انطوان الدويهي
حساسيتك تنفك وتمتعنا *
هاني فحص
أقترح أن يختار انطوان الدويهي في الطبعة الثانية عنواناً قال لنا انه استبعده من بين ثلاثة احتمالات ، أعني "حصن المينا" حتى من دون كلمة مدونات ، لأن الحديث عن أي حصن ، يفترض أو يُفهم أنه حديث عن مدونات ، أو يوميات سجين ، إذ الحصون في هذا العصر لا يمكث فيها طويلاً الا السجناء ، ومن جعلوها سجونا ، كأنهم يقولون لنا إن التاريخ سجن أيضاً ، هو سجن إذا ذهبت اليه ولم تستعد الحاضر لمنع المستقبل ، فيتم استحضار صلاح الدين من أجل تسويغ الحجاج لا من أجل فلسطين ، كما استحضر بطرس الأكبر من أجل ستالين ، ولا أدري لماذا شممت رائحة تغريب غير مستغرب بل مفهوم في عنوان "حامل الوردة الأرجوانية" مستحضراً عناوين روائية غربية حديثة ، وكمبرر إضافي لاقتراحي ، أرى ان الرواية على ما فيها من تحشيد وتكثيف رومانسي يلائم عنوانها ، فإن الشخصية المحورية الموازية لشخوصها "الراوي ووالدته ورانيا وآنا" هي الحصن. والمكان في الحياة والتاريخ والدراما والشعر ، يرتفع الى مستوى الجامع للناس والأشياء والأحداث ، فإذا ما نسبت اليه الرواية فكأنما هي تعاد الى رحمها أو مصدرها الدرامي. لأن الرواية أو الحكاية ، هي ذاكرة مكان ما ، يصعب أن تكتب رواية مصرية من دون سجن القلعة أو طرة ، أو عراقية من دون سجن النقرة وأبو غريب ، أو سورية من دون سجن تدمر وصيدنايا وعذرا والمزة وكل سوريا ! ومن هنا قرأنا روايات ممتازة كان المكان عنوانها وبؤرتها الدرامية ، زقاق المدق ، وخان الخليلي وميرامار نجيب محفوظ ومسحوق الهمس ليوسف ادريس ووكالة عطية ومقهى صالح هيصة لخيري شلبي ، والكيت كات لابراهيم إصلان ، والجبل الخامس والطريق الى أصفهان ، ورباعية الاسكندرية لورانس دريل .. وسمرقند والموت وغيرها .. وعلى ذكر المكان كان بودّي أن تنص الرواية على طرابلس بالاسم كمكان لأمكنتها ، ومدينة ذات معنى وطني ، الى عمقها خاصة التكية المملوكية .. وهناك ضرورة ، أمس والآن وغداً ، بسبب مشهد الخراب العلائقي المستشري في الفضاء المشترك للثقافة المجتمعية المتميزة للبنان ، وخاصة شماله ، والتي نشّطت حركة التعارف فقطعت على الحرب طريقها وأعادت الحياة الى إيقاع الذاكرة ووفرت دماً أراه الآن يغلي وكأنه مصل سياسي أو طائفي ، وطرابلس زغرتا معادلة حضارية ، ابعد من علاقات الضرورة العابرة أو الاختيار بين مركز وطرف بالمعنى الاداري .
لقد زرت طرابلس مقيماً في بخعون متردداً يومياً على الفيحاء ربيع عام 1980 ضيفاً على السيد مصباح ميقاتي في مكتبته ، لأسمع مستهجناً وقتها اسماء جوزف والياس وجورجيت ، العائدة لزغرتاويين يجولون بطمأنينة في طرابلس ويعودون ليلاً الى مدينتهم وقراهم أو لا يعودون ، وهم آمنون في كل حال بعد حرتقات طائفية لم تلبث الذاكرة المشتركة والمصالح المشتركة أن وضعت حداً لها ،
ارجو المعذرة منكم ومن انطوان الدويهي إذا كان النقد الأدبي بمعناه الحرفي أو الأكاديمي متراجعاً في كلامي لصالح انطباعات القارئ المعني بما يقرأ ، ما جعلني أختلق للرواية سياقاً موازياً مشتقاً من المشهد اللبناني ، ومن الفصل الطرابلسي خاصة ، وكأني أنتقل من النص الى الحدث لأسباب ذاتية وموضوعية ، غير ان هناك سبباً أعمق يأتي من كون الرواية في جوهرها وهاجسها الكامن من وراء ابتداعها ، تكاد تشكل ذاكرة المشهد الراهن وتؤشر على احتمالاته الرديئة ، ما لم يشتغل العقل اللبناني على شراكة للإنقاذ . لقد رجحت عنواناً على عنوان ، مدخلاً للحديث عن طرابلس ، أي عن فضاء الرواية ، خاصة في المساحة أو الوصلة أو منطقة الحب الذي احتدم في منطقة الحلال بين مسيحي زغرتاوي ومسلمة طرابلسية ، اردت أن أمجد لطرابلس اختراقها أو هتكها للسواتر الطائفية .. وهي تتعرض الآن للثأر من سلوكها الاندماجي ، ويتم تحويل أحيائها ذات النكهة البنغالية في فقرها ، الى نماذج مشوهة من "حصن المينا" وقد كان لي شرف الشراكة مع فرح العطاء في ترميم بعل الدراويش وتجميل بعل الدقور ، في ورشة تختزل لبنان المرتجى المتعدد المتوحد على انتظار وطن تضمنه دولة ،
لطالما غازلتنا طوائفنا عذرياً أحياناً ، وإباحياً أكثر الأحيان ، لتأخذنا الى العصبية ، فضعفت نفوس كثيرين ، ذهبوا بعيداً حتى عن أهلهم ، على ما عرفنا أهلنا ، وأنا وأمثالي ، لم نخلُ من ضعف أمام الإغراء الطائفي والمذهبي ، ولكننا كنا قد قرأنا تاريخاً وشعراً ورواية أعادتنا الى المشترك ، لقد كانت الثقافة البينية ، التي انتجناها معاً وأنتجتنا ، هي التي أعادتنا ، لأنها كانت احتياطنا الذهبي والمضاد الحيوي للكفر الذي يلابس الإيمان أو يدعيه ويخادع الناس والله ، ويمكر والله خير الماكرين .
أذكر هنا أمثلة ليس إلا .. من محمد رشيد رضا ومناره الى الشيخ محمد الجسر وقصة الإيمان ، الى ميخائيل نعيمة وعبد الله العلايلي ورشيد وأمين نخلة ومارون عبود وأخص بالذكر جبران ، الذي بزغ من (الفتوحات المكية) وتفجر نهره من بشري منحدراً الى طرابلس ممتداً على كل المحضر والمهجر اللبناني ، متدفقاً شلالاً : على مدى الأيام والأعمار ، حالماً بتغيير الفصول ، ليقول للفرات على ما يقول أدونيس أن يمتد كالسقيفة ، ليمنع غير الشعر أن يبايع الخليفة ، إنه ليصعب علي أن أتصور مدى الصعوبة التي ستواجهنا في المستقبل ، أو هي تواجهنا الآن ، في رأب الصدع المعرفي بين أبنائنا وأحفادنا ، من خلال بعث وتجديد الثقافة البينية الجامعة ، بعدما انتشر الوباء الجاهلي ، من خلال تدفق تفاصيل معرفية قد تكون حقيقية لكنها منقضية ، أو مختلقة ، بالأديان والمذاهب ، إلغاء للدين والحياة والحقيقة .
من أسطره الأولى يضعنا انطوان الدويهي أمام وعد درامي كبير .. فالراوي وهو صاحب الرواية من دون مواربة ، ومع ما يقتضي من التفاصيل المضافة ، توخياً للإيهام بالمعنى الأرسطي ، وفيما عدا الروايات المحض تاريخية ككفاح طيبة أو رادوبيس أو شيفرة دافنشي ، فإن أكثر الروايات تكاد تكون سيرة ذاتية لكتابها ، وفي كثير من الروايات التاريخية حتى ، تقتحم ذاتيات الكاتب ، ثنايا الرواية .. ونجد الدرامية الموعودة ، في تعريف الكاتب الدويهي للراوي بتركيز شديد بقوله " رجل محايد ، هادئ ومسالم " ومع ذلك اعتقل ! هذه المفاجأة هي زهرة الدراما أو شوكتها ، أي أن يفاجأ الراوي باعتقاله لأنه مسالم ، ولو لم يكن مسالماً فلماذا يعتقل ؟ إن المقاتل يتفاوض ويتصالح مع المقاتل الآخر ، ويقتسمان الغنائم المسالمة . وليقل لي أحد في لبنان هل اغتيل إلا المسالمون المعتدلون ؟ وأكثرهم إن لم يكن جميعهم ، قتلهم نفس الطرف الذي يتهمه الدويهي بالاعتقال ، الم يكن ينبغي لأسباب درامية ، أن يسلك الدويهي مسلك الحفر في هذه المساحة من التناقض حتى تشتعل روايته ؟ ولكن انطوان استعاد حيويته برصيده التشكيلي وسردياته التي شكلت حكايات بذاتها .. ومن هنا اقر بأني وقعت من الرواية على لوحات رجل مأخوذ أو مسحور ، وعلى حق ، ببيئة الإمارة الجبلية الشمالية الموصولة ببحرها وحاضرتها العريقة والمفتوحة على الحرية . ولعله من هنا الفارق أو المفارقة بينه وبين (آنا) أو بين ثقافتين يقول في صفحة (11) "كنت أحسد آنا على قدرتها على الفصل العميق داخل نفسها بين الاستبداد وسحر حواضر الشرق " ، لو كان انطوان وآنا فرضاً ، في قاعة مسرح يشاهدان "يوليوس قيصر" لصرخ انطوان في وجه بروتوس بعدما قتل صاحبه يوليوس قائلاً : حرام ، ليس عدلاً ، خيانة ، غدر ، قبح . وصرخت آنا : جميل ، دراما راقية ، حدث مفصلي ، مدهش ، الخ ..
وأنا أدعي أنه في كل الاعمال الدرامية المشرقية هنالك انحياز الى جمال العدل وقبح الجور ، مقابل ثقافة هيلينية ، لا أتحسس منها ، انحازت الى المستوى الفني كأمر قائم بذاته وما عداه تفاصيل ، وهذا لا يمنع من القول : بأن ما تحقق من عدل على أساس الحرية الهيلينية أوفر وأعمق مما تحقق ، أو قيل بأنه تحقق ، من عدل على أساس نقصان الحرية في المشرق ، وفي مشرقنا خاصة ، على أساس ان الاستقرار يساوي الاستبداد ويقتضيه .. والدين يغطيه ، متنازلاً في التاريخ عن طموحه الى العدل على اساس الحرية .
هذه المفارقة التي التقطها انطوان الدويهي ، تكاد تكون السر الدرامي الأعمق الذي كان لحمة مفاصل الرواية ، لو تم الحفر حوله وحده ، مع ما يلزم من الوقائع المساعدة ، لكان للرواية شأن اضافي الى شأنها .
العمل الروائي تركيبي ، تتعدد قراءاته ومفاتيح فهمه وطرق الاستمتاع به وبوابات نقده والتباسات الكاتب بروايته أو مفارقته لها . من هنا تكوّن لدي انطباع بأن انطوان الدويهي في روايته لا يفارقه أو لا تفارق حذره الذي يمنعه من مكاشفات الواقع الفتنوي على أنها موانع إبداع .. أنا أشجعه على الحذر والتلافي في خطابه السياسي ، أما في الرواية ، فإن المطلوب من مرتا آمر آخر ، كان المطلوب من الدويهي أن لا يتجنب ذكر تفاصيل الطريقة التي قتل بها الرهبان السبعة ، ولو ذكرها لاحتدمت الرواية درامياً .. ولكان عثر وعثرنا معه على كنز سردي لا ينفد ، ولما كان احتاج الى مكابرة فلاح عاشق للفقر –مثلي- حيث يقول مكابراً :" إن شجرة سنديان أو صنوبرة واحدة هي في عرفي أهم بما لا يقاس من بناء شاهق" (ص18) .
ولكم كان بودي أن يلح على بناء علاقة تفصيلية مع بائع الفستق الذي أشار الى ان هناك صِقعاً آخر وراء ظاهره ، من خلال تعلقه بأغنية صالح عبد الحي : ليه با بنفسج ، التي تحتاج الى عاشق مثقف وحساس لتكون أثيرة لديه .
وأذكر له فضيلة الشجاعة رغم المراوغة في الملابسة بين ثلاثة رؤساء عرب يشبهون خريف البطريق ، ويذكرونك بياسين الحاج صالح ومصطفى جمعة ، وفاطمة أو فقير ، وفاضل العزاوي وغيرهم ممن كتبوا عذابات السجون التقدمية ، وروايات الأسرى الفلسطينيين عن سجن نفحة .
ولن يفوتني ما شد قلبي ووجداني لأنطوان وروايته ، بعيداً عن طقوس النقد الذي لا أتعاطاه لا على موجب نظرية فيه لأن خبرتي دلتني على أن الذوق الخاص هو أهم معايير النقد الأدبي .. وأن النقد هو اعادة انتاج أو تشكيل ابداعي للنص المنقود ، ما كنت أود فعله لولا ضيق الوقت ، يقول انطوان عن أمه ، أمنا ، وقد كانت زويا مكسيم غوركي ولعلها ما تزال أماً لكثير منا .. يقول "فهذه المرأة المسنة التي تحمل كل أسبوع أعوامها الثمانين لزيارتي في حصن الميناء كانت احدى أجمل نساء عصرها ، بقدّها الأهيف ، وبشرتها البالغة النقاوة الناصعة البياض ، ووجهها اللطيف القسمات ، المرهف الانسجام ، الذي زاده تألقاً شعر كستنائي فاتح وعينان لوزيتان مضاءتان بنور داخلي ، بحيث تبدو في صورها الفوتوغرافية القليلة وهي في العشرينات من العمر ، كإحدى عذارى رسم النهضة" وما أعلى ذوق شحرور الوادي الذي وصفها .. وصف أم انطوان الحقيقية التي تسطع وتشع في الرواية .. والتي تكاد تكون عمود الرواية ، بحيث أغرتني أن أتعقبها لأقرأ الرواية فيها ، مع انجذابي الى كل نساء الرواية اللائي قدمهن انطوان بعفوية عفيفة من دون مبالغة أو ملائكية مدعاة .. وقد أعادني انطوان الى الجنس الراقي العميق والمهذب والحاشد بالروح والشعر وصيانة الجسد من الابتذال وتقطيعه الى كتل حسية باهتة ، لا تلبث بعد الوصال أن تفقد البهجة والجاذبية وتخرج من الذاكرة حتى القريبة .. وتذكرت ان هذه هي صورة الجنس الراجح فيها مقدار جماليتها ، في الأدب الروائي الغربي والمشرقي ، من تولستوي الى غوستاف فلوبير الى سرفانتس الى نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم .. حتى زوربا كازنتراكيس وحتى نايوكوف الذي أنصفته الإيرانية (آذر نفيسي) في إعادة قراءته بعيداً عن تشويه الترجمة العربية والصورة الإيروتيكية الجافة والمبتذلة والقاسية للوليتا .. يقول الدويهي "كيف عادت نظرتي الى المرأة .. بين ليلة وضحاها على ما كانت عليه في البدء ، ذلك السحر الأول سحر المرأة الحلم ، والشغف الماحي كل ما عداه " ( ص 56) .
ويبدع انطوان في نص طويل عن مشاعر رانيا وتجربتها في نص كامل بالمعنى الأدبي في ص 67 الى 71 ويتابعه في صفحات لاحقة . ما جذبني ولكنه حرضني على القول بأن فكرة التمايز العمودي والأفقي بين إشكالية المرأة والرجل أو الروح والجسد في الغرب وبين إشكاليتها في الشرق ، حكم ينتمي الى تعميمات ، قديمة أتت مبالغتنا فيها وعدم احتمال تطورها من الرشح اليساري في أدوات تحليلنا منسجماً ، مع تعريفنا الساكن للشرق والغرب على نصابين متباينين تماماً ، كما في أدبياتنا التي انصبت على نفي حضارة المستعمر كلها من بعيد وعلى موجب المواجع ، على عكس من ذهبوا الى هناك مبكراً فرأوا المشترك والجذاب والمختلف والمنفر معاً كالطهطاوي مثلاً.. أنا أحتاج الى ماعون ورق لأستكمل رؤيتي للرواية .. والذي فاتني بسبب العجالة .. أكثر بكثير وأهم مما ذكرته .. أختم باسترعاء نظر انطوان الى ضرورة الانتباه لإشكالياته أو قناعاته الفكرية ، وأن لا يسمح لها في روايته القادمة بأن تقتحم السرد فتقطعه بترجيح الفكروية على الفنية ، مثلاً. وفاءً مني للتركيب الروائي المتعدد المستويات لم أختزل هذه الرواية بفكرتها المركزية ، اي مركزية الاستبداد الأخطبوطية بل أخذتها طولاً وعرضاً طلباً للمتعة التي تلائمها الفوضى إذا كان الفنان هو الفوضوي . انطوان الدويهي تفوقت عليك (آنا) الغربية بإلحاحها على الولد . كنت بخيلاً جداً مع أنك مشرقي وابن عيلة ! انتبه مستقبلاً الى أحكامك الموروثة كأحكامنا على ما فيها من جور وقلة دراية والى تكنيك رواياتك الذي يحتاج الى صبر كبير كصبر أمك ونساء روايتك ووطنك .. حسناً ستبقى معنا ، نجحت ، الى رواية أخرى .
حساسيتك الفنية تنفعك وتمتعنا
* انطباعات قارئ عن رواية انطوان الدويهي "حامل الوردة الأرجوانية".
حامل الوردة الأرجوانية
أنطوان الدويهي
دار المراد و الدار العربية للعلوم ناشرون
١٩٠ صفحة
بقلم د. ملحم شاوول
تقديم الرواية بشكل عام
نصّ جميل، لغة ساحرة، يمزج بين السرد القصصي و التعبير عن الذات العميقة في عملية استبطان المسارات الذهنية و العاطفية.
تجد نفسك بين هذه الفصول الصغيرة التي يشبه وقعها وقع جلسات التحليل النفسي القائم على توارد الأفكار و سرد الأحلام كأنك في بحث علاجي يكشف الشخصيات في ظاهرها وباطنها. و تشارك الراوي في ثنائية حالته بين الإختناق و التنفس مستذكراً الأجواء الحرّة التي استمتع بها في الماضي و ما تزال، من خلال ذكراها، تروي شغفه الراهن بالحرية.
الراوي، كما سوف تكتشفون، مسجون، فاقد الحرية و الحركة و هو ينتظر مصيره و ليس لديه إلا الذكريات و المشاعر سلاحاً يقاوم بهما الاضطهاد الذي يضربه، إلى جانب تحصّنه أيضاً بعاطفة والدته الصامتة وباهتمام صديقته المستجدّة، رانيا، اللتين تزورانه في سجنه.
النصّ هو رواية- أنشودة حول مقدرة الإنسان على استعادة كيانه و وجوده مهما كبر أو عظم الضغط المشّوِه للحالة البشرية. أي الطاقة على ال resilience و ليس ال resistanceأي مقدرة الأشياء و الكائنات الحيّة على استعادة حجمها الطبيعي مهما عانت من ضغوط وتشويه.
شدّ انتباهي أيضاً علاقة الراوي بالطبيعة، علاقة ربما تتقدم على علاقته بالبشر. طبيعة حاضرة بقوة: سماء و نجوم و بحر و موج و شتاء و رياح و شمس ساطعة (يكرهها) و حدائق و منتزهات، الخ.
التركيب الروائي
إنها رواية تفكيكية للظواهر و للأشخاص. الظاهرة الأولى و الأساسية التي يعمل السرد الوصفي على فكفكة عناصرها هي ظاهرة الاستبداد و شخصية الطاغية. لكن، فيما الراوي بفعل يقوم بذلك بطاقة تحليلية مدهشة، ها هو يحلل نفسه و يعيد تقييم علاقاته و يغوص مجدداً في أعماق شخصيات حياته خصوصاُ آنا و لورا و رانيا.
لكنها أيضاً رواية تعيد البناء بعد التفكيك. هذا، برأيي، تحديداً فعل الحرية. إعادة تركيب و سرد الزمن الماضي انطلاقاً من حياة الأفراد كنقيض مطلق لحياة الطاغية. ممارسة واعية تماماً لدى الراوي عندما يقول إن الكتابة هي سبيله الى تجاوز الزمن و الموت فيما السلطة هي سبيل الطاغية الى تحقيق هذا الهدف.
يتخلل النصّ توجهات ذات طابع معياري أو مثالي حول الحياة و أنماط العيش و طرق السلوك. مثلاً نصيحة الأم " لا تخشَ شيئاً، فما يخشاه المرء يقع فيه". أو تجربة " الصمت الذي يجلب العنف".
نلاحظ أيضاً تمكّن الراوي ببراعة كبيرة من السيطرة على الإيقاع الزمني للرواية في سياق توارد الأفكار بين الزمن الطويل والهادئ واللحظات السريعة، الهنيهات الزمنية التي تسبق العاصفة. فها هو يتمكّن مثلاً في اللحظة التي تسبق اعتقاله من استعادة نزهة على شاطئ المدينة البحرية و مقهى الشراع الأبيض و تأملات و ذكريات مع صديقته آنا ، و كتاب "سيّد الروح" ...
توصيف الاستبداد و الطاغية
تقول هنّا أرندت: الشرّ أخطر ما فيه تفاهته. الطاغية رجل عادي يأتي من بيئة اجتماعية عادية وهو أي واحد و أي واحد طاغية كامن.
يعرض لنا الكاتب المسجون العناصر المكونة للحالة الاستبدادية:
يحصل الاعتقال في ساعة متأخرة من الليل
لا يعلم المعتقل سبب سجنه
الجهاز الأمني هو المحقق و المدّعي و القاضي و المنفّذ للأحكام
التجسس على الحياة الخاصة للناس و استخدام وثائق خاصة و رسائل حميمة لتوجيه التهم والتحكم بالخصوصيات وصولاً إلى التطبيع و الاستتباع.
الطاغية تافه و شرّه في تفاهته. الطاغية شمولي بطبيعته يتحكم بالأشياء و بالناس و بالسلوك. يتغلغل- كما يحلو للكاتب أن يقول- في المؤسسات و في عالم الأفراد الظاهر منه و المخفي، وجوده حسّي وافتراضي. الطاغية أجهزة و صور في كل مكان و يافطات و أناشيد، و في وضع سجين الرواية،للطاغية صورة وابتسامة ازدراء،فداخل غرفة السجن تظهر بوضوح، المواجهة هي بين شخصين خصمين متنازعين لا هوادة بينهما.
الطابع الشمولي لذهنية الطغيان لا يتحمّل أن تكون هناك أشياء خارج سيطرته وتحكمه و هذا هو مفتاح فهم الرواية. (كما قال أحدهم يوماً: نحن نتعامل على أساس معادلة ع-ع أي إما عميل و إما عدّو). وهنا يضيف الراوي ميزة غير مألوفة على "ميّزات" الطاغية و هي مقدرته على ولوج نفس الأشخاص المعتبرين أعداء كامنين الدخول إلى أعماق أفكارهم و كشف مخططاتهم.
توصيف الضحية/الراوي/الكاتب
عامل في مجال الكتابة و التأليف و الصحافة. "مجنون حريته" وهي مقياس علاقاته بالعالم وبالآخرين. و هو غير ملتزم سياسياً بالمعنى الضيّق ولا يمارس التدخل بالشأن العام. أنه شديد الحذر حتى في علاقاته الخاصة و إذ يكشف أسراره و تأملاته لأقرب التاس اليه، لا يوقع رسائله الى أنا بأسمه بل ب" حامل الوردة الأرجوانية".
انه الأقرب الى نوع الأشخاص المنكفء على ذاته introverti لكنه شديد الاهتمام بكل ما يحيط به ومن بين الكمّ الهائل للعناصر التي تشكل عالمه الخارجي يختار ما ينسجم معه ليصبح جزءًا من عالمه الداخلي. لديه قناعات راسخة ابرزها مثلاً علاقة الحرية بالأمكنة وبالجغرافيا فهو يؤمن ان "موطن" الحرية هو الغرب وموطن الاستبداد هو الشرق وقع في شباط الطاغية مرتين، المرة الأولى بحكم الصدفة والحاجة وعدم الحذر والحيطة وسرعان ما تنبّه واستقيظ وانسحب من بين خيوط العنكبوت. في المرة الثانية لحق به الطاغية وقبض عليه، وبين المرتين طارده الطاغية وتجسس عليه وعلى صديقته حتى تمكّن من الحصول على المراسلات الشخصية بينهما من خلال التسلل الى منزل آنا. ربح الراوي / المؤلف الجولة الأولى وقبض عليه في الثانية. كيف ستكون يا ترى خاتمة المواجهة بين الطاغية والضحية؟
"إنها وردة حرّية الروح":
خواطر في رواية أنطوان الدويهي
بقلم أنطوان سيف
"وطني شيئان: جمالُ الطبيعة والحرية. فإذا فُقدا، لا يبقى لي وطن" (ص 72). تلكلمُ الكلماتُ المفاتيح لمغامرة العبور إلى خضمِّ دلالات الأعماق غيرِ المرئية التي اتَّخذت الروايةُ، بمعنى السرد، أداتَها. مقولتان محوريتان لا تنفك عن وقائع الخراب والاستبداد اللذين يدفعان تهديد الحياة إلى حدهما الأقصى.
"هذه وردة حرّية الروح"، قال عنها مؤلفُها. ولكنَّ عنوان الرواية، مع ذلك، لا يرفع الابهام لأنَّ "حاملَ الوردة الأرجوانية" هو، في الأصل، اسمٌ مستعار يرمي إلى تمويه الهوّية الشخصيَّة لحمايتها. نوعٌ من المقاومة السلبية للاستبداد الذي حينما تحرمه جزءاً من جشعه إلى معرفة أسرار الناس وتوقهم العارم إلى الحرّية الذي يرعبه ويهدِّد سلطته، تكون جررتَه إلى ساحِ معركةٍ لا يتقن تقنياتِها الذكيَّة التي تبتدعها لغةُ العشاق الحميمة وتجعلها عاصيةً على على كل تلصُّص واقتحام من "العيون" الحجرية. تلك المقاومة التي اختارت لغتها بتأنٍّ، وسوَّرتْها بهيروغليفيَّتها الطاردةِ لكل دخيل، والمتحجِّبةَ بالصمت عن اللغة العادية في الاحتجاج والرفض، هي الحدود القصوى التي دونها يغدو الحيادُ الظاهر، أو العزلة المختارة، استسلاماً وتواطؤًا. ليس للمستبدِّ أن يتذرَّع بحقيقةٍ لممارسة استبداده. فنحن نستدرجه إلى طغيانه حين نكثّف في سلوكنا تمويهَ بدعِ عشقنا للحرية وتعميةَ أفعالها! إلاّ أنَّ جمال الطبيعة والحرِّية، عندما نجعلهما صنوَ الوطن وهوّيتَه الحصرية، قد ننزلق، عند تعرُّضِهما، إلى التنازل للقبولِ بأوطانٍ أخرى بديلة هي، في الواقع العام، أكثر حريةً وأكثر حدبًا على البيئة! الشطحُ في هذا التوجُّس المحتمَل، والذي نخشى احتمالَه، يخبو حكمًا ويخفت حين نتذكَّر بأن الوطن نادراً ما يومِضُ في الوجدان بغير مثالٍ أعلى. فهو إضاءةٌ لقتل ظلام معمَّم، جرحٌ في أفئدة تقرِّبها وتوحِّدها المعاناةُ المشتركة ، وفي المقام الأخير شوقُ الجماعة البشرية وتوقها الدائمان.
أنطوان الدويهي المهجوس بالحرية لا يني يقوم بأبنيةٍ فكريةٍ فنيةٍ إبداعيةٍ، روايتُه هي إحداها، لجعلها سلوكاً نحياه جميعًا، ولمصالحتنا مع التاريخ، تاريخِنا. واحدةٌ من قممها العملية، وأكثرها بياناً وإطلالةً وليس أوحدَها، كان مشروعَه الانجاز بعنوان: "أربعة قرون من تاريخ الحرّية في لبنان" ضمَّه كتابٌ جماعي التأليف والهوى، قد يكون الأجملَ والأضخمَ الأغنى الذي خرج يومًا من المطابع اللبنانية، والأغلى ثمناً أيضاً، على الاطلاق!
ها نحن إذاً، مع بطل هذه الرواية، بإزاء إحدى ضحايا هذه الحرية، المعتقل في "حصن الميناء". من غير معرفته بالسبب المباشر لاعتقاله الذي سيتكفل سياقُ الرواية بالكشف عنه.
وإذ مهمَّة مديرِ الندوة ومقدِّمِها، الذي أتبوأُ دورَه ههنا، لا تبيح تجاوزَ الوقت المقتَّر المخصص لمداخلته، سأكتفي – مع المعذرة - بعرض بعض الملاحظات حول نهج الرواية وأسلوبها، وحول مضمونها وأبعاده.
- التماهي بين المؤلف والراوي، وأن غيرُ معلَن، بائن واضح ويصعب فك أواصره: وهكذا تندرج "الرواية" تلقاءً في نوع "السيرة الذاتية" عموماً، سيرةٍ يميِّزها عن سواها في هذا المقام (إذ كل الروايات هي، بشكلٍ ما، سيرةٌ ذاتية مموَّهة "بموضوعيةٍ" شكليةٍ متوهَّمةِ المضمون. ولا ننسى، هنا، عبارة فلوبير الشهيرة: "مدام بوفاري هي أنا"!) هي محوريةُ الراوي (وهو من غير اسم) في سرده، بسيرةِ تاء المتكلمِ الأنوي، وتحرُّكُ شخصيات الرواية جميعها، وهي قليلة، بالنسبة إليه وحده، إنْ مباشرةً ومواجهةً، أم عبرَ التذكُّر! كما ينزُّ المضمون بوفرٍ من الافعال والأشياءِ الخاصة التي لا يخفى انتماؤها إلى سيرة المؤلف نفسه. هذا لا يقتل الرواية، بل يعزِّز حضورها الطاغي بهذه الهوّية الأدبية الراقية التي اختارت نبضَ "الحياة الداخلية" حيث التذكُّرُ والمخيالُ وصخبُ المشاعر العنيفة والرواقيةِ بصمتها، تتداخل "على غرار أشعة شمسٍ غاربة"، بحسب قول برغسون؛ أو، توارُدًا، كـ "شمس الأصيل" ، كما في أغنية رياض السنباطي.
- إلا أنَّ المؤلف، إذ يعتمد الافشاء في بعض الأعلام، أسماء الأمكنة بخاصةٍ دون الأشخاص المعروفين والمشهورين، فإنه يموِّه ذكر أسماء أخرى، ويخفيها؛ مثال ذلك، لبنان (أصبح "الإمارة"، أي كنيته، أو اسمه الناقص الدالّ على مرحلةٍ سابقة)، وطرابلس، وبلدته زغرتا، جارة طرابلس... بينما بالمقابل يذكر أسماء المدن الأوروبية صراحةً. هنا أجد أسبقيةً عنده للأنثروبولوجيا المقارِنة بين ثقافتين (غربيَّة وشرقيَّة) على الأنثروبولوجيا المونوغرافية الشرقية التي قدَّمَ في شأنها إنجازاتٍ دراسيةً لافتة.
- الاضمار الأكبر في الرواية يتعلق بالجانب الديني. فلا ذكر عنده للإسلام والمسلمين بالاسم، ولا للمسيحية والمسيحيين أيضاً. يتكلَّم على "جهاتٍ دينية متطرّفة" تنسف، تخطف، تمنع... من غير تحديد هوّيتها الدينية! ولا يدخل في الالتفاتة إلى النزاعات بين الأديان (وربَّما كانت نواة النص مكتوبةً قبل صحوة التمذهب الاسلامي النائم لقرون طويلة، ولكن ليست من غير مآسٍ ومجازر مستجدة متعاقبة ومتنقلة، ضمن البيئات الإسلامية. كما يتبدَّى الخوف على الحرية عنده في الخوف من "الاستبداد الشرقي"، ومظهرُه الاستنكافُ عن زيارة مدنه "الشرقية" والتفاعل معها... وتكون فرنسا في هذا المجال، في التقليد المسيحي اللبناني خصوصًا، وخارج وعي المؤلف/الراوي، ملجأً من الاضطهاد، ملجأً مثالياً (الأم الحنون) بحريته، المعروفة عالميّا،ً حيث يلتقي الشرقيون المختلفون دينياً بأسهل وأسلس من لقياهم بعضهم البعض في بيئتهم الشرقية؛ وبطبيعته المحافَظِ عليها، وجمالِ مدنها (التي كتب عنها مقالاتٍ كانت السببَ في الشك بولائه للمستبد المسيطِر على دولته)؟
لقد خرج المؤلف / الراوي من فرنسا عائدًا إلى مسقط رأسه، ولكنَّ فرنسا لم تخرج منه، لأنها كانت دوماً فيه (تقول الاسطورةُ، والبعضُ يقول التاريخ، إن عائلة الدويهي، كما عائلة فرنجية وسواهما في زغرتا، كما عائلات إسلامية في طرابلس أيضًا، تتحدَّر من أصول بعيدة فرنسيَّة صليبية! أيكون المؤلفُ، كسواه كثر في بيئته "الشمالية" اللبنانية، ممَّن لم تسقط من لاوعيهم كلِّيةً هذه "الأساطير"؟
- الغريب، والأدهى والاخطر ربما، أن الزمن، بدلاً من أن يجعل هذه الروايات ممكنةَ السرد من غير إحراجٍ أو توتُّرٍ مصاحب، لا يزال يفاقم عوائقَ ورودِها التلقائي إلى الوعي، ويخنق حريةَ التعبير عنها! وهكذا تكون روايةُ الدويهي اتهاماً لا للمستبد الحاكم وحده، بل لمرحلةٍ تاريخية مستبدةٍ ايضاً! فالاستبداد لم يعد محصوراً برأس الهرم السياسي، بل توزَّعَ في سلطات "المجتمع" الذي يسمِّيه البعض، تفاؤلاً: "المجتمع المدني"!
- الراوي جانباً، وهو الذَكَرُ المركزي، عالَمُ الرواية هو بمجمله عالمُ نساء: من الأم ورانيا في الوطن (وحدهما يراهما دورياً كل اسبوع في معتقله "حصن الميناء"، كل واحدةٍ على حدة، في يوم محدَّد)،. فالأم تبقى بهية الحضور كمثالٍ متعدِّدِ المزايا والقيم: في صلابة إرادتها، ورقَّتها، وحكمتها التي ترافق بعضُ تجلِّياتها الحكَمية سيرةَ الراوي وتتلازم مع مصيره، مثل وصيَّتها له: "لا تخف من شيء، لأنَّ كل ما تخافه تقع فيه"، في مقدِّمة روايته، كما تتحقق حقيقة حكمتِها في آخر الرواية. ورانيا التي سلَّمَها أوراقَه الشخصية التي دوَّنها في المعتقل وترك لها حسمَ خيار نشر الأوراق التي آلت لأن تصبح فعلاً هذه الرواية! إلى آنا الفرنسية الحاضرةِ الأولى في الرواية، عن طريق الذكريات، مع غيابها التام عن حاضره المأزوم. آنا الحبيبةُ الأبدية، آنا المتلهفةُ لإبن من علاقتهما معاً، مع تأبيه وخوفه وتردُّده، حيث فجَّرَ هذا التلهُّفُ علاقتَهما إلى الأبد. وحتى المحقِّق الرسمي الأوَّل معه، في السجن، كان امرأةً هي الرائدة "هناء" التي "سلَّم عليها يداً بيد" عن معرفةٍ سابقةٍ من باريس، قكانت المظهرَ الأولَ للسلطة العليا الذي واجهَه في معتقله!
- في كل هذه الإحاطة يمكن دومًا تلمُّس بديلٍ أنثوي عن الأنا الذكورية!
- وفي الرواية أيضاً أطراف حكايات كثيرة عن الانتحار تشي بمخاوف فعلية شخصيةٍ منه، غيرِ معلنة، يماسُ الهاجسُ منه وخطرُه شخصَ الراوي نفسِه، والخوف من احتمال قربه من أقربين منه!
- وفي الرواية دوماً مجالسُ في مقاهٍ، كأنه يشي بلااستقرار (كما في "ميرامار" نجيب محفوظ، أو "نزل السرور" لزياد الرحباني...) حيث الحروب وأزمنتُها مفاصلُ كبرى غيرُ واضحة المعالم، تقتلع الأشخاص من الأرتخاء في دعة الأمكنة المكينة وترميهم في القلق واحتمال الأسوأ.
- الراوي هنا هو شبيه لسميِّ المؤلف، أنطوان روكنتان، بطل رواية جان بول سارتر "الغثيان"، الذي ترك فجأةً مهمَّة التأريخ (أو الأنثروبولوجيا البحثية، غير الميدانية، والأدب، كما في حال بطل رواية الدويهي) إلى البحث عن كنه وجوده، أو قلق وجوده الذي وجدَه أخيرًا، ربما، في كتابته مأساته؟ لقد جاء كتاب سارتر على مشارف حرب كبرى (عام 1938): فهل تكون "حامل الوردة الأرجوانية" على مشارف شيءٍ مماثل عندنا، يتراكم حشد من القرائن السوداء لتعزيز صدق هواجسه؟
-
- لقد "اختار" الدويهي لبطله، في آخر المطاف، "سجنًا" آخر بديلاً عن "حصن الميناء" البلا نوافذ؛ سجناً مختلفًا، فيه أكثرُ من نافذة، تلك النافذة المحبَّبة لديه التي دأب على إطلاق العنان لعينيه من خلالها لرؤية العالم ، وليمارس عبرها، أينما كان، عشقَه لمنظر المطر الهاطل، تتعانق على زجاجها حبيباتُه المتفرِّقة، وتتَّحد. المطر الذي يجافي، في لاوعيه، جفافَ عالمِ الصحراء الملازِمِ عنده لمدن الاستبداد الشرقي التي يكرهها، والتي أرعبَه تسللُ أحدِ نماذجها إلى عقر بلاده، ما جعل تيمةَ الرواية كابوسًا لا نهاية له، تخرق سوادَه، وتفضح بشاعتَه، ومضاتٌ من الذكريات ومن لقاءاته الحبيبتين:الأم ورانيا.
- ولئن كان الاختيار، في عُرف الفلاسفة، المؤشرَ الأسطع على وجود الحرّية، فإنَّ الاختيار الذي فُرِض عليه كان شاهدًا على رسوخ الاستبداد وتماديه في قمع وردة هذه الحرية ومسخها، ما حوَّل "حصن الميناء" (مقلوب "قلعة الحصن" الجبلية، الطبيعةِ البهيَّة!) إلى رمزٍ لمعتقل شعب بكامله ووطن، وأقفال لأبواب مستقبل. عرضُ الاختيارِ بين افتداء سلامةِ الجسد (من "معتقل بلعة الصحراوي" ذي الصيت المرعب) بإذلال الروح (في "سجنٍ" مقترَح تسهل فيه القراءةُ وتصعب فيه الكتابة إلى حدِّ الانسحاق!)، اختيار مفاضلة بين عذابَين. في انصياعه إلى رغبة المستبدّ، أَنزَلَ عن كاهله حِمْلَ ذكرياته، وطرقَ باب الآتي، واستبدل شرودَه الخيالي إلى هناك بقلقٍٍ دائم على هنا الحرية والطبيعة الخضراء.
- "حصن الميناء" هو أيضًا سجن داخلي. والسجون، مهما طال النزول فيها، تبقى نقيضَ الإنسان الذي يتميَّز بكونه كائن الحرّية الأوحد، ولا يمكنها أن ترقى إلى حيازة دعة الإقامة وغبطة ديمومتها. وسجنه الجديد هو سجن مؤقت: هكذا يقول الأمل، لأنه يحيى ويستمر في كنف الأمل بسقوطه، ويهوي مع انهيار المستبد الذي يدعمه. هذه الثقة بالانهيار الوشيك للاستبداد، الذي "شرَطَ" خيارَه "الاذلالَ المؤقت" وحسمّه، عزَّزت المبالغةَ في الرهانَ عليه، في وجدان المؤلِّف/الراوي، مشاهدُ "الربيع العربي" المزامنة لمؤلَّفه.
- إلاّ أنَّ الكلام المرسَل على هذه الرواية الجميلة، الكابوسية الموضوع والمشرِّعة نوافذها، مع ذلك، على فرح آفاق مفتوحة ، لا ينوب عن صفحاتها الماية والتسعين التي نسافر بها، برفقة راويها وشاعرها الممتعة، عبر الأمكنة والثقافات والأزمنة إلى عوالم عشق صوفي لحريةٍ لا يشعر بها - للمفارقة – كثيرون منَّا، ولا يقلقون بالتالي من الضمور المتمادي لمساحتها! إلاّ أنها تبقى، كما يقول هيغل، المعنى الوحيد لتاريخنا كبشر.
أنطوان سيف
"حامل الوردة الأرجوانية" أنشودة إنسانية ضد الموت*
كميل داغر
في واحدة من إطلالات أنطوان الدويهي النادرة على الجمهور، ذات مساء عاصف جداً من كانون الاول 2009، وذلك في قصر الأونسكو ، في ذلك الحي "الذي احتضن شبابنا الأول" ، بحسب تعبيره، هو شخصياً، وردَتْ على لسانه هذه الكلمات:
"يقول دوستويفسكي إن "الجمال هو الذي سينقذ العالم". ليوناردو دافنشي ودون كيشوت ديلّا مانشا هما اللذان سينقذان العالم، وليس نيكولو ماكيافيل ولا فرانشيسكو فرانكو. الحلاج، وليس الحجاج، سينقذ العالم".
هذه الكلمات المقتضبة، والمعبرة للغاية، ربما تختصر الروح العميقة التي نسج بها انطوان الدويهي معظم كتاباته، ومنها روايتُه، التي نجتمع، هذه العشية، حولها:" حامل الوردة الارجوانية".
والكتابة لدى أنطوان الدويهي لا تنفصل، بالضبط، عن هذا الذي رأى الروائي الروسي الكبير، المنوّه به اعلاه، أنه " سينقذ العالم"، ألا وهو الجمال. الجمال بكل أبعاده، وبادىء ذي بدء، في جانبه المادي، أكان يتمثل بجسد المرأة المحبوبة، المقيم "في المخبأ المصون المظلَّل، في عمق هذا التراكم الهائل"، حيث تصبح، هي ، "جوهرته الفريدة العجيبة، المقيمة في مجاهل باطنه". الجسد البحت، ولكن كذلك "الجسد الروح"، " وقد حرره الوله، في حالات الوصال، كما في حالات الفراق والعذاب، من مصير الاجساد المعهود ، وأَولاهطبيعة نورانية". أو كان يتمثل بالطبيعة، الني يمتلك أنطوان الدويهي شغفاً هائلاً وخاصاً جداً بها، ويشعر بقلق وجودي معذَّب، حيال الخراب الذي يصيبها به عمل الإنسان.
الجمال ، ببعده المادي، نقول، ولكن ثانياً، ببعده الروحاني، وجوهرُه رؤيةٌ مختلفةٌ للعالم، قائمةٌ على تصوُّرٍ راقٍ، وغير نفعيٍّ مبتذل للأخلاق. وانا اورد لكم بعض ما يندرج ، في فكر أنطوان وقلبه، تحت هذه المقولة الإنسانية، مستقياً ، من ناحيتي، إياه، مرةً اخرى، من كلمته، في قصر الأونسكو، المنوَّه بها في مطلع هذه المداخلة. وقوامه، والكلام له، " النبلُ ، والرفعةُ، والصدق، والزهد، والإخلاص، والتسامح، والرأفة، وحب الارض، وصون الطبيعة"؛ كما مجموعةٌ سخية من القِيَم، وهي - والكلام له أيضاً – " قيَمُ الحرية، والعدل، والمساواة بين الناس، ونصرة المظلومين والفقراء، والمعذبين، والمسجونين، ورفض الدكتاتورية، بكل أنواعها، وبكل اقنعتها، ورفض أشكال الاستغلال التي تمارسها اجهزة السلطة ووسائل الإنتاج على الأفراد والجماعات والطبيعة".
وربما يمكن أن أطرح سؤالاً، في هذا السياق، هو التالي: "أليس موقف صاحبنا حيال الموت ، ونجده في كل كتاباته، ومنها روايته، التي نحن بصددها، الآن ، أليس يندرج، هو أيضاً، في هذه الرؤية الراقية، والمرهفة إلى اقصى ما يمكن تصوُّره، لمسألة الاخلاق، وقد تسامت لتتجاوز، في جانب منها، الفعل البشري البشع البحت، المنتج له، في كثير من الأحيان – وطالما شاهد الكاتب مظاهره وتجلياته، منذ طفولته، في المجازر واعمال القتل، ضمن بلدته بالذات، ومن ثم على امتداد بلده، كما في شتى أنحاء العالم – وترتقي لتصبح هذه الرؤيةُ صرخةً ضد الشرط الإنساني بمجمله، ومسألة الوجود بالذات، بحيث يصف الموت في كتاب سابقٍ له، ب"الفضيحة الكونية"، فيما يرى في روايته، "حامل الوردة..." ، وعبر لوحة فنية عائدة للقرن الخامس عشر، رسمَها الفنان الفلورنسي، بينوزو غوزولي، واسترعت انتباهه، بشكل خاص، هي لوحة "موكب الملوك المجوس"، مشهداً يصفه كالتالي:" كان هذا الموكب الغريب، الآتي بصمت لا أدري من أين، والمتجه لا أدري إلى اين، ينطوي على إيقاعٍ سحري، وعلى حضورٍ لا زمني، كموكب انتصار مذهَّبٍ ضد الموت" .كما لو كان ذلك حلماً، مهما يكن عصيّاً، لدى الكاتب، حلمَ الانتصار، بشكل أو بآخر، على هشاشة " ذواتنا وأجسادنا"، "الموعودةِ - بحسبه – بالزوال".
في كل حال ، دعوني الآن أنتقل من هذا العالم، الذي قد يبدو مفارقاً، من بعض النواحي، لكي لا أقول اقرب إلى الماورائية، إلى عالم أكثر لصوقاً بالحياة اليومية، والواقع، في حين يشدد صديقي أنطوان على ارتباطه الوثيق بعالم المثُل، مركِّزاًعلى هجره العمل السياسي، سواء في كلمته الملمَّح إليها، في مستهل هذه المداخلة، بصورة مباشرة، إذ يعلن ابتعاده، منذ زمن طويل " خياراً وطوعاً، عن السياسة"، او في الرواية التي نحن اليوم بصددها، وإنْ عبر بطل هذه الأخيرة، وهو في الاخير الكاتب بالذات، بصورة او بأُخرى، حين يقول، على لسانه، مستغرباً اعتقاله، دون سواه " من الأدباء والكتّاب، في هذه البلاد التي يتغلغل فيها أعمقَ فأعمق ظلُّ الاستبداد، على رغم أني – والكلام هنا للراوي– لا أمارس نشاطاً سياسياً، ولا اخوض قط في النقاشات الإعلامية، وكتابتي أبعد ما تكون عن الأدب الملتزم...الخ".
وأنا اقوم بهذه النقلة لأوضح أن كتابة أنطوان الدويهي هي في جوهر السياسة الاسمى، كرؤيةٍ للتعامل مع شؤون الكائنات البشرية، في المجتمعات، وإن لم تنخرط في وقائعها العادية، الموصومة في أذهان الناس، عموماً، بشرور المصالح الصغيرة، والدسائس والمؤامرات الوضيعة، وما إلى ذلك. وروايتُه، "حامل الوردة الارجوانية"، هي بحد ذاتها عمل سياسي، بامتياز، ولكن بالفهم الوارد اعلاه. إنها ثَبْتٌ رائع بالحقوق البسيطة، والسامية، للإنسان، وفي مقدمتها الحرية، التي يقول بصددها بطل الرواية، في مطلعها :
"ومع أني لم أكن أخشى الاعتقال، فقد كنت على الدوام ومنذ مستهل ذاكرتي، شديد التعلق بحريتي، وهي سمة غالبة على ذاتي الأعمق، ونابعة من المناطق القصية في وجداني، وفي لاوعيي، حيثيُحفظما أشعر أنه جوهري.شيء سحري لا دور لي ولا إرادة في تكوينه، ولا قدرة لي أو لأحد على المساس به وتغيير ذرة فيه، تسكنه نزعات وهواجس دفينة، من بينها هاجس الحرية.
ثبْتٌ بهذه الحقوق، أقول، ولكن كذلك بضروب الكفاح الدؤوب، لوضعها موضع التطبيق الفعلي، والحيلولة دون انتهاكها. والراوي يعطي صورة رفيعة تماماً عن الإنسان شديد الحرص على عدم التلوُّث بما قد تقترن به السلطة من فساد، وإفساد، أكان بما تقدمه هذه، من جهة، من مغريات، أو بما تمارسه، من جهة أخرى، من أعمال البطش المفرطة في البشاعة، مع ما يلازم ذلك، في الحالتين، مما يسميه انطوان الدويهي" قتلَ الروح"، وهو " الأسَرُّ على قلوب الطغاة"، بحسب تعبيره، وخلقَ أجيال من الكائنات المشوهة، يقول بصددها الكاتب، عبر بطل روايته، في إحدى الرسائل التي يصف فيها هؤلاء لحبيبته، ما يلي:
"تعلمين، أشعر هنا أني في بلد محتل. وهو محتل من ابنائه أنفسهم، وقد تسربت روح الاستبداد إلى معظمهم، وسلبتهم ذواتهم، فأضحوا بلا هوية، وفي غربة عن أرضهم".
ولا أبالغ إذا قلت إن خاتمة رواية أنطوان الدويهي هي، عدا كونها تندرج في رؤية ديالكتيكية مميزة بوضوح، للواقع والحياة، كسيرورةِ تبَدُّلٍ لا تتوقف ولا تنتهي، إنما تعبِّر، في آنٍ – على عكس التصورات البائسة لجزءٍ هام ممن يرون في أنفسهم، كما يرى فيهم الكثير من مواطنيهم، ايضاً، نخبة مثقفي البلد المعني – عن استيعابٍ خلّاق لما يحدث، منذ سنوات ثلاث، في المنطقة العربية، من حراكٍ ثوري يستهدف، في ما يستهدف، إطاحة الاستبداد، ودحر دكتاتورياتٍ مقيتة حالت إلى الآن دون ارتقاء شعوب المنطقة المعنية إلى ما يليق بها من حياة إنسانية كريمة تتوافق مع الإمكانات الهائلة، الطبيعية كما البشرية، التي تحفل بها بلدانهم.
يقول الراوي، وهو في آنٍ بطلُ الرواية، في الخاتمة هذه، بعد أن حسم موقفه، من دون تردد، ضد الدخول في صفقة بينه وبين الطاغية، يحصل بموجبها على حريةٍ مشروطةٍ بتسليم روحه لهذا الاخير - على غرار ما فعل الساحر فوست مع الشيطان ميفيستوفيليس، في رائعة الشاعر الالماني العظيم، غوته - وذلك بديلاً من إرساله إلى "معتقل بلعة الصحراوي" الرهيب، فيما بقي رهانه الوحيد على سيرورة التغيير، الملمَّح لها اعلاه، في نصٍّ بالغِ الجمال والكشف، حيث نقرأ:
"أشعر بأن اللغات التي أُحبُّها تنسج حولي نقاباً من الكلمات كأنه درع سحرية، واشعر أيضاً بأن ألوف الطيور ومئات الاشجار، الموصولِ بها والموصولةِ بي ، في حديقتنا الكبرى، وكلَّ الاشجار الباسقة التي عرفتُها وعرفتني، عن كثب، خلال صبايَ الأول وهِجْرَتي، ترافقني وتحرسني على طريقتها.كما أعلم علم اليقين ان الواقع، كلَّ واقع، يوحي بأنه أقوى بكثير مما هو عليه. وأن كلَّ واقعٍ، حتى الأكثر متانة، واستقراراً، تسري في انحائه حركةُ تحوُّلٍ دائمةٌ لا تتوقف، ظاهرةً كانت أم خفية. وأن كل واقع مسكونٌ حتماً بالتناقض والعطب والهشاشة، المودية به، عاجلاً أم آجلاً، إلى الانهيار. إن الألوفَ المؤلفة من المعذبين في أجسادهم ونفوسهم، والألوفَ المؤلفة من المقتولين الواعين موتهم، لا تضيع صرخاتهم وحشرجاتهم كالهباء المنثور، ولا هي تذوب في ذرات الهواء فتبددها الر ياح. كلّا، إنها تتسرب عميقاً إلى خلايا النظام وعروقه وشرايينه، حيث تصنع له موته. لا أحد يعلم تلك الساعة. فجأةً، بعد يوم، أو شهر، او عام، او اكثر، يترنح شبح الخوف داخل النفوس لا أحد يُدرك لماذا، فيخرج الشعب كالنهر الهادر، ويأخذ في طريقه كلَّ شيء"(!!!).
· - الكلمة التي القاها كميل داغر، مساء الأربعاء، 31نوفمبر/ت2 الجاري، في الحركة الثقافية – إنطلياس، خلال الندوة، حول رواية د. انطوان الدويهي،" حامل الوردة الأرجوانية".