحقيق التي هيأها ويهيئها له الوضع والتطور التاريخي."
هكذاهوالفكرالمتعيّناجتماعيًاالذيتغزّت منه رؤية الرئيف، والذي صقلته تجربة ديدنها الصلابة وقوة المواجهة ووضوح الطريق. هذه الطريق التي سلكها معه وبعده ذاك الذي عمل على مغالبة الموت في فكره وفي تعلقه الشغوف بالشباب والنساء والفرح والنكتة التي لا تستكين. إنّه محمد دكروب الذي، وهو يعلن تمسكه بالحياة عبر تجديد شباب"الطريق" والإعدادللذكرىالمئوية لرئيف خوري، كان مدفوعًا بشوق اللقاء مع رئيف. فلم ينتظر لحظتنا هذه. بل غادر مطمئنًا بإن الإعداد للمئوية قد اكتمل وبأن الفكر الذي حمله رئيف وجد من يثابر عليه ومن يجعل منه عنوان ممارسة لا تكلّ.
سلام إلى رئيف خوري. سلام إلى الفكر الذي لا يطويه عقوق الزمن.