ندوة حول ديوان الشّاعر
ريمون شبلي
أشدو... وأشتاق
الحركة الثقافيَّة ـأنطلياس .
ندْوة حَوْلَ ديوان الشَّاعر
ريمون شبْلي :
أشدُو ... وأشتاق !
كلمَة مُدير الندْوة :
الأستاذ ايلي ريمون الحجل .
12 نيسان 2016
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أيُّها الأعِزَّاءُ ؛ يحارُ المرْءُ ، في عُجَالَةٍ ، كهَذهِ الَّتي أرْتكِبُها ، الآنَ وهُنا ، كيْفَ يَلِجُ مَدائنَ الشِّعْرِ المحصَّنةَ ، ومِنْ أيِّ الأبوابِ يدْخُلُ العَالَمَ الشِّعْريَّ لصاحِبِ الدِّيوانِ الَّذي دُعِينا ، اليوْمَ ، إلى وَليمَتِهِ ، في الحركةِ الثقافيَّةِ ـ أنطلياس ... فلا يخفَى علَى أحَـدٍ ، أنَّ العُجَالَةَ ، في هذا المقامِ ، مُغامَرةٌ ، قدْ لا يخفِّفُ مِنْ أهْوالِها سِوَى اسْتذْكارِ أنَّ الشِّعْرَ ، نفْسَهُ ، مُغامَرةٌ ، وأنَّ قراءتَهُ ، بدوْرِها ، أمُّ المغامَراتِ !
مِنَ الجليِّ ، لقارِئ الدِّيوانِ ، أنَّ الشَّاعِرَ يبْني لهُ ، علَى امْتِدادِ صفَحاتِهِ ، عالَمًا شِعْرِيًّـا ، قوامُهُ ثالُوثُ : الكلمَةِ ، والإنسانِ ، والقِيَمِ ... وفي رأيي أنَّنا نعْثُرُ ، في هذا الثالُوثِ ، علَى المفْتاح الأساسيِّ الَّذي يُعِينُنا علَى فَضِّ قواريرِ المعَاني الَّتي تسْتبْطنُها خلايا القصائدِ ... وقدْ لا أغالي ، في هذا السِّياقِ، إنْ ذهبْتُ إلى القوْلِ إنَّ الشَّاعِرَ يبْدُو مهْجُوسًا ، تمامًا ، بهذا المثلَّثِ المقدَّسِ ، بحيْثُ يسْتحِيلُ عليْنا أنْ نقَعَ علَى قصيدةٍ لهُ ، في هذا الدِّيوانِ ، تكونُ خارِجَ هذا المدارِ ، أوْ غيرَ مُحَمَّلَةٍ بأثْقالِ هذا الهاجِسِ!
هكذا ، ومِنْ رَحِمِ هذهِ الدَّائرةِ الكبْرَى ، يسْتوْلِدُ الشَّاعِرُ دَوائرَ صُغْرَى ، أوْ منْظُومَاتٍ جُزْئيَّةً ، ليْسَتْ أقلَّ أهمِّيَّةً ، أذكُرُ مِنْها ثالُوثَ : الصَّلاةِ ، والأمَلِ ، والعَمَلِ ( ص. 48 ) ، وثالُوثَ : الحبِّ ، والرَّجاءِ ، والسَّلامِ ( ص. 60 ) ... ولَعَلَّ الرُّؤيةَ المثاليَّةَ هذهِ قدْ أفْضَتْ بالشَّاعرِ إلى هِجَاءِ العَصْرِ الموْبوءِ ، والتنْديدِ باخْتلالِ العَالَمِ ، وتبدُّدِ المثُلِ العُلْيـا ، وانقلابِ المقاييسِ ، في القصيدةِ الَّتي عُنْوانُها " كفيفُ البصِيرةِ " ، حيْثُ يُوغِلُ الشَّاعِرُ في مُعارَضةِ رَداءَةِ هذا الزَّمَنِ ، وفي ذَمِّ أحْوالِهِ ، وانحِلالاتِهِ !
بَيْدَ أنَّ الهاجِسَ الأعْظمَ الجاثِمَ ، بظِلالِهِ ، وأشباحِهِ ، علَى وَعْي الشَّاعِرِ ، ولاوَعْيِهِ ، كمَا تشي لنا بذلـكَ مجمُوعةٌ كبرَى مِنْ نصُوصِ الدِّيوانِ ، هُوَ الموتُ الَّذي يُكنِّيهِ الشَّاعِرُ مَرَّةً بالناقُوسِ ، ومَرَّةً بالسَّارِقِ ، ومَرَّةً بالخاطِفِ ( ص. 43 ) ، ومَرَّةً باللَّحْظةِ الصَّفْراءِ ( ص. 50 ) ، ومَرَّةً بالأعْمَى الَّذي خصْمُهُ التعَبُ ، يمشي وفي يَدِهِ المِمْحَـاةُ والغضبُ ( ص. 70 ) ، ومَرَّةً بالصَّمْتِ ( ص. 80 ) ...
والجديرُ ذِكْرُهُ ، هُنا ، أنَّ الشَّاعِرَ لا يُواجِهُ الموْتَ مُواجَهَةَ العَدَميِّ ، أوِ الكائنِ العَبَثيِّ ، لما ليْسَ مِنْهُ بُدٌّ ، بلْ نراهُ يُقارِعُ سُلْطانَ الموْتِ ، وجبروتَ الفناءِ ، بعُدَّةِ المؤمِنِ باللهِ ، وبالمشيئةِ العُلْوِيَّةِ ( ص. 40 و 41 ) ... وهوَ يمتشِقُ ، لهذهِ المعْركةِ الوُجُوديَّةِ ، سِلاحَ الصَّلاةِ ، والرَّجـاءِ ، حِينَ يغدُو فِعْلُ الصَّلاةِ ، بذاتِهِ ، مَرْقاةً إلى الخلُودِ ، والقيامةِ الموْعُودةِ [ ونصلِّي / لا نخشى رِيحًا / لا نخشى لَيلاً أوْ كمَدا / نمشي دَرْبَ النُّورِ واللاَّانتِهاءْ / ونصلِّي ... نصلِّي / لا نخشى الناقُوسَ غدا ! ص. 45 ] ...
صَحِيحٌ أنَّ الشَّاعِرَ يبْدُو لنا في انتِظارٍ دائمٍ للْمَوْتِ ، يترقَّـبُـهُ ، ويتهيَّأُ لهُ ، غيرَ أنَّ زادَهُ ، في محْنةِ الانتِظارِ : صلاةٌ ، وخُشوعٌ ، وإيمانٌ ، ووَداعةٌ ( ص. 49 ) ... وهوَ يرَى في العبُورِ إلى السَّماءِ وِلادةً ثانيةً ، وحيـاةً جديدةً ( ص. 57 ) ، مُنْحازًا ، بذلكَ ، إلى الحيـاةِ ، ولوْ مِنْ قاعِ الموْتِ ...
واسْتِطْرادًا ، أشيرُ ، عَرَضًا ، إلى تعَارُضِ الأخْضرِ ، والأصْفرِ ، وتضادِّهما ، في أكْثرَ مِنْ حيِّزٍ ، فوْقَ صَفَحـاتِ الدِّيوانِ ، بحيْثُ لا يفُوتُ القارِئَ النبِيهَ أنَّ في رَمْزيَّـةِ اللَّوْنِ الأخْضرِ ، وإيحـاءاتِهِ ، دلالاتِ الحـيَـاةِ ، والخلاصِ ، والتجدُّدِ ، والاسْتنْهـاضِ ( ص. 20 و 37 و 41 و 47 و 83 و 101 و 131 و 139 و 140 ) ، وأنَّ في رَمْزيَّةِ اللَّوْنِ الأصْفَرِ ، وتضْمِيناتِهِ ، دلالاتِ الموْتِ ، والأفُولِ ، والعَجْزِ ( ص. 50 و 84 ) ... وبذلـكَ ، لا يعُودُ ، مِنْ بابِ الصُّدْفةِ ، رُبَّمَـا ، رُكُونُ الشَّـاعرِ إلى الأخْضرِ ، وارْتياحُهُ إليْهِ ، لوْنـاً يتَّشِحُ بهِ جسَدُ الغلافِ الخارِجيِّ لديوانِهِ الجديـدِ !!
وفي زعْمِنا أنَّ للشَّاعِرِ ، كمَا لكُلِّ شاعِرٍ آخرَ ، مجمُوعةً مِنَ " الآبـاءِ الطَّيفيِّينَ " ، يتَّخِذُونَ مِنَ الجزْءِ الأغلَى في وِجْدانِهِ الشِّعْريِّ ، مَسْكِنًا عزيزًا لهمْ ، يرْتعُونَ فيهِ ، ويشعُّونَ إلْهامًا ، وتأثيرًا ، ونفُوذًا، وفي طليعَتِهِمْ : خليل حاوي ، وسعيد عَقْل ، والياس أبو شبكة ، وجبران خليل جبران ، وأدُونيس ( لا سيَّما في مِهْيارِهِ الدِّمَشقيِّ ) ... ولنْ يتَّسِعَ لنا المجالُ ، هُنا ، للْكشْفِ عَنْ أثرِ هؤلاءِ الشُّعراءِ ، أوْ للْكلامِ علَى دائرةِ نفُوذِهِمْ ، أوْ لتوْثيقِ حرَكيَّةِ التَّنـاصِّ ، بالأمْثِلةِ ، وبالشَّواهِـدِ ...
وبعْدُ ، فإنَّ الشَّاعِرَ مَهْمُومٌ ، أوَّلاً وأخيرًا ، بجمَاليَّاتِ الخِطابِ الشِّعْريِّ ، وهوَ يعْرِفُ ، مِنْ غيرِ شكٍّ ، أنَّ الشِّعْرَ ، في ماهيَّتِهِ الأولى ، صُورةٌ ، وإيقـاعٌ ... فلْنلْتفِتْ ، في هذا الإطـارِ ، إلى الشَّاهِدِ التالي ، لنرَى كيفَ أجـادَ الشَّاعرُ توْظيفَ المبالغـاتِ الشِّعْريَّةِ ، وتقْنيَّةِ التّكرارِ ، وإيقـاعِ التوازي والتوازُنِ، لإغْناءِ المعْنى الشِّعْريِّ [ وكلَّ لُحيْظةٍ قلَقٌ علَى قلَقٍ / وكلَّ لُحيْظةٍ وَجَعٌ علَى وَجَعٍ / وكلَّ لُحيْظةٍ سِكِّينْ/ علَى سِكِّينْ / ويكْبرُ في السِّنينِ الجرْحُ / يعْمُقُ في السِّنينِ الجرْحُ / ينْزِفُ في السِّنينِ الجرْحُ / يرْقُصُ مِثْلما المجنونْ ! / يُنادي مِثْلما المجنونْ ! ص. 14 ] ... أوْ إلى الشَّاهـدِ التالي الَّذي تجتمِعُ فيهِ ، إلى مَـا تقدَّمَ ، بلاغةُ الجناسِ الناقِصِ ، وتلكَ المشهَديَّةُ الملْحمِيَّةُ الَّتي تزْدحِمُ في فضائهـا الأفْعالُ المشدَّدةُ ، لتعْزيزِ ائْتلافِ الدَّالِّ والمدْلُولِ [ وبعْدُ المكانْ / رياحٌ تلفُّ رياحْ / وبعْدُ الزَّمـانْ / رِماحٌ تشكُّ رِماحْ / تفتِّحُ في كلِّ جيلٍ جِراحْ / ويهْدُرُ نهرٌ مِنَ القهْرْ / مِنَ الجمْرْ ... ص. 18 ] ...
وعلَى العُمُومِ ، يسْتطيعُ القارِئُ ، في ارْتحالِهِ بَينَ حدائـقِ الدِّيوانِ ، أنْ يقْطفَ باقةً مميَّزةً ، مِنَ المجـازاتِ ، والانزياحاتِ ، والصُّوَرِ الفنِّيَّةِ ، ذاتِ المنسُوبِ الشَّاعِريِّ العَالي ، والفَرادَةِ التعْبيريَّةِ ... أذكرُ ، في مَا يلي ، بعْضَهـا : [ مَتى يشتاقُ وَجْهَ ربيعِهِ الزَّمنُـيحْفرُ ، في زمْهَريرِ الزَّمانِ ، زمانَهْ ـهُنالكَ الجنَّةُ الكبرَى قـدِ انفَتَحَتْ / لرُوحِكَ الحيِّ بَدْءًا يسْكُنُ الأبَدا ـعِنْدمـا تصْفعُ تلكَ اللَّحْظةُ الصَّفْراءُ دِفْءَ الجسَدِ / تنْحني كفُّ السَّما / وتعُودْ / تحْمِلُ الظِّلَّ وحِيدْ / يسْتعِيدْ / رُكنَهُ في الأبدِ ـمَفاتيحُ الرُّؤى تسْقطُ في كهْفِ الصَّقيعْ ـحفرُوا علَى وَجْهِ الزَّمانِ وُجُوهَهُمْـيتْلُو علَى الدُّنيا سَوادَ حُضُورِهِ / ويخِيطُ مِنْهُ مَسافـةً وسَدِيمـا ـأضلُعُهُ زنـابق ، وصَدَى أقدامِـهِ أمَـلُ ! ] ...
كذلـكَ ، أرَى ، مِنْ منْظُورِيَ الشَّخْصِيِّ ، أنَّ القصيدةَ الأجْمَلَ ، في الدِّيوانِ ، هيَ تلْكَ الَّتي أعارَتِ الدِّيوانَ عُنوانَهـا ( أشدُو ... وأشتاق ! ص. 130 ) ، والَّتي اخْتارَ لها الشَّاعِرُ البَحْرَ الخليليَّ الأحَبَّ إليْهِ ، والأقْرَبَ إلى ذائقتِهِ العَرُوضيَّةِ ، والأكْثرَ اسْتئْثارًا بقصائدِ الدِّيوانِ العَمُودِيَّةِ ، عَنيْتُ بهِ البَحْرَ البسيطَ ... فهذهِ القصِيـدةُ هيَ ، في ظنِّي ، الأكْثرُ اكتِمَـالاً ، والأوْفَرُ نُضْجًـا ، مِنْ حيْثُ المكوِّناتُ اللُّغويَّةُ ، والعناصِرُ الإبْداعيَّةُ ، والرُّؤيـا الفلْسفيَّةُ والفِكْريَّةُ ، وأدواتُ الكتابةِ والتعْبيرِ ...
أيُّها الأحِبَّاءُ ؛ لَعَلَّ في لقائنا ، اليوْمَ ، ألْفَ دَليلٍ علَى أنَّ الشِّعْرَ ، في دُنيانا ، بخيْرٍ ... أمَلي أنْ يكُونَ قُرَّاؤهُ كذلكَ ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حول ديوان "أشدو... وأشتاق!"
للشاعر ريمون شبلي
الأستاذ حكمت حنين.
إذا كان المتنبي قد جعل "المجدَ في السيف والفتكة البكر"،
وقد اعتبر أنّ "خيرَ جليس في الأنام كتابُ"،
فإنّ ريمون شبلي قد اتخذ من القلم خير صديق أبدي. وقد اكتفى بهذه الصداقة التي لم ولن تتزعزع.
هذا ما أعلنه ضمن أربعة أبيات مثبتة على الغلاف الأخير، مستلّة من قصيدة مثبتة في آخر الديوان بعنوان "قلم"، إذ قال في شطرين منها:
"بيني وبينكَ شوق دافئ أبدًا
كنا يدًا بيدٍ، نبقى معًا أبدًا"
حمّل ريمون هذا القلم أشواقه وثورته وهدوءه وأحلامه وعواصفه وقلقه ورنين ذاته، وانتظاراته الخضراء، وبه جمع معظم وجدانيّاته التأمّلية التي دوّنها منذ العام 2000، وأصدرها في ديوان أطلق عليه عنوان "أشدو... وأشتاق!".
يستوقفك، في هذا العنوان، علامتا وقف: علامة الحذف التي تفصل بين فعلين مضارعين أشدو وأشتاق، وعلامة التعجب التي تختِم العنوان.
علامة الحذف تمسكك لتتساءل وتتأمّل: لمن ولمَ يشدو ريمون؟ وعلامة التعجب ترسم في خاطرك دهشة وانتظارًا لتعرف إلى من ولمَ يشتاق؟ والفعلان المضارعان يفيدان حالات مستمرّة بين الحاضر والآتي، تؤكد أبدية العلاقة بين ريمون وقلمه وشدوه واشتياقه. ويستوقفك من جديد حرف الشين المكرّر في "أشدو وأشتاق" لكأنّه يسحب من أعماق صاحبه نشيجه الصامت ليسكبه قصائد وجدانية تأملية معبّرة خير تعبير عمّا يريده الشاعر.
وإذا حاولت الإجابة عن الأسئلة السابقة، وأن تتأكد من صوابية التأويل للعنوان، ما عليك إلا أن تركب زورقًا وتبحر في يم قصائد الديوان، لتغوص من ثمة على ما فيها من تأمل ووجدان ومعاناة كابدها الشاعر في مناسبات متعددة ومختلفة ومتباعدة، على مدى تجرِبته الشعرية.
ونظرًا لتعدّد المناسبات والموضوعات التي تطالعك في الديوان، ونظرًا لضيق الوقت المتاح لي لعرض مداخلتي، اخترت أن أتوقف عند قضية واحدة لفتتني كثيرًا في الديوان، وهي "الموت والرجاء المسيحي" عند ريمون شبلي في هذا الديوان.
ولكن، قبل الشروع في عرض هذه القضية، اسمحوا لي بأن أتوقف عند بادرة اتّخذها ريمون، وهي، ضمن ما طالعت، جديدةٌ عليّ، فودِدت أن ألفت النظر إليها. لأوّل مرّة أقرأ أن أديبًا حَفِظَ حقوق النشر لولديه، فكأنه – سلمت روحه – يورّثهما باكرًا إرثًا فكريًا معنويًا لا تقدّر قيمته بثروة مادية.
والآن نعود إلى قضية "الموت والرجاء المسيحي".
قصائد ريمون هذه عبارة عن مجموعة تمتدّ بين العامين 2000 و2016، وهي وقِفاتٌ عند محطات ومناسبات معيّنة، ينطلق منها ريمون إلى استعراض حالات وأوضاع عامّة، يسجّل موقفًا له منها.
أبرز محطة لفتتني توقّف عندها ريمون هي قضية الموت. وقد توقّف عندها كثيرًا، وفي مناسبات عديدة، تبدأ بالتأمل انطلاقًا من موت الوالد، مرورًا بالتفجع الفرح على الزوجة، انتهاءً بتأبين بعض الأصدقاء والزملاء والزميلات والمقرّبين.
ذكرى الأب تحتلّ مِساحة واسعة في ديوان ريمون، فأبوه، وإن غاب، يبقى اليد التي تدافع، والشعاع الذي ينير الدرب، والشراع الذي يوجّه إلى المرافئ الآمنة. يبقى القلب والساعد والحب والحارس والجدار في وجه الرياح، والطيب للجراح (ص 25).
وربّ متسائل: كيف يبقى الأب كلّ هذا وقد مضى على رحيله ما يزيد على ربع قرن؟ الجواب في ما زرعه ورسّخه هذا الأب الراحل في شخصيّة ولده ريمون من مزايا وشمائل كريمة.
موت والده قاده إلى التعبير عن ألمه وصدمته من الواقع المرير الذي يتخبط به لبنان واللبنانيون. فبعد عشرين سنة، مرّت على رحيل والده، تراكم القلق والوجع والتعب ونَزْفُ الجراح، وعظمت الأحزان، وهي مستمرة، بل إنها تزداد اتساعًا وعمقًا ونزفًا، فيما كان ريمون يأمل أن تسير الأمور نحو الأحسن.
أمام هذه الصدمة، لم ييأس ريمون، بل ظلّ يأمل ويتساءل:
"مضت عشرون..
لماذا
لم يبرعمْ بعدُ غصْنٌ
لم يفتِّحْ بعدُ وردٌ
لم يُضئ نجمٌ ولا قَمَرُ؟"
ريمون ابن الرجاء المسيحي يزرع رجاءه في كلامه، فالأفعال المضارعة "يبرعم، يفتّح، يضئ" كلّها تفاؤليّة. وترقّب الأفضل توحيه "بعد" المكرّرة ثلاث مرّات. وأشياء الطبيعة "غصنٌ، وردٌ، قمر" كلها توحي بالأمل المنتظر.
ويزداد الأمل حدّة عند ريمون حين يرى أنّ أشياءَ طبيعية أخرى ما تزال تفيض بالخير:
"لماذا
وهي ما زالتْ
تقطرُ ماءها الأغصانُ والشجرُ؟"
عنصر الحياة، الماء، متوافر، وهو ما يزال وفيرًا ومعطاءً، فلم لا تتجدّد الحياة في نفوس أبنائها، ولا سيما اللبنانيين.
ومهما مرّ الزمن وتفاقمت الأزمات، لا يستسلم ريمون ولا ييأس:
"مضت عشرون
متى يتقهقرُ التّنينُ
ويندثرُ؟
متى يشتاقُ وجهَ ربيعِه الزمنُ؟"
إنّه توقّعٌ وانتظارٌ لربيعٍ آتٍ يلُفّ الزمان ويعُمّ المكان، وأملٌ وتفاؤلٌ بدحرجة الحجر عن قبر لبنان، وعن صدور اللبنانيين، فيشهدُ ويشهدون قيامةً وصعودًا وخلاصًا من الفساد والفاسدين والمفسدين، وقد طالت وعمّت الشكوى منه ومنهم.
ويتجلّى الرجاء المسيحي في شعر ريمون في قصيدته لزوجته التي عانت المرض والآلام المبرّحة، وقد شاركها ريمون آلامها لحظة بلحظة. في هذه القصيدة "إفرحي في رحلة الأبد"، يبرز الرجاء المسيحي المتجذّر في نفس ريمون بقوله في عنوان القصيدة "إفرحي"، فيما الرحيل أبدي. إنّه تعبير عن ترسّخ المسيحية في نفوس المتعبدين المؤمنين بأن الفرح، مهما بلغ في هذه الدنيا، فهو لا يساوي الفرح المنتظر في أحضان الرب. كيف لا وموت الزوجة خلاص لها من عذاب لا ينتهي مع مرض يتفاقم. إنّه يفرح لها لأنّها سترتاح من عذابها في أحضان الرب حيث لا وجع ولا ألم ولا بكاء. في هذه القصيدة يطغى حقل الفرح بعبارات كثيرة منها: "نور المسيح"، "دفء الرجاء"، "لك الصلاة"، "العالَم العُلْوي"، "نغنّي نغمة الخلد" (ص 37).
وتترسخ عقيدة الرجاء المسيحية في شعر ريمون من خلال قصيدة "جبروت القلق" ص 46، فهو ينتصر على معاناة القلق بأن يواجهها بالصلاة والأمل الكفيلين بتحقيق الانتصار عليها.
ويواجه لحظة الموت الصفراء التي يترقّبها، ولا يبدو أنه يخشاها، ببصيرته التي ترى الصمت الذي يعقبها صلاة وخشوعًا، والنورَ نورًا يضوع، وراحةً بين يدي الخالق وأحضانه، فيطمئن ريمون ويرى أنه قام برحلة طاب فيها السفر (ص 50).
وبعد تأبين مجموعة من الأصدقاء والزملاء والزميلات والمقرّبين، لا يعفو ريمون عن نفسه، فيردف، مباشرة بعد قصيدة التفجّع على الزوجة ص 37، قصيدة "كَمَن" ص 39، وفيها استعراض موجز لسيرته واستشراف لعودته إلى خالقه حيث السعادة والغبطة والطُمأنينة والراحة الكبرى والمكافأة في حضن الآب الرحيم، إلى جانب الزوجة نورما.
ولا يأبه ريمون للموت ولا يخافه، كيف يفعل وهو مرتاح لتخليده وواثق من ذلك عبر ما تركه من محبّرات، تؤكد إيمانه بخلود النفس وفناء الجسد بعد الموت. الجسم يفنى أما ما سطّره القلم، صديق ريمون الأبدي، فخالد مخلِّدٌ.
ختامًا، نحمَد الله أن أخانا ريمون، المؤمن بالرجاء المسيحي إزاء حتمية الموت، أنقذ نفسه من تطير ابن الرومي وهلوسة ابراهيم بن خفاجه في آخر أيامه.
أخي ريمون سَلِمْتَ مع عقلك وصفائك ووفائك ويراعك. ألا جد علينا بالمزيد من أدبك الرفيع. وشكرًا.
_______________________________________
ريمون شبلي يشدو ويشتاق !
الدكتور جهاد نعمان
يا للإنسان الذي قرأتُه قبل أن أقرأ له فصاغ منّي صديقًا له !
يعيش كزنبقة مرتعشة في غابة كبيرة. كُتبَ عليه جانب من المعاناة فأمسى صاحب رؤى في زمن كفيفي البصيرة وعادمي الضمير.
يشدو لأحبّاء مضوا، ويشتاق إلى تحقيق آمال وأحلام.
الشاعر المطبوع ريمون شبلي.
لم يبقَ شعره على ما كان عليه الشعر من مدح أو رثاء أو هجاء. فهل مات الأمل في صدره وباعدت العلل بين البصر والبصيرة واتجاه النور؟
خلقت المدنيّة المزيّفة المقلّدة شعره المتمرّد والتوّاق إلى أسباب العدالة والتحرّر من كلّ ظلم وقلق.
شعره الاجتماعيّ يعكس آلام شعبه. يدعو فيه إلى تربية الأطفال، ويزيح الستار عن مضار تصرفات رعناء، ويكثر من التحدّث بالوطنيّات والعطف على المظلومين والمنكوبين القابعين في الزوايا المظلمة.
يتعرّض شعره لأغراضٍ مستجدَّة كالتلوّث البيئي. يخشى حتى الريح والدموع ومهبط الليل الخبيث الرطب ينفذ إلى رؤيته ويحزّ في صدره ويحشرج الصوت الكليل في حلقه الذي أرهقته مهنة المهن التعليم.
طريقه إلى التجديد القويم هو الأدب الأصيل وأساليبه وصفاء لغته والتأثّر المتعقّل بالفنّ الغربي والتعمّق في الثقافة الغربيّة تعمُّقًا حقيقيًّا لا يقف عند القشور ولا يكتفي بالتوقّف عند بعض العناوين والصور والمعاني.
لديه ملكة نادرة للغة الضاد، صقلها الـمِـران، لذا أتحفنا بأثر شعريّ خالد.
خياله يتجلّى في صور نابضة بالحياة على غير تصنّع أو ميوعة أو ركاكة أو نغولة أو رطانة.
أوزانه الشعريّة موسيقيّة في أكثرها، وقد خرجت في قسم منها على ما عهدناه عند العرب.
فنّه الشعريّ فنّ الطبيعة المتدفّقة لا تلمس فيه تأثّرًا بأسلوب معيّن. ليس من المتصنّعين الذين يتوفّرون على الصناعة اللفظيّة والمعنويّة كأتي تمام الذي حذا المتنبّي حذوَه في سواد شعر صباه، وليس من المتفلسفين الذين يلجأون في شعرهم إلى قوالب فلسفيّة خارجيّة جاهزة. أنامله المرمريّة الناعمة تعبث بالزهور تحت شمس الظهيرة. عيناه المرفرفتان يجثم فيهما الأبد. لا يخشى فيه الناس وأقاوليهم والله أحقّ أن يخشاه.
أهمل الأساليب السوقيّة أو المبتذلة التي يتهافت عليها بعض شعراء اليوم أو القوالب الجامدة التي يفرغ فيها البعض نتاج قرائحهم. أعرض، ما استطاع، عمّا اعتمدوه من طرائق الصناعة والتنميق، مبتكرًا لشعره قوالب شخصيّة حيّة تنسجم فيها معانيه وعواطفه وصوره. اصطبغ فنّه بألوان شخصيّته.
شعره في اشتياقه نابض بالثورة وثّاب إلى المعالي مدوّي الحماسة تشيع فيه الثقة الكاملة والكبر المنتصر. وشدوُه لا يحدّ من وثبته ألم الخيبة وحزن الفقدان والإخفاق. يقول في الشهيدة الحيّة مي شدياق (ص 81-82): "خاب الجناةُ!... تقولين: ابتدأتُ غدًا عمرًا جديدًا... وهُم في حِقدهم هُزِموا".
ويقول بُعَيْدَ اغتيال جبران "النهار" في ظلامنا الطويل:
"فجّرتُمُ الجسمَ؟ نِلتُمْ منه؟ لعنتُهُ
وراءَكم، واليراعُ السيفُ ينتقمُ".
وتراه يوجز فلسفته بقوله (ص 73):
"نكتبُ الأيامَ، بل تكتبنا في ورق الدنيا المقلّة"
أظهر معجزاتك يا ربّ، فأنتَ رحمة وحنان وأنت عدل وإنصاف، وأنت أمل وجمال وحبّ.
يشدُّك الكاتب إلى عالم آخر هو عالم الأفراح والأعراس، عالم سِفْرِ عبور يجتازه الصوت الصافي (ص 100) وصوت نور الهدى ألكسندرا بدران "خمرة تُسكِر الخمره" (ص 102). والعبور يتكرّر تحت قلمه: "أكسرِ البابَ الأسود، أخرجْ واغتسِلْ في ضوء الغدْ... إرمِ عينَ الماضي، لا تلتفتْ! أعبُرْ وانطلِقْ" (ص 76 وما بعدها). أجل، يا أخي في الروح والوجد سيفوز يومًا القتيل ويفرح بالأبد والقلم والخلود.
أمّا المسيح الطيّب الكريم الحيّ المنقذ، فلا يمكن أن تعرفه عموماً هذه المسيحيّة الحضاريّة المحتضرة. أين هي المسيحيّة الجامعة الشاملة المانعة؟ أين هي، في أوساطها، سياسة النفس التي يتحدّث بها الكاتب مقارنةً وبساطة الإنجيل وتواضع السيّد الإله؟ أين تلك الأجساد البلّوريّة الضابطة للهوى؟ أين هي المسيحيّة في نفوذ هنا وهناك ومؤسّسات لا تؤمن بفاعليّة المسيح الجامع حول نفسه بالحبّ والإبداع مَن يشاء؟ أين المسيحيّة الأسيرة الآسرة تكشف الآن، مع فرنسيس الأوّل، أزمة هويّتها وقلّما ينبري نبيّ أو يبرز مَن يكسر للأطفال خبـزًا ريثما ينال المستحقّون الغبطة الكبرى يجود بها نور المسيح فيفرحون في رحلة الأبد أمثال شريكة حياة المؤلّف؟
حارة المرجان (جبيل) في 12/4/2016 الدكتور جهاد نعمان
________________________________________
ريمون شبلي (*)
شاعرًا،
مَا بَيْنَ الإشَارة والعَلاَمةِ
والعِبَارة...
(*) أُلقيت هذه الكَلمة
في ندوة
حول ديوان الشاعر ريمون شبلي
"أشدو ... وأشتاق"
شارك فيها الدكتور جهاد نعمان، الشاعرة نهاد الحايك، الأديب والشاعر ميشال سعاده والأستاذ حكمت حنين، أدارها الأستاذ إيلي الحجل.
الحركة الثقافية – انطلياس
الثلاثاء 12-4-2016
الساعة السادسة والنصف مساء
ريمون شبلي،
شاعرًا