الحركة الثقافية – انطلياس

مداخلة د. عصام خليفة حول كتاب د. مروان أبي فاضل

"تاريخ لبنان القديم في الكتب المدرسية اللبنانية من القرن التاسع عشر حتى اليوم"

        عرفته على مقاعد الدراسة في كلية الآداب (الفرع2) طالباً نشيطاً في قسم التاريخ. يحسن القراءة، بقوم باعداد الابحاث، يواظب على الحضور، يناقش بذكاء العارف، يتصف بالتهذيب والخفر في مرحلة انفلات العصبيات والغرائز.

        في مرحلة التخرج كان من البارزين. ورغم دخوله مهنة التعليم، تابع مسيرة الدرس والتقميش مركّزاً على مرحلة التاريخ القديم. ولا شك ان رعاية الوالد الفاضل الدكتور وهيب ابي فاضل رحمه الله، ومكتبته الغنية بالمراجع والمصادر، كانت خير معين له في تقدم مسيرته. في السنوات الاخيرة من مزاولتي التدريس في الكلية تزاملت مع الدكتور مروان ابي فاضل مع رفاق له من الاساتذة الشباب. وقد لاحظت عندهم الجدية والاندفاع ومحبة البحث والعطاء والتفتيش عن المصادر والمراجع الجديدة من اجل الاستمرار في حمل راية تجديد الكتابة التاريخية في الجامعة والمجتمع. وقد تيقنت ان مروان ورفاقه من الاساتذة الشباب قد عقدوا العزم على اصدار الابحاث الجديدة والابتعاد عن مفهوم الاستاذ الناقل للمعرفة فقط، وانما لاحظت انهم مع الاستاذ المجدد للمعرفة التاريخية ايضاً. وعندما احلت الى التقاعد كنت مطمئناً ان في قسم التاريخ – في كلية الآداب (الفرع الثاني)، زملاء اكفياء لهم كل الخصائص المهنية التي تمكنهم من حمل مشعل الاستمرار في تقدم الصفوف الأولى في تجديد الابحاث التاريخية في مجتمعنا. وعلى كل حال اصبحت اميل، في هذه الايام، الى رفع شعار: الاستاذ الجامعي الذي لا ينشر الابحاث الاكاديمية باستمرار، هو استاذ لا يجب ان يستمر في الجامعة. وبالمقابل على الجامعة ان تؤمّن لهذا الاستاذ كل الظروف المادية والمعنوية للبحث.

        ايها السيدات والسادة

        نجتمع هذه العشية امام كتاب جديد للدكتور مروان ابي فاضل، عدد صفحاته 302. ويتألف من مقدمة، وفصل اول يدور حول تعليم التاريخ القديم في لبنان قبل عهد الانتداب،

        وفصل ثانٍ يركز على تعليم التاريخ القديم خلال عهد الانتداب،

        وفصل ثالث يتناول تعليم التاريخ القديم بحسب مناهج 1946.

        وفصل رابع يعالج تعليم التاريخ القديم في لبنان بحسب المناهج الحالية، ويتضمن هذا الفصل اقتراحات جديدة من حيث المنهجية والمضمون.

        ثم هناك خاتمة وستة ملاحق وفهرس اعلام وامكنة ولائحة بالمصادر والمراجع.

        في الفصل الاول عرض مضمون تاريخ لبنان كما ورد عند الأب مارتن Martinاليسوعي.

        ثم مختصر تاريخ لبنان لمؤلفه لحد خاطر. بعده يتوقف عند نيل الارب في تاريخ العرب لمؤلفه اديب لحود.

        وينتقل الى التاريخ العام لمؤلفه فيليب فان نس ميرز، ثم يعرض مؤلف يوسف السودا في سبيل لبنان. الاستنتاج، في هذا الفصل ان هناك اختلافات في النظرة الى تاريخ لبنان القديم. فلحد خاطر ويوسف السودا كان هدفهما توسيع مساحة لبنان، فيما اعتمد مرتين اليسوعي على ما ورد في الكتاب المقدس ليؤكد على تمايز لبنان عن محيطه، اما الكتب الانجليزية فلم تحمل دعوة سياسية للبنان مستقل.

        في الفصل الثاني ثمة مقدمة حول برامج العام 1924 الابتدائية والتكميلية حول مادة التاريخ، والمناهج الثانوية عام 1929.

ومن ابرز الكتب العائدة لتلك المرحلة:

-       مختصر تأريخ سورية ولبنان بقلم احد الآباء اليسوعيين.

-       لبنان وسورية بقلم اديب فرحات

-       العصور القديمة للدكتور جيمس براستد

-       سوريا ولبنان لعمر ابو النصر

-       تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين المصور للاب فردينان توتل

-   تاريخ لبنان الموجز: تأليف فؤاد افرام البستاني واسد رستم لطلبة الشهادة الابتدائية. وابرز ما يميز هذا الكتاب برأي د. أبي فاضل هو غزارة معلوماته التاريخية، والدقة في شرح مراحل التاريخ القديم ووضعها في اطار جغرافي صحيح، وابراز الانجازات الحضارية التي حققها الفينيقيون عبر التاريخ. وقد شدد المؤرخان على فرادة الهوية اللبنانية وتمايزها عن محيطها.

-       تاريخ لبنان العام لادمون بليبل

-       ملخص تاريخ سوريا ولبنان المصور: تأليف زكي نقاش وعمر فروخ

    ويلخص المؤلف في هذا الفصل الى ملاحظة الخلاف الحاد على تاريخ لبنان في عصوره كافة.

في الفصل الثالث ينطلق الباحث من مناهج التاريخ التي صدرت عام 1946 ليعرض ما ورد في بعض الكتب ومنها:

‌أ-        ملخص تاريخ لبنان للصفوف العالية الاربعة لنجيب مخول

‌ب-   العصور القديمة للسنة الاولى الثانوية تأليف لجنة من الاساتذة

‌ج-    سلسلة التاريخ الجديد للدكتور عادل اسماعيل

‌د-       التاريخ في الصفوف الثانوية لوهيب ابي فاضل ولبيب عبد الساتر ومحمود درويش وسعيد الغز

الفصل الرابع والاخير يقسم الى قسمين:

    قسم يتناول الكتب المتعلقة بتعلم التاريخ القديم بحسب المناهج الحالية. والقسم الثاني يطرح اقتراحات جديدة من حيث المضمون والمنهجية والوسائل التربوية.

    بعد عرض التاريخ القديم في المناهج الحالية في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية يعرض الدكتور مروان ما ورد في التاريخ العلمي والوافي بالتاريخ.

    يذكر (ص 207) ان مؤلفي التاريخ العلمي في الطبعة الاولى هم وهيب ابي فاضل، علم العلم، اجود فرنسيس، كريستيان الحلو. والطبعة اللاحقة كانت من تأليف وهيب أبي فاضل، علم العلم، منير سلامه، زياد غمراوي، كريستيان الحلو.

مع العلم ان الطبعة الأولى كانت من تأليف: وهيب ابي فاضل، حسان ابو عكر، عصام خليفة، هاشم قاسم.

والوافي بالتاريخ كان من تأليف علي بدران، وليد الطويل، سمير جلول.

بين ص 252 و 260 يعرض الباحث وجهة نظره في التقنيات الحديثة في تعليم التاريخ القديم.

فعلى صعيد الكتاب المدرسي ثمة مواصفات يذكرها منها:

-       الاخراج الجيد والترتيب

-       اعتماد الصور الملونة

-       لحظ الخرائط التاريخية الدقيقة

-       وضع نصوص ومستندات متنوعة

وهناك شروط لمن يريد ان يؤلف الكتب المدرسية منها:

-       ان يكون من اصحاب الاختصاص في مادة التاريخ

-       ان تتم الاستعانة بالمصادر وان يترجموا النصوص الى العربية

-       الاطلاع على المراجع الحديثة القيمة

-       متابعة المنشورات الدورية

وبموازاة الكتاب المدرسي وشروط المؤلف ثمة تأكيد على اهمية استخدام الوسائل التعليمية المساعدة: كالتلفزيون والافلام وبرامج الكومبيوتر. وفي هذا السياق من واجبات المدارس ان توفر للطلاب والاساتذة الوسائل اللازمة ومنها:

-       مكتبة تاريخية وخرائط تاريخية ورسوم ومنحوتات

-       تخصيص متحف صغير في المدرسة وغرفة لمادة التاريخ والمستندات العائدة لها

-       اجهزة عرض حديثة لعرض الصور والافلام وبرامج الكومبيوتر

    في الخاتمة يخلص د. ابو فاضل الى ضرورة وضع مناهج جديدة لمادة التاريخ بمضمون حديث ومنهجية تربوية متطورة. هذه المناهج تغطي الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية والسياسية والعسكرية والفنية وغيرها. ولا يرى ان هناك تضارب بين كتابة منهجية ومنطق توافقي.

    ويستنتج ان الكتاب المدرسي هو حاجة وطنية لتنشئة جيل لبناني منفتح، يتمتع بحس وطني لا عائلي او طائفي او مذهبي، يقرأ فيه الطلاب المستندات المتنوعة ويحللونها وينقدونها ويرفضون المعلومات والافكار المعلبة والميتولوجيات والايديولوجيات غير العلمية.

    وبالنسبة للتاريخ القديم يولي الباحث الاهمية للواقع الجغرافي واثره على السكان، والتسلسل التاريخي للاحداث والمظاهر الحضارية. وهو لا يؤيد توحيد الكتاب المدرسي لكنه مع تشديد الرقابة على تنوع الكتب من اجل الحفاظ على الشروط العلمية والتربوية والوطنية. ويأمل من وزارة التربية ان تستعين بافضل المؤرخين اللبنانيين لوضع الخطوط الاساسية لمناهج عصرية.

    ايها السيدات والسادة،

    في هذا الزمن حيث تهدم مطارق داعش مدينة الحضْـر ومدينة نمرود وتدّمر متحف الموصل، وحيث تمعن عصابات القتل والسرقة والارهاب بنهب ثروات سورية والعراق الاثرية ينجز لنا الصديق مروان كتاباً قيّماً يستعرض فيه ما ورد في اغلبية الكتب المدرسية عن تاريخ لبنان القديم. وكأنه يقوم بدفاع استباقي يحاول ان يولي ذاكرة شعبنا التاريخية، في المرحلة القديمة، الاهتمام في وعي طلابنا والاساتذة المسؤولين، في هذا السياق يمكن ان نصنّف هذا المؤلف بانه مقاومة تربوية ثقافية للدفاع عن الوطنية والمواطنية في مواجهة كل اشكال التعصب والتفرقة. انه مقاربة علمية تسعى للتحليل والمقارنة من اجل الوصول الى الحقائق العلمية التي يجب ان نسلح طلابنا بها بالنسبة لتاريخنا القديم.

    لقد استند الصديق مروان لانجاز مؤلفه على:

-       59 مرجعاً باللغة العربية

-       84 مؤلفاً وبحثاً باللغات الاجنبية

-       6 مواقع الكترونية

وهذا ما يدل على جدية العمل واهميته. وبرغم وجود بعض الاخطاء الطباعية فان الكتاب صيغ باسلوب سهل وقريب للفهم رغم صعوبات الخوض في موضوعات التاريخ القديم.

ملاحظات متفرقة:

1-  في ص 5 ذكر الباحث ان "الحكومات اللبنانية المتعاقبة قد الفت عدة لجان لتجديد المناهج، ولكن محاولاتها باءت جميعها بالفشل. الحقيقة ان الاكثرية الساحقة من اللجان توصلت ليس فقط الى وضع مناهج وانما ايضاً الى انجاز كتب مدرسية. لكن في مرحلة الوصاية السورية كان يتم تدخل من قبلها، كما حصل مع الوزير السابق عبد الرحيم مراد، ومؤخراً كان الخطأ في تدخل بعض السياسيين والاحزاب رغم وجود ممثلين لاغلب الاطراف في لجنة صياغة المناهج.

2-  يذكر الباحث (ص 89) ان بعض المدارس الخاصة لا تلتزم بتعليم مادة التاريخ بحسب المناهج الرسمية. وان بعض المدارس لا يدرّس المادة الا في صفوف الشهادة المتوسطة والنهائية (ص 202) هذا الواقع صحيح وغير صحي ويجدر بكل مسؤول ان يتوقف عنده ويبادر الى معالجته.

3-  يتصف المؤلف بالتواضع العلمي فهو لا يزعم انه اقفل النقاش في الموضوع الذي يعالجه، ففي الصفحة 7 يذكر انه "لا يدعي الاطلاع على الكتب المدرسية كافة" وفي ص 163 يشير الى "انه عجز عن الاطلاع على كافة الكتب المدرسية لتعليم مادة التاريخ مع العلم انه عرض لاغلبيتها" وهو يتحفظ باطلاق الاحكام القاطعة. يقول في ص 241 "مع العلم اننا نبقى بعيدين عن تقديم اجابة قاطعة حول هذه المسألة المعقدة" ويضيف "تبقى المسألة من دون حل ما دامت الاكتشافات الاثرية لم تقدم جديداً حول المسألة".

4-  كنت افضل ان يتحرى الباحث عن اسماء مؤلفي كتاب "العصور القديمة" (ص 176) (لجنة من اساتذة المدرسة البولسية) وليس البوليسية كما ورد.

5-  يشير د. مروان (ص 201) الى الحرب الاهلية التي اندلعت في وطننا بين العامين 1975 و 1990. انا اتحفظ على هذا المصطلح وافضّل مصطلح الحروب اللبنانية المركبة.

6-  يبرز الباحث "ان الوقت المخصص لمادة التاريخ (ساعة في الاسبوع) لا يكفي لاعطاء المعلومات كافة". وهذا المطلب يجب ان يكون اولوية عند رابطات الاساتذة وعنه كل حريص على بناء جيل محصّن بذاكرة تاريخية وطنية.

7-  لاحظت ان المؤلف استشهد بابحاث قليلة للمؤرخ Ernest Will، وكنت افضل ان يطلع على مجمل دراساته المجموعة في الكتاب الذي صدر عام 1995 وهو بعنوانDe l'Euphrate au Rhin aspects de l'hellénisation et de la Romanisation du Proche –Orient.وفيه الكثير مما يساعد على التعمق في تاريخنا القديم (فيه 12 فصلاً عن المناطق اللبنانية) وفيه ايضاً توضيح لتنظيم بعض المدن في المرحلة القديمة وهو جانب يجب (ايلاؤه) الاهتمام اللازم في الكتب المدرسية.

خلاصة:

ان تعليم التاريخ، في مجتمع متعدد الطوائف والعقائد كمجتمعنا اللبناني هو عملية جوهرية يكون من نتائجها تزايد التعاون والوحدة الوطنية، ايجاباً، او انفجار المجتمع وترسيخ تقاليد العنف واللاعقلانية سلباً. ويبقى المعلم هو اساس ومحور العملية التربوية وعلى هذا الاستاذ ان يحترم ما اعطته كل طائفة من طوائف لبنان لهذا الوطن وان يُشعر تلميذه ان تراث كل الطوائف هو تراثه هو. من هنا اهمية اعداد المعلم الناجح في اقسام التاريخ في جامعاتنا، وضرورة التدريس المستمر لمدرسي مادة التاريخ في دور المعلمين وفي كلية التربية.

ان الروحية التي عالج فيها الدكتور مروان ابي فاضل موضوعه يفرض علينا ان نشكره على كل الجهد الذي بذله، كما يجعلنا ان نأمل بإنزال الهزيمة بالفكر الداعشي على تنوع طبعاته وحتمية انتصار لبنان الدولة ومجتمع المعرفة القائم على العلم والديمقراطية  والانماء والحرية وحقوق الانسان.    

___________________________________

ندوة تاريخ لبنان القديم     ادارة د. انطوان ضومط

منذ ان عاش الانسان في جماعة بدأ يعبر عن ذاته بوسائل بدائية عديدة غلب عليها الذاتي على الموضوعي، ومع ذلك شكلت تأريخا، افاد منها المؤرخون وعلماء الاثار والانتروبولوجيا في اكتشاف بعض العادات الاجتماعية ونواح من علاقة الشعوب بعضها بالبعض الآخر على مستويات متعددة. ثم تطورت وسائل التعبير ما سمح لدارسيها فهما اعمق لتاريخ مضى. وفي العصور الوسطى في المشرق العربي اعتمدت انماط متعددة عبّر بها الراوي فالمؤرخ عن نظرته الى الماضي، ونشأ عن ذلك مدرستان: الرأي في العراق والحديث في المدينة، واستمر الذاتي واضحا في ما تركه الاخباريون.

لن اغوص في هذا المعترك الشاق، انما جل ما اريد الاشارة اليه في هذا الشأن انه رغم تأثر المؤرخ ببيئة الفكرية والمذهبية، تطور التأريخ تدريجا نحو التجرد النسبي الى ان بلغ شأوى عاليا جدا بالمنهج الذي وضعه ابن خلدون الذي عجز عن تطبيقه كاملا، فاسحا في المجال امام تلميذه المقريزي ليطبقه بنسبة عالية في مؤلفاته. ومع ذلك لم يستطع مؤرخو العصور الوسطى، على رغم الجهود التي بذلوها، الانفلات تماما من تأثير عاملي الدين والمذهب فضلا عن الاقليمية، فظل الذاتي يتسرب الى اخبارهم من دون ان يطغى عليها تماما.

وفي العصور الحديثة طرحت اشكالية مهمة جدا تمثلت بالسؤال التالي: هل التاريخ علم ام فن؟ ما ادى  الى نشوء عدد من مدارس التأريخ طوّرت المناهج وبلورتها، وتقاطعت جميعها، على الرغم من الاختلافات في الوسائل، حول التحري الجدّي عن حقيقة الماضي، التي هي في اساس مطلقة، وقد لا يعرفها كليا من شارك في صنعها اوشاهد الحادثة بام العين. وبالتالي يظل الوصول اليها كاملة ابدا نسبيا، ومرهونا بتوفر المصادر واخضاعها للنقد الموضوعي. لأن الوثيقة او النص معين زاخر بالمعلومات بمقدار ما تطرح عليه اسئلة ذكية يجيبك. ما يعني العمل الجدي لاعادة صوغ الماضي كما حدث.لان التأريخ عملية مجهدة ومضنية، وتطلب الكثير من الجرأة والجهد والحياد. ويسعى المؤرخ الرصين للحصول على اكبر قدر ممكن من المصادر على اختلاف انواعها، ويتبحر بالاخبار والروايات، من اجل غربلتها ومقارنته بعضها بالبعض الآخر، ومن ثم يعيد تركيبها للاقتراب قدر المستطاع من صوغ الماضي كما حصل، لا كما يشتهي هو حصوله. لأن من يكتب التاريخ بمواقف مسبقة ليس مؤرخا انما مؤدلج يخدم فقط تطلعاته ورؤى الخط الذي ينتمي اليه.

ونحن قي لبنان ننتمي الى طوائف ومذاهب وعائلات وعشائر ... ونخضع لمؤثرات محيطنا الاجتماعي والذهني والعاطفي والسياسي والاقليمي، ما يشوش رؤية بعض المؤرخين الى الماضي. فيتم اعادة تركيبه  كما يشتهي بعضهم لا كما يفترض ان يكون. فتُسقط مصادر عمدا، وتُجتزأ بعض الروايات، وتُهمل روايات أخرى، ويُسّلط الضوء على نواح، ويمر على بعضها الاخر هامشيا، فتضيع الحقيقة، ويصبح التارخ مشوشا. ما يعيدنا الى بعض مفاهيم مناهج العصور الوسطى. وقد يكون بعض مؤرخي تلك العصور أكثر موضوعية لأنهم لم يؤرخوا من منطلق ايديولوجي. ويحضرني سؤال مركزي: كم من الذين ألفوا كتبا مدرسية يتقن لغات قديمة، على الاقل لغة واحدة؟! باعتقادي انهم اعتمدوا على مراجع محددة. ومن البديهي القول: ان المراجع ليست كلها موثوقة، فبعضها قد يقع في خطأ اعادة التركيب من غير قصد، والبعض الآخر عن دراية. وبالتالي من يعتمد في التأليف، ولا اقول التأريخ، على المراجع فقط سيقع في الخطأ مرغما.

على هذا، لا يعتبر كتاب الدكتور مروان ابي فاضل "تاريخ لبنان القديم..." الزاخر بالاسس المنهجية الآنفة الذكر تأريخا بقدر ما هو نقد لنظرة المؤرخين الذين تناولوا تاريخ لبنان والمشرق العربي في مرحلة التاريخ القديم. فهو، في هذا المجال، عملية تقويمية للكتب المدرسية التي تناولها. فكل واحد من مؤلفيها قدم رؤيته لهذا "اللبنان" فجاء عند بعضهم مستقلا منذ ان نشأ، وعند البعض الآخر مستقلا نسبيا، ورأه فريق ثالث فنيقيا فقط. والفينيقيون عند فريق ساميون جاءوا من الخليج العربي، ويرد فريق آخر اصلهم الى الفرس او غيرهم. ونظر مسيحيون مستشرقون الى لبنان على انه وطن للمسيحيين فقط، ورسموا له حدودا تتوافق مع نظرتهم. وهو عند بعض المسيحيين اللبنانيين مستقل منذ فجر التاريخ، وقد اسسه اجدادهم. وتواضع فريق منهم وسمح للمسلمين ان يكونوا شركاء فيه. ومرّ مؤرخون مسلمون على لبنان والفينقيين مرورا هامشيا، فلم يعدُ لبنان بنظرهم سوى جزء من عالم سامي واسع، ولا وجود له خارج انتمائه الجغرافي والاتني العربيين على الاقل.

ان محاولة الدكتور ابي فاضل النقدية مهمة جدا كشفت بدقة ايديولوجية من كتب تاريخ لبنان القديم، من دون ان يتخذ موقفا مسبقا من المؤرخين، انما اضاء على الثغر في مؤلفاتهم، واشاد بمن اجاد مبرزا حيادهم. وهذا منهج مهم لتعرية اصحاب المواقف المسبقة من التاريخ. وبالتالي أتساءل مع مؤرخين آخرين: ما الافادة من كتابة تاريخ موحد في مراحل التعليم المدرسية؟ ألن تكون كتابة تاريخ توافقي؟! وبالتالي من سيتنازل لمن، وفي اية مواضيع، ولصالح من، أهي للسياسيين ام للانتماء الطائفي او المذهبي؟! نها بدعة جديدة تحمل في طياتها ادلجة التاريخ، واللعب على الحقيقة الماضوية.

 ان هذا التخبط بكتابة تاريخ لبنان في مراحله كلها القديم والوسيط والحديث والمعاصر، لن تصير تأريخا ما دامت الطائفية تذر قرنها وتتلاعب بمواقف المؤرخين، وما دام من يدعون التأريخ يخضعون للسياسيين، او على الاقل يحابونهم. ومع ذلك نجد قلة من المؤرخين نبذو تلك المواقف، ولا ينقادون لاحد وجهدوا في سبيل تبيان الحقيقة الماضوية، ويكدون دوما وقدر المستطاع لاعادة رسم الماضي كما حصل. وانني آمل ان يزداد نضالهمهم وينهج  كثيرون نهجهم. ولا أغالي ان قلت ان من بينهم من سينتدي معنا في هذه اللقاء الفكري في هذا المساء. 

______________________________

مناقشة كتاب مروان أبي فاضل*

تاريخ لبنان القديم في الكتب المدرسيّة اللبنانيّة

(من القرن التاسع عشر حتّى اليوم)

الدكتور أنطوان القسيس

أُستاذ التاريخ القديم في الجامعة اللبنانيّة

تفتحّت عيناه، وفي فمه كتاب!

نَذرَه والدُه للكلمة، فصار وزنُه ذهبًا!

كبُر والكتابُ يكبُرُ معه وفيه حتّى أصبح توأمَ حياتِه.

له من الحياة عشقان: عِشق نجلاه التي بنى معها عائلة لبنانيّة على أصالةٍ أخلاقيّة مُتجذرة فيهما من البيت الوالدي؛ وعِشق كتاب نَما فيه من الصغر وأصبح ناسكًا له على كِبر!

تعرَّفتُ إليه، في كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة ــ الفرع الثاني في الجامعة اللبنانيّة، في سنوات الإجازة، فتوسمت فيه خيرًا واعتبرته، يومذاك، مشروعَ باحث له من غده ما سَيؤكدُه.

عرَفته أكثر بعد تحضيره وبإشرافي، أولًا في الجامعة اللبنانيّة، رسالة دبلوم الدراسات العليا في التاريخ، بعنوان: تاريخ لبنان القديم من خلال مؤلفات المطران يوسف الدبس؛ وثانيًّا في جامعة الروح القدس ــ الكسليك، أُطروحة الدكتوراه بعنوان: الحضارة الكنعانيّة ــ الفينيقيّة من خلال المصادر العربيّة (القرن التاسع ــ القرن السادس عشر)، العام 2007، فتأكدتْ لي صِحةُ ما توسمت فيه.

بدأ، بعد الدكتوراه، حياته البحثيّة وله فيها حتّى اليوم خمسةُ أبحاثٍ علميّةٍ منشورة وغيرُها على انتظار، وأربعةُ كتبٍ: ثلاثةٌ منها مدرسيّة، وآخرها ما نجتمع اليوم للإحتفال بولادته.

قرأت الكتاب...!

فأعادني إلى أمسٍ كُنت فيه حكواتيُّا أروي على ناشئةٍ قصصًا فيها من المعرفة التاريخيّة الاسم فقط. وكانت أشبه بقصصِ جديّ عن بطولات بني هلال وعنترة ومَنْ زاملهما في مُخيلة الجدّ.

دفعني هذا الكتاب إلى مراجعة الماضي!

جعلني أندم على مرحلة من العمر، وأنا لم أندم على كلّ ما فعلته في حياتي العمليّة، وهي مرحلة التعليم المدرسي وكُنت في بداية الطريق. مرحلةٌ أعدمتُ فيها الوقت، حرقتُه، وذريتُ رمادَه في أعين أجيالٍ من اللبنانيّين كانوا يطلبون مني معرفة تاريخيّة صحيحة فأوصلت لهم سُمومًا ثقافيّة حملتها إليهم من المنهج الرسمي ومن الكُتب التي وُضعت على أساسه.

أدركتُ يومئذٍ مأساةَ التعليم والتربيّة في لبنان، ولم أتعجب بعدها أو أتساءل عن اسباب الصراعات التي حلت وتعيش دائمًا معنا كجزء أساس من المسألة اللبنانيّة. وأعتقد، عن حقٍّ، أن التاريخ اللبناني في مفاهيمه التربويّة والمعرفيّة المتّبِعة في لبنان، يُشكل السبب الرئيس لهذه المسألة. إذ أن الذاكرة التاريخيّة لم تُشكل، يومًا، عند اللبنانيّين وحدة مُجتمعيّة، لا بل نظروا إليها من منظار انتمائهم الطائفي والمذهبي والجغرافي والإيديولوجي. فالمفهوم الوطني وبناء الدولة وجهةُ نظرٍ لدى اللبنانيّين. كلٌّ يُغنّي على ليلاه ويُبشر بإيديولوجيته على أنها المعرفةُ التاريخيّةُ الوحيدةُ المُنزَلة والمُنزَّلة من العالم الإلهي. أما الاعتراض أو النقد أو المُطالبة بقراءة هادئة علميّة للمنهج التربوي لوضع مفهوم سليم لهذا التاريخ، فعاقبته الرجم والرشق بالحِرم الدينيّ والفصل من قافلة المتنورين أصلًا بالديماغوجيّة وادعاء الإصلاح.

تركت التعليم المدرسي، وتوجهت نحو التعليم الجامعي علّني أجد ضالتي في المناهج الجامعيّة التي عملت مع زملاء لتطويرها ومطابقتها مع البرامج الأوروبيّة. وهنا كانت مأساةٌ قديمة جديدة كانت، ولمّا تزل، حول المفاهيم التاريخيّة وكيفية بناء المواطن تربويًّا وثقافيًّا. وتبيّن لي أن الأزمة الكبرى تكمن في غياب فلسفة تربويّة وطنيّة سليمة. فوقعنا في المحظور، والممنوع، والمرغوب، وكلها لا علاقة لها بالمفاهيم التاريخيّة العلميّة. فانسحبت على صدام مع نفسي أولًا، وتاليًّا مع الأصدقاء والزملاء.

غاب الآمل وبقية الأزمة/المسألة الكبرى تعيش وتتغذى على حساب الوطن، ونأملّ أن يأتي يومٌ نُدرك فيه الكارثة التي نُغذيها على الدوام.

كان لا بدّ من وضع الإصبع على الجرح، ولو ولّد ألمًا كبيرًا عند الغيارى على أدلجة الذاكرة اللبنانيّة.

مروان أبي فاضل ارتكب المَعصيّة اللبنانيّة الكُبرى، ويستأهل الرجمَ والحِرمَ الإلهي. تجرأ، فكتب في المحظور، وارتكب الخطيئة اللبنانيّة الأصليّة عندما بيّن، عن حقّ، انحراف البرامج التربويّة ومضمون الكُتب التاريخيّة المدرسيّة، منذ القرن التاسع عشر حتّى اليوم، عن المعرفة التاريخيّة السليمة.

كان تركيزه على التاريخ القديم، فيا ليته توسع في حقبات هذا التاريخ اللبنانيّ كافة، لتَبين له أن ما ينسحب على التاريخ القديم في لبنان ينسحب أيضًا على الحقبات التاريخيّة كافّة. ولكان أدرك عُمق المشكلة اللبنانيّة في ما خطّطه لها عقلٌ لبنانيٌّ تجمّعت فيه كلّ المتناقضات اللبنانيّة البعيدة عن بناء المواطنة الصحيحة.

حسنًا فعل مروان أبي فاضل في مقاربته لموضوع الكتاب الذي جاء على وضوح في الأسلوب بالرغم من بعض الشوائب اللغويّة التي لا تقلل من قيمة الكتاب العلميّة. لكن نأخذ عليه إغفاله كتاب لبيب عبد الساتر، الحضارات، دار المشرق، بيروت، الطبعة 17، 2008، وكان وُضع في التداول منذ السبعينيات من القرن الماضي. إنه نموذج علميّ وحيد ويتيم بين كلّ الكتب المدرسيّة، وتمّيز بمنهجيّة جديدة ومقاربة تربويّة متطورة كانت صعبة على أساتذة التعليم المدرسي كونهم غير متخصصين في التاريخ القديم ولا يُدركون مسائله وكيفيّة مقاربته. لذا انحصر اعتماد هذا الكتاب على عدد قليل من المدارس. لذ فالمقارنة بينه وبين مُجمل الكتب المدرسيّة تُبيّن أن لبيب عبد الساتر كان يُغرد خارج المألوف المُعتمد عند البقيّة.

وتزداد المسألة تعقيدًا وعمقًا مع الكُتب الطائفيّة التي أفرزتها فترة الحروب اللبنانيّة وما بعدها. إذ عمدت بعض المجموعات الطائفيّة والحزبيّة إلى وضع كُتبِ تاريخٍ لمدارسها أو لمناطقها وجرى فرضها عمدًا على ناشئة أُريد لها أن تتموضع ثقافيًّا وإيديولوجيّا في بيئاتها المُنغلقة على ذاتها.

فتربت أجيالٌ من اللبنانيّين على الجهل العلمي وعلى نبذ الآخر وعلى التفوق البنيوي في الانتماء على شاكلة تمجيد الحضارات والعِرقيات في أوروبا في القرن التاسع عشر. وهي مقولات متطرفة أصوليّة المنحى، ولّدت عدة حروب كُبرى وحصدت الملايّين من القتلى الأبرياء في عالمنا المُعاصر.

وهنا نأخذ على مروان أبي فاضل عدم تمكنه من الاستفاضة في دراسة الكُتب التاريخيّة ذات الطابع السنيّ أو الدرزي أو المسيحي أو الشيعي لاحقًا، وإن أشار إلى بعضها عرضًا في سياق بحثه (ص. 201 ــ 202)، وربما كان السببُ في ذلك عدم تمكنه من الحصول عليها، لبانت له فوضى فكريّة ثقافيّة تربويّة مُؤدلجة تزرع ريح الفوضى في العقول لتحصد بعدها العاصفة التي لن تُبقي على أحد!

أما بعد!

إنها خطوة الألف ميل على طريق البحث العلمي. فلا تتوقف، يا صديقي، عند ملاحظات أو اعتراضات حول مضمون الكتاب، وحول ما ستكتب. لأن فيها التحامل والتجني أكثرَ من النقد البنّاء.

فلو قرأنا كلَّ ما كُتب في لبنان، باللغة العربيّة، حول تاريخ الكنعانيّين/الفينيقيّين، منذ القرن الخامس عشر حتّى اليوم، ولنا دراسة مفصلة حولها نشرناها بالفرنسيّة العام 2008 في باريس، لتبيّن لنا هذا التناقض المعرفي حول هذه الفترة الطويلة من تاريخ لبنان القديم، ولأدركنا العشوائيّة والمحسوبيّة وضعف الذاكرة الثقافيّة في كيفيّة وضعِ المناهجِ التاريخيّة وكتبِها منذ عهد المتصرفيّة إلى لبنان الاستقلال.

فيا مروان، أكمِل ما بدأتْ بالتزام علمي حكيم.

"قُل كلمتَك وامشِ"، فالتاريخُ، وحدُه، يُنصفُ ما كتبتْ، وما ستكتب!

بورك المولود الجديد في عائلتك الكبيرة!

والآملُ معك بلقاءٍ قريب!

• < السابق
• التالي >