في تقديم اللقاء مع شربل داغر: بين الحراك والانتفاضة والثورة: مساءلة فكرية
الدكتورة نايلة أبي نادر
أنطلياس في 18 كانون الأول 2019
عندما يعلو صوت الجوع ينتفض المحرومون ليخبزوا عجين كرامتهم على نارٍ من غضب. عندما يسودّ الأفقُ في أعيُن المَنسيّين يلمعُ بريقُ الحناجر المُنادية بالتغيير. حيث تنكسرُ الأحلام وتتكدّسُ الخيباتُ في زوايا الانتظارِ يتفجّرُ الأملُ بغدٍ أفضل. كلُّ المعطياتِ كانت تشيرُ الى أن الكَيل قد طفح. فالصمتُ بات خيانةً، وغضُّ النظرِ تواطؤاً، وعدمُ الخروجِ على ما هو سائدٌ أصبح جرماً مرتكباً بحق الأجيال القادمة الى أرض الوطن.
نتخبّط في هذه الأيام بسَيلٍ من الهموم والأفكار المقلقة. تراودنا أسئلةٌ مصيرية لا نُحسن الأجابة عليها. الخيبة كبيرةٌ بوسع الانتظار الذي سبق لنا أن علّقناه على الأشخاص أو الأحزاب أو السياسات التي كانت تُقنعنا. جرحُ الطاقاتِ المهاجرة ازداد نزفاً. صدى الصفقاتِ المدبّرةِ في العتمات يملأ الساحات. لن أطيل في توصيف الواقع المذري الذي وصلنا اليه. فالشاشات تزخر بالبث الحي والبرامج التحليليةِ صبحاً ومساء.
نلتقي هنا حول علمٍ من بلادي، أتقنَ النحتَ في الكلمات محلّقاً في استنطاقها شعراً وأدباً وفلسفةً، لا يحدّه منهجٌ واحد، ولا يسجنه منظورٌ معيّنٌ للأمور. انغمس في المجتمع اللبناني وبهمومه منذ شبابه مناضلاً على أكثر من جبهة. لم تُبعده الإقامةُ القسرية في باريس عن تفاصيل ما يحدث في الشارع كما في المجالس السياسية. سكنَ الهمُّ اللبناني مسارَه الفكري، وتجلّى في الكثير مما أنتجه وما يزال.
أصدر الدكتور شربل داغر لغاية الآن ما يزيد على 60 كتاباً في الأدبيات والجماليات والشعر والرواية وفي ترجمة الشعر وفي التاريخ المحلي. كما يطلّ عبر الكتابة الأسبوعية في جريدة "نداء الوطن" في مقاربات نقدية لموضوعات يختارها، إما في السياسة أو في الثقافة أو في شؤون الفكر بعامة. لم تُبعده انشغالاته الفكرية عن المتابعة الدقيقة لما يحدث مؤخراً في الساحات التي زار بعضها عدة مرات. يترصّد نبض النازلين اليها، إن في شعاراتهم، أو رسوماتهم، أو صرخاتهم. يعلّق على صفحته الفيسبوكية فاتحاً المجال للتفاعل الحر مع الأصدقاء الافتراضيين.
يذكر داغر في كتابه "في الهواء الطلق، سيرة مختلسة"، متحدثاً عما لحظه بعد عودته من باريس "أن الشعب "العنيد" لا يعرف من العناد سوى عماه، لا انتصاراته أبداً، وأن عنادَه لم يمنعْه، على أي حال، من تجريب أوسعِ التجارب وأغربها، ومنها الإتجار بالموت".[1] ويشير الى خلافِ اللبنانيين متابعاً: "يتحدثون عن الأرض نفسها، عن البلد نفسه، عن الجمهورية نفسها، في حدودها، ولكن من دون أن يُخلي هذا لذاك مكاناً في ما يُضمره من خيرٍ لهذا الوطن المنكوب".[2] ويرى "أن العنف القديم والمتجدّد لا يعدو كونه دفاعاً مَرَضياً عند كل جماعة ضدّ كل ما يهدّد صورتها عن نفسها، أي عن مكانتها: التماهي الكامل من دون فسحةٍ للنقد، أي لنقدِ ما تعتبره على أنه من مكوّناتها وقِيَمها وحقوقِها كجماعة".[3] فالعنف ما زال يتجدّد، لكن في تمظهرات مختلفة هذه المرة. لذا بات توسيع مكانٍ للفسحة النقدية أمراً ملحاً. كما أن مراجعةَ الذات، والخطاب، والخيارات خطوةٌ تفرض نفسها بقوة على كل من يريد أن يقرأ الآن في كتاب الحراك.
يصادفُ اليوم الاحتفال بذكرى إعلان الامم المتحدة في العام 1973 اللغة العربية لغة رسمية، وهي مناسبة تضعنا في وقفة أمام خبايا هذه اللغة والكنوز التي تحملها لمن يختار أن يستخدمها. شربل داغر يقيم في اللغة، ويتنفّس حبر الكلام. يبحث "عن نعمة، تشرق في كلام".[4] يسأل عن الفرق بين "الكلمة واللكمة"، وبين "الجوار والحوار"، و"بين شعب وشغب وشغف"، بين "مختالة ومحتالة" في مجموعته الشعرية "يا حياة، أتوق اليك فتجيبني: أتوق اليك". يقلّب مفردات لسان العرب كمن يُمعن النظر في جوهرة، ويتنقّل من معجم الى آخر في سفرٍ متجدّد، دارساً ومنقباً ومحلّلا، لا يعرف الاستكانة. "كشّاشُ ألفاظ" هو، "كلماتُه عصافير"، يقول فيها: "لعلها تحطّ في راحة يدي، ولا تلبث أن تطير، بمجرّد أن نفتح صفحات عيوننا... كلماتٌ، عصافير في أعشاشٍ مؤقتة تقتات إذ تغنّي وإذ تنام، لا يراها أحد ".[5]
ها هو الدكتور شربل داغر يفتح معجمه ليرصد مفردات كَثُرَ استخدامها بعد السابع عشر من تشرين الأول، وهي موضعُ جدلٍ وتصويبٍ ونقاش. هل يمكن توصيف الحراك الجاري بالثورة أم بالانتفاضة، أم بالـ"عامية"، كما يستحسن الدكتور عصام خليفة تسميته؟ وما الفرق بين لفظ وآخر لغةً واصلاحاً؟
أستعينُ هنا بقصيدة لداغر أختم بها هذا التقديم : "كلمات في معجم، كأنها مشدودة بحبل دقيق، في بئر، في انتظار أن يسحبها أحدٌ، قبل أن تسقط تماماً في عتمة الغفلة".[6]
ها نحن نترقّب ما ستسحبه أصابعك من بئر الكلمات. فتفضّل...
[1]- شربل داغر، في الهواء الطلق، سيرة مختلسة، عمان، دار أزمنة، ط1، 2016، ص185
[2]- شربل داغر، م.ن. ص186
[3]- شربل داغر، م.ن. ص 187
[4]- شربل داغر، يا حياة، أتوق اليك فتجيبني: أتوق اليك، إيطاليا، منشورات المتوسط، ط1، 2019، ص74
[5]- شربل داغر، م.ن. ص 84
[6]- شربل داغر، م.ن. ص 65
______________________________________________
"بين الحراك والانتفاضة والثورة: مساءلة فكرية"
الحركة الثقافية"، انطلياس، 18-12-2019
البروفسور شربل داغر
لهذه الكلمة سبيلان في تناول موضوعها، ولها مرتجى ختامي.
أما السبيلان فيتوقفان عند معاني هذه الألفاظ، وعند حمولاتها، وعند استهدافاتها خارجها، في جاري الأيام اللبنانية الحالية. أما المرتجى، فهو ما يأمل به كاتب هذه الكلمة مما يجري.
تنطلق كلمتي من الألفاظ الأساسية التي تدور على ألسنة اللبنانيين منذ شهرَين: في الشارع، في المقال، في شاشة التلفزيون وغيرها. وهي الألفاظ التالية: الحَراك، والانتفاضة، والثورة، والعامية (أو "القومة"، حسب لغة القرن التاسع عشر)، والاحتجاجات وغيرها.
لا أتوخى، في هذه الكلمة، سوى المشاركة في نقاش جارٍ، وساخن أحيانًا، حول معنى الجاري في الأيام اللبنانية منذ 17 تشرين الأول في هذا العام المنتهي. فما يجري لم ينقطع بعد، ولم تكتمل دورة معناه الممكنة. ما يجري مفتوحٌ، من ناحية المتكلمِين، أي الأفراد والأطراف المشتبكة فيه، بين ما تأمل به وتعمل له، على اختلاف وصراع بينها.
النقاش مفتوح، وفي مقدوري أن أدرس، أن أنعم النظر في ما تقوله الألفاظ، في ما تُشدد عليه، من جهة، وفي ما تُعبِّر عنه الأفعال السياسية من خلال الألفاظ، وتَظهر عليه في الشعار والتحرك والمطلب والموقف.
للغة حياتها...
هل ما تقوله الألفاظ تعنيه؟ هل ما تقوله تقصده أم تأمل به؟ هل تكون، عندما تسمي، قد توصلت إلى ما تريده؟
أتساءل، ما دام أن في الكلام ما يختفي، وما يظهر. فقد يبثُّ المستعمل اللغوي، عبر اللفظ، ما يضعه في وضعية انتظار أو توقع، أو ما يقع في الفعل، بعد التلفظ. ولكن ماذا تعني الألفاظ في مراميها، في ما تطلب النفاذ إليه؟ هل للفظِ قوةُ تسمية، قوةُ تعبير، قوةٌ تعويضية وغيرها؟ أعندما نستعمل لفظ "الثورة، نكون نريدها أم نأمل بها أم نشتهيها؟ هل نصدق اللفظ في ما يقول؟
ألا يكون الكلام لعبةً، تمثيليةً، يتولاها المستعمِل اللغوي بنفسه ومع غيره؟ يتولاها، فيصبح متكلمًا: قد يستعيد الكلام كما ورد، أو قد يستعمله طالبًا منه شيئًا مختلفًا. هو مستعمِل-متكلم يصعد إلى خشبةٍ تواصلية من تلقاء نفسه، فكيف إذا كان الإذاعة أو التلفزيون قد بسطا له فرصةَ كلام، مشفوعةً بفرصة ظهور، وفي "بث مباشر"!
يكفي أن يتلفظ المستعمِل - وقد صار متكلمًا - بكلمة، بجملة، لكي يصبح صوتًا متنقلًا؛ لكي يشارك في جوق، ما يجمعُه بغيره، ما يجعل الكلام يمتد، مثلما الأيدي تتشابك، مثلما القبضات تشتد، كما لو أن للحروف أسلاكًا هي الأعصاب عينها التي في الأجسام المتأهبة... كما لو أن الكلام خرج من بلادته؛ بات يغتسل ويتجدد، مثل ثيابنا الوسخة فوق سطوح باتت مشمسة.
هكذا خرجت الكلمات إلى الشارع؛ اشتدَّ التدافع بينها، من دون أن يقوى أحد على الانتظام، بصحبة معجمه، في حشد، في جدل.
بات الكلام في ورطة، في أزمة. هذا يوقف ذاك، فيضطر إلى استبدال جملته، أو إلى التعثر في التعيين، أو إلى استدراك ما فاتَه أو يستعيد تصحيحه. المذيع يشدد على لفظٍ بعد ثلاثة أسابيع على استعماله للفظ آخر...
الليرة تفقد قيمتها، في تداولها مع الدولار... مثل كلمات تدنت قيمتها، أو جرى تعويمها، أو رفعُها مثل حبة ألماس لامعة. هناك حياة أنشط للكلام، ما يجعله ينعطف حيث كان يشخر، أو يجدد حمولة ألفاظ بما كان لغيرها أن تحمله.
للغة حياتها... إلا أنها تعايش لحظة تأزم، في كلماتها، في استعمالاتها، في دلالالتها، بين مضمرة ومسبقة ومتبدلة... هكذا تُستعاد كلمات بغير ما كانت عليه: "تُدور" كما يقال في لغة اليوم، مثلما جرى للكثير من الأغنيات التي كانت موجهة إلى فلسطين، وباتت اليوم موجهة إلى الحال اللبنانية الجارية.
"الثورة" المشتهاة
يبدو لفظ "الثورة" الأكثر ترددًا بين الألفاظ المذكورة، ولا سيما بعد أقل من أسبوعَين من بداية الحركة الاحتجاجية العامة.
بدا هذا اللفظ الأكثر تداولًا، بل الأكثر اشتهاء من قبل المحتشدِين، حتى إنه بلغ التشدد اللفظي، في تكراره والتأكيد عليه، ما طاولَ الإعلاميين بدورهم، وأعدادًا من الكتاب والمعلقين. بدا لكثيرين أن التلفظ بغير هذا اللفظ في الأيام الجارية "خيانةٌ" أو "غدرٌ بالثورة". بل في إمكان المتابع أن ينتبه إلى وجود أغنية تُشدد، منذ مطلعها، على أن ما يحدث "ثورةٌ"، لا "حَراك". فضلًا عن أن "قبضة الثورة" باتت هي الصورة، بل الرمز، الأكثر علوًا وإبرازًا، ليس في الحناجر فقط، وإنما في أعداد من الساحات (ومنها ساحة قريبة من مكان اجتماعنا).
لو عدتُ إلى "لسان العرب" لما وجدتُ صلةً اشتقاقية لازمة بين "الثَّوْر" و"الثورة"، مع أن ابن منظور يُورد اللفظَين في المدخل المعجمي عينه. ومن يتتبَّع المعاني والدلالات المتحدرة من هذا الجذر (ث و ر)، سيجد التقارب ممكنًا بين اللفظَين. ومن يفحص بصورة مزيدة المشتركات بينهما، سيجد أنها عديدة. ومن يتمعن في هذه المشتركات سيرى أنها تميل إلى تحديد أفعال وسمات ذات صفة "سلبية". منها: الهَيَجان، والثَّوَران (ما يعني الاحمرار كذلك)، والإثارة، والمُثاوَرَة (أي المُواثبة)، والثائرُ الغضبان، وثورُ الغضب أي حدتُه، وثارت الفتنة أو الغبار أو الدخان وغيرها؛ وقد تبلغ الثائرةُ الضجةَ والشغب. "الثورة" في حضرة اللغة، وخارجها، ليست مستحبة، ولا محمَّلة في ماضيها بمرتجيات لبنانيي اليوم، كما يتضح.
لا يرد في "لسان العرب"، ولا في "المنجد" المتأخر، ما يشير إلى لفظ "الثورة" بالمعنى الساري حاليّا. ولو عدتُ إلى الكلام الساري بين اللبنانيين، ولا سيما في جيلِي أو الأقدم منه، لوقعتُ على استعمال وحيد، وهو: "ثورة الـ58"، في إشارة إلى الأحداث العنفية في نهايات عهد الرئيس كميل شمعون... ولوقعتُ على استعمال متأخر: "ثورة الأرز" (2005).
اللفظ نادرٌ في قديم العربية، على الرغم من الحديث عن "ثورة الزنج" وغيرها. وينسب البعض المعادلةَ بين لفظ "الثورة" وبين اللفظ الفرنسي (révolution)، إلى أحمد فارس الشدياق... مع ذلك، لا يتوانى القارئ أو المستمِع الإذاعي قبل التلفزيوني عن متابعة اللفظ في الخطاب السياسي والإعلامي والنقدي وغيره، على الأقل منذ العقود الأولى في القرن العشرين: في العام 1926، يتحدث طه حسين عن "ثورة النثر"...
إلا أن النصف الثاني من القرن العشرين سيشهد تناميًا بل امتدادًا لهذا اللفظ: ما كان انقلابًا في 23 يوليو-تموز في سنة 1952 في مصر، سيتحول بتلقائية مرغوبة إلى "ثورة". وهكذا في انقلابات سورية والعراق بلوغًا إلى "ثورة الفاتح من سبتمبر" مع معمر القذافي في ليبيا، في العام 1969. وهو ما امتدَّ في الخطاب عن الشعر الحديث، في الحديث عن "ثورة الشعر العربي الحديث"، وعن "كسرٌ للعروض". وهو ما يصحُّ قبل ذلك في الكلام عن "ثورة الأدب"، و"ثورة النثر" وغيرها.
يبقى السؤال: كيف انتقلَ اللفظ من معنى سلبي إلى معنى إيجابي، بل مشتهى؟ وهل يعني التعويل المستجد عليه تأكيدًا على وقائع سياسية باتت ممكنة في التاريخ العربي المتأخر؟ أم يعني التعويلُ عليه تعويضًا رمزيًا عما يمكن للغة أن توفره في الوقت الذي يتمُّ فيه استعصاؤه في السياسة؟
"الحَراك" المكروه
لنتوقف عند لفظ "الحَراك"، وقد جرى إطلاقه سابقًا على ما جرت تسميته في العام 2010-2011 بـ"الربيع العربي": يعني خروجًا على الوضع السياسي القائم، من دون تحديد الوسائل المستعمَلة فيه (وهي سلمية في الغالب، ومكتفية بالتظاهرات)، ولا مآل الحركة الجارية، إذ قد يتوصل الحَراك إلى إحداث تغييرات، أو قد يتوقف أو قد يعاود الانطلاق والتحرك من جديد. هذا اللفظ مكروهٌ، مستبعَد في الأيام اللبنانية الحالية. بات أشبه بالشتيمة، وقد يعني الانتقاصَ أو التخفيف من عمق ما يجري. هذا في لبنان، فيما تتمسك احتجاجات الجزائر، المستمرة منذ شهور وشهور، بتسمية "الحَراك" للجاري فيها من منازلة سياسية. وهو ما يصحُّ في تثمين تسمية "الحراك" في بلاد عربية أخرى.
"الحَراك" لا يناسب الاحتجاجات اللبنانية الجارية، إذ لم ينقطع امتدادُها السياسي الجامع منذ 17 تشرين الأول الماضي، عدا أن الأعمال التي وسمت هذه الاحتجاجات أتت متعددة، متنوعة، مختلفة، ما يشمل مواجهات عديدة، وإن غلب عليها الطابع السلمي (على الرغم من بعض المظاهر العنيفة الخفيفة). هي أكثر من حَراك، إذ تشير إلى أهداف وتطلعات تطاول، في بعضها، اشتغال السلطة القائمة.
بين "الانتفاضة" و"العامية" و"القومة"
أما "الانتفاضة" فتبدو أكثر إقلاقًا من "الحَراك"، وأقل من "الثورة". وقد يكون تسمية الاحتجاجات الفلسطينية في السنوات الأخيرة خيرَ تعبير عن حمولات لفظ "الانتفاضة"، إذ تتوقف ثم تندلع، وتحملُ أسماء لكل واحدة منها ("انتفاضة الحجارة"، "انتفاضة الأقصى" وغيرها)، أو تحتمل العدد في تواقيتها المتقطعة (الانتفاضة الأولى أو الثانية وغيرها).
كما أطلق بعض الكتاب تسمية "عامية" و"قومة" (عملًا بلفظ معروف في القرن التاسع عشر)، على الرغم من أن ما جرى في الشهرين المنصرمين لم يتعين في بلدة بعينها (مثل انطلياس، أو لحفد وغيرها في القرن التاسع عشر)، بل كان موصولًا وممتدًا بين أكثر من منطقة، ما شملَ محافظات لبنان كلها، عدا أنها كانت متكافلة ومتضامنة فيما بينها. يُضاف إلى هذا، أن المواجهات الحالية لا تقوم تبعًا لعلاقة طبقية ذات ملمح طائفي (كما في "القومات")، وإنما وفق صراع بين فئات اجتماعية ومذهبية متعددة، على أنه صراع سياسي ووطني.
لا أجد أن تسمية "قومة" أو "عامية" مناسبة للوصف، إذ إن ما يجري أشملُ وأوسعُ وأكثرُ امتدادًا مما عرفناه في "عاميات" أو "قومات" محلية. ما يجري أوسعُ تمثيلًا للبنانيين لجهة المناطق والانتماءات، عدا أن العاميات أو القومات اللبنانية في القرن التاسع عشر جمعت بين قوى الأمير بشير الشهابي وبعض الإقطاعيين، من جهة، وبين فلاحين شقُّوا عصا الطاعة عليهم، حاملين السلاح، من جهة ثانية.
ما يجري يختلف تمامًا عن كل ما سبق في القرن التاسع عشر وفي "دولة لبنان الكبير"؛ بل يقع أبعد وأشمل وأعمق من "ثورة الأرز" في العام 2005، فلا نجد شبيهًا أبدًا لما يجري في سابق التاريخ اللبناني.
في ما يجري ما يربك، خاصة وأن الاحتجاجات المستمرة لم تؤدِ إلى حاصل، ولم تكتمل دورتها، بحيث يستطيع الدارس إطلاق صفة عليها. فحاصل العمل السياسي، أيًا كان مبعثه أو مؤداه، يقاس بما يصل إليه. فالثورة الفرنسية أو الثورة البلشفية أو "ثورة الملالي" في إيران انتهت إلى أن تكون "ثورة" بعد أن تأكدت قوة التحول الذي حملته معه، وأدت إلى تغيير بنية النظام السياسي، على الأقل.
لهذا أجد صعوبة في تسميتها: عامية، أو حراكًا، أو انتفاضة، أو ثورة. فما تكون؟ ماذا عما يقع خلف الألفاظ، وفي الوقائع الجارية نفسها؟
ما يقع أبعد من الكلمات
لو طلبَ الدارسُ فحصَ ما يجري في الوقائع، فضلًا عن الأهداف المعلنة، لوجدَ أن ما يجري ينطلق من أزمة مالية واقتصادية حادة، على أنها أزمة الطاقم السياسي الحاكم منذ "اتفاق الطائف". وهي بالتالي أزمة تتعدى إسقاط الحكومة الأخيرة، أو غيرها. هذا ما عنى، في أهداف المحتجين، حكومةً بعينها (حكومة "الاختصاصيين")، وخارج التبديل الحكومي المعتاد. هذا ما لم تنجح فيه الاحتجاجات بعدُ، ووضعتْه في ثاني أهدافها. لكنها نجحت، أقلَّه، في فرض هدفها المعلن موضوعًا للنزال السياسي الدائر: باتت قوة الاحتجاج فريقًا شريكًا بمعنى ما في صيغة الحكومة القادمة. وهو ما لم يحصل في السابق...
قد يجد البعض في "سلمية" الاحتجاجات نقطةَ ضعفٍ في قدرتها على النزال، وعلى قلب الأوضاع. وهو أمرٌ سليم، إذ إنها قد تكون ثورة مخففة، لو طلبنا تشبيهها بغيرها: حتى البذاءات القليلة التي صدرت عن بعض ناشطيها، أو بعض الشتائم لحسن نصر الله أو نبيه بري أو ميشال عون باتت خارج التداول... من دون أن يعني غيابَها الناجز في قادم الأيام والشهور: "ثورة لطيفة، خفيفة"، من دون قبضات حديدية، أو ألسنة نارية، أو هجوم واحتلالات... ثورة من دون نقطة دم واحدة في صراع مكشوف!
مع ذلك، سلميةُ الاحتجاجات هي نقطة قوتها، إذ إنها تُبقي وتحافظ على قابلية الاحتشاد الاحتجاجي قائمة، وممكنة في أي لحظة، ولا توفر لمن يواجهها، أو قد يواجهها، نقاطًا مناسبة لهجوم عنفي مضاد. بل بدا إسقاطُ السلمية عن الاحتجاجات، أو استدراجُ قواها إلى منازلات عنفية، هدفًا مرغوبًا، لا سيما من الفرق الأمنية للثنائي حزب الله-أمل.
هكذا تبدو قوى الشارع هشة، ضعيفة، غير منظمة، لا تُظهر ولا تؤكد بروز "قيادات" فيها. ذلك أنه لم يكن بالممكن ظهور تيار سياسي جماهيري، أو فئوي، معارض فعلًا لما هو الطاقم الحاكم. وهذا يحتاج إلى استعادة – ولو سريعة – لما قبل 17 تشرين الأول الأخير.
ما عشناه، عند تكفل القيادة السورية (من تلقاء نفسها) بإدارة "اتفاق الطائف"، أنهى أي معارضة ممكنة للنظام، أو السلطة، أو الحكومة. هذا ما أدارتْه القيادة السورية في توازنات الحكم، في تشكيلة أي حكومة. وهو ما أكملتْه في نفي البعض، أو في سجن البعض الآخر، أو في إسكات البعض الآخر، بينما كانت "تُجيز" لأصوات معارضة، أو لنواب، الاعتراضَ تحت قبة البرلمان، تحت نظرها، إذا أمكن القول.
هذا ما وضع النظام اللبناني تدريجًا في صيغة من صيغ "الديكتاتورية المخفَّفة"، لو جاز القول، أو بالحري غلى نوع من "حجز السياسة" و"احتباسها"، ما لم يعرف تاريخ دولة لبنان الكبير، قبل العام 1975. فقد عايش البرلمان، مثل الشارع السياسي، قبل ذلك، تشكلات، و"جبهات"، وصراعات، في تكتلات نيابية، أو بين نواب وتيارات وأحزاب سياسية معارضة، متعددة المشارب الطائفية والمناطقية...
هذا ما جعل الصراع – وإن المحدود – ممكنًا ضمن النظام السابق، ما لا يستطيع أحد إنكاره. إدارة القيادة السورية، بأذرعها وألسنتها وامتداداتها المحلية، أطبقتْ على الفسحات الممكنة في النظام السابق، وأفرغتْ المؤسسات من بعض حيوية معروفة فيها، وجعلتْ الشأن السياسي يدور في غرف مغلقة، في قبضة أعداد محدودة من أهل القوة والمال.
هذه "الديكتاتورية المخففة" أتتْ برئيسَي جمهورية من قيادة الجيش، في عهد القوات السورية، ثم بقائد آخر رئيسًا للجمهورية، وإن هو صاحب تمثيل شعبي ونيابي، بخلاف سابقّيه. قيادةُ "حزب الله" تسعى إلى التكفل بهذا الوضع، بعد القيادة السورية، ولكن بشكل أكثر خفاء، متلطيةً خلف "المقاومة"، وممسكة بأوراق "التفاهمات" وبنود "التسويات". هذا ما ظهر بقوة فاضحة في الشهرَين الأخيرَين، حيث بدا "حزب الله" أشبه بالحارس لما بقيَ من الحكم السابق، المستمر. فتفاهمُ الشياح-مار مخايل، مثل "التسوية" الرئاسية، أعادا تنشيط هذه الديكتاتورية، وإن بإمكانات أقل في السياسة، متمسكةً بأكثرية برلمانية باتت أشبه بالأكثرية الحسابية، لا السياسية، ولا النافذة في الموازين السياسية. هذا ما جعل، وما سيجعل، من سلاح "حزب الله" علامة القوة الأكيدة، والضامنة لحجز السياسة هذا.
لهذا أرى أن ما ظهر في 17 تشرين الأول المنصرم، وما يتأكد يومًا تلو يوم، هو ظهور ثقب، بل فجوة كبيرة في احتباس السياسة هذا. بات "حزب الله"، ومعه الرديف في حركة "أمل"، مكشوفَ القوة العارية، عدا أن خطابه – خطاب التخوين والمقاومة - لا يفعل فعله أمام الفقر المدقع، بما فيه "بيئتُه الحاضنة".
هذا ما جعلَ السياسة مستعصية بمعنى ما في السنوات الثلاثين الأخيرة. وكانت تجتمع، في امتداد السنوات المنصرمة، في مسارب جوفية، مياهُ ومياهُ الاحتجاج العميقة. هذا ما جعل تدبيرًا وزاريًّا بسيطًا (الضريبة على "الواتس أب") عاملًا تفجيريًّا كبيرًا؛ إذ إنه كان النقطة الزائدة التي جعلت منسوب الغضب ينفجر، ولا يتوقف.
وحصول الانفجار الكبير دلالة دامغة ليس على تحكم الطاقم "الاستئثاري" بالسياسة، وإنما أيضًا على غياب أي معارضة، بل على صعوبة السياسة والسياسات بين الجمهور الذي اعتاد في السياسة القائمة على الولاء للهوية المذهبية، وعلى المنفعة الفردية...
لهذا أرى أن ما يجري أقوى من أن يتوكل بتعيينه وتفسيره أي من الألفاظ التي نستعيدها هنا وهناك، من "ثورة" و"انتفاضة" وغيرها. ما يجري أبسط من هذه الألفاظ الرنانة، إلا أنه أعمق أيضًا مما عرفه تاريخ هذا البلد الصعب والدامي. ما يجري لم يوقِع اللبنانيين في فتن وحروب أهلية وإضرابات مطلبية مأزومة. ما يجري أمسكَ واقعًا بالتأزم اللبناني حيث هو، حيث يدور ويُدار. أمسكَ به بحيث تقوى الاحتجاجات على مواجهة البناء السياسي القائم (بما فيه من أعراف وسلوكات وبنود دستورية وغيرها) مواجهة صريحة، مباشرة، لدرجة أن المعارضات الداخلية (كما مع "حزب الكتائب" أو "القوات اللبنانية") بدت منكفئة أو متراجعة أمام هذا المد الاحتجاجي العالي والمترامي.
ماذا بعد؟
هناك ما تقوله الألفاظ، ما تعنيه، ما تشير إليه، ما تتعثر فيه، أو تُصوِّبُه. إلا أن هناك حقيقةً رازحة للكلمات، أقوى من عملية التسمية أو التعيين، وهي حقيقة ما تعنيه إذ تفضي إلى أفعال، إلى حركات. هذا ما يمكن تلخيصه بجملة بسيطة: ما حقيقة ما تفعله الكلمات في الشارع؟ ما ترمي إليه أفعالُ الاحتشاد، والتظاهر، وقطع الطرقات؟ إلى ماذا ترمي أو تبغي أن تفضي في النزال الدائر بين قوى الشارع وقوة السلطة؟
المدهش في القوى الحكومية أنها تُقرُّ بأحقية المطالب، من دون أن تتحمل مسؤوليتها في ما جرى، ولا أن تستخلص منها نتيجة سياسية، أي رسوبَها المريع في الإدارة السياسية، حتى بعد سنة من إعادة تكليفها النيابي.
ما تطلبه قوى الشارع يرمي، في اختصار، إلى إصلاح الإدارة السياسية، من دون المس بالنظام – المؤجل في حساب بعضهم. هذا ما يجعل الاحتجاج اللبناني ديمقراطيًّا، يلتقي فيه اليساري بالليبرالي، من دون حرج. بل يمكن القول إن السمة المدنية، السلمية، تجعل الاحتجاج يستلهم ثقافة ليبرالية في الغالب. هذا ما ظهر - أشد ما ظهرَ - في فعالية خبراء وأساتذة وطلاب متحدرين من جامعات خاصة.
للاحتجاجات أهداف ثلاثة معلنة:
استقالة الحكومة؛
حكومة من الاختصاصيين؛
وانتخابات نيابية مبكرة.
هذه الأهداف تبدو، في مجتمع آخر، أشبه ببرنامج حزب الوسط، إلا أنها ترمي في لبنان إلى ما هو أبعد من قيام ثورة، إلى ما هو أشبه بسقوط نظام، إلى تفكيك حلفٍ عميق حكمَ السنوات الثلاثين الأخيرة: عقدت الطبقة السياسية سابقا مع الإدارة السورية للبنان تسوية نافعة للطرفَين، وبمقادير: تدير الإدارة السورية السياسات السيادية للدولة، فيما تتصرف الطبقة السياسية بالوزارات "الانتفاعية". كما باتت تدرك هذه الأخيرة أن فيها، أن لها، أن تنتفع من دون حسيب أو رقيب، خصوصًا وأنها عطلت سلطات الرقابة وطوَّعتها في هذه المقايضة: لا يكفي القول إن لدينا قضاة نزيهين، بل يتوجب القول إننا نحتاج إلى نظام قضائي نزيه ومستقل.
هذه المقايضة، هي عينها، التي سعى حزب الله إلى العمل بها بعد انتهاء التحكم السياسي السوري بالدولة وسياساتها العليا وتوازناتها. يسعى إليها الحزب ذو الولاء الإيراني مع فارق أساس، وهو أن عليه أن يمددَ نفوذه إلى غيره، غير آبه بالفساد المستشري: حزب الله يرصد أخفى العملاء، لكنه لا يكشف عن دولار واحد في الفساد!
هذه السنوات الثلاثين الأخيرة أبقت حبة الجوز فوق غصنها، فيما كان السوس يضربُها وينخرُها...
هكذا أرى أنه يمكن الحديث عن نشأة معارضة في لبنان، ما لم يكن ممكنًا في السابق، ولا مسموحًا به. أمامك خياران في هذه المقايضة: أن تكون شريكًا أو عميلًا خائنًا بالطبع.
إلا أنها، اليوم، معارضة من دون قيادة، من دون ألسنة مأذونة لها، من دون أن تتقدم بمحاورين، او بممثلين لها، أو بوزراء محتملين لها... لهذه المعارضة قوة أكيدة: هل تبلغ قوة الفيتو، قوة النقض؟ لها قوة أكيدة، إلا أنها لم تتأهب بعد لاستلام السلطة، على الرغم من الحديث عن "الثورة". لها قوة عمومية حاشدة لكنها لم تُعلن بعد حتى عن رغبتها في أن تحكم، في أن تُشكل حلفًا لقواها، لا "إطلالات تلفزيونية" لا يلبث المحتجون أن ينكروها بأنفسهم.
لهذا لا يُخفي أكثر من ناشط: الدرب لا تزال طويلة أمامنا... فعلًا. الدرب طويلة، لكي تكون هناك سياسة، لكي تكون هناك أحزاب، لكي تكون هناك برامج حكم، لكي تتشكل قوى عابرة للطوائف والمناطق...
ألي أن أرتجي، في الختام؟ طبعًا، بوصفي مواطنًا عاد إلى لبنان مختارًا من نفيه الطوعي والقسري في آن. لستُ أكيدًا مما سيؤول إليه النزال الجاري، إلا أن ما جرى حتى اليوم مدهشٌ في حصوله المباغت، في تصميمه الراسخ، في تشابكاته التي تجمع أطرافًا كانت مشتتة، متنابذة، ومعتكرة في مربعاتها السياسية-المذهبية السابقة.
هي صحوةٌ، يقظةٌ مرعبة في ما تتحقق منه، مثل من يتمسك بخشبة في لجج الانهيار المحتم.
الليرة تنزل وتعلو في قيمتها الشرائية. الحسابات والودائع والديون تتزايد أو تنخفض... إلا أن الأكيد أن منسوب السياسة بات يتعاظم، ولم يعد اللبناني لاهيًا عن السياسة وعن مترتباتها. فناهبو مالية الدولة ما كان لهم أن يستمروا في سرقاتهم المتعاظمة: لولا سكوت اللبنانيين؛ ولولا مشاركة صغراء كَسَبةِ الانتفاع فيها؛ ولولا إحجام لبنانيين ولبنانيين عن متابعة السياسة، مختارين أن يكونوا "رعايا" في عهدة هذا أو ذاك بدل أن يكونوا "مواطنين" متكفلين بسياسات بلدهم.
السياسة تتوطن حيث لها أن تكون. ولها أن تنتج نخبًا وقيادات في هذه الأزمة المفتوحة. لها أن تبني معارضة على الأقل، أن ترسم آفاقًا باتت تشرق في كلام اللبنانيين وفي إصرارهم عليها. لها أن تنجز انتقالة من المطالبة الاحتجاجية – الحالية -، إلى تكوين كيان سياسي متعدد ومتنوع، إلى تكوين معارضة على الأقل، إلى صياغة سياسة عامة وسياسات قطاعية تجعل من تضحيات اللبنانيين رافعةً لآمالهم المشرعة.
الكلفة المالية أكيدة، باهظة... ليكن المردود الوطني مجزيّا، وليكن الخروج من المأزق الشديد إشراقةَ مستقبل واعد: هذا بين يديكم، وبتصرفكم.