مداخلة د. عصام خليفة في ذكرى استقلال لبنان
الحركة الثقافية – انطلياس 2019/11/18
درجت حركتنا الثقافية، مع زميلاتها هيئات ثقافية أخرى، على الاحتفال معاً بذكرى الاستقلال خلال الحروب العبثية التي عاشها لبنان خلال حروب 1975 – 1990 وما بعدها. والمعنى العميق لهذا الموقف هو تشبث حركتنا باستقلال الدولة اللبنانية وترسيخ هذا الاستقلال على قيم الحرية وحقوق الانسان.
في هذا العام وجدنا من واجبنا ان نربط الاحتفال بهذا الاستقلال مع الزلزال الحاصل في مجتمعنا والذي بدأ في 17 تشرين الأول وما يزال مستمراً. ولاننا نعرف جيداً الأهمية الاستثنائية لهذه العامية / الانتفاضة آثرنا ان نستعين بكوكبة من الأصدقاء المميزين في العلوم المختلفة ليقيّموا هذا الحراك من موقع اختصاص كل منهم وعسى ان يكون هذا التقييم مرتبطاً بأمرين:
- كيف نستطيع ان ندعم هذه العامية ونتفهم اهدافها ونقوي وسائل عملها في مواجهة الاخطار الداخلية والإقليمية والدولية المحدقة بها.
- كيف نتصور، من مواقع اختصاصاتنا المختلفة، ان تقوي هذه الانتفاضة استقلال الدولة اللبنانية وسيادتها ووحدتها ضمن كامل حدودها المعترف بها دولياً
أيها الأصدقاء،
في 27 تشرين الأول 2019 ألقيت في البترون محاضرة في المعتصمين تبنتها الهيئة الإدارية للحركة في اجتماعها الأخير مع بعض التعديلات الطفيفة. وقد وضحت فيها الخلفيات التي أوصلت الوضع الى ما هو عليه والإصلاحات الواجب اعتمادها للخروج من الازمة.
ولن اكرر ما قلته، ولكن حسبي ان انوّه بثقافة شباب وشابات لبنان وذكائهم وصلابتهم ووطنيتهم لأنهم يصنعون تاريخ لبنان الجديد بتضحياتهم الموصولة وتجسيدهم إرادة شعبنا الذي لم يعد – كما يبدو – مقسماً الى رعايا الزعماء والطوائف. انهم يبنون النظام الجديد على أنقاض النظام القديم.
في الذكرى المئوية الأولى لاعلان دولة لبنان الكبير يقف اللبنانيون امام المفترق:
أ- إما البدء بتطبيق إصلاحات فورية على الأصعدة كافة ابتداء من الوضع المالي والاقتصادي. وهذا يفترض تأليف حكومة فوراً من اختصاصيين وطنيين شجعان واقوياء ونظيفي الكف، تبادر بوضع خطط مرحلية للمعالجة. وبذلك تكون العامية / الانتفاضة قد حمت استقلال الدولة وحقوق الانسان فيها.
ويبدو ان المسؤولين يتهربون من تنفيذ هذا الحل ولا يزالون يناورون وربما لم يستوعبوا ما حصل.
ب- وإما امعان اهل الحل والربط في الولوغ في مستنقع الفساد، مراهنين على معادلات إقليمية ودولية، وعلى احتمال اندلاع العنف، وإعادة انتاج الانقسام الفئوي والطائفي، في اطار ترتيب خرائط المنطقة وتوزيع المصالح ومناطق النفوذ فيها.
وهذا الموقف يهدد استقلال الدولة اللبنانية، لا بل وجودها. واعتقد ان من واجبنا الوقوف بكل ما اوتينا من قوة ضد هذا الاحتمال.
ان الحركة الثقافية – انطلياس، منذ قيامها، دافعت عن استقلال الدولة اللبنانية وعن حقوق الانسان في هذه الدولة. لقد عقدنا المؤتمرات وصغنا التوصيات واصدرنا المنشورات حول البيئة والاملاك البحرية والنهرية وحول الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والصحية والسكنية والسياسية وغيرها... شاركنا الحركة النقابية الحرة في الدفاع عن مختلف القطاعات وكان موقفنا مواجهاً باستمرار لمنظومة الفساد التي امعنت استغلالاً واستهتاراً بمصالح الوطن والمواطن.
وفي المعركة الحالية التي يخوضها شعبنا نحن منحازون الى جانب التحركات الشعبية آملين من شاباتنا وشبابنا ان ينتصروا على كافة التحديات.
______________________________________________
ندوة الحلقة الثقافية - أنطلياس
الاستقلال والعاميّة/الانتفاضة -18 تشرين الثاني 2019
الحراك الشعبي اللبناني بين الواقع والمرتجي
عبد الرؤوف سنّو
يوم الخميس 17 تشرين الأول، خرج اللبنانيون في تظاهرات للاحتجاج على ضريبة الوتساب التي سرعانْ ما تحوّلتإلى انتفاضة تطالبُ بـ: إسقاطِ الحكومة وتشكيلِ حكومةِ اختصاصيين مستقلين وإجراءِ انتخابات مبكّرة، وإصلاحِ القضاءِ ومحاكمةِ الفاسدين واستعادةِ الأموالِ المنهوبة، كما مطالب اجتماعية واقتصادية. من هنا، انبثقتْ قوّتان، تمثّلت الأولى بحراك وليدَ الأوضاع المتراكمة والمستجدة، والثانية الطبقة السياسية الفاسدة التي تصرُّ على البقاءِ في السلطة، وتقترح إصلاحات لا تُحاكي حجمَ المعاناة.
وبعبورِهِ للطوائف والمذاهب، واحتوائه على شرائح اجتماعية مختلفة، أضحى الحراك خطوةً متقدمة عمّا حصل العام 1943. في معركة الاستقلال، خرج اللبنانيون موحدين وراء زعمائهم الطائفيين ضد فرنسا المنتدبة، لكن تضامنهم الاستقلالي كان قصير الأمد، فارتدوا إلى طوائفهم؛ فكان الانقسام على الناصرية والمقاومةِ الفلسطينية، ثم على الاحتلال السوري للبنان منذ العام 1976.
وفيما حَمَل اللبنانيون السلاح خلفَ زعمائهم الطائفيين والمذهبيين خلالَ حربِ لبنان، هاهم يثورون اليوم ضدّ كلَّ الطبقة السياسية. في الماضي، حملَ الآباءُ السلاح، واليوم يرفعُ الأبناءُ العلم اللبناني وحده. إنّ كون غالبية المنتفضين من الفئات العُمْرية ما دون الثلاثين سنة، يدلّ على وعي سياسي جديد. ولاحقًا انضمَ إلىهم تلامذةُ المدارس وطلابُ الجامعات. واللافت أيضًا، هو مشاركةُ المرأةِ في الحراك بشكل فاعل، وبالتظاهراتِ النسائيةِ في الجنوب والبقاع، بالأمس واليوم، مثال على ذلك. حتى أنّ نَفَس الحراكِ أسهم في وصول المحامي المستقل ملحم خلف إلى منصب نقيب المحامين، رغم أنف أحزاب السلطة.
وإذا كان اللبنانيون قد دخلوا حربَ لبنان باقتصاد قوي تأثر بعد ذلك بالأوضاع السياسية والأمنية، إلا أنّه كان يواصلُ نشاطَه، وإنْ بنمو متذبذب، بفعل المالِ السياسي وذاكَ الفلسطيني والتحويلات الخارجيةِ خلالَ الحرب، والاستثمارات المتدفقة إلى لبنان بعد الحرب والإعمار وتحويلات المغتربين والنمو في السياحة. أما اليومْ، فيئن الاقتصاد تحت عبءِ السياسات الاقتصادية والدين العام وخدمته والانفاق الهائل ونهب المالية العامة، ووجود اللاجئين السوريين وأوضاع المنطقة، كما هروب الأموال إلى الخارج. من هنا، يجب إعطاءُ الأوليةِ لإنقاذ الوضعين الاقتصادي والمالي.
أيها الحضور الكريم،
هل تتشكلُ حكومةٌ يرضى الحراك عنها أو المجتمع الدولي، وأي رئيس لها وبرنامج؟
تسبّبت استقالة الحريري المفاجئة في 29 تشرين الأول بإرباك لقوى "التسوية السياسية" العام 2016. وتعمل ثلاثةَ من الأحزاب التي أنجزتْ تلك التسوية (حزب الله وأمل والتيار الوطني) على تشكيل حكومةٍ تكنوسياسية، وبالتالي تحقيقَ تطلعاتِ الشارع بالحد الأدنى. فهل ستسمحُ واشنطن بولادة حكومةٍ يشارك فيها حزبُ الله، في ضوء تشديد عقوباتِها الاقتصادية والمالية على إيران وحزب الله بشكل خانق؟ ومع أنّ الحراكَ لم يرفع شعارات ضدّ سلاح الحزب، فقد أضحى لبنان في قلب الصراع الإقليمي، حيث تعتقدُ إيران والحزبُ أنّ أميركا تقف وراء الحراكِ أو بعضِه، وذلك لعزلِه وتوريطه في نزاع داخلي، وربما لنزعِ سلاحه الذي لن يفيد أحدًا في هذه اللحظة المصيرية. وقد عُزّزت مخاوفُ الحزب بتصريحات رسمية أميركية، وبما يحدث في العراق، ويجري في إيران منذ أيام قليلة.
في السابقِ، ورغم الضغوطِ الأميركيةِ، تمكّن حزبُ الله من جعلِ الحكومات اللبنانية تتبنى مقولة: "الشعبُ والجيشُ والمقاومة". لكنه بدأ منذ العام 2006 يفقدُ تأييد شريحة كبيرة من اللبنانيين، تزامنًا مع فرضِ ظلِّه على الحياة السياسية، والإمساكِ بقرار السلم والحرب في المنطقة. لكنه الحزب يستفيد، مع ذلك، من تفاهمه مع التيار الوطني الحرّ المعقود في شباط 2006.
ليست القصةُ، برأينا، في تغيير حكومة بأخرى، بل في نوعيةِ الحكومةِ وتركيبتِها وبرنامجِها، وقد لا تُغطي سلاح حزب الله، وتكون تحتَ ضغطٍ أميركي لإدراج القرارين 1559 و1701 في بيانها الوزاري. عندما استقالت حكومة ميقاتي العام 2013، كان ذلك، إلى جانب عوامل داخلية أخرى، استجابةً لقرار سعودي- أميركي لإخراج الحزب من الحكومة. حتى أنّ "إعلانَ بعبدا"، كان بدعم سعودي-أميركي لوقفِ تدخلِ الحزبِ في سورية. لكنّ الحزبَ تنصّل من توقيعته.
من هنا، نفهمُ لماذا جُعِل التأليف قبل التكليف. إنّ حزبَ الله أمام أحد خياريبن: 1- تشكيل الحريري حكومة تكنوقراط لحاجته إليه في تشبيك علاقات لبنان مع الخارج، كما في عدمِ الاستجابة للضغوطِ الأميركية عليه، وعندها يتحملُ الحريري وزرَ الأزمة المالية؛ 2- أو دعم الحزبِ تأليف أية حكومة تكنوسياسية أو حكومة من لون واحد تحقق أهدافه، لكن فرصُهُما في النجاح ستكونُ ضئيلةً. ومن ناحية إيران التي وَهُنَ مركزُها في سورية، وأضحتْ مهددةً بخسارةِ ما حققته في العراق، فتريدُ من الحزبِ التمسّك بموقعها في لبنان. ولهذا السبب، يتصرّف الحزبُ اليوم بطريقة منسجمة مع استراتيجيته الإقليمية، بألا يفقدَ دورَه المهيمنَ في لبنان وعلى المؤسّسات لصالح الولي الفقيه.
ولن يتوانى حزب الله، برأينا، عن الاستمرار في سياسةٍ يعارضُها معظمُ اللبنانيينَ، كما حدث في الماضي القريب بتأثير إيران؟ عندما نزلت الجماهير إلى الشوارع العام 2005، مطالبة بخروج سورية من لبنان، أعلنَ حزبُ الله عن وفائه للنظام السوري، فشقّ تماسك اللبنانيين. وفي حرب العام 2006، خاض الحزب حربًا ضد إسرائيل من دون استشارة الدولة اللبنانية، ورأى البعضُ أصابعَ إيران فيها، فيما اشتد انقسام الشارع اللبناني والقوى السياسية حول التحقيقِ الدولي في اغتيال الحريري، وإقفالِ الحزب المجلس النيابي لعامين متتالين، تزامنًا مع الاعتصام في وسط بيروت. وبعد ذلك، فَرَضَ الحزبُ وحلفاؤه "اتفاق الدوحة"، قالبًا التوازنات لصالحه. فأعلنت طهرانُ انتصارَها على الرياض وواشنطن. ثم أسقط الحزبُ حكومةَ الحريري في ضوء التجاذبات بين أميركا والسعودية من جهة، وإيران من جهة أخرى، بانسحاب الوزراء الشيعة منها العام 2011. كما أجرى الأمين العام للحزبِ بنفسه الاستشاراتِ النيابية التي أتت بميقاتي رئيسًا للحكومة بشكلٍ مخالفٍ للدستور. وقد شارك الحزب في "التسوية الرئاسية" العام 2016، التي ضمنَت سلاحَه ودورَه الإقليمي. كلُّ هذه الأمور، تفسّرُ موقفَ الحزبِ المعارض للحِراك، بأنّه لسحب البساط من تحته، على الرغم من تأييده مطالبَ الحراكِ الاجتماعيةِ ومكافحة الفساد.
وفي استشراف المستقبل، تتحرّك الأمورُ وفق السيناريوهات الآتية:
1- بقاءُ الحراكِ على مطالبِه بحكومةِ تكنوقراط، وتمسّكُ حزبِ الله بحكومةٍ تكنوسياسية، ما قد يؤدي إلى انفجار الأوضاع.
2- تشكيلُ حكومةِ تكنوسياسية يرضى عنها حزبُ الله، ودخول أعضاءٍ من الحراك أو ممثلين عنهم اليها، فينغمسُ الحراك في اللعبة السياسية: إما أنْ يصطدم مع مكوّنات الحكومة، أو يتخلى عن باقي مطالبِه، لقاءِ إصلاحاتٍ شكلية.
3- تشكيلُ حزبِ الله حكومةٍ من لون واحد، لا يكون سعد الحريري رئيسُها، وحظوظُها في النجاح ضئيلةٍ، حيث سيعارضُها المجتمع الدولي ودول الخليج العربية.
4- تشكيلُ الحريري حكومةَ تكنوقراط؛ من شخصياتٍ مستقلةٍ غير مستفزٍّةٍ لحزبِ الله، مع ضمانات له، في الحدّ الأدنى، تقبلُ بها الولاياتُ المتحدةِ، وذلك في حال تقدّمت المحادثات السريةِ بين واشنطن وطهران في مسقط.
5- شقُّ الحراكِ سياسيًا وطائفيًا ومذهبيًا، كما حصلَ بين التيار الوطني الحرّ والحراك، أو في تصدّي مجموعاتٍ مشبوهة لـ "بوسطة عكار" لمنعها من الدخول إلى صيدا وبالتالي إلى الجنوب، أو بتسييس الحراك من قبل بعض الأحزاب.
6- تغليبُ الأطرافِ كافةً المصلحةَ الوطنية والدخول في حوار حول كلّ الملفات السياسية المطروحة؛ من تحييد لبنان عن الصراعات الخارجية إلى بناء الدولةِ العادلة.
7- فشلُ كلِّ الطروحات أعلاه، فينزلُ حزب الله إلى الشارع ويمسكُ بالأوضاع في الجنوب والبقاع وبيروت، وهذا يعني تقسيم لبنان إلى منطقتين، تخضعُ الأولى لسيطرته، والثانية للقوى المسيحيةِ هناك، مع إمكانيةِ حدوثِ صراعٍ بين مكوناتِها، كالانقسام بين الأعوام 1988 و1990.
________________________________
انتفاضة 17 أيار 2019
د. شبيب دياب
فوجئ المشتغلون بعلم الاجتماع بالاتفاضة التي بدأت في 17 تشرين الأول من هذا العام، كما فوجئوا بالربيع العربي والانتفاضات عام 2013 في كل من مصر وتونس، اليمن والبحرين، ثم سوريا، حتى ان بعضهم اعتذر لعدم تنبؤه بهذه الثورات وعاد ليتفحص مناهجه وادواته المفهومية في قراءة الواقع وإعادة النظر فيها.
ولكل ظاهرة سواء اكانت حراكا ام ثورة ام انتفاضة او هبة شعبية لابد ان يكون لها مسبباتها ومقدماتها، كما لابد من متابعة العوامل المؤثرة في مسارها سواء اكانت هذه العوامل داخلية ام خارجية.
فكيف كان المشهد قبل انتفاضة او" ثورة 17 تشرين اول" كما ارتأى ان يسميها المنتفضون.
المشهد قبل الانتفاضة:
سياسيا:
- نظام سياسي مقفل غير قابل بلاختراق ويكرس الوراثة السياسية .
- تجاذبات وتنازع بين أطراف السلطة على النفوذ في الحكم وتقاسم المغانم.
- طبقة سياسية تتلقى الدعم الخارجي وتتوزع ولاءاتها تبعا لهذا الدعم، وتنخرط بأشكال مختلفة في النزاعات الاقليمية.
اقتصاديا:
- تراجع النمو الاقتصادي في هذه العشرية الى الصفر وخلل كبير بالميزان التجاري.
- ضرب القطاعات المنتجة للسلع في اقتصاد احادي خدماتي عماده القطاع المصرفي.
- تراجع القدرة الشرائية للمواطنين، وخيبات امل وقلق على المستقبل عند شرائح هامة من المجتمع.
- ارتفاع معدلات البطالة خاصة بين الشباب الجامعي وانسداد افاق المستقبل .
اجتماعيا:
- غياب المساءلة في قضايا الفساد والهدر وسرقة المال العام وفقدان الأمان الاجتماعي (امتناع وزراء وموظفين كبار من المثول امام القضاء
- انتشار الامراض بسبب التلوث البيئي
- مظاهر غنى وبذخ عند أبناء الطبقة الحاكمة الى جانب مظاهر فقر في الاحياء الشعبية وشعور بالحرمان عند ابناء الطبقة الوسطى.
- احتجاجات مطلبية شبه متواصلة لفئات اجتماعية ومهنية مختلفة على مدى السنوات السابقة. (قطاع التعليم وعل كافة مستوياته، القضاة، المتقاعدون الدفاع المدني، المتبارين في مجلس الخدمة المدنية، العاملين في المستشفيات الحكومية. الخ.)
- نقص في الخبز والمحروقات في البلاد قبيل الانتفاضة.
- محاولة حل الازمة الاقتصادية على حساب ذوي الدخل المحدود بفرض ضرائب ورسوم إضافية.
- بشّر المسؤولون بأزمة اقتصادية خطيرة مما رفع منسوب القلق عند الناس.
القشة التي قصمت ظهر البعير:
الرسوم على الواتس اب
- بدأ التحرك بالاحتجاج على الضرائب والرسوم المقترحة، ليصبح حربا على الفساد والهدر وسرقة الأموال العامة.
- ظهر الشباب كفاعل اجتماعي في التغيير: من المستوى التعليمي الجامعي. مشاركة واسعة للإناث، وخاصة الجامعيات. مع فروقات تبعا لجغرافية الحراك.
- استجابة من قبل الطبقة الوسطى وانخراط اقل للفئات الشعبية الدنيا في الحراك.
- تم احتلال الفضاء العام كالساحات والطرقات بالشرعية الشعبية.
- " تبنت" أحزاب السلطة كل المطالب واعتبرتها مطالب محقة، واعتراف بوجود هدر وفساد ومال منهوب.
وكانت مطالب الحراك وفق خارطة الطريق الآتية:
- استقالة الحكومة الحالية
- تشكيل حكومة جديدة من خارج الطبقة الحاكمة بصلاحيات استثنائية،
- وضع قانون انتخابي جديد،
- اجراءانتخابات نيابية جديدة
- انتخاب رئيس جمهورية من جديد.
الازمة في ثلاث قراءات
أولا لا بد من القول انه في ظروف أي حراك تكثر التدخلات لاستغلاله من قبل كل من يمكنه ان يحقق مكسبا سياسيا او معنويا او ماديا او امنيا وخاصة اجهزة المخابرات، ومن لم يتدخل يتربص ليتحين الفرصة للتدخل.
1- قراءة الازمة بمنظار دولي: اي انها صراع اقليمي او دولي بين اطراف إقليمية بأدواته اللبنانية، أي انها ترجمة للنزاعات الدولية في المختبر اللبناني
2- قراءة الازمة ببعدها السياسي المحلي الذي يرى فيها صراعا على النفوذ بين أطراف السلطة وتحقيق المكاسب، والذي يتمثل بشكل الحكومة العتيدة ورئيسها وحصص الأطراف فيها، واضافة الى حصة صغيرة للحراك.
3- قراءة الازمة باعتبارها نتجت عن مشكلة اقتصادية اجتماعية واحوال معيشة متردية، ببعدها السياسي المتمثل بالفساد ونظام الزبائنية.
القراءات المختلفة هذه يترتب عليها استنتاجات مختلفة تبدأ بالمؤامرة الخارجية وصولا الى الصراع الطبقي. وهنالك من يرى تداخلا بين المستويات والقراءات الثلاث.
الشعارات والرموز:
- الشعارات التي رفعها الحراك تستقطب وتلقى آذانا صاغية: ضد الفساد وهدر المال العام.. استرجاع المال المنهوب. الخ لذا الاستجابة الشعبية كانت عامة وعفوية.
- القبضة العملاقة للثورة في ساحة الشهداء وهي قبضة الثورة الصربية والثورات التي تلتها في جيورجيا في مصر وتونس ...
- سلمية الثورة ... توزيع الورد على الجنود ...الاغاني ...اشراك الفنانين.
- تسمية الثورة: ثورة 17اكتوبر ت1 بعد ثورة الأرز الياسمين.. الورد..
- السلسلة البشرية من شمال لبنان الى جنوبه رمزا لوحدة الشعب
- البوسطة من الشمال الى الجنوب رمزا لوحدة الجغرافيا، توقفت في صيدا خلافا لما كان مخططا لها.
- تمجيد الثورة التي تجاوزت الطائفية والمناطقية ولكن هذا لم يكن دقيقا عند اللحظات المفصلية.
- النصر الجزئي والاحتفال باستقالة الحكومة واحتفال بفوز نقيب المحامين المدعوم من الحراك.
في الاستهداف:
تعددت وتنوعت الفئات الاجتماعية التي يتوجه اليها للحراك؛ الراي العام أولا ، ثم الشباب.. الطلاب ... الأمهات والجنسية، حقوق المرأة...الخ..
كما تتعدد المواقع المكانية التي يستهدفها الحراك برمزيتها: المؤسسات الحكومية، المصارف، بيوت السياسيين. شركة الكهرباء، اوجيرو، مصادر التلوث. سد بسري ..الخ
المقدس والمدنس:
- الشتائم ووظيفتها في الابهار وكسر المحرمات اذ تم استهداف قادة أحزاب السلطة، والنيل من "قدسيتهم" قابلها عنف ومحاولات نيل من "قدسية" الانتفاضة.
- قدسية الدم والشهادة: بات للثورة شهداؤها ونشرت صورهم في الساحات.
- الساحات العامة باتت رمزا للسلطة الشعبية واستعادتها كحيز عام بعد خصخصته او استئثار فئة به.
- رموز الفساد: بداية كانت أسماء السياسيين، وتدريجيا أصبحت مؤسسات.. المؤسسات الحكومية، المصرفية.. المرفأ.. المصارف. منازل السياسيين. الخ. وهذا ما يعتبره البعض خطوة ايجابية بالانتقال من مخاطبة المشاعر الى مخاطبة العقول.
غياب التفاوض:
رفض المنتفضون التفاوض مع السلطة، لأسباب متعددة. وهذه مسألة إشكالية، لها أنصارها ولها معارضوها ضمن الحراك نفسه وبين المتابعين، ولكل مخاوفه وحججه التي يقدمها؛ انها مسالة لا تزال تحت الاختبار.
علامات إيجابية مضيئة في الحراك:
- الكثير من الحماس عند الشباب ومشاعر نبيلة وبكثير من التسامي والاستعداد للتضحية بإخلاص نادر للانتفاضة واهدافها.
- العلم اللبناني وحده في الحراك
- سلمية الحراك
- نبذ الطائفية والتجاوب الشعبي العابر للطوائف والمناطق.
- تجرؤ على بعض المحظورات وكسر جدار الخوف.
- تحييد الجيش والقوى الأمنية
- أجمل المظاهرات تلك التي كانت في حرم الجامعة اللبنانية، وحراك الطلاب في كل لبنان لثلاثة أيام متتالية.
- فوز المحامي ملحم خلف بنقابة الصحافة مدعوما من الحراك
الثورة المضادة لم تبدأ بعد.
المعروف ان لكل ثورة مضادة، أي لكل تغيير من يؤيده ويعارضه، وهذا ينطبق على الحراك، فالتأييد الشعبي له كان واضحا من خلال مئات الالاف الذين نزلوا الى الساحات.
لاحظنا ملامح الثورة المضادة او تصرف معارضي الحراك على جسر الرينغ وفي ساحة الشهداء.، في وهنا يطرح السؤال عن ميزان القوى بين المنتفضين وقوى السلطة.
كل حركة اجتماعية تنتهي بالتفاوض وتحقق مكاسب بحلول وسط، وارجو الا يبالغ الحراك في تقدير قواه، وان يقدر جيدا حجم القوى المناهضة له.
لا زلنا في قلب الحراك، ومن المبكر ان نضع استنتاجات نهائية، ولكن قبل 17 تشرين اول ليس كما بعده، لا لجهة تغيير البنى والذهنيات والتوجهات الاقتصادية او التغيير الجذري بالسلطة السياسية، بل تغيير في مسألة المحاسبة والمساءلة، وتراجع نسبة الفساد ومعدلات الهدر والسرقة في المال العام، وتحقيق بعض الإصلاحات في النظام السياسي والقضاء وخاصة في أجهزة الرقابة.
الياسمين في تونس،
ثورة الزئبق في قرغيزستان،
ثورة الورد في جيورجيا،
بوبوفيتش في صربيا أحد تلاميذ مدرسة جيني شارب،
جيني شارب صاحب الكتاب الشهير: كيف تُسقط نظاماً حاكماً".
____________________________________________
الإستقلال في زمن الانتفاضة الشعبية
(كلمة القيت في الحركة الثقافية انطلياس– عيد الإستقلال ٢٠١٩)
المحامي والنائب السابق غسان مخيبر
عشية ذكرى الاستقلال ومئوية اعلان دولة لبنان الكبير، تتكاثر الخطب والمناسبات، تهب في وجهك المقالات لتنفخ فيك العزيمة او الإحباط اولتدغدغ الشعور الوطني، في زمن الانهيار المالي والاقتصادي، والانتفاضة الشعبية الكبيرة الناقمة على كل شيء وعلى الجميع في مواجهة سلطات دستورية تتمسك بمواقع وحصص وتستفيد من الفساد البنيوي المنتشر كالسرطان.
فتتردد كلمات على كل لسان، في الشارع وفي المؤسسات،في فصائل الموالات والمعارضة المختلفة، كطنين الاجراس ايام العيد، او كمثل قرع الطبول والطناجر وسائر أدوات الطبخ المنزلية، كلماتتتردد كدعاءات الحجابات السحرية لمنع صيبة العين او لتحقيق الحلم المرتجى: استقلال، سيادة،حرية،ثورة ثورة ثورة، كرامة، ديمقراطية، ولبنان والحريات صنوان متلازمان لا ينفصلان، ... كلمات ...كلمات ... كلمات.
فبالنسبة للبعض، الإستقلال ناجز وكل شيئ على ما يرام باستثناء احتلال مزارع شبعا، وبالنسبة للبعض الآخر، لا استقلال ولا من يحزنون، في ظل تواجد السلاح المنظم بيد البعض خارج اطار القوى الأمنية بل احتلالات متعددة الأطراف، واستعار صراعات الطوائف والمحاور الممتدة من الصين الى الولايات المتحدة، مرورا بتركيا، وريثة السلطنة العثمانية، وأيران والسعودية وسوريا وما بينهما.
في خضم هذا الجو الملبد، وترقب جميع اللبنانيين الطيبين ليوم الفرج، دعوتموني اليوم للتفكير معكم لإحياء ذكرى الإستقلال، فدعونا نبتعد قليلا عن هذه الضوضاءالكلامية، لنستعيد الذكرى، ونستشف المستقبلبأدوات العقل والقلب معا.
أولا: في المفاهيم العامة
ان الإستقلال وسيلة من وسائل نشأة الدول، والتعبير الأسمى عن حق الشعوب في تقرير مصيرها. ويطرح هذا الإستقلال مسألة بناء الدولة وتعزيز وجودها؛ بما فيه بالنسبة للدول ذات التعددية الدينية او العرقية او اللغوية، كيفية تجاوز منطق التطابق بين الدولة والأمة وادارة الإختلافات والتعددية ضمن الوحدة وتأمين حقوق الأقليات، ومواجهة خطر الإستقلالات المتكررة، أي خطر الإنقسامات والتفتت.
كما أن الإستقلال عبارة مرادفة "للسيادة الخارجية"، بمعنى ان القرارات التي تتخذها مؤسسات الدولة المختلفة، المعبرة عن ارادة الشعب صاحب السيادة، يفترض ان تتمتع باعلى درجات السلطة Summa Potestasفلا يمكن ان تعلو عليها ولا ان تشاركها او تنافسها او تفرضها اية سلطة اخرى خارجية. فتتمتع الدولة وحدها بحصرية استعمال القوة المشروعة دون سواها من الدول او القوى أو المجموعات الخارجية او الداخلية.
لا يمكن ان يحد الإستقلال، بما هو تعبير عن سيادة الدولة الخارجية، سوى القانون الدولي؛ أي ما ترتضيه الدولة بالذات بتعبير حر ومتكافئ عن ارادتها عبر الإتفاقات الدولية التي تعقدها: اما ثنائيا أو جماعيا، مثل اتفاقيات حقوق الإنسان، والبيئة، وتنظيم التجارة الدولية. وبالتالي، فان عناصر عديدة يمكن ان تجعل من الإتفاقات الدولية شبه اتفاقيات اذعان، بسبب هيمنة دولة او اكثر على دولة اخرى او مجموعة دول هي اضعف منها عسكريا او اقتصاديا، خاصة بالنسبة لدول العالم الثالث، كما نحن. واذا كانت المفاوضات المتعددة الأطراف توفر فرص اكبر لتحقيق شرطي التعبير الحر والمتكافئ، فان هذه الفرص تتوفر بمستوى ادنى في المفاوضات الثنائية، او هي تنعدم في حالة هيمنة دولة على اخرى. ففهي هذه الحالة، تكون مثل هذه الإتفاقات مخالفة لمبدأ الإستقلال وتنتقص منه.
ثانيا: في الأحوال اللبنانية
ان معاني الإستقلال التي استعرضتها بأيجاز، تضع استقلال لبنان ضمن اطارات تاريخية ومفاهيمية ثلاثة، اسميها الإستقلالات الثلاثة:
الإستقلال الأول: كان عند اعلان دولة لبنان الكبير بانفصاله عن السلطنة العثمانية، في حدوده الحالية المعترف بها دوليا، بشعبه ومؤسساته التي تحددت في دستور ١٩٢٦ وجميع تعديلاته. وقد تكرس استقلال لبنان، كدولة وكأمة لبنانية (بحسب نص الدستور)، في خضم، لا بل في مواجهة، مطالب متضاربة: من تبعية للشرق أو للغرب، أو لنزعة الى وحدة سورية واسعة او وحدة عربية أو اسلامية اوسع.
وقد قوي عود استقلال لبنان الدولة مع الزمن، ولم تستطع الحروب المتعاقبة، خاصة منذ العام ١٩٧٥ تفكيك لبنان او ضمه، بل ثبت ان "العقد الإجتماعي" بين اللبنانيين هو رابط سياسي واجتماعي حقيقي. وقد ترجم ذلك في مقدمة الدستور الذي اضيف عام ١٩٩٠ عقب اتفاق الطائف، فتكرست "نهائية لبنان" كركيزة اساسية للوفاق الوطني التي "لا شرعية لأية سلطة" دون تحققه.
الإستقلال الثاني: كان استقلال لبنان عن الإنتداب الفرنسي وتعديل الدستور اللبناني لتنزيهه من جميع الأحكام التي كانت تعطي صلاحيات لسلطة الإنتداب والمفوض السامي الفرنسي. هذا هو الإستقلال الذي استقر التقليد السياسي على الإحتفال بذكراه في 22 تشرين الثاني من كل عام منذ 1942.
هذا الإستقلال الثاني تتمحور معانيه حول التعريف الكلاسيكي للسيادة الخارجية، اي رفض أية سلطة اجنبية تنافس السلطة الوطنية في الصلاحيات، أو تتجاوزها وتعلو عليها، والتوق الى السيادة الكاملة في اتخاذ القرار بعيدا عن أي تدخل خارجي اجنبي، من أية جهة أتى. وقد تكرس الإستقلال الثاني واستكمل بجلاء جميع الجيوش الفرنسية عن لبنان، ولاحقا بجلاء جيوش الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة السورية عن لبنان. ويبقى تنزيه التشريع اللبناني من الإتفاقية المنشئة للمجلس الأعلى اللبناني السوري على ان تنتظم هذه العلاقات ضمن اتفاقيات تحفظ المصالح الثنائية المشروعة للدولتين الجارتين الشقيقتين في جميع المجالات. وكذلك ضرورة تحييد لبنان إيجابيا عن صراعات المحاور الدولية والإقليمية، بما فيه ضرورة الاتفاق على سياسة دفاعية تصدر بقرار من الدولة اللبنانية عقب حوار صريح وشفاف.
الإستقلال الثالث: هي عملية دائمة ومستمرة، لا تأخذ اشكال قانونية او دستورية، انما هي توق للإستقلال الدائم في اتخاذ المؤسسات الدستورية للقرارات المناسبة، بعيدا عن هيمنة أية جماعة سياسية او طائفية داخلية على مقدرات الدولة، ذلك ما يتطلب تطوير النظم السياسية لتحويل لبنان الى المرتجى المعبر عنه في الدستور: دولة مدنية ديمقراطية فعالة، لا تمييز فيها بين المواطنين والمواطنات المتساوين في الكرامة والحقوق على أساس القانون الوضعي غير الطائفي. دولة النزاهة المبنية على أساس اطر ونظم فعالة لمكافحة الفساد البنيوى الذي يحطم المساواه ويحطم الكرامة، ويحول المواطنين الى رعايا زعماء سياسيين طائفيين.
هذا الإستقلال الثالث يتطلب العمل الدؤوب حتى قيام دولة المواطنة. ومن ابرز الأعمال المطلوبة:
· تطوير السلطات الديمقراطية، لا سيما في اطار مجلس شيوخ ومجلس نواب ينتخب اعضائهما في انتخابات حرة ونزيهة؛
· تطوير نظام فصل السلطات، بما فيه تفعيل الوظيفة الرقابية لمجلس النواب، المعطلة حاليا، وتطوير استقلالية السلطة القضائية النزيهة والفاعلة؛
· قيام الدولة المدنية يواكبها حسن تطبيق المادة ٩٥ من الدستور، وتعيين الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، مع احترام حقوق المذاهب والطوائف دون استتباع المواطنين الأفراد لطوائفهم؛
· تعزيز الدولة الواحدة في اطار اللامركزية الإدارية الموسعة؛
· تطوير فعالية الإدارة ومؤسستها عبر تنزيه سائر احكامها الدستورية والقانونية المعرقلة لحسن اتخاذ القرارات؛
· تطوير الدولة النزيهة، عبر مؤسسات شفافة وقدرات وإرادة سياسية على مكافحة للفساد والوقاية منه.
يجب ان نحمي هذا الإستقلال الثالث عبر تعزيز الوحدة الوطنية ضمن التعدد الذي يغني لبنان، فيحوله من دولة الى رسالة، (كما وصفه قداسة البابا الراحل القديس يوحنا بولس الثاني). هذه الوحدة التي لا تستقيم الا عبر احترام النظام الديمقراطي، وتتجذر في دولة القانون، القائمة على احترام الحريات الأساسية وحقوق الإنسان التي يحميها قضاء حر وفاعل، ويحميها مجتمع مدني (بما فيه الإعلام) متحرك ومتحرر ومؤثر في حماية الديمقراطية.
ان ذكرى الاستقلال هي حافز لنا اليوم، وهذه السنة اكثر من أي يوم وأية سنة في تاريخ لبنان، على ان ننطلق في المئوية الثانية لقيام دولة لبنان الكبير في المشوار الشيق والشاق لبناء دولة المواطن.
فعسى ان تكون انتفاضة شعبنا اليوم في لبنان مخاض ولادة الدولة المدنية الفعالة على طريق المئويات المقبلة، المكرسة لنهائية لبنان، كما ازلية جباله وشموخ ارزه.
_______________________________________
الحركة الثقافية أنطلياس
ندوة الإستقلال 18/11/2019
الإستقلال والعاميّة / الإنتفاضة
المهندس ميشال عقل
1) حسناً فعلت « ثقافية أنطلياس» عندما اختارت لهذا اللقاء عنوان: الإستقلال والعاميّة/ الإنتفاضة. فهي بهذا الخيار رغبت في تقييم هذه الإنتفاضة الشعبيّة المستمرة، المسماة "ثورة 17 تشرين الأول"، ومقاربتها في السياق التاريخي والمحطات الكبرى التي صنعت لبنان اليوم، بعد مرور ماية سنة على ولادة لبنان الكبير 1920، وبعد مخاض هذه الولادة في الماية سنة من النهضة والعاميّات التي سبقتها. فعاميّة أنطلياس 1840 (1) التي نحن في كنفها اليوم وهي المحطة الأبرز في مسيرة ولادة لبنان الكبير بالإضافة الى ما سبقها وتلاها من عاميّات وانتفاضات، وبخاصة عاميّة لحفد 1820(2) وثورة الفلاحين "طانيوس شاهين" 1858-1860(3) . وإنتفاضة الاستقلال 1943 مروراً بثورة الاستقلال الثاني في العام 2005، وتحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي في العام 2000 بانتفاضة أهل الجنوب والمقاومة الوطنية بوجه العدو المحتل…، تُشكل جميعاً منارات وتحولات أفضت الى قيام لبنان الوطن الموحد التعددي السيّد الحرّ المستقل.
2)لكن من المؤكد أن الموروثات البنيوية القاتلة لاسيما منها الطائفية والمذهبيّة والقبلية، ونظام الشركة بين السياسي والديني، وبين السياسي والمال، ومع استمرار إرتباط بعض القوى اللبنانية الأساسية بالخارج القريب والبعيد والإرتهان له، حالت وتحول دون تجاوز هذا التكوين الطائفي المعطوب والمُستَجلِبْ للحروب الأهلية والخارج، كما منعت وتمنع تطوير النظام والمجتمع والدولة بما يؤمن الحد الأدنى المطلوب من الإستقرار السياسي والإجتماعي والإقتصادي… كل ذلك رغم الموارد البشرية والطبيعية الهائلة والتاريخ والموقع المميز والتراث التي يمتاز بها هذا الوطن الصغير عبر تاريخه الغني بإنسانه وبيئته وتراثه وثوراته وعاميّاته.
ولسنا بحاجة الى جُهد لتبيان عجز هذا النظام عن تطوير بنياته الأساسيّة (السياسيّة – الإجتماعية – الإفتصادية- البشريّة…) وهو لايزال يتنقل بين الحروب الأهليّة والأزمات السياسية والحكومية والإقتصادية، وسواها… (بما يُعادل أو يزيد على ثلث عمر لبنان منذ الاستقلال حتى اليوم). ولعلّ أخطر ما عاناه تمثّل في الحرب المسماة أهليّة 1975-1990 التي خلّفت آلاف الضحايا والتهجير والتدمير والفرز والنزوح… والتي لايزال لبنان يرزح تحت أعبائها رغم توقف الحرب في السنة 1990 "بإتفاق الطائف". هذا النظام المعطوب والذي برهنت التجارب والأحداث والتحولات والأزمات أنه غير قابل لأيّ تطوير ذاتي تلقائي شهد محاولة واحدة يتيمة هي المحاولة الشهابية 1958-1964، التي كانت على كثير من النجاح والوعد بالقدرة على التجاوز وبناء الدولة، ولم يُكتب لها الإستمرار بإنقلاب أهل النظام الطائفي إيّاه على هذه التجربة الرائدة الوحيدة في تاريخه الحديث.
3) وفي مرحلة ما بعد الحرب 1990 حتى 16 تشرين الأول 2019 (عشيّة الإنتفاضة) كان الوطن الصغير الجريح ينتقل من أزمة الى أخرى ويُعاني كل أنواع الإحباطات السسياسية والإقتصاديّة والماليّة والإجتماعيّة ويعاني من تدمير الموارد ونهب الثروات الوطنية، ومن تهجير الأدمغة، وتعاظم الدين العام والبطالة… (40% بطالة، 25% تحت خط الفقر، دين عام يُلامس مئة مليار دولار، هجرة الشباب وبخاصة المتعلمين واليد العاملة الماهرة، أكثر من 30 ألف مهندس من أصل 55 ألف هم خارج لبنان،…) كما عانى هذا النظام عجزاً كاملاً في مقاربة ملفات أساسية مثل: 1) النزوح السوري، 2) عجز الخزينة، 3)عدم سداد المعاشات والتعويضات وأموال الضمان ومُستحقات المستشفيات… 4) رفع الضرائب والرسوم والمس بمعاشات وتعويضات العسكريين وارتفاع تكلفة التعليم وهدم البيئة وأزمة الإسكان… 5) ارتفاع الضرائب والرسوم على أنواعها، 6) أزمات المحروقات والخبز والدولار… حتى إدراك الإنهيار العام الشامل الإقتصادي والمالي والمصرفي والإفلاس، فيما الطبقة السياسية المالية تستمر في نفس السياسات وتقاسم المغنائم والثروات.
وهذه السياسة أحدثت هوَّةً كبيرة غير قابلة للردم بين الطبقة السياسية والشعب ونتج عنها أزمة ثقة طاولت كل الشرائح وصولاً الى الطبقة الوسطى برمّتها. والمحزن المبكي أن أبرز النجاحات والميزات والخصائص التي عُرف فيها لبنان على مرّ السنين أمثال النظام المالي والمصرفي والتجارة الحرّة، وميادين التعليم العالي والاستشفاء والسياحة والثقافة والصحافة… آخذة في الضمور والتراجع على يد هذه الطبقة السياسية المالية الفاسدة والمُفسدة والفاقدة كل حسٍّ بالمسؤوليّة الوطنيّة الإنسانيّة… .
4)هذا الواقع الشديد السواد الذي بلغناه في السنوات الأخيرة والمليء أيضاً بالوعود والإيحاءات بوجود سياسات وبرامج وجهود لتغيير المسار ووقف التدهور ولجم الأزمات المالية والإقتصادية… كان بمثابة المخدرات لإستمرار تمرير الصفقات على كل الأصعدة لاسيما منها في قطاعات : النفط، والكهرباء، والسدود، والنفايات، المحارق، والأملاك العامّة البحريّة، والبيئة… التي فاحت منها روائح الصفقات والسمسرات وتقاسم المغانم… حتى بلغت هذه الطبقة درجة من الإفلاس والعجز والجهل، ولم تتوانى عن زيادة الضرائب والرسوم على الشعب، والأنفاق غير المجدي والسرقة والتبذير… لتستمر في تمويل مصادر النهب والسرقة والثروة… وهي لم تشعر ولم تُدرك… أنّها تبالغ في قهر الناس والإعتداء على كراماتهم ولقمة عيشهم وصحّتهم وتعليم أولادهم…،فنزلوا الى الشوارع والساحات في كل لبنان نساءً وأطفالاً كباراً وشيوخاً وعائلات… في حالة من الغضب والصراخ السلمي العفوي… مطالبين بالحقوق ووقف السرقة ومحاكمة المسؤولين وإعادة الأموال المسروقة… وصولاً الى إعادة تكوين السلطة السياسية بالطرق الدستورية والوسائل الشرعية والسلمية.
5)هذه الطبقة ذهبت الى العمل على قمع المتظاهرين السلمييّن بعد محاولات الإحتواء. ثم راحت الى شيطنة الإنتفاضة والإنحدار نحو الديكتاتورية، باستخدام القوّة والبلطجة والغزوات والشوارع المضادة، واستخدام المصارف والمصرف المركزي والدولار، وكذلك بالخطابات الرسمية التي لم تأت بشيء سوى استفزاز وتخوين وتهديد المتظاهرين، وصولاً الى الإعتقالات واستعمال السلاح والميليشيات… كل ذلك من أجل ثني الثورة ولي ذراتها ووقف مسيرتها. كما لجأوا الى ما هو أخطر من ذلك إلى التخوين والإتهام بالعمالة والسفارات والتمويل الخارجي (جهاد الزين)(4)، والتشريع الملتبس (عفو عام) ولم ينجحوا. كل ذلك لأن الشعب اللبناني المقهور والمعذب بلغ مرتبة لم يعُدْ يسأل فيها عن مصالحه الآنيّة ولقمة عيشه اليوميةوبات يفكر في مُستقبله ومستقبل أجياله متجاوزاً آلامه الحاضرة من أجل مجتمع أفضل ودولة تعمل لشعبها. الشعب فقد الثقة بكل هذه السلطة ومكوناتها، وهذا ما يركز عليه الشعب ويعلنه كل لحظة طالما أن هذه السلطة لم تفهمه ولم تلبِ حقوقه (وليس مطالبه) ولم تبدأ بلجم المسيرة الإنحدارية الآيلة الى الإنفجار القريب الحتمي الآتي وقد أصبحنا في داخله. الطبقة السياسية في أزمتها المركبة تراوح بين مأزقها مع الشعب الذي يطالبها بالإصلاح ومأزقها في داخلها، والشعب سوف يطالبها قريباً بالرحيل .
6)أبرز وأهمّ مكونات وخصائص وأهداف وأساليب هذه الإنتفاضة الشعبيّة: مما لا شك فيه أن هذه الإنتفاضة (ثورة، حراك،عاميّة،…) لم يعرفها لبنان الحديث ولا محيطه لامن حيث أعداد المشاركين (فوق المليون نسمة نسبةً الى تعداد سكانه البالغ 4 ملايين)، ولا من حيث الإستمرار ليلاً ونهاراً منذ 17 تشرين الأول وحتى اليوم. ذلك مع امتدادتها الى عواصم العالم خصوصاً في أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية والتي شملت نحو 24 مدينة وعاصمة حيث تظاهر اللبنانيون بنفس الشعارات والأهداف، وهذا شكل إشارة واضحة لوحدة اللبنانيين المقيمين والمهاجرين وجعل العالم يعرف ويراقب ما يجري في وطن الأرز.
أمّا من حيث المظاهر والشعارات واللافتات وسواها فكلها تظللت بالعلم اللبناني وفقط بالعلم اللبناني. وهنا نُسجل بفخر القدرة الذاتية والإنضباط التام بحيث لم يُرفع أي علم لأي حزب وفي كل المناطق والساحات. وفي هذا السياق يأتي النشيد الوطني ليشكل الفاتحة والخاتمة وما بينهما وعلى امتداد الساحات وفي مُستهل كل خطاب أو هتاف أو نشاط…
أمّا التعديل الجوهري على نص النشيد الوطني وتلحينه (كارول سماحة) فهو ليس مُجرد إضافة كلمة لتجميل وتزيين النص (للنساء). إنّه فعلاً تعبير عن ثورة المرأة خلال تعديل النص الذكوري للنشيد الوطني. ولعلّ في ذلك بداية مباركة في طريق المساواة بين الرجل والمرأة على كل صعيد.
أمّا لا مركزية الحراكومنذ اللحظات الأولى فهي تدل على وحدة آلام الناس والمعاناة والرؤيا والوجع على امتداد كل الأنحاء اللبنانية، كما تدل على تجاوز لكل فئوية ومناطقية وطائفية ومذهبية. فقد جاءت بمثابة الإنجاز الأبرز والمدخل المعبّر عن الوحدة والتضامن والثقة بالنفس في آن. إنّه تشريع على الأرض وفي الشارع لللامركزية الإدارية.فاللبنانيون تجاوزوا مشروع القانون، الذي ينام في جوارير المجلس النيابي، ومارسوه في الميدان.
فالتحيّة هنا الى العاصمة بيروت ست الدنيا والىأيقونة الثورة طرابلس، والى كفررمان والنبطية، وصيدا وصور وزحلة وبعلبك وراشيا وجل الديب والذوق وجبيل… وكل المدن والقرى اللبنانية، وكل نواحي هذا الوطن وشعبه المعذب الغاضب والمتجاوز لكل المعوقات والموروثات والخوف والأحزاب الطائفية…
أما الشعارات والهتافات المرفوعةوفي مقدمتها "كلّن يعني كلّن، والشعب يريد إسقاط النظام، ثورة ثورة ثورة، سلمية سلمية سلمية… وما شابه، فتدل على الوحدة الصادقة التي تمَّسك بها المتظاهرون من اليوم الأول ودائماً تحت راية العلم اللبناني والنشيد الوطني اللبناني.. إنها مسيرة نضوج ووحدة ووعي ميدانية تُرجمت على الأرض بولادة برنامج الثورة على أيدي الثوّارأنفسهم وفي الساحات العامّة. وكان من أبرز مفاصله : 1) إسقاط الحكومة 2) تشكيل حكومة أزمة واختصاص مُستقلة 3)إجراء إنتخابات مُبكرة 4) قضاء مستقل 5)إستعادة الأموال المنهوبة 6) محاكمة المسؤولين بمفعول رجعي،… وهذا البرنامج تعجز عن إقامته والتزامه كل الأحزاب والقوى المشاركة في السلطة، وليس مطلوباً من الإنتفاضة تفاصيل وبرامج تطبيقية وهذا ليس من واجباتها.
هنا أريد أن أشير الى مسألة بحاجة الى تعميق ودرسمن الخبراء خصوصاً علماء الإجتماع والنفس تتصل بالشتائم والسباب والصراخ وما شابه في الساحات والإعلام والتواصل الإجتماعي وسواها، بما يتجاوز ما يمكن تسميته "المحرمات والمقدسات". ومما لا شك فيه أننا ضقنا ذرعاً من مُحرمات ومقدسات ومقامات يُمنع المس بها ولا يُسمح بإنتقادها ولا يمكن تصويب الأصابع إليها… وبخاصة بعض المقامات السياسية والدينية . هل نستطيع القول أن اللبناني تجاوز الممنوعات والمحرمات وأسقط "التابوات"؟ التي كانت تستر وتحمي المحاصصات والمبيقات والمسروقات الى لا رجعة.
أما تشكيلات المشاركين في هذه الإنتفاضةفهي على تنوع وغنى مُلفت، وهذا يحدث لأوّل مرة في لبنان (وربما في العالم) إذ نلاحظ :
- مشاركة المرأة أكثر من مشاركة الرجل
- الشباب والصبابا دون العشرين سنة
- العائلات بما فيها الأولاد الصغار
- الشيوخ والمسنون
- بعض رجال الدين الحكماء من كل المناطق والطوائف… (تحيّة إلى الأب علاوي)
- الطلاب وتلامذة المدارس …
- الجامعات (تحيّة لمبادرة USJ+AUB)التي أضافت الى الثورة بُعداً وزخماً ودوراً مميزاً في التثقيف الشعبي…
- العمال، أصحاب المؤسسات، المهن الحرّة،… (غياب كامل للإتحاد العمالي العام المرهون والمصادر من السلطة)
- الفنانون والأدباء والشعراء …
- …
الثقافة الشعبية : هنا أريد أن أشير الى مئات الندوات والورش الشعبية التثقيفية التي عُقدت في الساحات والخيم وتناولت مواضيع أساسية: ( الدستور، الإقتصاد، المال، المصارف، مصرف لبنان، الأملاك العامة البحرية، البيئة، المقالع والكسارات، الكهرباء، المحارق، النفايات، الاتصالات، السدود…) والتي شارك فيها آلاف المواطنين لاسيما منهم الشباب والشابات وبمشاركة أخصائيين وناشطين. ويُمكننا القول دون مبالغة بأن هذه المدرسة/الجامعة الشعبية المفتوحة هي إستثمار لا يُثمن ويبشر بنمو حركة الوعي الشعبيةوإدراك للمسائل الحقيقية التي يُعاني منها لبنان ورسم الحلول المطلوبة لها بعيداً عن الحلول المشبوهة التي يُروّج لها. Agoraفي كل موقع وساحة: أخصائيون، مُحامون، مُهندسيون، بيئيون، قُضاة، حقوقيون، نشطاء في المجتمع المدني،… يُساهمون بعمق ومسؤولية في ثقافة الثورة والثوّار وبناء نخبها ومساراتها وأهدافها.
أمّا الصغار والطلاب الذين يشاركون فقد أكد العديد منهم بثقة وحزم على إعتبار النزولالى الشارع بذاته مدرسة وتربية مدنية وتواصل مع الآخرينوإن جاء ذلك على حساب الدراسة الكلاسيكية التي يمكن تعويضها. ناهيك عن الإختبارات على الأرض والشراكة بين الصغار والكبار التي تجري في الساحات لتعطي آمالاً ورجاءً بالمستقبل . إنها بالفعل علامات مضيئة لدى الأجيال الشابة التي تطالب بمستقبل أفضل ، وعدم الهجرة، وفرصة عمل، والبقاء في الوطن،…
ومن المفيد القول أن الفنانين(ممثلين، موسيقيين، رسامين، مغنين، محترفين وهواة وطلاب معاهد الفنون…) وقد كانوا بالعشرات، ومنهم من شارك في الحراك منذ اليوم الأول أمثال (نادين لبكي، رفيق علي أحمد، كلوديا مارشليان، مارسيل خليفة، بديع أبو شقرا، عادل كرم، كارمن لبّس، كارول سماحة، رفعت طربيه، رندا الأسمر، كارل قشوع ونورا بدران،…) فقد أشاعوا الى الفرح أبعاداً إنسانية وجمالية وإبداعات، واضعين الفنّ وخبراتهم في خدمة القضية الوطنية والإلتزام مع الشعب وكأنهم يعلنون "لا فن للفن بعد الإنتفاضة".
أما العلاقة بين الناس والقوى الأمنية وبخاصة الجيش فقد كانت على أعلى درجات الرقي والالتزام والمسؤولية المشتركة والود سواء في تنفيذ الإجراءات أو في الحوارات والتعاون الجاري…، وقد سادتها دائماً لغة المسؤولية والأخوّة والمخاطبة الوطنية العقلانية المسؤولة: (شعب واحد، قضية واحدة، العسكر أولادنا وأخوتنا، لا عنف، وقبول بعض الأحيان عنف الآخرين وغضبهم، دموع العسكر…) وذلك من الجانبين وفي كل المواقع والساحات ومهما كانت الصعوبات والأوامر وبخاصة في الأيام الأولى للإنتفاضة (قطع الطرق). هذا التعامل الإيجابي خلق المزيد من المحبة والاحترام بين الشارع والقوى الأمنية يمكن البناء عليه والاستثمار فيه على كل الصعد. (أما بعض الإشكالات العنفيّة الصغيرة هنا وهناك فلا يُعتد بها نظراً لضخامة التظاهرات وتعددها… والأعداد الكبيرة وصعوبة التوفيق بين حرية المتظاهرين وبعض الخصوصيات ومسائل الطوارىء التي كانت تستجد وبكل موقع(إسعاف- الصليب الأحمر-المرضى- تنقل العسكر- السفر…)
أما مشاركة منظمات المجتمع المدني الملتزمة(ولا أقول السياسي) فهي عصب الثورة ونبضها وشرايينها. فإنها حتى الآن عبّرت ولا تزال تعبّر عن نضوج ومسؤولية وطنية تاريخية في كل ما تقوم به سواء من حيث التنظيم والتنسيق فيما بينها، والتحشيد، واختيار الشعارات والبرامج والمواقع والموضوعات والمتابعة، كما في ولادة البرنامج الموحد والتثقيف وتنويع المظاهرات والمحجات. وهذه فرصة تاريخية لبعضها لكي تتجاوز كلومها وجروحها الآتية من الانتخابات النيابية سنة 2018 التي خاضتها بلا مسؤولية وطنية جامعة، ولم تحقق فيها خروقات تذكر، فيما دلت الساحات اليوم بأن ذلك كان مُمكناً بالتأكيد. وهنا أريد أن أذكر بعض المنظّمات (التي أعرف دورها)، ولن أستطيع أن أذكر بالتأكيد جميع المنظمات: نقابتي، طلعت ريحتكن، نحن، المفكرة القانونية، مواطنون ومواطنات في دولة، الحراك المدني، مؤسسة سمير قصير، مجموعات مهنية هندسية، مُحامون، أطباء، هيئات طلابية جامعية، ممثلي الطلاب في أكثر من جامعة ومؤسسة تربوية، منظمات البيئة، بعض النقابات العمالية، نادي قضاة لبنان، منظمة Life، Yaza،… وسواها.
ولا أريد أن أذكر الأحزاب المشاركة حتى لا ندخل في جدل حول دورها وحجمهاوهي بالتأكيد قامت وتقوم بأدوار مُهمة لكن الأهم في أدائها، عملها الدائم تحت رايات الثورة والعلم اللبناني والبرنامج الموحد… وهي بذلك مشكورة في التزامها قضايا الشعب وخلاصه.
القيادات : أبرز ما في هذا الحراك أنه لا مركزي ليس فقط مناطقياً بل قيادياً أيضاً. هناك العشرات من مُنظَّمات المجتمع المدني الملتزمة كما أشرنا أعلاه وهناك أحزاب سياسية جديدة وناشطة، وهناك بعض الأحزاب القديمة والتاريخية. الجميع يعمل بتنسيق (ومن دون تنسيق أيضاً) لكن تحت رايات الثورة والعلم اللبناني والبرنامج الموحد المولود في الميدان. هذا المشهد هو مهم جداً للثورة واستمراها ونجاحها. لا يمكن وليس مطلوباً إنشاء قيادة موحّدة، هذا تقرره الأيام المقبلة والتطورات. السلطة رَمت من خلال طرح فكرة الحوار مع قيادات من الثورة الى الإيقاع فيما بينها. لأنها أي الأخيرة مُتعددة ومنوعة وكثيرة ولا مركزية ولا يمكن قياس دور وفعالية وحجم أي منها خلال الثورة. حسناً فعل الثوار عندما أعلنوا أن ليس لهم قيادة موحدة ورفعوا شعار "الشعب قائد الثورة".
مواجهة السلطة وأحزابهانسجل: إرباك السلطة، عدم فهم الشارع، العمل بالأسلوب القديم، إستعمال الشارع الآخر، وصولاً الى استخدام بعض أطرافها للقوة والميليشيات والسلاح مما تسبب بسقوط جرحى وشهداء. وهذا يُشكل وصمة عار على جبين هذه السلطة لن ينسى مدى الأيام والأزمنة.
7) المحققات – الإنتصارات: مما لا نقاش فيه أن هذه الإنتفاضة حققت حتى الآن ما لا يمكن تحقيقهفي عقودوأكثر، حتى وإن لم تتحقق المطالب السياسية الإقتصادية الإصلاحية… المباشرة المعلنة في البرنامج الذي يعرفه الجميع، وقد ذكرنا عناوينه في متن هذا النص. المحققات قد لا تكون كلّها ملموسة ومادية لكن مما لا شك فيه أن لبنان ومُجتمعه ومستقبله بعد 17 تشرين الأول لن يكون مشابهاً ولا إستمراراً لما قبل هذا التاريخ.
وفيما يلي بعض العناوين للنجاحات المحققة وسواها :
1- إستقالة الحكومة .
2- الإعلام (والتواصل الإجتماعي) أصبح فعلاً سلطة رابعة .
3- المصالحة والمساكنة بين الشعب والقوى الأمنية وبخاصة الجيش (الذي لم يعد أداةً في يد السلطة يمكن إستعماله بوجه التحركات الشعبية (حراك النفايات سنة 2016)
4- إنتهاء الحرب اللبنانية 1975-1990 بتاريخ 17 تشرين الأول 2019
5- كل أركان الطبقة السياسية بمفعول رجعي وضعت تحت الضوء وكاشفات الفساد والسرقة… ومنها من أحيل الى القضاء والتحقيق…
6- تسليط الأضواء على أهم بؤر ومؤسسات الفساد التاريخي: المرفأ ، أوجيرو، الجمارك، الأملاك العامة البحرية، بواخر الكهرباء، مطامر النفايات،…). كما اختيار مواقع محددة كنماذج لسياسات الفساد والمحاصصة والإعتداء على الأملاك العامّة مثل: كوستابرافا، إيدن بي، زيتونى بي، محطة الذوق، سد بسري،…
7- الوحدة والعبور من الطوائف والمناطق الى الوطن الواحد الموحد بالشعارات والهتاف والمواجهةوالعلم والنشيد والمعاناة والحقوق…
8- طرابلس أيقونة الثورة… وإنعتاقها من قندهار والإرهاب، وحروب الأحياء …
9- تجاوز الخوف، وتجاوز بعض المقدسات والرموز التي لا تُمس (دينية ومدنية).
10- مشاركة كل الفئات والأجيال… وبخاصة المرأة وصولاً الى العائلات والأولاد.
11- إعادة ظهور الحركة الطلابية والعودة الى الساحات بقوة ووعي ومشاركة واسعة والتزام…
12- صور وطرابلس وسواهما مزّقتْ صور الزعماء ولافتات الولاء الأعمى…
13- ندوات التثقيف الشعبي والمشاركة الشبابية في كل الساحات والميادين…
14- بدايات تفكك وإستقالات في أحزاب السلطة على أنواعها، ما يؤشّر بأنه مع الإنتفاضة وبعدها ستحصل تغييرات وانقلابات وانقسامات. كما بروز أحزاب جديدة ومُتجددة. ونسجل تراجع كبير في شعبية ومصداقية الكثير من أحزاب السلطة.
15- إنتقال بعض النواب من مواقعها الى فضاءات المعارضة والإنتفاضة… ( والحبل على الجرار)
16- إلتزام الفنانين بقضايا الناس، والتوجه نحو الفنون الملتزمة،…
17- أدوار مميزة بارزة فاعلة ومؤثرة لمنظمات المجتمع المدني لاسيما في حقول: حقوق الإنسان، والحريات، والبيئة، والملك العام، والمرأة،… بما يؤسس لمرحلة جديدة تكون فيها هذه المنظمات أكثر فاعلية وتأثيراً وأكثر مصداقية واحتراماً لدى الرأي العام وبوجه السلطة.
18- إستقالات في مواقع إعلامية وصحفية وتحولات في النظرة واقتراب نحو الشعب والإنتفاضة في أكثر من موقع إعلامي أمثال: (محمد زبيب، غسان دبية وسواهما من جريدة الأخبار وذلك بسبب الموقف من الإنتفاضة).
19- إلزام شركتي الخلوي بإصدار الفواتير بالليرة اللبنانية ( تطبيق القانون، تحية للقاضية زلفا الحسن)
20- منع المجلس النيابي من عقد جلسة لإقرار مشاريع مشبوهة (العفو العام؟ المطلوب العفو المبرر).
21- إنتخاب ملحم خلف نقيباً للمحامين بوجه كل أحزاب السلطة مجتمعة (باكورة أعماله إطلاق الموقوف محمد عيسى).
22-أريد هنا وفي باب المحققات أيضاً أن أتطرق ببعض التفصيل الى ما أسميه إصطلاحاً "الحراك الشيعي" (عذراً على التسمية) :
فمما لا نقاش فيه أن حجم وتأثير وقوة "حزب الله" مسألة محسومة في المعادلة الداخلية ومن هنا تأتي مسؤوليته التاريخية ومسؤولية البيئة الحاضنة ودورهما في لبنان الحالي ومستقبله. وهنا أريد أن أرصد بعض الأحداث والإشارات المعبرة… التي أفرزتها الإنتفاضة في "الساحات الشيعية":
1- ظهور هادىء للسيد حسن نصرالله مرات عدّة لمقاربة الإنتفاضة وفي خلفيته العلم اللبناني.
2- حراك كفررمان واستمراره وتوسعه الى جانب صور والنبطية وراشيا وبعض قرى وبلدات البقاع والجنوب…
3- مشاركة الكثير من مناصري الحزب في التظاهرات وبخاصة في الأيام الأولى للحراك وتحديداً في بيروت
4- إستقالة 4 أعضاء من بلدية النبطية احتجاجاً على العنف الذي مورس بحق المتظاهرين
5- ظهور أكثر من شاب يُقدم الإعتذار العلني عما حصل من إشكالات في ساحة الشهداء.
6- إستقالة 6 صحفيين من جريدة الأخبار الموالية لحزب الله بسبب الخلاف على الموقف من الإنتفاضة (محمد زبيب، غسان ديبة،…)
7- كتاب مفتوح للصحافي ماهر ابي نادر في جريدة "الأخبار" يتهم الحزب بتحوله الى حارس للنظام مقابل إطلاق يده في أكثر من موقع وقضية ، مع الإتهام بممارسة القمع والعنف بحق المتظاهرين… ومحاولة تخريب معادلة الجيش والشعب والمقاومة بالتعدي على الشعب. محاربة الفساد بدأً من البيت الشيعي… مناشدة السيد " أعيدوا المقاومة الى حاضنتها الشعبية…"
8- إفتتاحية إبراهيم الأمين في "الأخبار" بعد الاعتداء الأول على ساحة الشهداء… واصفاً إيَّاه باعتداء فقراء الشيعية على أخوتهم… (إعتداء شيعي على الحسين).
9- إختلاف في الموقف من الإنتفاضة بين الثنائي الشيعي وبعض الأحزاب المؤيّدة تقليدياً للمقاومة أمثال الحزب الشيوعي، الناصري، حركة الشعب، القومي الإنتفاضة…
10- وغير ذلك من البرامج والتعليقات في كل وسائل الإعلام والتلفزيون والتواصل الإجتماعي التي تدعو حزب الله الى الوقوف بجانب الشعب، لاسيما شعبه الأكثر فقراً .
11- …
هذه عيّنة من المؤشرات التي تَستدعي التأمل والدرس والمتابعة… فهي توحي بمُتغيرات في الساحة الشيعية. هي ليست بالتأكيد مُعادية للمقاومة لكنها مُصارحة ديمقراطية وصرخات تطلب من "حزب الله" والقادة فيه الإلتفات الى الداخل وقضاياه وتعديل في الأولويات لصالح الشعب. ويمكننا هنا طرح السؤال: هل سيبدأ الحزب بالمراجعة ؟؟ الأيام المقبلة والتطورات المرتقبة من شأنها أن تُساعدنا في الإجابة. من جهتي أقول بأنها بدأت نتيجة القهر والفقر وإستجابة للحراك الوطني الشعبي الشامل… لأن ما يُعانيه أحباؤنا الشيعة وأخوتنا في المواطنية مثلهم مثل الأخرين وربما أكثر.
8) الخاتمة:
* ماذا أطلب من الإنتفاضة:
أريد أن أقول لأحبائي الثوار الأبطال أن يُحافظوا على ما حققوه: الوحدة الوطنية، والسلمية, ولا مركزية القيادة والتحرك، والصبر، ورفض العنف ووحدة البرنامج والأساليب…واعتبار ما تحقق حتى الآن يصلح مدخلاً لبناء لبنان جديد. لقد أرسيتم أسس ومداميك عقد أجتماعي جديد وخريطة طريق لجمهورية جديدة حديثة…
* ماذا أطلب من السلطة :
أن تبادر فوراً ومن دون أيّة ذرائع الى الإستجابة لمطالب الإنتفاضة بتشكيل حكومة إنقاذ تكسب ثقة الشعب أولاً وتعيد بناء الثقة بالدولة والوطن، وفتح كل الأبواب الموصودة حتى اليوم أمام رياح التغيير والإصلاح البنيوي والسياسي الذي طرح في الشارع، حتى لا يسقط هذا النظام بالضربة القاضية أو بالحرب الأهلية. الانتفاضة أعطتكم فرصة التوبة والإنعتاق والتغيير بالطرق الدستورية والسلمية فلا تضيعونها.
* ماذا أطلب من الحركة الثقافية والنخب والعلماء والإقتصاديين والدارسين :
أن يستمروا كما في هذه الندوة بمتابعة ودرس وفهم هذه العاميّة الجديدة والشراكة معها، وبخاصة التطلع الى إشراك الشباب والشابات ومنظماتهم في متابعة هذه المسيرة التي من شأنها إعادة ترسيم هوية لبنان الحضارية ونظامه السياسي والإقتصادي والإجتماعي… والعمل على إستمرار هذه الإنتفاضة والدفاع عنها وصيانة محققاتها المعنوية والثقافية والسياسية والإقتصادية وتعزيزها… حتى لا تذهب هذه الطاقات والتضحيات والجهود والدموع والأتعاب ودماء الشهداء الى المجهول.
*** في الختام سوف أعترف لكم باني كنت قد أدركت اليأس وانسداد الأفق والطريق من إمكانية أي تغيير وإصلاح في هذا الوطن بعد ما يقارب على خمسين سنة من العمل والجهد والنضال في الحقل العام. لكني أصارحكم اليوم بأني أستعيد الأمل والرجاء والتفاؤل والرهان بمستقبل واعد بعد إنطلاقة إنتفاضة 17 تشرين الأول المباركة وتجلياتها.
* تحيّة الى الحركة الثقافية أنطلياس.
* تحية الى كل مواطن ومواطنة نزل الى الساحات.
* تحية الى المناضلين خلدون جابر وشربل قاعي وعلي بصل وسامر مازح… وكل النشطاء المحررين والذين لا يزالون قيد الإعتقال.
* تحية الى أرواح شهداء الثورة : حُسين العطّار، عمر زكريا، وعلاء أبو فخر.
عـــــــاش لبنــــــــــــــــــــــان المهندس ميشال عقل
1) عاميّة أنطلياس 1840 التي قامت بوجه الأمير بشير وإبراهيم باشا تحت شعار "العمل واحد والرأي واحد".
2) عامية شير لحفد 1820 وشعارها "مالاً واحداً لا مالين".
3) ثورة الفلاحين، "طانيوس شاهين" 1858-1860 بوجه الإقطاع والفقر والعبودية.
4) مقالة جهاد الزين، جريدة النهار، تشرين الثاني 2019، وملخصها :"أنه يطلب التبرك من السفارات التي تدعم الإنتفاضة لأنها تعرف بالتأكيد اللبنانيين وقضاياهم أكثر من حكامه".
___________________________________
الاستقلال والانتفاضة – رؤية دبلوماسية
بقلم السفير سمير شمّا
بعيد الاستقلال نظّم وزير الخارجية سليم تقلا أول امتحان لدخول السلك الدبلوماسي، فاتخذ قراراً مبدئياً حازماً: "من يحلّ اولاً في الامتحان، يحق له اختيار المنصب الذي يريد، أياً كانت انتماءات الفائز الدينية والذهبية". لقد آمن بان الكفاءة – ووحدها الكفاءة – هي معيار بناء دولة الاستقلال. وكتب أحد المؤرخين: "كان سليم تقلا محور ضغط الطبقة السياسية والوجهاء المحليين والمهاجرين اللبنانيين ذوي الشأن الذين كانوا يقترحون او "يوصون" بأتباعهم، لكن جميع محاولاتهم باءت بالفشل"... تلاقت مختلف الآراء على وصف سليم تقلا بـ "دماغ الكتلة الدستورية" فقد كان ثاقب البصيرة، دمث الأخلاق، محاوراً لبقاً، منفتحاً على جميع التيارات اللبنانية السياسية والفكرية، كما على العالمين العربية والغربي.
لقد آمن بأن على الدبلوماسي ان يتعالى عن كافة الانتماءات، ان يمثل الامة بأبهى ما هي، يعبر عن تطلعاتها وما الية تصبو... وكتب الياس أبو شبكة: "سليم تقلا عصامي ومثلٌ يحتذى في عفة الكف ونزاهة الوجدان"... كان ذاك الزمن اللبناني السعيد.
سنغافوره: جزيرة نائية تفتقد أبسط مقومات الاستمرار كدولة، إذا شاءت ماليزيا ان تقطع عنها المياه فتعطش. عندما. عندما سُئِل Lee Kwan Yew، الأب المؤسس لهذه الدولة عن القوة الكامنة وراء انبعاث هذه المدينة – الدولة وتحقيق "معجزتها الاقتصادية" أجاب: الكفاءة ثم الكفاءة والنزاهة الـ Meritocracy اكثر من الـ Democracy، وفق تعبيره، فقد آمن بان المبالغة في الديمقراطية تؤدي الى فوضى. هذا في الديمقراطيات العريقة. ماذا بشأن الديمقراطية في لبنان؟ ما أبلغ مقال البروفسور مشير عون: "براءة الشعب المذنب" عندما عبّر عن يقينه بأن: "ذنب اللبنانيين انهم يمارسون الديمقراطية في طورها التقني الأخير، في صناديق الاقتراع، فهي بالتالي ديمقراطية مزيفة"... وقد دعوتُها يوماً "الديمقراطية المركنتلية".
هذا عن الدبلوماسية وزمن الاستقلال فماذا عن الانتفاضة؟
"الديمقراطية المزيفة" أليست هي من انزل الناس الى الساحات فرأوا انهم هم بالذات الذين يعبرون عن معاناة الشعب وتطلعاته، وانهم هم ممثلوه الحقيقيون، متجاوزين بذلك نواب الأمة؟؟
لقد انفجرت مشاعر الناس تعبيراً عن وجعها نتيجة أوضاعها المعيشية والاقتصادية المتردية. غاضبون هم، وأي غضب، على الطبقة السياسية، يطالبون بمحاربة الفساد والفاسدين، والاقتصاص من ناهبي أموال المكلفين وخيرات الامة. ومن غرائب الحياة السياسية في لبنان ان من هم في المعارضة – كما في الموالاة – اذا جاز التعبير، الغاضبون والمغضوب عليهم، يتلاقون حول محاربة الفساد ورفض المحاصصة والزبائنية وينادون باعتماد الكفاءة وتمجيد "عفة الكف".
تخطّى المنتفضون حاجز الخوف وصاروا هن مبعث الخوف للآخرين، كما تخطوا الحواجز المناطقية والمذهبية والطائفية. "الطائفية الخطيئة الاصلية التي ولدنا فيها" كما كتب خليل رامز سركيس. وطالبوا "الدولة التي تكره ان تكون دولة" كما ردد فؤاد بطرس، ان تكون دولة عادلة وقادرة.
تعالت صرخات شعبنا هنا، فترددت اصداؤها في مشارف الأرض ومغاربها، اهتزت لها خصوصاً مشاعر وضمائر أبناء لبنان في العالم. اثارت قضية المغتربين: أي لبنان يريدون كي يدافعوا عن قضاياه ويتباهوا به؟ اكتفي ببعض الخواطر واستخلاص العبر.
مسيرتي الدبلوماسية التي تجاوزت السنوات الأربعين، اخذتني قرابة العشرين عاماً الى الاميركيتين، القارة التي قصدها أوائل من اغتربوا.
ظاهرة الاغتراب اللبناني وصفها شارل مالك بانها "فخر وعيب ومأساة. فخر بما يحققه المغتربون وعيب لن لبنان لم يوفر لهم أسباب العيش ومأساة لان الهجرة هي ذات ابعاد إنسانية وروحية"
من "حملة الكشة"، ورغم معاناتهم واوجاعهم، وصولاً الى النخبة الفكرية المتنورة، لقد أعطوا وطنهم – الام وأجزلوا العطاء وفي مختلف الميادين. وشهدت دول الاميركيتين تحركاتهم الفاعلة المطالبة باستقلال لبنان، تنقذهم من "لعنة التتريك" فيتباهون بوطن الأرز الذي في ظلاله فتح صاحب "النبي" جبران خليل جبران عينيه على الوجود.
الانتفاضة الشعبية. حركة الوعي والصحوة التي هزّت وجدان بني قومنا. مطالبتهم بأبسط حقوق الانسان: لقمة العيش الهنيئة – الكهرباء والماء والهواء النقي- العدالة الاجتماعية – محاربة الطبقة السياسية الفاسدة. مطالب محقة توحّد حولها اللبنانيون، متجاوزين كافة الحواجز، مؤمنين بلبنان الواحد. هذه الصرخات وما به يطالبون وحدت حلها ابناءنا في العالم، فرأيناهم وسمعنا صرخاتهم مدوية في جنيف وباريس والسويد وكندا والبرازيل وغيرها.
لماذا أطلقوا صرخة واحدة موحدّة!؟ لأن الشعب المتألم والثائر خاطبهم بصوت واحد، لا بلغة بابلية، دعاهم للدفاع عن قضايا الوطن، لا السياسات الحزبية الضيقة. الدبلوماسية اللبنانية التاريخية العريقة، وفي مقاربتها لقضية الاغتراب، دعت المغتربين للتعاطي في الشأن الوطني – أي الدفاع عن قضايا الوطن – الأم، والابتعاد عن الشأن السياسي الحزبي. لقد آمن الآباء المؤسسون للجامعة اللبنانية في العالم في بداية ستينات القرن الماضي بالقول المأثور: "ما دخلت السياسة شيئاً إلا وأفسدته".
بقدر ما يبني اللبنانيون وطناً معافى مستقراً امنياً واقتصادياً، بقدر ما يتحرك أبناؤه في العالم للدفاع عن قضاياه وتجربته الإنسانية الفذّة، فيعتزون به ويتباهون.