مجلة "المقتطف": مقاربة تعريفية نقدية
لمؤلَّف الدكتورة أسمهان عيد
بقلم د. أنطوان سيف
إلى أي حد يمكننا التأريخ لمرحلة ثقافية انطلاقاً من الكلام على مجلَّة؟ مثل هذه المساءلة يمكن أن تكون مرفوضةً في الجانب العمومي، أو المطلق. إلاّ أن تحديد المكوِّنات بتعيين التسميات، تُبرز حالةً خصوصيًة تستأثر بعديدٍ استثنائي، وربَّما غيرِ مسبوق، من العناصر المعزِّزة لإجابةٍ ايجابيةٍ عن هذه المساءَلة الإشكالية الكبرى.
يعتبر مؤرخو الحضارة أن البشرية دخلت فعلاً في مرحلة حضارية جديدة بعد انقلابات فكرية وعلمية كبرى أزاحت معارف أساسية راسخة في تراثها على مدى قرون عديدة، لم يتورَّع بعضُهم عن وصف ذلك "بالقطيعة" التامة، بدءًا من اكتشاف كوبرنيكوس لمركزية الشمس الذي أزاح مقولة مركزية الأرض التراثية التي محضَها رسوخُها في الأذهان لقرون مديدة حصانةً قدسية، والتي التي لم يعد ثمة مجال لتفاديها، فبلغت ذروة "الحرب" حولها في العام 1633 مع محاكمة غاليليو، وما لبثت أن غيَّرت كلياً نظرتَنا إلى العالم. وكرَّت السبحة الاكتشافات العلمية الأساسية التي ألغت العلوم القديمة، وأفسحت المجال لما بات يُعرف بـ"العلوم الحديثة"، التي تُوِّجت، في أوروبا، باختراع الآلة من أنواع مختلفة، منذ بداية القرن التاسع عشر.
وإذ أن اللافت الأبرز في ذلك، كان التفوُّق الغربي في مجال العلوم والصناعة أكثر من سواهما، انبثقت عندنا بالموازاة الأسئلةُ الشائكة: لماذا هم تقدَّموا، ولماذا نحن نتخلَّف عنهم؟
شابان لبنانيان في جامعة أميركية كبرى تأسست في بيروت عام 1866 تحت اسم "الكلية السورية الإنجيلية"، وبات اسمُها لاحقاً، وللساعة، "الجامعة الأميركية في بيروت" لمعت في ذهنهما فكرةُ إنشاء مجلة عربية، سميّاها: "المقتطف" (بناءً على اقتراح أحد الأساتذة العلماء الأميركيين، هو كورنيليوس فان دايك)، وذلك بعد عشر سنوات على تأسيس هذه الجامعة، لأنّ "الجرائد العلمية والصناعية هي أفضل الوسائل لنشر العلم والصناعة" و"خدمة الوطن".
هذان الشابان هما يعقوب صرُّوف وفارس نمر، وكانا في حدود العشرين من العمر، وبعد تسع سنوات من صدور المجلة العلمية العربية في بيروت، انتقلا بها إلى القاهرة، وظلت تصدر هناك شهرياً حتى منتصف تاقرن العشرين، العام 1952، عام وفاة فارس نمر، أي ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن وهي فترة قياسية في عالم الصحافة. وحول ما قامت به من نشرها العلم في العالم العربي، قال عنها الكاتبُ المعروف عبَّاس محمود العقَّاد: إن "المقتطف" "ضاهى ما تقوم به مئات المدارس [والجامعات] في عشرات السنين" (ص 14).
ولكن كيف تُرجمت هذه الانجازات في الحياة العربية العامة؟ ما مدى الانماء والتقدم الذي أسهمت به في مجال "النهضة" العلمية والصناعية التي ندبت نفسها لتحقيقها؟ أسئلة ملازمة لمقاربة هذا العمل العربي المميَّز والفريد.
لقد انكبَّت الدكتورة أسمهان عيد على استقصاء الدور العلمي التربوي والإصلاحي في مجال العلوم والصناعة، الذي قامت به هذه المجلة في الثقافة العربية المعاصرة في حقول عدةَّ منها. بحثٌ استغرق إنجازُه سنوات، قام أصلاً على المثابرة الحثيثة وعلى الدقة في الاستقصاء والإحصاء وتسجيل الوقائع والتفاصيل، ورصد الأثر المعرفي على مقياس ما سمِّي "بالنهضة" التي انخرط فيها المثقفون العرب على تنوُّع اهتماماتهم ومواقفهم.
لقد كان الرهان على الجرائد والمجلاّت في المجال الثقافي العلمي، وحتى الأكاديمي، عصرذاك حاسماً. لقد ضمَّت المجلة، عن طريق التعريب، أهم ما كان يعتمل حينذاك في الغرب من علوم، ومن مناقشات حول العلم ومسائله... فكانت "المقتطف" صدىً صادقاً له بفضل همَّةٍ نادرةٍ ليعقوب صرّوف، العالِم المتنوِّع الثقافة العلمية خصوصاً، والمترجم، والناشر، والمثقف الواسع الأفق، مع زميله فارس نمر، و مع ابن أخيه فؤاد صرُّوف، من بعده ومع جمهرة من أهم الأقلام الفكرية والعلمية العربية من أجيال متعاقبة.
حوالي 620 صفحة هي هذه الموسوعة الهامة الراقية حول جانب أساسي، جانب العلم والصناعة"، من جوانب "النهضة" العربية الحديثة، لمرحلة مديدة وحاسمة. وبهذه الصفة يمكنني القول إنها غيرُ مسبوقة في بحوثنا الأكاديمية. لذا هي مسوِّغ لقائنا في هذه الندوة الفكرية حولها مع اثنين من أكفاً المفكرين "النهضويين" الجدد، هما الدكتور محمد العُرَيبي والدكتورة نايلة أبي نادر.
د. انطوان سيف
17/2/2015
------------------------------------------
الدكتور محمد علي العريبي
تحية
نجتمع اليوم لنبارك للزميلة الدكتورة اسمهان عيد ومشاركتها مشاعر الفرح- بمناسبة صدور كتابها القيّم بعنوان: "النزعة العلمية والاصلاحية في المقتطف"، ضمن منشورات الجامعة اللبنانية، ولنتمنى لها دوام القوة للمزيد من العطاء في المجال البحثي الرصين في ميدان الفلسفة.
لست بصدد تقييم ونقد العمل لأن زملاء أعزاء سبقوني إلى ذلك، ووضعوا منهجه ومضمونه وأصالته في ميزان التقييم والتقدير، ولأن الكتاب نفسه كان بوابة عبور مؤلفته إلى رواق تدريس الفلسفة في الجامعة اللبنانية التي أعطتني، كما أعطتها، الكثير، واعطيتُها، كما تُعطيها، بمقدر ما أحمل من قوة على العطاء والعرفان لأنني فخور بانتمائي إلى جهازها الأكاديمي. واسمحوا لي هنا أن أسجل تقديري للدكتورة أسمهان على الحيوية التي بثتها، مع زملاء لها يتمتعون بقدرات أصيلة، في قسم الفلسفة - الفرع الأول، الأمر الذي يحدوني إلى القول بأن الجامعة اللبنانية والفلسفة بخير بالرغم من كل الظروف السيئة الفاسدة التي تحيط بهما.
وما دمت خارج دائرة التقييم أراني أقدم بعض ما وثقته الدكتورة أسمهان في كتابها:
عنوان الكتاب"النزعة العلمية والاصلاحية في المقتطف" أحيا عندى ذكرى يعود تاريخها إلى عام 1976، يوم ذهبت لمقابلة المرحوم الدكتور محمد أركون أطلب منه الإشراف على اطروحة دكتوراه في جامعة السوربون في باريس. وبما أنني كنت أحمل يومها شهادة الكفاءة من كلية التربية، طلب مني أن أقدم له بحثاً اضافياً حول مضمون سبعة عشر عدداً من مجلة "العرفان" التي كان يشرف عليها المرحوم الشيخ عارف الزين، وتصدر في صيدا. وعندما خرجت من مكتبه إلى قاعة الاستقبال خاطبت صديقي الدكتور زاهي ناضر الذي كان ينتظر دوره للمقابلة للغاية نفسها: تصوّر بأنه يعرف مجلة العرفان التي تصدر في صيدا وأنا في بيروت لم أسمع بها. انهم هناك يهتمون باصداراتنا الفكرية أكثر من اهتمامنا نحن بها. إنهم يتوغلون إلى أعماق فكرنا، يعرفوننا أكثر مما نعرف أنفسنا. ولعلي أضيف اليوم بأن أركون كان يقوم بدوره في تنفيذ ما تصبو إليه الجامعة التي ينتمي إليها، لجهة اهتمامها بالبحث والتحليل بهدف الفهم والتطوير. فالجامعة، وبشكل خاص في مراحل الدراسات العليا، يفترض أن تكون مركز أبحاث جامعاً، وموثقاً، ودارساً لمعطيات السابقين في الحقول التي تشكل مراكز اهتمام، وهذا يتطلب خطط عمل هادفة وعناصر بشرية مؤهلة من الطلاب والكادرات المشرفة المحيطة، والمدققة، والقادرة على اصطياد المعلومة، والمقولة المفيدة، في رسم الاستراتجيات للعملية التعليمية، والاعداد لمستقبل الأمة، في الداخل، ولكيفية التعامل مع الخارج.
فهذه الذكرى، والانطباع الذي ولدته عندي، يتناغم مع اهتمام الدكتورة اسمهان، التي صرفت بعضاً من عمرها في البحث والتنقيب في واحدة من المنشورات العلمية والفكرية التي صدرت في عاصمتنا بيروت وانتقلت لأسباب سياسية إلى القاهرة، وغربت في غربتها لأسباب مالية، كغيرها من النشاطات العلمية والفكرية في عالمنا العربي، وقبعت كغيرها من مآثرنا على رفوف مستودعات المكتبات العامة، تئن من وطأة الغبار المتراكم عليها. وللأسف لم أطّلع على أي عدد من أعدادها. وكل الشكر للدكتورة أسمهان التي اتاحت لي فرصة التعرّف على هذا الأثر العلمي والفكري الذي حلق في سمائنا، في عهد كاد أن يلامس عهدي باقتناء الكتب والمجلات ومتابعة الجرائد التي تصدر في لبنان والبلدان العربية، والاطلاع عليها.
والملاحظات والمعلومات التي جمعتها من دراسة الدكتورة اسمهان لمجلدات "المقتطف" و البالغ عددها مئة وواحداً وعشرين مجلداً، يمكن اختصارها بالتالي:
1- إن المقتطف (1876 – 1952) صدر في رحاب الجامعة الأمريكية وريثة (الكلية السورية الإنجيلية) التي نشأت لغايات تبشيرية وتحولت إلى صرح علمي يُعد الكادرات العلمية والتقنية الماهرة لآسيا وافريقيا، باشراف خريجين من طلابها[يعقوب صروف (1852- 1927) وفارس نمر (1856-1952)] وبتمويل من ادارتها للأعداد الأولى التي صدرت في بيروت، كما يبدو، وبتشجيع وبرعاية معنوية من أحد أساتذتها (كورنيليوس فان دايك). وقد مرّ المقتطف بأربعة مراحل:
المرحلة الأولى بإشراف صروف ونمر: 1876 – 1888
المرحلة الثانية بإشراف صروف منفرداً : 1888 – 1927
المرحلة الثالثة بإشراف فؤاد صروف : 1927 – 1944
والمرحلة الرابعة تعاقب عليها اسماعيل مظهر، ونقولا الحداد، وسبيرو جسري، وسامي جسري: 1944 – (كانون الثاني)1952
فالمقتطف"جريدة علمية صناعية" شهرية، صفحاته اربع وعشرون وباللغة العربية. صدر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي بلغت فيها السلطنة العثمانية ذروة ضعفها وانهيارها، وتحلل الولايات وخروجها عن سلطة الباب العالي. يقابلها النمو والتقدم العلمي والصناعي في أوروبا. وتعايش – المقتطف - مع الحربين الكونيتين والمآسي التي تولدت عنهما، وتفتيت العالم العربي، ورسم حدود وتشكلات سياسية منضوية تحت انتدابات دول الحلف الأوروبية المنتصرة في هاتين الحربين. وشهد قسطاً من حراك التحرر والإستقلال في البلاد العربية، وبروز أحزاب قومية ووطنية، بقيادات وشخصيات فكرية وعلمية تخرجت من الارساليات والصروح العلمية التي ازدهرت في لبنان.
اهتم "المقتطف" بنشر العلوم الغربية الحديثة وبتاريخ العلوم العربية، انطلاقاً من قناعة صروف ونمر بأنه ليس هناك من وسيلة أنجع لتقدم العالم العربي وتمدنه من اعتماد الأسس الحديثة في الزراعة والصناعة والطب، والتعريف بفوائدها العملية، دون اغفال لدور العرب التاريخي في شتى ميادين العلم. ولهذا تركزت اهتماماته في أعداده الأولى على الترويج لهذه العلوم وادخالها في صلب مناهج التعليم، في زمنٍ كانت فيه الأديرة والجوامع تركز على التعليم الديني والاهتمام بالجانب الروحي والأخلاقي عند الناشئة.
فركّزت مقالات "المقتطف" على العلوم التجريبية والإستقراء، ونشر معلومات مبسطة، سهلة التناول في مجالات العلم الرياضي والفلك، وبشكل خاص ما يتعلق بالنظام الشمسي ودوران الأرض، وأشعة إكس. وأتصوّر أن ما قدمه المقتطف حول هذه المسائل وشبيهاتها كان مجرد مقتطفات أولية تحتاجها العامة، أو أنها صيغت على نحوٍ قابل للفهم لمن تزوّد بنعمة القراءة والكتابة، وقيمتها اليوم تاريخية، لأنها لبّت حاجة ظرفية، ولكنها أسست لما نحن فيه اليوم في مؤسساتنا التعليمية في كافة المستويات، وأنخراطنا في الحياة المعاصرة، إن لم يكن من وجهها الإبداعي المباشر، فأقله من وجهها الإستهلاكي العملاني، في معاملاتنا مع الذين يشاركوننا نعمة الوجود البشري، مع ما يحف بها من مزالق أوصلتنا في بعض الأحيان إلى درجة التدمير الشنيع.
وأبرز العلوم التطبيقية التي ركّز عليها "المقتطف" هي العلوم الطبية/ لكونها تُعنى بالصحة العامة، ودعا الناس إلى التعرّف عليها وطلبها لما فيها من فائدة. / ودعا في الوقت نفسه إلى تجنب الأخذ بترهات السّحرة والمشعوذين الذين يدّعون القدرة على شفاء المرضى، وكانوا منتشرين بكثرة في بلادنا. / وأسهبت الباحثة في عرض ما تضمنته مقالات المقتطف من دحض للسحر بأشكاله المتعددة التي كانت متفشية في البلاد السورية./ وابرزت الدكتورة أسمهان الجدل الصحفي الذي حصل بين "المقتطف" الانجيلي، و"البشير" اليسوعي حول السحر.
وخصص"المقتطف"، في صفحاته، جانباً مهماً للأبحاث والمؤتمرات الطبية لينشر نتائجها، لتعم الفائدة. وربما نبع ذلك الإهتمام عن قناعة المحررين بأن قيمة العلم وتطوره يكمنان في انتشاره، وإلا يكون مصيرها كمصير علوم قدامى المصريين، التي دُفنت وحُنطت مع جثث الفراعنة والعرّافين، وبقيت حبيسة الأهرام العملاقة في أحجامها، والمختزلة المتقوقعة في دوائر ظلالها.
توسّع المقتطف في البحث في موضوعات طبية مهمة كتلك المتعلقة بالمكروبات ووأمراض القلب وسائر الأعضاء المحيطة به، وحذّر من الأمراض المعدية وضرورة معالجتها في مراكز خاصة لحصرها ودرء مخاطرها. وخلصت الباحثة إلى نتيجة مفادها أن المقتطف، غدا، من خلال نشره للعلوم مثالاً رائعاً "للتخصص العلمي الشامل في أعلى مستويات البحث والتوصيل". واستطاع أن يؤدي دوراً عظيماً في إرسائها وإعلاء شأنها في البلاد الشرقية.
واهتم المقتطف بالعلوم الصناعية لضرورتها في تطوير وسائل الانتاج وما تحدثه من تطوير في العلاقات الاجتماعية، المرتبطة حتماً بالإنتاج وما يتولّد عنه من قيم مدنية قانونية وأخلاقية. وهنا تبرز فاعلية تحديث الصنائع في العملية الاصلاحية. فهاهنا إتجاه صريح إلى اصلاح القيم الأخلاقية والاجتماعية من طريق العلوم والصنائع، وليس من طريق اصلاح الموروثات الفكرية والعملية الدينية، وهو مسلك الذين ينتسبون إلى المؤسسات والحركات الدينية.
وقدّم "المقطتف" نموذجاً لترسيخ التحوّل، في المجال الزراعي، من البدائية والعشوائية في الفلاحة والزرع إلى التحديث، وذلك باعتماد ما انتهت إليه البحوث الزراعية في مجالات دراسة التربة والمناخ والمكننة، وأنواع الغرس الملائم لزيادة الإنتاج وتحسين انتاجه. وتشير الدكتورة أسمهان إلى أن كثرة المؤسسات الزراعية الخاصة والعامة ونشوء الجمعيّات، وصدور المجلات والنشرات التوجيهية، وبيان اهمية الزراعة في تحسين الاقتصاد وإنمائه في المجتمع الشرقي، لهي خير دليل على أثر المقتطف وجهده الدؤوب في المضمار الزراعي.
وتضمنت مقالات "المقتطف" أيضاً، الإرشادات والتوجيهات اللازمة لتطوير المهن وتحويل الحرف إلى صنائع متقنَة، وبشكل خاص تلك التي برع بها أهل البلاد، كعمل الزجاج وأنواعه وألوانه ونقشه، والخزف، والحياكة، وصناعة الحرير وصقله وتلوينه، والدباغة، وصناعة السُكر، وغيرها من الصنائع. وتقدم الدكتورة أسمهان أمثلة عن الصيغ التشجيعية على إنشاء المصانع المنتِجة برساميل بسيطة. منها ما ذكره حول صناعة الزجاج: "أما اليوم (يقصد يوم صدور المقتطف في بدايتها) فيخرج من معامل الإنكليز من البلور سنوياً ما قيمته مليون وستمائة ألف ليرة ... وربما يُظن أن هذه الكمية التي تُصنع في عامل كبيرة لا يمكن لسورية أن تقوم بها في الوقت الحاضر. ولكن ليس الأمر كذلك، فمن رأس مال زهيد جداً لا يزيد عن ثمن الحطب، والعناصر اللازمة، بامكان الفرد أن يصنع الزجاج".
2- توقفت الدكتورة أسمهان عند أمرين مهمين، تناولهما المقتطف" يتعلق الأول بجانب نفسي والآخر بجانب فكري، وهما: الأحلام والتنويم المغناطيسي، ونظرية النشوء والإرتقاء الداروينية.
تناول "المقتطف" الأحلام من حيث هي من الظواهر التي استحوذت على اهتمام الشعوب في جميع العصور، لأنها حالة يعيشها كل إنسان. ولما كانت الأحلام من الموضوعات التي تلامس الروح العلمية، بحثها المقتطف بعلمية أوثق، وحاول أن يصل فيها إلى دليل علمي ليثبت صدقها، معتمداً على آخر ما انتهت إليه الدراسات وما نشر في المجلات والكتب الأجنبية، بعد ترجمتها إلى العربية، وما توصلت إليه مراكز الأبحاث في هذا المضمار. كما تناول التنويم المغناطيسي وعرض لنشأته وطبيعته وعلل حدوثه ومضاره على أعصاب المريض. ناهيك عن الضرر الأخلاقي والنفسي على الأشخاص الذين يجربونه. وكشف عن الأسباب التي دفعت إلى التحوّل عنه واستبداله بالتحليل النفسي.
أما نظرية التطور الداروينية فقد أعطتها الدكتورة أسمهان حيزاً واسعاً من صفحات الباب الأول من دراستها، ربما لكون هذه النظرية، التي أطلقها العالم الطبيعي دارون في كتابه الشهير "أصل الأنواع" (نشر عام 1859، وترجمه إسماعيل مظهر إلى العربية)، والتي أحدثت هزة في الفكر الفلسفي والديني، والبحث العلمي. إذ اعتبر رجال الدين المسيحي والإسلامي أن هذه النظرية تتعارض مع الاعتقاد بالخلق الدائم. وقد كان "المقتطف" من أول الجرائد العربية التي تناولت نظرية دارون وروّجت النقاش حولها. وربما كان هذا الإهتمام بسبب العلاقة الشخصية والنقاشات التي كانت بين وليم فانديك (أحد مراسلي المقتطف) ودارون.
وسعى "المقتطف" إلى تأكيد مذهب دارون بالأدلة، وبآراء كبار العلماء ومدراء المعاهد العلمية، وأساتذة اللاهوت وأساقفة الكنائس. ودارت بين محرري "المقتطف" و"البشير" ومجلة "المشرق" مناظرات جمّة. وهذه الجرأة في طرح الداروينية عرّضت صروف ونمر لمشاكل مع إدارة الجامعة الأمريكية التي منعت القيمين على مناهج التعليم من إدراج المذهب التطوري في مناهجها. وكان موقف صروف ونمر المعارض لموقف الجامعة من أبرز الأسباب التي دفعتهما إلى الإنتقال بجريدتهما إلى مصر في مطلع العام 1885 لتجاور مجلة "الهلال" التي أسسها الأديب والمؤرخ جرجي زيدان، والتقرب من شبلي الشميّل الذي روّج للفكر المادي، ووكانوا جميعهم من خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت. وتوسعت الباحثة في إبراز الحدث ودلالته في سيرة صروف ونمر الفكرية وتاريخ المقتطف في آنٍ، وعلّقت عليها. ونظراً لأهمية هذه المسألة الفكرية أفردت لها الباحثة الفصل الأخير وخاتمة الباب الأول. لتنتقل منها، الدكتورة أسمهام، في الباب الثاني، إلى البحث في النزعة الإصلاحية التي برزت في مقالات المقتطف حول اللغة، والتربية، والدعوة إلى تعليم المرأة، والحرص على قيم الحق والعدالة والحرية والمساواة وتهذيب الأخلاق، والسياسة.
3- وبالعودة إلى مقدمة الكتاب الذي نحتفل بصدوره أشارت المؤلفة إلى أن المجلات العلمية إضافة إلى المدارس الجامعة والجامعات والمطابع والجمعيات أو المجاميع العلمية من أبرز عوامل النهضة، واسرع وسيلة لنقل ثمار العلوم ومعارفها. ولهذا السبب كان اختيارها للمقتطف الذي لعب دوراً مهماً في النهضة العربية، لكونه شكّل ساحة فكرية لأهم النقاشات التي حصلت في أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.
وعلى أمل تجاوز المحن التي تحيط بعالمنا العربي واستمرار النهوض نتمنى للزميلة العزيزة دوام القدرة على العطاء وتوسعة مساحات التفكّر في أحوالنا الحاضرة ونقدها، والنظر الإيجابي إلى ما فيه الأصلح والأفضل للحاضر والمستقبل.
------------------------------------------
...ويبقى الاصلاح الهدف المنشود
د. نايلة ابي نادر
أن أبدأ مداخلتي بالكلام على الطبيعة والعلاقة بينها وبين احد أبرز قاطنيها المصابين بعوارض الوعي، أي الانسان، أمرٌ قد يكون مستغرباً، بخاصة وأن المناسبة التي تجمعنا عنوانها: "النزعة العلمية والاصلاحية في المقتطف"، للدكتورة العزيزة أسمهان عيد.
بين الطبيعة والانسان صلة رحم وعلاقة قربى، من يتأمّل في هذه العلاقة ويتعمّق في أبعادها تتكشّف له الكثير من الامور.هذا ليس بغريب على الفلاسفة منذ زمن الاغريق الذين غرقوا في التنظير في الكون والوجود والطبيعة، وأسّسوا لأنظمة فكرية مترابطة تحاول تأويل لغز الوجود والتعرّف على خفاياه. تهبّ الريح في الطبيعة لتنشر البذور وتلقّح الازهار وتولّد الطاقة... وتهبّ الثورة في المجتمعات البشرية لتحثّ على النهوض وتُخصب الانتاج الفكري وتدفع بالتاريخ نحو محطات مضيئة. الريح كما الروح مصطلحان ينبضان بالحياة والتجدّد وتخطّي ما هو محدود ومرسوم. واللغة العربية أصابت عندما وفّرت لمستخدميها عبارة رياح التغيير، وروح الثورة، للتعبير عن ديناميكية الحراك الذي تحقّقه الشعوب عبر التاريخ، وفي ذلك دليل واضح على التداخل بين الطبيعي والبشري.
كما في الطبيعة كذلك في المجتمع، الركود يؤدّي الى العفونة فالموت. الرضوخ لما هو قائم من دون العمل على تحقيق أي تقدّم، سيرٌ في عكس عقارب التاريخ، ونكران لقانون التطور الذي يحكم الطبيعة ومن فيها. تحفل صفحات التاريخ بمطوّلات حول الثورات التي قامت في وجه الطغيان والاستبداد والقمع. من طبيعة "الأنا أفكر" أن تطرح الاسئلة المصيرية حول جدوى الرضوخ للحاكم، والانمحاء في النظام، والذوبان داخل المؤسسات القائمة على حساب الحرية الشخصية، وحرية الاقليات كما الافراد.
أن تتوقّف اليوم للتأمل في ما يحدث من حولك طارحاً الاسئلة التي تقضّ مضجع الوعي وترمي به في دائرة القلق على المصير، هذا يعني أن أناك بات لها هوية مستقلّة تبحث عن حقيقة وجودها، وتنهمّ بالمعنى وبما هو أبعد من الظاهر والسطحي والمنتشر على الشاشات بوفرة. عندما يعلو صراخ الدماء على الجدران، وتترنّح المناديل السوداء في مواكب جنائزية لا تنتهي محطاتها، ينكفئ الفيلسوف متوحّداً ليختلي بأسئلته العبثية في زاوايا الوعي المتشظّي. تتنازعه ارادتان: الاولى، تجذبه نحو ملاذه الامين:الفكر المجرّد المنظّر والمتأمّل في الاسباب والنتائج والمحلّل لتفاصيل الامور، والارادة الثانية، ترمي به أمام الشاشات بكل أشكالها وتقنياتها الحديثة لمواكبة ما يجري، يلفّه شعور بالعجز أمام هول ما يحدث. من هنا نجد أن صوت الفيلسوف شبه مخنوق، وكلماته عالقة في قلمه وولادتها متعثّرة.
وجعُ اللحظةِ الراهنة وتمزّقُ الوعي عند استيعابها يضعانك وحيداً في مواجهة تحديات الأسئلة المؤرقة التي تنهك الوعي وتنخر طمأنينته. الاستسلامُ أمام شاشات التلفزة التي ترشح احمراراً وهي تبثّ أشنع أساليب الإجرام ومن ثم الغرق بالتحسّر على ركام الأمس بات من المشهدية اليومية التي تعكس الواقع المأزوم. لا شك في أن طغيان الأنظمة المعرفية المبنية على اليقين والنظرة الأحادية الى الأمور يجعلُ البحثَ في عمق ما يجري والاسراعَ في الامساك بمبضع النقد خطوةٌ ملحةٌ لم يعد مستساغاً التأخر بعد في الوصول اليها.
من البيّن أننا دخلنا فعلاً مرحلة التقوقع والسجن في شرنقةٍ تخنق الأنفاس وتقضي على ما تبقى من تميّز للكائن العاقل عما سواه. عجزُ العقل واستقالةُ الفكر النقدي من أداء مهامه عنوانان عريضان يكادان يلخصان واقع الحال. هل تنازل العقل العربي فعلاً عن حقوقه؟ هل تنحّى عن مهامه أو تمّت إقالته بالقوة؟ إن من يراقب عن كثب ما يجري تصيبه الدهشة حقاً. أين ذهب الجهد النهضوي بنزعتيه العلمية والاصلاحية؟ ما هو بالتالي أثر كل المشاريع النقدية التي تبلورت في النصف الثاني من القرن الماضي؟ ما هي الثمار التي جناها العقل من الحداثة الغربية ومما أتى بعدها؟ وما جدوى كل ما كُتب في المقتطف وغيره على الرغم من جدّته ورصانته ورسوخ بنائه؟
إن هذا القلق كان قد انهمّ به العديد من المفكرين النقديين المعاصرين، وجعلهم يشهرون السلاح الوحيد الذي يتقنون استعماله أي العقل، ليقدّموا القراءة الفكرية التي من شأنها أن تكشفَ مكمنَ الخلل وتسلّط الضوء على النهج الذي بإمكانه أن يرسم خطةَ إنقاذٍ لما تبقّى من قدرة وطاقة على النهوض ومواكبة العصر لدى الشعوب العربية الاسلامية الرازحة تحت وطأة الأحكام التكفيرية، والدعوات الجهادية، ومشاريع الدمار الشامل معرفياً واقتصادياً واجتماعياً. من هنا يصبح مشروعاً التوقف في بداية هذه المداخلة عند سلسلة من الأسئلة كان محمد أركون قد طرحها ممهداً لدراسته حول الدالات الثلاث كما يسمّيها: دين، دولة، دنيا في سياق دراسته للفكر الاسلامي. نجده يضع الاصبع على الجرح مباشرة ويختصر الطريق على رواد النهضة حين يسأل مشككاً:" هل يمكن للبشر أن يقبلوا بأن يتسلّط عليهم بشرٌ آخرون، ويتحكّموا بحياتهم كمصائر روحية مثبتة ومحددة من قبل الله؟ (...) كيف وضمن أية شروط، يمكن للسلطة التي يتحكّم بها شخص واحد، أو مجموعة أشخاص، أن تصبح سيادة عليا مرتبطة بسيادة الله ذاتها وتسيطر على القلوب والنفوس عبر الكلام الموحى؟ كيف يمكن لشخص بشري، أو عدة أشخاص أن يتوصلوا الى إيهام الآخرين بأنهم يحكمون باسم الله ويمثلون الله على الأرض؟ "
(محمد أركون، الاسلام، الاخلاق، والسياسة، بيروت، مركز الانماء القومي، ط1، 1990، ص 71)
يبدو ان التحدّث عن الاصلاح والبحث في شروطه بات قدرَ المفكرين الناطقين بالضاد منذ بزوغ فجر النهضة وحتى اليوم. همّ الاستيقاظ من الظلامية، وقلق النهوض من الجهل، والسعي الى اختراق جدار التقوقع داخل أقبية التخلّف، كلها عناوين كبيرة توّجت مسارات فكرية عديدة، تردّدت أصداؤها في أعداد المقتطف. لكن للأسف، وكأن ما سبق أن كُتب وأُعلن وتمَ الكشف عنه لم يؤدِّ الى بلوغ الهدف المنشود. وكأن هناك جبلة غير قابلة للنهوض، او نهج غير خاضع لامكانية التطور، كمّ الفساد المتزايد لا يزال يدحض كل نظرية مثالية تحلم بالسيطرة عليه والحدّ من مفاعيله. الخطِر في الموضوع يكمن في احتلال الفساد الحيّز الاكبر من وعي الجماعة، أحاكمة كانت أم محكومة. بات الاصلاح طيفاً لاح في الافق واختفى، حلمٌ أكبر من فعل التحقق، قد لا يتسع له الحيّز الجغرافي المشرقي.
اذا تصفحنا كتاب د. اسمهان عيد، إن في عناوينه أو في وفصوله ومضامينه الدقيقة، لا يمكننا الا أن نسأل عن السرالمتخفّي خلف هذا الرجوع المستديم الى الوراء نكاية بالتاريخ، ومقاومة لفعل التطور الطبيعي البشري. لمَ كل هذا النكوص والتكاسل والتراجع والتزلّف والتباطؤ في اتخاذ الخطوة الحاسمة، واختيار المسار الصائب، وحمل السلاح المُجدي، على صعيد الوطن العربي، وذلك منذ ان انكفأ سلطان العقل النيّر وتهاوى حب المعرفة نحو مزيد من الغرق بالجهل والتباهي به من دون حياء. من المؤسف فعلاً ان يصبح البحث في أسباب التقدّم والتأخّر في تاريخ الفكر العربي الاسلامي من الثوابت الواجب التوقف عندها في كل مرة يقتحم وعيَنا انجازٌ علمي أو فكري أو اقتصادي مبين حققه العقل الغربي، من جهة، أو تستفزّنا حادثة مروعة على الساحة العربية، يتلوها إحصاء يخرج بنتائج مخيفة، ورأي متزمّت يعود بنا قروناً الى الوراء لا يملّ العقل العربي من تكراره، من جهة أخرى.
النهضة والنهوض والاستنهاض والتنوير والاصلاح والتحديث والتجديد شعارات ام مصطلحات ام مسائل تستنفر طاقات الفكر وتضعه في مواجهة مع اخفاقاته؟ أهي عناوين تتصدر الاطروحات والكتب لتملأ فراغاً لا أكثر؟ ام هي على الصعيد العربي عبارة عن احجية يصعب حلّها يتبارى في فك لغزها مفكرون حرّكتهم الرغبة في التقدّم والتطور؟ تُطرح الاسئلة الهادفة وتتكرّر على مرّ السنين، ويتمّ التسابق على تصدير النظريات التي تحمل في طياتها إجابات مختلفة تدّعي كل واحدة أنها الاصوب.
ان تستوقفكِ النهضة يا د. أسمهان، ويشغلكِ التفكير فيها والبحث في مكتسباتها امرٌ فيه ما يكفي من التحدّي في زمن عنوانه الغياب، ومساره الانسحاب، ومنهجه الانكفاء. لن أسأل هنا عن جدوى التفكير في النهضة، والكتابة فيها، لأن التفكير في حدّ ذاته ميزة راقية ومتعة محبّبة، بغض النظر عن النتائج المثمرة التي من شأنه ان يتوصّل اليها أم لا. ان تستوقفكِ مشاهد نيّرة من المقتطف تُفحم الخطابات الضبابية المتربعة على منابر الوعي وتُبرز هشاشتها، امرٌ يضخّ كميات من الطاقة المحفّزة على عدم رمي السلاح والركود خلف صيحات اليأس. انتِ المرأة التي ناضلت فشقّت طريقها بقلمها، وشغلت وقتها بطلب العلم ونشره في آن. لم تبعدك هموم الحياة اليومية عن متابعة البحث، فتوجهتِ نحو المقتطف بفعل انجذاب ورغبة في الكشف عن المضمون وأخذ العبر. لست هنا في مناسبة مناقشة اطروحة دكتوراه، ولا في موضع تقويم انتاج معرفي محدد في مجال الفكر النهضوي، انا هنا لأحتفل معك بصدور باكورة أعمالك الفكرية، ولأضيء على ابرز ما توصّلت اليه في الباب الثاني من كتابك المخصص للإصلاح في أبعاده الاربعة: اللغوي، والاجتماعي، والتربوي والسياسي. اردت أن أفكر بمعيتِك حول مأساة تتكرر وتعيد نفسها بنفسها، عصية على الحل، الا وهي محاولة ايجاد نهج صريح وواضح، قابل للتطبيق يحقّق الاصلاح في يومٍ ما، وينهي زمن التساؤل المعهود: "لماذا تأخر العرب وتقدّم الغرب؟".
في ظل السلطنة العثمانية كانت المعاناة لها طعم المرارة انطلاقاً من الموقع الذي تتحصّن فيه كل جماعة ويشغله كل فرد. الواقع السياسي والاجتماعي ينضح بالمأساة، والتخلّف يوحّد المختلف. كذلك على الصعيد الاقتصادي، باستثناء بعض التجار، لم تكن الحال أفضل بكثير. تقول د. أسمهان:"في هذا المجتمع المتخلّف، حيث البون شاسع بين الحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والجهل عام، والتديّن تجارة وزعامة ووساطة، والتملّق والنفاق والجبن سادة العصر، قامت فئة واعية تنادي بمبادئ وأفكار جديدة من حرية ومساواة وعدالة اجتماعية، مستنكرة الذل والنفاق والرشوة، معتمدة في ذلك على كتاب الله ونبيّه حيناً، وعلى آراء المصلحين الغربيين أحياناً". (النزعة العلمية، ص313)
فالسؤال المطروح اذا: ما العمل للخروج من المأزق؟ كيف السبيل لإيجاد الدرب المؤدّي الى الاصلاح؟
الجواب كما بات معروفاً: اما التوجه نحو الغرب، او العودة الى الاصول، او التوفيق بينهما.
ما يهمّنا هو الموقف الذي وجّه مسار المقتطف: انه التطلّع الى "الغرب والنهل من معينه"، لأنه لا افادة من العودة الى الماضي الا في أخذ العبر. تذكر الدكتورة أسمهان أن صروف ونمر، مؤسسا المقتطف، في خيارهما هذا، "لم يؤخذا بمادية الغرب، ولم يتخلّيا عن روحانية الشرق وقيمه".(ص 314)
ان باب الاصلاح عند الكاتبة يتألف من أربعة فصول، تتناول فيها على التوالي:
- المقتطف والاصلاح اللغوي
- المقتطف والاصلاح الاجتماعي
- المقتطف والاصلاح التربوي
- المقتطف والاصلاح السياسي
اخترت أن أتوقف في مداخلتي هذه عند الفصل الأكبر ليس فقط في الباب الثاني، انما في الكتاب ككل، انه الفصل المخصص للاصلاح الاجتماعي الذي عالجته المؤلفة في مئة صفحة.
تعدد الدكتورة أسمهان بداية، وانطلاقاً من المقتطف، أسباب التخلّف الذي يضرب المجتمع الشرقي، وألخصها بالنقاط التالية:
- قصور المدارس وسوء التدريس والتهذيب
- ضعف الارادة والتغاضي عن الواجبات
- انحطاط المرأة وما نتج عنه من انحطاط الهيئة الاجتماعية
- الجمود والانقسام المذهبي
- الركود الاقتصادي والزراعي
- سعة انتشار الامية
- تفشي الفساد والتقاتل على المناصب
- فساد الاخلاق
- الاختلاف بين شعوب الشرق وفساد الحكام أصحاب السلطات المطلقة
- انحطاط العلوم والآداب
- الانقسام الطائفي ضمن الدين الواحد مما يفضي الى التقهقر وسفك الدماء
- سيطرة الطائفية والتعصب الديني مقابل تراجع الحس الوطني
- جهل الحكام وغباؤهم مما أدّى الى إفساد السلطتين السياسية والدينية
من المؤسف والمستغرب والمثير للشفقة انه بعد مرو أكثر من قرن ما زلنا نراوح مكاننا، أو قل ان الاوضاع زادت سوءاً. كل هذه الاسباب قائمة وفي زيادة. الامر الذي يجعلني أطرح السؤال على نفسي باستمرار: لماذا؟ أين هو مكمن الخلل بالتحديد؟ هل هو تشوّه جيني ضارب في الاصول ينتج الفوضى والتخلّف على طَرق النفس، ومع هبوب كل ريح، وعند كل شروق الشمس؟
هل هو القضاء المكتوب والقدر المدبر؟ تآمر قوى الشر والغيب مثلاً؟
أم الخلل في المناخ وطبيعة التربة؟ تأثراً بابن خلدون.
هل هو "العقل المستقيل"؟ على حد تعبير محمد عابد الجابري.
لست هنا في موضع البحث عن السبب العصي عن التحديد. لقد بات فعلاً ضرباً من ضروب المعجزة كل فعل يؤول بصاحبه الى التمكّن من رصد السبب الاساس والتوجّه مباشرة الى فكه وحلّه والقضاء عليه بشكل نهائي.
"لماذا تقدّم الغرب وتأخّر العرب؟"، نعود فنطرح السؤال، ونكرّره، وببساطة نقرّ بأننا وعلى الرغم من تعدد الاسباب لا ندري ما هو السبب.
بالعودة الى كتاب الدكتورة أسمهان، نجدها تقلّب صفحات المقتطف، على كثرتها لكي تجمع لنا الحلول المؤدّية الى الاصلاح المنشود، في نظر كتّاب ذلك الزمان. من هنا نجد أن الحل المقتطفي يُقدّم على مرحلتين، الاولى نظرية ترتكز على أربعة مبادئ، والثانية عملية، تقترح حلولاً محددة نختصرها تباعاً.
أما المبادئ الاربعة التي ترسم نهجاً واضحاً وصريحاً على الصعيد النظري فيمكن إيجازها بما يلي:
- اولاً: الايمان بمبدأ التطور والنمو الذي هو سنة الحياة والمجتمع في آن. وهذا لا يتمّ من دون اكتساب العلم، والتمرّس بالبحث، وانشاء المطابع والصحف، ودعم المصانع.
- ثانياً: التركيز على القيم الأخلاقية والدينية، فالعلم وحده لا يكفي. هناك دعوة صريحة لمراعاة حقوق الآخر، وطاعة الضمير. لكن ذلك لا يعني المطالبة بإقامة مجتمع على أساس ديني، انما ارساء قواعد اخلاقية لتعاطي الناس مع بعضهم البعض برقي واحترام انطلاقاً من ممارسة الفضائل.
- ثالثاً: ضرورة ربط الماضي بالحاضر وإحياء التراث العلمي العربي، والتشبّه بعلمائه والاقتداء بنهج فلاسفته، في سبيل بناء مستقبل أفضل، وتأسيس حضارة "شرقية-انسانية" غير مادية، خاصة بنا.
- رابعاً: ربط النظري بالعملي والتركيز على عدم الاكتفاء بالتنظير والبحث في الاسباب انما العمل على التطبيق وإجاد الحلول العملية.
قبل الانتقال الى الحلول العملية المقترحة في المقتطف للخروج من حال التخلّف والفساد والمبادرة الى تحقيق الاصلاح والتقدّم، لفتني أمر يتعلّق بالطائفية، أوردته الدكتورة أسمهان في سياق تحدثها عن المبادئ النظرية الاربعة التي من شأنها تحقيق الهدف المنشود، عنيت به موضوع الطائفية.
عندما ركز المقتطف في المبدأ الثاني على أهمية القيم الاخلاقية والدينية وضّح مفهوم كل من الاخلاق والدين، باعتبار ان المصطلح الاول- اي الاخلاق - يفيد: "القوة الأدبية الموجودة بالنفس التي تمنع المرء من اقتراف الجرائم، وتدفعه الى محاربة المكر والخداع".(ص322) كما ان المصطلح الثاني - أي الدين - يعني: "الايمان بالله، وأحكام الحياة الأبدية، وتكليف الانسان ومسؤوليته بما صنع"، وغايته "محبة الله فوق كل شيء، ومحبة قريبنا كأنفسنا".(ص323)
يبدو جلياً هنا تأثّر المقتطف بالانجيل في الكلام على الدين الحق، وعيش المحبة ببعديها العمودي والافقي. وتشير الدكتورة أسمهان الى أن التربية الأخلاقية بالنسبة الى المقتطف " هي أهم من القانون، لأن الأخلاق هي قوة ردع تنبع من الداخل، من الضمير الواعي، المميز بين الخير والشر، والذي يأمر بعمل الخير، وليست مفروضة من الخارج مثل القانون".(ص324)
الملفت فعلاً هنا، هذا الانصهار والتصالح والتحاب بين العلم والدين والاخلاق، وكأن هناك تساند متبادل، وتعاون متين بين الاطراف الثلاثة. وكأن صاحبَي المقتطف، صروف ونمر، يتجاهلان عن قصد تاريخاً من الصراعات التي سادت طيلة حقبات من الزمن، منذ أيام الاغريق وحتى اليوم، كل ذلك في سبيل تحقيق النهوض الحق، والتميّز عن الحضارة الغربية في آن.
ونشير في هذا السياق الى الموقع الذي اتخذته مهمّة محاربة الطائفية، وتمييزها عن الدين، لأنها تؤدّي الى انقسامات مذهبية تقسّم أهل الوطن الواحد، وتحطّ من شأنه، كما أنها تضرّ بالدين والسياسة على حد سواء. اصبح حب الوطن هو "الفضيلة الاولى"، مع التشديد بالطبع على أهمية البعد الروحي والبعد الأخلاقي.
بالعودة الى الحلول العملية التي اقترحها كتّاب المقتطف لتحقيق الاصلاح الاجتماعي، نجد أن الكاتبة تقوم بعرضها على مدى 80 صفحة، فسأحاول اختصارها في قسمين، الاول عام والثاني خاص بشؤون المرأة.
أولاً: الحلول بشكل عام
بنى المقتطف عملية الاصلاح على مبادئ العلم، والآداب الفاضلة، والدين الصحيح. وذلك من خلال العمل على تأسيس نظام تربوي لا مذهبي يؤهّل النخب الكفيلة بمعالجة الانحطاط والتخلّف. فالتربية الصحيحة هي السبيل المفضي الى الاصلاح، عن طريق تهذيب الاخلاق، وتنمية العقل، والسيطرة على الشهوات، وتصويب السلوك، وتفضيل المصلحة العامة على الخاصة، ونبذ الطائفية، وحب الوطن.
ثم ان الاهتمام بالصناعة والزراعة وعدم الاكتفاء باطلاق الشعارات الرنانة، وحمل المعول مع حمل القلم، من شأنه أن يؤمّن السبيل الصحيح نحو الاصلاح الاجتماعي.
لكن النقطة الأبرز كانت في التركيز على الاصلاح الاجتماعي انطلاقاً من الاصلاح الديني، والاهتمام بتنقية الدين الاسلامي من الشوائب والبدع وتخليصه من المتاجرين فيه، مما يحفظ له كرامته. علماً ان اوروبا كانت قد قامت بالاصلاح الديني في حقبة سابقة، مما أفاد المدنية والدين. هناك رفض للمتاجرة باسم الدين، واقحامه في أدقّ الامور العلمية. لم يتفق كتاب المقتطف على مسألة فصل الدين عن الدولة، وتشير الدكتورة أسمهان في هذا السياق الى ان المسيحيين قد تمسكوا بها "كحل شاف لداء الطائفية، ورفضها المسلمون ودعوا الى التمسّك بالدين والعودة الى أصوله ونقاوته".(ص334)
ثانياً: الحلول بشكل خاص
وسّعت المؤلفة هنا قضية المرأة في سياق معالجتها للإصلاح الاجتماعي، من هنا سنتوقف عند هذا الموضوع في أربع نقاط.
1- في اصلاح المرأة:
تمّت معالجة شؤون المرأة ضمن ما يُسمّى بـ"باب تدبيرالمنزل"، في المقتطف، وخصص للسيدات منبر للكتابة والتأليف. تعرض الكاتبة المواقف الداعمة لتحرير المرأة ومساواتها بالرجل بشكل موسع ودقيق، نختصره بالنقاط التالية:
- لا يتقدم المجتمع الا بالرجال والنساء معاً.
- لا يرتقي المجتمع ونصفه جاهل.
- المرأة والرجل متساويان بالفطرة، وبالحقوق والواجبات.
- ليس ضعف جسد المرأة دليلاً على ضعف عقلها.
- لا شيء يمنع اعتبار المرأة غير مؤهلة للعمل السياسي والفني والشعري.
- التشديد على ان الثقل المطلق لدماغ الرجل الذي هو أكبر من الثقل المطلق لدماغ المرأة لا يعني ان دماغ الرجل أهم من دماغ المرأة، والدليل على ذلك ان دماغ الفيل والحوت أكبر حجماً من دماغ الرجل.
- العمل على تقبّل المجتمع لفكرة خروج المرأة من المنزل للعمل.
ان هذه الافكار لم تعجب الجميع، فلاقت معارضة لدى البعض مثل شبلي الشميل الذي اعتبر ان الرجل مميز عن المرأة انطلاقاً من علمي الانسان والحيوان، وبالتالي تصبح المساواة بينهما غير ممكنة، لأن قدرة الرجل العقلية والجسدية أكبر من قدرة المرأة. لكن هذا الواقع لا يدعو الى تحقيرها، بالنسبة اليه. ليست المرأة متساوية مع الرجل لكنها تكمّله، وتساعده في سبيل تنظيم العائلة.
2- في ضرورة تعليم المرأة:
- اصلاح المرأة لا يتم الا من خلال تعليمها.
- مناشدة الآباء تعليم بناتهم.
- ساوى البعض بين تعليم المرأة وتعليم الرجل، وميّز البعض الآخر بينهما مشددين على ضرورة اختلاف نوعية تعليمهما.
3- في أههداف تعليم المرأة:
- ترقية المرأة نفسها.
- جعلها ابنة صالحة، وزوجة صالحة، واما عارفة، ومدبرة حكيمة.
- اتقان فن ما أو عمل ما يقيها من غدر الزمان.
- ان تتعرف على ذاتها: انها النصف المربي المهذب، عند داود بركات، تتعلّم لكي تصبح العضو الصالح والنافع في المجتمع.
- سياسة المنزل لكي لا تنفق بغير حساب.
- تتعلم لمعرفة الله.
- تتعلم لكي تحسن تربية الرجل وتدعيم اساس الوطن وصون الامة.
تشير الدكتورة أسمهان الى أن كتّاب المقتطف لم يلحظوا قضية الحجاب، مراعاة لاخوانهم المسلمين، ولأن هدفهم لم يكن ثورياً بقدر ما هو نشر العلوم والافادة منها. تقول: "اختاروا العلوم التي تناسب الفتاة، وتتوافق ودورَها كزوجة وأم وربة منزل، وحافظوا بالتالي على الشعور العام في المجتمع الذي لم يألف بعد هذه العادات الجديدة".(ص358)
4-في واجبات المرأة:
- كإبنة: عليها واجبات تجاه الاهل في إكرامهم، وتجاه نفسها في الكد والجد والدرس.
- كزوجة: مشاركة الرجل بمختلف حالاته النفسية والاقتصادية والاجتماعية.
- كأم: شفوقة، عدم التمييز بين الاولاد، صيانتهم من الشرور، تقديم القدوة الصالحة في العيش اليومي.
- كربة منزل: ترتيب وتنظيف المنزل.
- بشكل عام: التحلّي بالايمان والاخلاق والعلم، والحث على حب الوطن ونبذ التعصّب وتنمية الشعور بالحرية والاستقلال والمساواة والاخاء.(ص362)
الخاتمة:
وبعد هذه الجولة في كتاب الدكتورة أسمهان عيد، لا يسعني الا ان اعود معكم في نقلة اجبارية وملحة نحو الواقع الحالي، للبحث في ما أدّى اليه كل هذا الجهد النهضوي الحثيث... ما الذي يمكن استخلاصه اذا؟
في الختام، ننظر الى ما حولنا، فنرى ان الواقع العربي في الحقبة المعاصرة يفرض علينا وقفة تأمّل وتحليل، ويستوجب اعادة النظر والمراجعة النقدية ليس فقط للمقتطف انما للفكر النهضوي برمته، والى ما آل اليه. ان الارقام والاحصاءات التي يتمّ تداولها في شأن نسبة الامية، والبطالة، والسجن الغير مبرّر، والانتهاكات اليومية لأبسط حقوق الانسان مخيفة حقاً. ناهيك عن أساليب التفنن بالقتل ونشره بلمح البصر على مواقع التواصل الاجتماعي، وكأن النهضة لم تمرّ من هنا. فالعقل في اجازة طويلة الأمد، والتطور مخالفة لسنة الحياة، والتحرّر عملية خطيرة تؤدّي بأصحابها الى الهلاك. المقاييس مقلوبة، والانفاس محصاة، والرقابة صارمة. والأخطر من كل ذلك أن وضع الخطوط الحمراء أصبح أمراً تلقائياً لا واعياً تمارسه الذات على نفسها، والانسان على اقواله وافعاله. هناك عملية تدجينٍ نجحت في اخفاء صوت النقد قبل ان يتلفظ بأي كلمة، وفي كبت الصرخة المنتفضة قبل ان تمرّ بالحنجرة. وكأن الرضوخ هو الامر الطبيعي، والانصياع هو الضامن للسلامة، والطاعة العمياء هي السبيل المؤدّي الى حماية النفس من النزاعات المذلّة والخانقة في آن. لقد تمّ فعلاً تدجين السواد الأعظم من الناس، الى أي فئة انتموا، والتعاطي معهم كنعاج تُساق في سبلٍ نهايتها غير مرئية، رأسها منحنٍ تتلهّى بالبحث عن قوتها اليومي في زمن الشح هذا.
قال يوماً الحسن البصري : "لو كان الناس كلهم عقول، لخربت الدنيا"، قد يكون مطلوباً اليوم كما في السابق، إن من قبل السلطة السياسية او الدينية، إخفاء توهّج العقل، والحدّ من سلطانه، والتصدّي لأفعاله النقدية المشينة. ان في هذه الممارسات انتهاك فاضح لحقوق الانسان، لكرامته الشخصية، اذ يُعامل كأداة، ككائن فاقد الارادة ومنقوص الوعي.
ان التوقّف اليوم بالتحديد عند قراءة نقدية للنهضة يعتبر أمراً ملحاً على صعيد تاريخ الافكار وتطورها، بخاصة وأنه مقارنةً مع الضفة الغربية للمتوسط، نجد ان المراجعة النقدية لم تنحصر بالنهضة وحسب، انما طاولت الحداثة وما بعدها، مما قد اثمر انطلاقات متجددة للفكر وللاشكاليات المطروحة على بساط البحث. ان النظر في المسار النقدي للفكر الغربي يحثنا على المزيد من ممارسة المراجعة النقدية لما كان الفكر النهضوي العربي قد أنتجه، من أجل مزيد من الفهم لما يحدث من حولنا في الواقع الثقافي والسياسي والاجتماعي الراهن.
من هنا بات من الضروري ان نطرح سلسلة من الاسئلة الاشكالية، نختصرها بما يلي:
هل بات "عصر النهضة" منفصلاً، في كتابات دارسيه، مثل حقبة ماضية، أم لا يزال موصولاً بالراهن؟
هل يمكن التحدّث فعلاً عن قطيعة معرفية داخل تاريخ الفكر العربي الاسلامي ؟
ماذا عن "النهضة" بين تجديد أو نقض لها؟
هل تعني "النهضة" تأويل الماضي أم معاينة الحاضر؟
هل يشكل الوعي الماثل في الكتابات المعاصرة عن "النهضة" فكراً علمياً ام "تعبوياً" و"ترشيدياً"؟
--------------------------------------------
كلمة شكر بمناسبة مناقشة كتابي "النزعة العلمية والاصلاحية في المقتطف (1876 ـ 1952)"
حضرة الرئيس حضرة المحاضرين الكرام
ايها الزملاء والاصدقاء والأهل الاعزاء
اسعدتم مساء واهلا وسهلاً بكم
أود في البداية ان اشكر الحركة الثقافية ـ انطلياس، تلك الحركة الرائدة في بث الثقافة الوطنية الجامعة التي من على منبرها تعلمت الكثير، وكان لي شرف الانتساب اليها، منذ ثمانينات القرن الفائت. اشكرها على استضافتها ومناقشتها كتابي هذا، كما اشكر زملائي في الحركة، وأخص بالذكر حضرة الأمين العام الدكتور انطوان سيف على ادارته لهذه الجلسة، وحضرة الأمين العام السابق الدكتور عصام خليفة المشجع الأكبر على طباعة هذا الكتاب، والعزيزة الزميلة الدكتورة نايلة ابي نادر، التي وبالرغم من ضيق وقتها، أخذت على عاتقها قراءة هذا الكتاب الضخم وابدت ملاحظاتها القيّمة، كما اشكر حضرة رئيس الجمعيّة الفلسفية اللبنانية الزميل الدكتور محمد العريبي الذي كرمني بهذا التقييم المفيد، كما اشكر الزملاء والاصدقاء والاهل الكرام الذين شاركوني في هذه المناسبة الكريمة.
اما هذا الكتاب، فهو ثمرة ابحاث مضنية استمرت لأكثر من سبع سنوات. تمحورت حول مجلة "المقتطف"[1] تلك المجلة الرائدة التي كانت ركناً من اهم اركان النهضة العربية الحديثة، والتي شهدت ولادة العلوم الحديثة، واضطلعت بدورٍ علمي واصلاحي مميّز، والفضل في ما وصلت اليه هذه المجلة من قدرة على التحديث في مجالي العلم والاصلاح يعود الى الجهد الكبير الذي بذله يعقوب صروف احد منشئيه والذي التصق اسمه بالمقتطف، وعلى مدى خمسين سنة. لذا قال فيه الدكتور اندراوس شخاخيري[2]: ليس من شك ان الدكتور يعقوب صروف كان "أمتن ركن من اركان نهضة (الشرق) العلمية واخصب ثروة في مختلف العلوم والفنون والاخلاق والآداب العربية والغربية... فما عرف الشرق رجلاً من رجالاته انصرف للعلم وخدمته عهداً طويلاً كصروف"[3].
فاستطاع "المقتطف" بذلك ان يحقق هدفه وينشر العلم في الاقطار العربية، فضاهى على حد قول عباس محمود العقاد "ما تقوم به مئات المدارس في عشرات السنين"[4]. اما السؤال الذي يُطرح فهو لماذا اخترنا مجلة "المقتطف"؟
ـ لماذا اخترنا مجلة "المقتطف"؟
سؤال طرحه كثيرون علينا وجدير بالاجابة، اما الاسباب التي جعلتنا نختار مجلة "المقتطف" فكثيرة، نذكر منها:
ـ لما كانت المجلات العلمية من ابرز عوامل[5] النهضة العربية الحديثة، واسرع وسيلة لنقل اشهى ثمار العلوم الغربية الحديثة ومعارفها، وملاذٍ يلجأ اليه الكتّاب والقراء المتعطشون الى المعرفة. و"المقتطف" في صدارة هذه المجلات وابرزها في عصر النهضة لاهمية موضوعاته وتنوع كتّابه. فقد كان ساحة فكرية لاهم المنقاشات التي حصلت في اواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، كتلك التي دارت حول مسألة التطور الداروينية وما رافقها من نتائج ادت الى طرح مسألة علاقة العلم بالدين، واصل الحياة وغيرها من المسائل العلمية والفلسفية المهمة على مستوى اللغة والمجتمع والسياسة. ومسرحاً لكوكبة عظيمة من الكتّاب الذين تفخر بهم النهضة العربية امثال: شبلي شميّل، واسعد داغر، وبشارة زلزل واسكندر البارودي، وشكيب ارسلان، واحمد فارس الشدياق، والاب انستاس الكرملي، وفيليب حتي، وكورنيليوس فان دايك، وجورج بوست، ويوحنا ورتبات وامين فهد المعلوف، وسلامة موسى، والامير مصطفى الشهابي وقدري طوقان وغيرهم، عدا عن منشئيه العالمين يعقوب صروف وفارس نمر، ورؤساء تحريره. ما جعل "المقتطف" جامعاً لكل الوان الثقافة العلمية والادبية. فأقبل عليه القراء ينهلون المعارف الصحيحة والرأي الصائب، ما جعله "مدرسة سيّارة" تنشر العلم في ارجاء الشرق والغرب، فوصل انتشاره الى اقصى الشرق الى الهند، والى اقصى جنوبي اميركا حيث انتشرت الجاليات العربية التي تتكلم لغة الضاد، فتتلمذ عليه كثيرون.
ـ لماذا اخترنا "المقتطف في نزعته العلمية والاصلاحية" كموضوع لدراستنا؟
ان اهميّة "المقتطف" بعامة جعلتنا نسلط الضوء على هذا المعلم النهضوي الكبير، لنظهر دوره الريادي في بناء النهضة العربية الحديثة، وما كان يتمتع به منشئاه المسيحيان وكتّابه من فكر تنويري وجرأة نادرة ورصانة واخلاق عالية واحترام لحرية الفكر وحب للحقيقة، وللاستفادة من هذا الانجاز الضخم، لبناء مجتمع شرقي افضل.
ان "المقتطف" على اهميته لم يلقَ الاهتمام الذي يستحقه من الدارسين، بحيث لم نجد دراسة معمقة جدية تناولته، باستثناء بعض المقالات والدراسات التي اشرنا اليها في الدراسة. لذا اخترنا هذا الموضوع الجديد الذي عنونّاه "النزعة العلمية والاصلاحية في المقتطف 1876 ـ 1952".
ـ الصعوبات
ـاما اهم الصعوبات التي واجهتنا في موضوعنا هذا ، فكثيرة ابرزها:
اولاً ـ صعوبة البحث عن مجلدات "المقتطف"، فلم نجدها الا في المكتبات الكبرى، وبعد جهد كبير استمر عامين كاملين استطعنا الحصول عليها بكاملها من خلال تصوير مجلداتها كافة.
ثانياً ـ وفرة المصادر. بحيث بلغت مجلدات "المقتطف" مئة وواحدا وعشرين مجلداً ضخماً، ما اضطرنا الى قراءتها وتحليلها، ثم فرزها وترتيبها تبعاً للعناوين المقررة في مشروع الدراسة، ثم وضعها في إطارها المناسب.
ثالثاً ـ كنا امام مقالات مبعثرة هنا وهناك، وليس امام موضوعات محددة، مرتبة، فكنا نـحاول ان نقرأ كل المقالات التي كنا نعتقد بانها تخدم الموضوع لنشكل منها تركيباً معيناً يخدم بحثنا.
ـ النتائج التي توصلنا اليها بعد البحث
1ـ استطعنا ازالة اللغط الحاصل في بعض الدراسات حول تاريخ "المقتطف".
2 ـ تبين لنا ان "المقتطف" كان علمي النزعة من خلال الموضوعات العلمية التي تتطرق اليها، والطريقة العلمية التي اتبعها في ابحاثه. وتركيزه على تنمية العقل واقامة البرهان المنطقي والتجربة الحسية.
3 ـ ظهر لنا من خلال معالجتنا لمقالات "المقتطف" العلمية واللغوية والاجتماعية والسياسية انها تميزت بنزعة اصلاحية هدفت جميعها الى اصلاح المجتمع الشرقي المتخلف. وقد تأكدت لنا هذه النزعة من خلال فصول الاصلاح اللغوي والتربوي والاجتماعي والسياسي.
فعلى مستوى اللغة مثلاً، احدث صروف من خلال "المقتطف" اسلوباً جديداً في الكتابة العلمية، وغدا اسلوبه العلمي مثالا يحتذى.
وفي الاصلاح الاجتماعي استطاع "المقتطف" توظيف علميته في بناء رؤية اجتماعية انسانية متكاملة دون تمييز بين المرأة والرجل، تراعي الاخلاق والايمان وتصبو الى الخير المطلق.
اما في الاصلاح التربوي فتبين لنا ان "المقتطف" ناضل من اجل تربية صحيحة تقوم على اسس علمية حديثة، ونجح بعد نضال طويل ان ينشئ فلسفة تربوية متكاملة من حيث الغايات والاهداف والوسائل. تميزت بخصوصية شرقية واصالة، ظهرتا من خلال تمسكه باللغة العربية والاخلاق وعزة النفس، وجمعت بين تربية العقل والجسد والتهذيب.
كما اضطلع "المقتطف" بدور فاعل في الاصلاح السياسي بالرغم من انه لم يكن يكتب في السياسة لكننا استنتجنا ذلك الدور من خلال متابعتنا لكتاباته على مدى اكثر من خمسين سنة، وطرحه لقضايا شديدة الحساسية في ذلك الوقت كالحرية والدستور واللامركزية والديموقراطية... ما ادى الى تكوين مجموعة آرائه في السياسة.
يبقى ان نقول ان هذا الكتاب، وان ساهم في القاء الضوء على "المقتطف" "في نزعته العلمية والاصلاحية"، لم يستنفد موضوعاته الاخرى التي قد تشكل نواةً صالحة لابحاث قد نقوم بها في المستقبل.
اما أهمية هذا الكتاب فتكمن في اظهار الدور الريادي "للمقتطف" من خلال تناوله لمسائل مهمة شغلت المفكرين آنذاك وما زالت تشغل المفكرين في ايامنا هذه: كقضايا المرأة، والدين، والطائفية، والحرية والديمقراطية، والفساد الاجتماعي والاخلاقي والسياسي، ودعوته الى تربية وطنية موحدة لجميع اطياف الوطن، والى اعمال العقل والمنطق السليم وعيش الاخلاق النبيلة، ونبذ العنف والتعصب، وبناء وطنٍ حرٍ، مستقلٍ، ديموقراطي.
في الختام، كم نفتقد اليوم الى هذا الدور الريادي الذي قام به "المقتطف"، وهذا الفكر البنّاء وهذه القيم التي نادى بها والتي تتنافى كلياً مع ما يجري اليوم على الساحة العربية من تنمية للغرائز وشحنٍ طائفيٍ مدمر للحضارة والانسان.
رب متسائل يسأل اين ثمار هذه النهضة اليوم، والشرق ما زال شرقاً تتقاذفه الصراعات الدينية والمذهبية ويسيطر عليه الجهل والفساد؟ سؤال يبقى مطروحاً الى ان يأتي يوم تستيقظ فيه الشعوب وتتحرر، ويُطرد تجار الدين ويحاكمون، وينعم الناس بحكّام يعرفون معنى الحرية والعدالة، وينتشر العلم الصحيح، والفكر النقدي الخلاق، وتتعزز التربية الوطنية، ويرتفع صوت الضمير. نأمل ان يأتي هذا اليوم ويستعيد الشرقيون دورهم الريادي انقاذاً للبشرية والحضارة.
في خاتمة كلمتي هذه لا بد من اناتقدم بعميق الشكر والامتنان للمحاضرين الكرام، وللحضور الكريم، وشكراً.
د. اسمهان عيد
الحركة الثقافية ـ انطلياس
في 17/2/2015
[1] ـ "المقتطف": مجلة بدأت "علمية صناعية" واستمرت "علمية صناعية زراعية"، شهرية، صدرت باللغة العربية، اسسها في بيروت يعقوب صروف وفارس نمر، ثم انتقلا بها الى الديار المصرية سنة 1885 واستمرت هناك حتى سنة 1952 (سنة وفاة فارس نمر).
[2]كاتب لاكثير من مئة مقال طبيّ في المقتطف.
[3]شخاخيري، اندراوس. "مذكراتي في المقتطف والمرحوم الدكتور صروف من سنة 1913 ـ 1926"، المقتطف72(1928)2 و3، ملحق شهر يناير (كانون الثاني).
[4]م. ن. ص4. (نقلاً عن شخاخيري).
[5]اضافة الى المدارس الجامعة والمطابع والجمعيات العلمية او المجامع العلمية.