ندوة حول كتاب تنورين في الحقبة العثمانية
للدكتور شربل داغر
2006/11/29
كلمة الدكتورة نايلة أبي نادر
إن ساقتْكَ أيامُك والتقيته، سترى فيه مجموعة ورشٍ لا تستكين، يخرقُ هديرُها صمتَ لا مبالاتك.
إن خَطرَ لك التنزّه في بستانه، ستُفاجأ بفاكهةٍ موشومةٍ بطعم الربيع.
يُجبرك على الانحياز الى الموضوعات التي يتطرّق اليها، فهو يجيد صناعة النص، وتصدير المعنى، عبر موانئه المطلّة على المقلب الآخر.
مباشرة كان الدخول الى "تنورين في الحقبة العثمانية"، هكذا ومن دون مقدمات يبرّر فيها الكاتب انهمامه بالعمل التاريخي، هو الذي بنى مملكته الشعرية خارج الرائج والمبتذل من الكلام، وركب سفن الترجمة في إبحارٍ لا يهدأ نحو فكرٍِ مختلف، وأسماء مبدعة، وجال عميقاً في رحاب الحسن والجماليا في الحضارة الإسلامية.
وكأنّ انشغالَه بتاريخ تنورين أمرٌ ينتمي إلى البداهة، لا يحتاج إلى حيثيات تفنّد خلفيات هذا الانهمام. يتوقف عند نشر كَمٍّ من الحجج (أي العقود القانونية بين الباعة والشراة) علّه يصل من خلالها إلى تلمّس شيء من تاريخ هذا "الاسم الجامع تنورين"، على الرغم من قلة المصادر، وصعوبة الحفر في الأزمنة الغابرة.
انك تشعر حين تقلّب صفحات الكتاب بهاجس الوفاء للأرض ولأبنائها، لكل من "اندعكت" أيديهم بالتراب، في حوار لا ينتهي مع الطبيعة الوعرة.
بيّنٌ حِسّ الواجب لدى المؤلّف في الإسهام بتسليط المزيد من الضوء على الأنساب العائلية، وتناقل وتجمّع الملكية الزراعية، وإيضاح الملتبس في ما يتعلّق بحدود الأراضي وأسماء الأمكنة وأنواع المزروعات، كما التوقف عند الصيغ الكتابية بالعربية الركيكة، والإشارة إلى ما كان يربط السلطة الرهبانية بجمهور المؤمنين، ثم إلى "الترسيمة السياسية الاقتصادية ضمن احتياجات الإمارة الشهابية".
لقد غطس شربل داغر في "بالوع" تنورين ليخرج منه معمّداً باسم الأرض والإنسان والتاريخ. دهن رأسَ قلمه بزيت المنطق والحس النقدي، من دون ان يفوته مسحُ عينيه بميرون الحنين إلى الماضي المختبئ خلف الراوية الشفوية كما التدوين الكتابي.
واضحٌ انغماسه بالإنسان، الإنسان التنوري على وجه الخصوص، والتزامه بحقيقة هذا الكائن المكِبّ على الحياة، بكل ما أوتي من رغبة وقدرة على النضال المضني.
صمّم على سلوك وعر الروايات الشفوية مرتكزاً على خطواته النقدية في محاولة "تلمّسِ معالمَ وتشكّلات" تمّت في الحقبة العثمانية.
شغله دير حوب في بنائه وتوسّعه ودوره في انبثاق تنورين، وجذبته أحوال العمران في بلدته، فتوجّه في رحلة بحثٍ عن "آدم التنوري"، سالكاً وجهاتٍ احتمالية ليتعقّب أثره حتى حلب فبغداد، ناقداً الروايات التكوينية المتوافرة لديه. بعد أن حار ودار، حطّ عند "الشلوش والقروش" باحثاً في أمور الملكية والسياسة الضريبية وشؤون الجباية. ثم بحث تالياً في أمور السياسة وإدارة الشأن العام في "مديرية تنورين"، حيث توقف عند كيفية "توجيه الحِراك العام" من قبل المشايخ، إن في السياسة أو الزراعة أو الاقتصاد.
خصّص المؤلف ما يزيد على نصف الكتاب لعرض فهرس الاعلام، والوثائق التي تبرّر حجج التزام ناحية البترون، وحجج دير مار انطونيوس. كما انه لم يغفل عن ذكر ولاة ناحية البترون عبر ملاحق متسلسلة تضمّهم إلى كهنةٍ ورهبانٍ من تنورين، بالإضافة إلى المثمّنين والمحرّرين في تنورين، لينتقل فيما بعد إلى فسحة خاصة باللغة الاستعمالية حيث نجد تفصيلاً بأسماء الأمكنة التنورية، والألفاظ والجمل الخصوصية المستخدمة في لغة ذلك الزمن، ليسكب ختاماً كؤوساً من الأمثال الشعبية تدعو القارئ إلى الاحتفال بحكمة الأجداد، وانتصارهم في صراع البقاء.
صحيحٌ ما قاله فرنان بروديل عن تاريخ الجبال بأنه "تاريخ غامض"، "فتاريخها هو ان لا يكون لها تاريخ"، أي "ان تبقى في الهامش"، إشارة إلى صعوبة لملمة ما قد حدث وعبر وانطوى. لكن ما قام به المؤلّف في عمله هذا محاولةٌ جادّة لتحدّي الغموضِ، وجمع الخيوط، من خلال معاشرة الحجج وتوطيد الالفة معها، وذلك في سبيل مزيدٍ من فضح خفايا ماضي هذا الكائن المحكوم بارتكاب الوعي جرماً لا مفرّ منه.
لقد ابتلع حوت تنورين هذا الباحثَ الشغوف، ليقيم في أحشائها ردحاً من الزمن، يغتذي تأمّلاً وتفكّراً، فيخرج بعد ذاك بهديةٍ أرجوانية، كم نرجو ألاَّ تغفو في نهاية المطاف على منابر اللامبالاة داخل مملكة النسيان المترامية الأطراف.
يُقيِّم د. داغر عمله قائلاً: "إن في ما توصّلتُ إليه، ما يحتاج إلى تشديدٍ، او تأكيد، او تصويب، او نفي. وهو ما أعرضه على غيري للمشاركة في تاريخ مفتوح، سعيت إلى تقليب بعض أوراقه بيدَين حريصتين وحذرتين في آن". (ص 15 )
من هنا حان لنا الآن أن نفتح الباب واسعاً لمشاركات ثلاث في ما يعرضه كتاب "تنورين"، لنقلّب مع المتداخلين الكرام ما ورد في طيّاته.
كلمة الدكتور شربل داغر
كدت أتصل، غداة اغتيال الوزير والنائب بيار الجميل، بالأصدقاء في "الحركة الثقافية"، الداعين إلى هذه الندوة، طالباً منهم تأجيلها أو إلغائها، إذ أن في الانكشاف الدامي الذي يصيب هذا البلد الصعب والمؤلم ما يهز عميقاً حتى سنديانةِ الجذور.
إلا أنني عدت إلى كتابي هذا، ووجدت فيه ما يلزمني بضرورة الكلام، وابتداء من هذا الكتاب: الكلام عن عمليات خروج الجماعات اللبنانية في اتجاه الدولة، صوب بناء الوطن. وهو الخروج من عهد الذمية السياسية والاجتماعية للجماعات المسيحية، وخروج الجماعات اللبنانية المختلفة من تشكيلات العهد العثماني. وهما خروجان "بريان"، واقعاً، إذ انتقلت الجماعات من احتباسها في النطاق السلطاني إلى صراع مكشوف على الموقع والغنيمة والرتبة الرمزية (أي اللقب). إلا أنه لم تتوافر لهذا الخروج التهيؤات والسلوكات المناسبة للآليات الانتخابية والديمقراطية، التي انتهى إليها بناء "دولة لبنان الكبير". بل قامت الجماعات، إذ مارست وطبقت هذه الآليات، بتطبيعها وفق الثقافة السياسية والاجتماعية العثمانية المتمادية، ما أفقد هذه الآليات بالتالي الجانب الدينامي والتحويلي منها: هذا ما جعل الممثل السياسي قريباً من "المقاطعجي" القديم، أي بما لا يفصل بين جسده الطبيعي وجسده السياسي. وهو ما أقام الدولة هيكلاً فوقياً، بعيداً، مفروضاً، خارجياً، أشبه بوالي طرابلس التي لا تعرف له تنورين وجهاً غير أكياس الضريبة.
هذا الخروج لا يزال يجرجر خطواته الدامية، من دون أن يثبت الكيان في وطن، ولا الوطن في دولة، ولا الدولة في حدود معترف بها من جيرانها قبل الدول البعيدة، ولا الجماعات في مواطنين.
***
يقول فرنان بروديل، في كتابه الذائع الصيت عن "المتوسط والعالم المتوسطي..."، إن تاريخ الجبال "غامض"، بل إن تاريخها هو "أن لا يكون لها تاريخ"، إذ "تبقى في الهامش". وهذا ما يوافق تاريخ تنورين المتداول، على ما تحققت. والمقصود بالتاريخ، هنا، هو كتابته، لا حصول الوقائع والأفعال في خطوط الزمن. ويكفي للمتابع، بل المتنزه، أن يتنقل في أراضي تنورين الفسيحة، بين جردها ونهرها، ليقرأ علامات الحجر الطبيعي أو المبني، وهي العلامات الدالة على معالم التاريخ البعيدة والأكيدة، أي آثار الفعل الطبيعي والإنساني فيه. هذه الآثار أبقت لنا رسائل، ولكنها مطوية ومدعوكة، لا نحسن فكَّها، بل تصفحَها وحسب مثل بطاقة هوية مبعثرة. وما بقي بالتالي لا يتعدى النقولات الشفوية، التي كان لي أن أتفقدها؛ ولقد تنبهت إلى أن الصورة الذائعة بين أهالي تنورين عن تنورين وأهلها ترقى، من جهة ناقليها، كما من جهة الرواية نفسها، إلى القرن التاسع عشر، لا إلى ما قبله. لهذا تحققتُ ووجدت في لحظة بناء دير مار أنطانيوس حوب، بين العام 1700 والعام 1760، لحظة تأسيسية هي الأقرب إلى ما آلت إليه تنورين في فترتها المعاصرة.
ولقد عملتُ، قبل ذلك كله، على البحث، بل على التنقيب عن مصادر إخبارية جديدة؛ والتاريخ - كما لا يخفاكم - لا يروي روايتَه من دون مصادر تبنيه وتجعله على قدر من البروز والتعين: هكذا نجحتُ في توفير مادة عن تنورين ما كانت متوافرة، ولا محققة، قبل هذا الكتاب؛ وهو باب مفتوح لي كما لغيري بصورة أقوى بعد اليوم.
ولم يكن مطلوبي، في البداية، سوى تقديم هذه الوثائق، بعد تحقيقها، إلى القارئ، إلا أن ألفتي المديدة معها، ونجاحي أحياناً - وليس دائماً - على إقامة خطوط اتصال دالة بين بعضها البعض، ورطني في ما هو أبعد من التقديم. إلى هذا، قمت بمسعى آخر، مواز للخط الأول، وهو مساءلة الحجر نفسه، ولا سيما في معابد وكنائس تنورين المختلفة، عن تاريخه، وعن علاماته وسياقاته ودلالاته. هكذا انتهيتُ إلى ما أسميته ب"التلمس التاريخي"، وهو كلام أول في تاريخ تنورين، ولا سيما العائلي والسياسي، في مشهد تتباين فيه نقاط الضوء والعتمة المطبقة.
لم تعد المعرفة بتنورين على ما كانت عليه، بل زادت، عدا أنها أطلقتْ أنواراً مركزة صوب القرنين السابع عشر والثامن عشر، جديرةً بالدرس والتتبع. فللمرة الأولى نتحقق من أسماء وأدوار عدد من المشايخ في تنورين، أو من الكهنة والرهبان وأصحاب النفوذ ومحرري الحجج ومثمني الأراضي وغيرهم، منذ منتصف القرن السابع عشر. هذا ما سيُسهِّل، في عدد كبير من الأحوال، بناءَ جداول أنساب وأجباب وبيوت من عائلات تنورين المختلفة. كما توصل الدرس إلى تبين حراك سياسي وديني واجتماعي، معزز بعدد من الوقائع والمعطيات والأسماء في تنورين، ومع العاقورة وإهدن وبشري وبعلبك ودوما وقرى عديدة في جبل لبنان، فضلاً عن مشاركة تنورين الدامية في عامية لحفد وغيرها. كما انتهى الدرس إلى التعرف على كيفيات تشكل بيوت النفوذ في عائلات تنورين المختلفة، أي ما تولد في بيوت كهنوتية عديدة.
إلا أنني - إذ تلمستُ معالم هذا التاريخ - كتبتُ سِيَر المشايخ أكثر من سير أهل تنورين المغمورين، ما أبقاهم في عتمة التاريخ الكثيفة. وليس لي - إن طلبتُ التعرف إليهم - سوى التأمل في أخاديد الأرض، وفي الزرع الطالع بين شقوق الصخر، على أنها هي التي تحكي صنيعهم الصامت ولكن الأكيد في هذا التاريخ.
***
هذا الكتاب ارتكبتُه عفواً، من دون استهداف أكيد، بدليل أنه لا يندرج في أي من الميادين الأربعة التي تتوزع فيها مؤلفاتي. ولقد وصلتُ إلى هذا الكتاب من دون أن أقصده. مثل نبع في وطى حوب ينبثق من جوف أرضها بمجرد أن تزيح حصاة، أو تضرب ضربة معول فيها. انقدتُ إلى هذا الكتاب، بل أغراني مثل شهوة غامضة. هذا ما يقترب، في بعض جوانبه، من الهجس بالشيء، من الإحساس به، أو من التدليل على علاماته المحتملة.
إلا أنني أعترف أمامكم أن مسعاي هذا ليس جديداً، بل يمكنني القول إن أول نص كتبتُه في حياتي كان عن تنورين، وكان ذلك في سنتي الجامعية الأولى، في العام 1971، إذ استوقفني يومها دخول الكهرباء المتأخر إلى تنورين، مثلما استوقفني في تلك السنة وقبلها، بل ناضلت في قريتي، وطى حوب، مع عدد من "شركائها" لإيجاد علاقة جديدة بينهم وبين الدير، وبين عائلاتهم وباقي العائلات في تنورين. بل أعترف بأكثر من ذلك، وهو أنني ما توانيت عن كتابة هذا الكتاب، عن تجميع مادته، من دون أن أنتهي منه حتى تاريخه، وإن انتهيتُ اليوم إلى إصدار هذا الكتاب، على ما هو عليه.
لهذا جهدتُ في أن أقلِّب هذه المواد المتناثرة بيدين حريصتين طبعاً، ولكن حذرتين في الوقت نفسه: حريصتان بحكم ندرة المواد وتقشفها الإخباري في العديد من الأحوال؛ وحذرتان، بحكم كوني أقترب من تاريخٍ قريبٍ في بعضه، من شخصي، من عائلتي، من عائلات تنورين، ما يشملني بالتالي ويسبقني ويتعداني؛ وهو تاريخ من أعرف، ومنهم عائلتي وأقربائي، فلا أقع في روايات خرافية، تبجيلية، فنستعيض عن التاريخ بشهوات أو أمنيات الترقي وبناء الأصل المجيد.
***
استوقفتني في هذا التاريخ حكاية الأصيل والغريب ضمن النطاق الواحد، وهي تكررتْ أكثر من مرة في تاريخ تنورين، كما في غيرها من القرى والمدن (حتى أن لبيروت سبع عائلات تأسيسية، أو "أصيلة"، كما تعلمون)، فيما وجب البحث عن تاريخ من الذريات والبيوت المتناثرة، المتنقلة هنا وهناك، من دون أن تشكل العائلة بعدُ تكويناً جامعاً ووازناً، مثلما آلت إليه الأمور في القرن التاسع عشر. وهي مساع في التأصيل لا تعدو كونها تجهيلاً للتاريخ، وتمكيناً لبعضهم من التحكم برواية التاريخ وإنشائه: استوقفني في هذا الخصوص، وبصورة أشمل من التاريخ القروي، تجهيلُ هذا التاريخ من أسبابه العثمانية، كما لو أن هذه القرى والبلدات والمدن عاشت في واد مغيب عن النظر والضبط السياسيين. كما استوقفتني أيضاً سبلُ تشبهِ الرعايا، ذميين أو من "ملة الإسلام"، بالسلطان وصفاته وأفعاله (عبر ما يتداولونه عن الوالي والأمير)؛ واستوقفني كذلك طلبُهم للترقي وفق التقاليد العثمانية، التي تتعين خصوصاً في اللقب. وهي سبل لا تزال قائمة، حتى أن المشارك اليوم في حوار تلفزيوني، إذ "يدخل على الخط"، يحيي الضيوف بألقابهم، كما لو أنه يدون سجلاً في المحاكم الشرعية عند والي طرابلس.
***
خرجت تنورين من السياق الذمي والسلطاني، لكنها بقيت بعيدة عن بيروت "دولة لبنان الكبير"، مثلما كانت بعيدة قبل ذلك عن استانبول أو طرابلس، لدرجة أن أهاليها نزلوا منها صوب جبيل أو الكورة أو بيروت (التي تجمع غالبية أهل تنورين). تنورين باتت، حسب البعض، عاصمة قضاء البترون السياسية، إلا أنها - إذ تلتقي في القيود الإدارية، وربما في بعض الانشدادات العائلية - تفترق عنها كذلك وتندمج في التمدن الاجتماعي اللبناني.
ما توانت تنورين عن النزول بعد طول تركز أو احتباس، بدليل الفارق الكبير بين مقيميها الثابتين الذين لا يتعدون الألف نسمة، وبين العشرين ألفاً الذين تغص بهم سجلات نفوسها. وهو فارق مقلق قد يحيل تنورين إلى بلدة اصطياف وحسب، بل ضاحية بعيدة لبيروت.
أُغلق هذا الكتاب على أنني أَعرضه على غيري، ولا سيما على الاختصاصين، مثل المتكلمين هذا المساء الذين أشكرهم على ما قالوه، على أنهم شركاء في هذا التاريخ المفتوح. وهو مفتوح لتصويبات وتصحيحات وتأكيدات وغيرها، من دون شك، بما يمكننا - ولا سيما بعد توافر مصادر إخبارية أخرى - من أن نسلط العقل - لا الأهواء والرغبات والأماني - على شؤون اجتماعنا السياسي والتاريخي، فيما بيننا ومع غيرنا.
كلمة سعاد ابو الروس سليم
يندرج كتاب الدكتور شربل داغر حول تاريخ تنورين ضمن التاريخ المناطقي الذي يبرهن لنا يومًا بعد يوم صعوبة تعميم النظريات التاريخيّة على الواقع المحلي.
أن الوثائق في معظم الأحيان تعاكس وتضمد الإشكاليات والنظريات المسبقة. ينطلق التاريخ المحلي والمناطقي في الدراسات التاريخيّة الحديثة على أنّه مرادف للتاريخ الجغرافي ومتمم للدراسات الواسعة التي ترتبط بالمحيط. فكما بروديل كان مؤرّخًا لمنطقة المتوسط كذلك لوروا لادوري كان مؤرخًا لقرية أصغر من تنورين Montaillon . هذا النوع من الدراسات يسمح بالتعمق بالتاريخ على أساس الزمن الطويل. فتنورين عبر وثائق أديرتها وعائلاتها تعرض لنا أسرارها على مدة أربعمائة سنة من التاريخ العثماني. هذا التاريخ لم يكتف بالمعنى التقليدي للتاريخ. فلدينا أبحاث متعدّدة الاختصاصات Pluridisciplinaire. تتناول علم الإناسة والجغرافيا والطراز الهندسي والاقتصاد والتاريخ والادب والسياسة. فالمنهجيّة الجديدة للتاريخ الحديث تنطلق من أن الترايخ هو جزء من العلوم الإنسانية ومتمم لها. ويشكل التاريخ الاثبات الضروري عبر الزمن لقواعد العلوم الانسانية.
يتمحور هذا التاريخ حول تملك الأديرة وتاريخ الحجر والبشر وتاريخ الاوقاف وتاريخ العائلات وهجراتها. كانت الأمور صعبة على الباحث لتتبع مختلف المراجع والمصادر والتواريخ ، فدير حوب جرى تأسيسه ثلاث مرات عبر وثائق رسمية محفوظة لدى مختلف الهيئات. ويتساءل القارئ عن مختلف أسماء القديسين الذين ذكروا للمكان ذاته. يعالج الكاتب مسألة هجرة العائلات بحيث إن معظم الدراسات تؤكّد على الاتجاه من الشمال إلى الجنوب. فمعقل الموارنة الأساس كان في المقاطعات الشمالية. ونزح هؤلاء تدريجيًا تبعًا لتطورات سياسية واقتصادية إلى المناطق الجنوبية. وهذه الهجرات تتالت وتمت بتشجيع من المعنيين كما يخبرنا المؤرخ توفيق توما. الا أن الباحث يظهر لنا في بحثه هجرات معاكسة من الجنوب إلى الشمال عبر أسماء العائلات التي تمركزت في وطى حوب وعملت في الأراضي الزراعية التابعة للدير.
ويؤكد الباحث على العلاقة بين الاوقاف وارتفاع أعداد السكان الموارنة الذي أدّى إلى هجرتهم. الموقع الجغرافي ووعورة الاراضي ونقاء الهواء التي يصفها المؤلّف تعطينا فكرة عن الأجواء التي أبعدت الأمراض والأوبئة عن مناطق الجبل. إلى جانب السبب الأساس لزيادة عدد السكان أن هؤلاء لم يقوموا بالخدمة العسكرية بل بقوا بمنأى عن مخاطر الحروب والمعارك التي قادتها الدولة العثمانية. الا أن هؤلاء لم توفّرهم مغبّات العنف في الصراعات الفئوية بين الأهالي والعائلات كما لم توفرهم الحروب الأهلية ونزاعاتها. زيادة السكان الموارنة في الجبل ربما هي التي اتت بهم إلى تنورين. حيث يذكر المؤلف أنّ الوثائق تتحدث عن سكان غير موارنة في القرنين السابع عشر والثامن عشر. كما أن حكم الأمير يوسف على الجبل سيغير الأمور ويقلب الموازين.
تأسيس الأديرة في الجبل ووهبها الاراضي الأميرية كانت خطوة أساسية في مسار الحياة الاقتصادية والديموغرافية في البلاد. فالعديد من الواهبين كانوا من المقاطعجيين غير المسيحيين وهبوا الاراضي للأديرة لاستصلاحها واستثمارها كي تصبح منتجة وتدفع الضرائب. هذه الأديرة كانت أول من استقبل العائلات القادمة إلى الجبل الأوسط والجنوبي. فقد وفّرت لهم السكن في مبانيها أولا ثم في البيوت الزراعية المحيطة بها. كما أمّنت لهم الأراضي لزراعتها واستثمارها ضمن عقود الشراكة الزراعية: المساقاة والمزارعة والموارقة،... بعامة ما نجد عقود مساقاة لان الاراضي كانت مروية ولان هذا النوع من العقود لا يسمح بتملك الارض.
هؤلاء الشركاء أصبحوا الآن من أهالي القرية يملكون الاراضي ويعيشون على المستوى ذاته مع باقي السكان.
هذا الأمر في تطور وضع سكان القرية يعالجه المؤلف في الحديث عن دور الدير التعليمي فرغم وقف الاراضي تعليمات مجمع اللويزة العام 1736 والوعود بتأسيس مدرسة يجب أن ننتظر مئة سنة كي تتحقق ألاماني العام 1808.
هذا الكتاب أشبه بملحمة يروي تمركز الأهالي من مختلف مناطق تنورين واستصلاحهم الأرض وجهودهم لاستثمارها. وهنا أيضًا تختلف الروايات وتتعدد التأويلات حول قدوم الأهالي إلى تنورين وحول جذورهم وأصولهم القديمة هل هم من البانيا أو من بغداد. الا أن هذه الروايات أيًّا كانت ترسم لنا صورة عن الذهنيات والعقليات والقيم والمشاعر وتفكير أهالي الجبل أكثر مما هي واقعة فعلا في التاريخ.
رواية الفتاة الجميلة والوحيدة التي يدافع عنها أخوتها الذكور ويهاجرون إلى مناطق أخرى نجدها في معظم قصص العائلات. وإن دلت على شيء فعلى أهمية فكرة الشرق وارتباطها بشرف الفتيات في العائلة. كذلك لدينا قضية وجوب الثأر وتثبيت أهمية السيطرة الاجتماعية والتحالف بين العائلات والقبائل. كذلك الأمر بالنسبة إلى الصراع والانقسامات بين العائلات وقضايا الثأر وأهمية الاضطهادات والتقلبات السياسية التي طالما ترافقت مع مزايدة في فرض الضرائب على الأهالي.. كلها أمور جعلت الاهالي يغادرون بيوتهم ويتنقلون من مكان إلى آخر ساعين وراء لقمة العيش. هذا الترحال المستمر للعائلات القروية كان أيضًا ترحالا محليا ناتجًا من استمرار حياة الرعي والارتزاق من تربية المواشي التي في جبل لبنان مرتبطة بالاستقرار الزراعي، فاهالي تنورين كما معظم اهالي القرى اللبنانية بعامّة والشمالية بخاصّة كانوا ينتقلون شتاء مع ماشيتهم من المعزى والابقار الى هضاب الكورة الدافئة يعيشون مع الاهالي ويتبادلون المواسم الزراعية المختلفة. ويعودون في الصيف او في اوائل الربيع الى تنورين حيث تسرح الحيوانات في المراعي وينصرف الاهالي للاهتمام بمواسمهم الزراعية. ينتقد الكاتب المصادر الشفهية لكنها أساسية لمعرفة أهمية التيارات الفكرية والبنى الفوقية لمجتمع جبل لبنان الريفيّ.
الأحاديث والروايات عن تاريخ العائلات والتي تعود بعائلات تنورين إلى أصل واحد أدم الاول والذي يبدأ مع العهد العثماني يتناقض مع معطيات الوصف المعماري الذي يعطيه الكاتب في الفصل الاول للمباني والكنائس والمغاور.
وصفه للكنائس وطرازها المعماري كما حديثه عن كنيسة مزدوجة يبرهن لنا قدم السكن في هذه المنطقة. ربما انقطع هذا الوجود السكاني خلال الفترة المملوكية الاولى أو خلال الفترة العثمانية. الا أن الكنائس المزدوجة والكنائس ذات الجدرانيات المرسومة التي يصفها الدويهي تعود الى القرون الوسطى في مرحلة تتراوح بين الحروب الصليبية والعهد المملوكي.
ويثبت الكاتب حسب القيود والمحفوظات العثمانية أن السكن في تنورين يعود إلى مرحلة سابقة للفترة العثمانية وأنها كانت تابعة في أراضيها إلى الاراضي الاميرية لانها كانت تيمار محمد كرماني، وعلي سرحال ومحمد كنفاني وغيرهم... وهنا لا بد من الإشارة إلى أهمية هذا الأمر بأنه في الكثير من الأحوال كانت أراضي جبل لبنان أميرية ويبقى السؤال: في أي فترة تحولت هذه الأراضي الى أملاك؟
وعبر دفتر المسح العقاري لفترة المتصرفية نرى ان هجرة الاهالي استمرت في بدء القرن التاسع عشر.
يأتي بناء دير السيدة في حوب ليؤكد العلاقة بين هجرة العائلات المسيحية وتأسيس الأوقاف. فالأهالي القادمون الى المنطقة أعفيوا من دفع الجوالي أي ضريبة الجزية. هل لأنهم معدمون وفقراء وليس لهم مال يدفعونه للدولة او لأنهم يعملون لصالح الدير هل كانت هذه خطوة تشجيعية؟ كلها أمور يعالجها الكاتب بدقة فائقة تقوده الى متابعة عدد سكان القرية فهو يلحظ نموًا هائلاً فمن 33 من أكثر من 2000 مالك من الذكور يدفعون الضرائب. زيادة سكانية طالت أهالي تنورين وأهالي لبنان بعامة، وكانت نتائجها نموًا سكانيًّا للأقليات المسيحية في الشرق العثماني فقد ازدادت نسبة أعدادهم من 10% في أواخر العهد المملوكي الى 23 % في أواخر العهد العثماني.
هذا الأمر يدحض المواقف اللبنانية والعربية المناوئة للعثمانيين، ففي كتابتنا للتاريخ نظهر دائمًا ضحايا التاريخ، هذا ما ابتعد عنه الدكتور شربل داغر وأظهر الفلاحين والرهبان وصغار القوم صانعين للتاريخ فلا يسعنا في الختام الا ان نقول مع شاعرنا أجمل التاريخ كان غدًا.
مداخلة الدكتور جوزف ابو نهرا
مَنْ أولى من إبن تنورين لكتابة تاريخها؟ فأهل تنورين أدرى بشعابها وشعاب تنورين ليست بسيطة ولا منبسطة: صرود ووهاد جلول ومنحدرات تمتد من الأعالي على الأعماق: تنورين الفوقا وتنورين التحتا. اهل تنورين معروفون بحبهم للإقدام والمغامرة وميلهم الى مواجهة تجارب الدهر بالجلد والمكابرة.
ان كتاب تنورين في الحقبة العثمانية هو باكورة الكتابة التاريخية لشربل داغر بعد حوالي ثلاثين مؤلفاً في الأدب والشعر والجماليات والترجمة. وهو كتاب جدير بالقراءة لأنه يتناول بدرجة أولى تاريخ الشعب، تاريخ عائلات تنورين وأهلها وليس تاريخ الأمراء والحكام. يتناول كذلك تاريخ التزام الضرائب والعلاقة الوثيقة بين دير مار انطونيوس حوب وتنورين. بلغت هذه العلاقة حدّ التماهي فأصبح الدير يعرف باسم البلدة اكثر ما يعرف باسم شفيعه فيسميه العامة دير حوب وليس دير مار انطونيوس.
شربل داغر كاتب وشاعر سعى جاهداً الى سبر أغوار تاريخ بلدته بكل حماس وشغف فابدع حيناً في الإضاءة على نواح لم تكن معروفة تمتمً من قبل. وكان أقل إبداعاً في تركه بعض النواحي الأخرى في غياهب التاريخ. غير أننا نتفهم ذلك لأن شربل داغر شاعر يتطرق الى كتابة التاريخ ويجول في ميدان له خصائصه وطرائقه. فمنهجية الشاعر في مقاربة الحدث التاريخي مختلف عن منهجية المؤرخ.
من المؤكد ان إشارتنا في سياق حديثنا الى بعض الثغرات لا تقلل من قيمة الجهد المبذول، فللكاتب شربل داغر كل تقديرنا مع التمني عليه بان يتبع هذا الكتاب بآخر يغطي مختلف النواحي التي غابت عن هذا المؤلف. الاقتصادية في تنورين في الحقبة العثمانية.
1- نهج عملي:
يظهر جليا في الكتاب ميل الكاتب الى السعي لبلورة الحقيقة التاريخية وعدم التسليم السابقة، بل وضعها موضع الشك ومقارنتها على امل إيضاح المبهم وإبرازه.
يتوالى في سياق الكتاب طرح الأسئلة للإجابة عليها بشكل موضوعي. في الصفحة 30 وما يليها في التاريخ المعروف للموارنة هو عدم اعتلاء أي تنوري بلوغ سدّة المطرانية قبل المطران يوسف صقر (1911) ولا أي تنوري لسدة الرئاسة العامة في الرهبانية قبل انه لم يتسلم رئاسة دير حوب في العقود الأولى أي حاول الباحث إيجاد الجواب الشافي والتفسير المناسب فعاد إلى روزنامة الرهبان اللبنانيين ليتقصى أسماء الرهبان تنوري والمناصب التي تولاها في الرهبانية. استنتج المرحلة الأولى (سنة قبل 1850) وزادوا في المرحلة الثانية من القرن التاسع عشر، بينهم 51 أخاً و 12 راهباً) لم يشرح لنا بوضوح أسباب تفوق عدد الاخوة على عدد الرهبان هل لأن العديد منهم ترك الرهبنة قبل قبل النذور النهائية او درجة الكهنوت لأن ثقافته لا تؤهله لذلك؟
يعيد الكاتب أسباب قلة الترهب في المرحلة الأولى لأبنائهم في العمل الزراعي وتفضيلهم المصالح المادية على ان هذا السبب غير كاف لوحده ومن الصعب الاكتفاء.
يلاحظ المؤلف ايضاً وفرة عدد الكهنة الذين هم من اصل تنوري قياساً لعدد الرهبان فيعيد سبب ذلك الى السماح للكهنة العلمانيين خدمة الرعايا بالزواج والتملك وهما محرمّان على الرهبان الذين ينذرون نذور الطاعة والعفة والفقر. ويشير ايضاً الى ان بعض الكهنة العلمانيين كانوا كبار الملاكين في منطقة تنورين وكانوا يتمتعون بمركز اجتماعي مرموق نتيجة الثروات التي كدّسوها (ص 37 - 38).
2- العودة الى مصادر اساسية:
أ- عاد المؤلف الى وثائق اساسية متنوعة لكتابة تاريخ تنورين اولها سجلات المحاكم الشرعية في طرابلس التي تحفظ عدداً كبيراً من حجج التزام الضرائب في منطقة البترون وبالتالي منطقة تنورين التي كانت تقع في النطاق الإداري لناحية البترون. ودراسة هذه الحجج تساعد في معرفة الأوضاع السكانية والضرائبية والسياسية اذ تفيد عن اسماء المتولين. تبدأ هذه الحجج في العام 1666 وتنتهي في العام 1789.
ب- درس الكاتب ايضاً مدونات "السجي العقاري" في بداية عهد المتصرفية إثر قيام داود باشا بالمسح العقاري في مختلف انحاء جبل لبنان ومنها قرى تنورين. السجل تعداد الأراضي المملوكة واسماء اصحابها وهذا ما يساعد في دراسة الشبكات العائلية وثروتها المادية والمساحات الزراعية.
ج- عاد الكاتب ايضاً الى حجج الوقف او التملك في سجلات الرهبانية اللبنانية المارونية والتي تخص دير حوب في تنورين ويعود تاريخ هذه الحجج الى سنة 1656 أي قبل تأسيس الدير سنة 17000 ولم يكتف بذلك بل تعقب الدراسات السابقة التي وضعت عن دير حوب وتنورين وقام بدراسة نقدية مقارنة فتبين له ان أياً ممن سبقوه لم يقم بدراسة شاملة ووافية لحجج دير حول\ب ولذلك لم يثبت كافة الحجج التابعة للدير المذكور ونشرها ضمن مجموعة الوثائق التابعة للكتاب (ص 222 - 372).
3- ثبت الوثائق الأساسية
في الجزء الثاني في الكتاب (ص 187 -372) كافة حجج الالتزام المتوفرة في سجلات المحاكم الشرعية في طرابلس وكذلك كافة حجج دير حوب وهذا من شانه مساعدة الباحثين في درس هذه الوثائق كاملة مجموعة في كتاب واحد بدل البحث عنها في سجلات المحاكم او في سجلات الرهبانية ففي ذلك فائدة كبيرة لتقدم البحث التاريخي وتسهيل العمل على وثائق اساسية.
الى جانب هذه الايجابيات لا بد للقارئ المؤرخ من بعض الملاحظات للشاعر والأديب الباحث في التاريخ إذ لكل من الاثنين مناهجه ومسالكه ومعارجه. نرى من المفيد سوق بعض الإشارات من منطلق علمي بحث غايته والأفضل والأكمل.
1- مما لا شلاك فيه ان المؤلف بذل جهداً بيناً للوصول الى مصادر اولية ودراستها دراسة نقدية لكن المؤرخ يلاحظ احياناً ان هذا الجهد بقي في إطار التجميع ولم يستتبع دائماً جهداً تحليلياً كافياً. في ما يخص لائحة الولاة والملتزمين المتعاقبين على منطقة تنورين. لا يظهر بوضوح تأثيرهم على الوضع الاقتصادي والاجتماعي فيها. يرى القارئ نفسه وكانه في مسرح دمى صامت لا أقوال للولاة والملتزمين فيه ولا أفعال يتناول الفصل الخاص بمديرية تنورين (ص 147 - 174) تعاقب المسؤولين الإداريين والضرائبيين عن المنطقة وما خصص لتاريخ تنورين نفسها في تلك الحقبة قليل نسبياً.
2- تتداخل المواضيع احياناً محدثة التباسات في ذهن القارئ تتقاطع اجزاء كبيرة عن الفن المعماري الماروني ورسم الصور الدينية في تنورين قبل المرحلة العثمانية مع الكلام عن تاريخ الوجود المسيحي في تنورين كان بالإمكان فصل المقاطع الخاصة بالفن المعماري عن تلك العائدة للوجود البشري المسيحي.
3- يلاحظ القارئ بين السطور ان الموضوعية التي حاول الكاتب ان يتحلى بها في كتابة التاريخ الاجتماعي لتنورين سرعان ما تتلاشى عنه ما يتعلق الأمر بسلم الأولويات وبالحساسيات بين مختلف عائلات تنورين الكبرى فتتوتر أوصال الموضوعية أمام العصبية العائلية وتمترس ابن داغر مشككاً بالأصول النبيلة المنسوبة الى عائلة تنورين عريقة يقول في الصفحة 90: ان التاريخ يتشكل قبل عراقة أي اصل. ونحن نتساءل بدورنا ألا يمكن ان يتابع التاريخ مجراه بعد العراقة؟
4- عدم دقة احياناً: يرد ذلك في تفسير بعض المفاهيم وفي شرح بعض العبارات ص 8: وصف الوقفية بانها تنازل مالك عن أرضه لصالح فرد او جماعة هذا مجرد هبة لأن التعريف لا يشير الى حبس العين.
ص 17: تأسيس الدير قرار سياسي قبل ان يكون تدبيراً رهبانياً
ثم في الصفحة 29: انه قرار دنيوي وليس دينياً هذه مبالغة في القول تشوه الواقع التاريخي القرار السياسي يؤثر في اختيار مكان الدير وفي انتشار أرزاقه ولكنه يبقى قراراً دينياً رهبانياً.
ص34: الرتب الكهنوتية قص الشعر، مرتل، قارئ، شدياق شماس قص الشعر ليس رتبة كهنوتية بل تدبير رهباني لدلالة على انسلاخ المترهب عن عائلته ومحيطه.
ص60 تحولت الحياة الديرية من الانعزال عن الناس والعبادة الى خدمة الرعايا والتعليم والزراعة بل الأصح القول بان الرهبان عادوا الى الزراعة التي هي أساسا في صميم الحياة الديرية. كان الرهبان الأوائل مرغمين على العمل في الأرض بهدف قهر الذات والسيطرة على الشهوات ص 199 عنوان النص التزام بعض البترون 1736 وفي النص كامل ناحية البترون.
ص 192 القول فقط ان السنة تبدأ في آذار وعدم التوضيح بان هذا التقويم المالي تم اعتماده سنة1789 وهو يرتكز على الشهور الميلادية والسنة الهجرية.
4- عدم التوقف عند بعض عبارات لها مدلولات تاريخية خاصة ورد ذلك بنوع خاص في النصوص المنشورة
ص196 يورد الملتزم 4/3 مورد الالتزام في موسم الحرير والربع الباقي قبل تمام السنة بشهرين وفي ذلك إشارة واضحة الى أهمية وأسبقية موسم الحرير في جبل لبنان.
ص 197 رهن الأمير احمد شهاب ابنه في قلعة طرابس لحين تسديد مبلغ الالتزام كاملاً 1739. في ذلك دليل على طبيعة العلاقات بين الملتزمين والوالي ص 229: التأكيد على صحة وقفية لدير حوب سنة 1708/ صارت الأرض ملك القديس مار انطونيوس) ولم يذكر انها ملك الدير او الرهبنة وذلك للدلالات على قدسية الوقف.
خلاصة: ان هذه الظلال التي أشرنا اليها لا تخفف من قيمة الكتاب ولا من جهد الكاتب. كتاب تنورين في الحقبة العثمانية لشربل داغر جدير بالقراءة الواعية ويساهم فعالة في توضيح كتابة تاريخ لبنان بكامله عبر درس تاريخ مناطقه وتفاعلها مع بعضها البعض ومع المحيط المجاور.
ان محاولة جادة لكتابة تاريخ الشعب لا تاريخ الحكام فحسب عسى لهذه الباكورة التاريخية للمؤلف لاحقاتها فنحن كلنا حماس لقراءة مولود جديد يركز فيه الكاتب على التاريخ الاقتصادي لمنطقة تنورين وهو لم يوله اهتماماً خاصاً في الكتاب الذي نناقش.