مداخلة دكتور عصام خليفة في ندوة
"الإستقلال وتحدّيات حروب المنطقة"
الحركة الثقافيّة - أنطلياس – 2023/11/17
منذ نشأة الحركة الثقافيّة، عام 1978، كان هناك حرص سنوي على أهميّة الاحتفال بذكرى الإستقلال. وقد احتفلت الحركة بمرور خمسين سنة على الإستقلال والجلاء، ومرور مئة سنة على إعلان قيام دولة لبنان الكبير. وقد أصدرنا الكتب والمنشورات في هذه المناسبات. ذلك أن جوهر ميثاق حركتنا يحتّم علينا الإلتزام باستقلال وسيادة ووحدة الدولة اللبنانيّة، وترسيخ هذا الإستقلال على قاعدة الإنماء المستدام والدفاع عن حقوق الإنسان اللبناني.
وفي هذا العام وجدت حركتنا أن الزلزال الذي انطلق من غزّة مع "طوفان الأقصى" سيكون له تداعياته ليس فقط على لبنان واستقلاله وإنّما أيضاً على كامل رقعة العالم العربي، وربّما العالم.
أيها الحفل الكريم،
مع اندلاع حرب غزّة تذكّرت، كباحث في تاريخ المشرق العربي، ما ورد عند بعض الباحثين والسياسيّين، عن أهميّة منطقتنا.
في 6 نيسان 1946 قال الرئيس ترومان:" في هذه المنطقة (الشرق الأدنى) موارد طبيعيّة هائلة، فضلاًعن أنّها منطقة تقع عبر أفضل الطرق البريّة والمواصلات الجويّة والمائيّة. فهي لذلك بقعة ذات أهميّة إقتصاديّة واستراتيجيّة عظيمة..........."
وفي العام 1916 كتب استراتيجي إلماني:" إن الحرب تأتي من الشرق، والحرب ستندلع بسبب الشرق، وتحسم في الشرق". والباحث في العلاقلات الدوليّة كارل براون أكّد أن في الشرق الاوسط كل شيْ مرتبط بشيء آخر. وتالياً فالشرق الأوسط هو من أكثر الأنظمة الدبلوماسيّة "تدويلاً". والحكمة الشعبيّة الدبلوماسيّة حول الشرق الأوسط تقول:" إن الأمور لم تكن أبداً جيّدة أو سيّئة كما تبدو ظواهرها". ونادراً ما امتلك لاعب سياسي بمفرده، سواء كان قوّة عظمى خارجيّة أو قوّة إقليميّة – القدرة على فرض إرادته أو حتّى تحريك توجّهات جديدية رئيسيّة.
ولمّا كان عنوان ندوتنا انعكاس حروب المنطقة (غزّة تحديداً) على استقلال الدولة اللبنانيّة، نجد من واجبنا أن نمهّد ببعض الملاحظات الأوليّة.
أولاً: حول مصطلح الدولة والدولة اللبنانيّة:
كل دولة، بحسب علماء القانون الدستوري، تتألّف من أرض وشعب وسلطة ومؤسسات دستوريّة. وجوهر الدولة السيادة ووحدة السلطة على إقليمها الجغرافي. بالنسبة للبنان، رغم أنّ لجغرافيّته الحدود الواضحة. إلّا أنّ لا سيادة للدولة على هذه الحدود. يدخل من يريد ويخرج من يريد، وتخرج سلع وتدخل سلع دون رقابة صارمة. وهكذا فبدل أن تجمع الجمارك اللبنانيّة مثلاً 900 مليون$ على السلع التي دخلت العام الماضي (وهي بقيمة 19 مليار$) فقد جمّعت فقط ما يوازي 150 مليون $ً.
ورغم أنّ أرنولد توينبي وصف شعب لبنان بأنّه متحف للمتحجّرات الدينيّة الناتجة عن تفاعل الحضارات السريانية والهلنستيّة والإسلاميّة، فقد أضيف إلى شعبنا ما يفوق عدده من النازحين السوريّين واللاجئين الفلسطينيّين، وهناك قوى دوليّة تسعى لدمجهم وتوطينهم. وعلى صعيد السلطة والمؤسّسات الدستوريّة: ثمّة إحجام منذ أكثر من سنة عن انتخاب رئيس للجمهوريّة، وليس هناك مجلس وزراء كامل الصلاحيّة بل هناك وزارة لعرقلة الأعمال. وهناك سلطة قضائيّة تنوء تحت ثقل التدخّلات السياسيّة، وعجزها في كشف المسؤولين عن جريمة مرفأ بيروت خير دليل. وإدارات الدولة ووزاراتها تنوء تحت وطأة الإنهيار والتفكّك. وقد لاحظ جبرائيل منسى، منذ العام 1948، "أنّ موظّفي الدولة زيدوا أكثر من الضعفين وذلك ليس بعقد تأمين حسن سير الدوائر العامة، ولكن إرواء لغليل رجال السياسة في إبراز نفوسهم وتوظيف من هم في حماهم، واكتساب أتباع لهم، في مختلف درجات الإدارة." (جبرائيل منسى، التصميم الإنشائي في الإقتصاد اللبناني وإصلاح الدولة، بيروت، 1948، ص403). وبعد مرور ثلاثة أرباع القرن من هذا التوصيف، هناك أعداد كبيرة وأضعاف مضاعفة من الموظّفين غير الأكفياء، وهناك كارثة ماليّة إقتصاديّة تتجسّد في سرقة أموال المودعين وانهيار النظام المصرفي وتصاعد الغلاء مئات الأضعاف والإنهيار الخطير لقوّة العملة الوطنيّة وإحجام المسؤولين اللامسؤولين عن وضع خطة للخروج من الكارثة. وكذلك هناك هجرة للكفاءات إلى الخارج، وتهديد فعلي للمؤسّسات الأمنيّة وبخاصة الجيش بسبب انهيار أجور أفراده، والصراع غير المبرر حول قيادته!!
والملفت أن دول العراق وسوريا ولبنان والأردن والمناطق الفلسطينيّة، وربّما غيرها، تتعرّض لتدخّلات وضغوط تيّارين كبيرين متصارعين في الظاهر، ولكنّهما يتلاقيان على تقوية المنظّمات ما قبل الدولتيّة على حساب الدول والأنظمة، كمقدّمة لعمليات الإضعاف والتشظّي. واحدة في إطار مخطط برنارد لويس (الذي أقرّه الكونغرس الأميركي عام 1983) حول إعادة تشكيل حدود دول ما بعد 1920 وتفتيتها على قاعدة الطوائف والأثنيّات والقبائل. وأخرى في إطار توسيع وهيمنة انترناسيوناليّة ولاية الفقيه التي تسعى للوصول إلى المتوسط.
وليس مستبعداً أن تكون روسيا قد سعت إلى تخفيف الضغط عن أوكرانيا وانطلاق صراع يبعد العالم الإسلامي عن أميركا والغرب ويخفّف تدخّلهما في أوكرانيا. في هذا السياق يمكن أن نفهم الزلزال الحاصل في غزّة.
ثانياً: "طوفان الأقصى" – خلفيات ونتائج:
منذ القرار 181 الذي قضى بتقسيم فلسطين بين دولتين عربيّة واسرائيليّة وصولاً إلى المبادرة العربيّة في مؤتمر القمّة ببيروت مروراً بمباحثات مدريد واتفاق أوسلو، كان الموقف الإسرائيلي الثابت الإستمرار في توسّع الإستيطان في الأراضي التي اتّفق أن تكون للدولة الفلسطينيّة (كانوا عند اتفاق أوسلو 130 ألف مستوطن فأصبحوا الآن فوق ال800ألف مستوطن).
لم تنسحب اسرائيل إلى حدود الرابع من حزيران 1967، كما أنّها ضمّت الجولان والقدس إلى الدولة العبريّة. واستمرّت في الحفر تحت المسجد الأقصى زاعمة أنّه بني على أنقاض هيكل سليمان، بينما علماء الآثار الإسرائيليّون والعالميّون لم يجدوا أي أثر لهذا الزعم. تمّ حصار غزّة وقامت حملات تأديبيّة ضد سكان الضفّة الغربيّة، كما يتعرّض عرب ما قبل 1948 إلى عمليّة تمييز (يمكن مراجعة كتابات المؤرخين الإسرائيليين الجدد، وروجيه غارودي، ونعوم شومسكي، وشلوموساند وغيرهم.........)
شكّل نتنياهو حكومة تطرّف من الاحزاب اليمينيّة رفعت شعارات تهجير الفلسطنييّن من غزّة ومن الضفّة وحتّى من عرب ما قبل 1948. كما كان واضحاً طرح تحويل اسرائيل إلى دولة يهوديّة صافية وتعزيز عمليّة الإستيطان وتوسيع طموحات التوسّع على الصعد كافة. وقد ساعد نتنياهو في عمليّة إضعاف السلطة الفلسطينيّة ومنظّمة التحرير من خلال تمرير المساعدات إلى حماس في غزّة. وهذه الحركة نصّت بعض المواد من ميثاقها التأسيسي (18 آب 1988) على أن الإسلام منهجها، منه تستمد أفكارها ومفاهيمها وتصوّراتها عن الكون والحياة والإنسان...." (المادة الأولى). وتنص المادة الثانية أنّ "حركة المقاومة الإسلاميّة جناح من أجنحة الأخوان المسلمين بفلسطين". والمادة الثالثة ذكرت: " تتكوّن البنية الأساسيّة لحركة المقاومة الإسلاميّة من مسلمين أعطوا ولاءهم لله ....." وفي المادة الخامسة: " الله غايتها والرسول قدوتها والقرآن دستورها" وتضيف المادة الثامنة إلى ذلك: " والجهاد سبيلها، والموت في سبيل الله اسمى أمانيها". وفي المادة الثلاثون: " في ظل الإسلام يمكن ان يتعايش اتباع الديانات الثلاث الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة في أمن وأمان...."
في عمليّة "طوفان الاقصى" سجّلت حماس زلزالاً هدد الكثير من المرتكزات التي قامت عليها الدولة العبريّة. من هنا كان الرد الإسرائيلي رهيباً وخارج كل القوانين الدوليّة للحروب.
فإذا عدنا، على سبيل المثال لا الحصر، إلى إتفاقيّة منع جريمة الإبادة الجماعيّة والمعاقبة عليها (9 ك1/ 1949) ولا سيّما المادة الثانية منها والتي تنص على ما يلي: " في هذه الإتفاقيّة تعني الإبادة الجماعيّة أيّاً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلّي أو الجزئي لجماعة قوميّة أو إثنيّة أو عنصريّة أو دينيّة، بصفتها هذه:
- قتل أعضاء من الجماعة.
- إلحاق أذى جسدي، أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
- إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشيّة يراد بها تدميرها المادي كلّياً أو جزئيّاً.
- فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
- نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
إنّ حرب غزّة ينطبق عليها أكثريّة هذه المواد.
- فهناك قتل جماعي ممنهج من خلال القصف الجوّي (فوق 13 ألف شهيد وعشرات آلاف الجرحى، بينهم ألوف النساء والاطفال والشيوخ).
- عندما يمنع دخول المياه, والغذاء، والفيول، والأدوات الطبيّة فهذا يعني التدمير المادي الكلّي أو الجزئي لسكّان غزّة.
- وعندما تدمّر أو تغلق المستشفيات التي تؤوي المسنين أو الأطفال، فهذا يعني تعريضهم للموت المحتم.
- وعندما تدمّر عشرات الآلوف من المنازل، ويجبر مئات الألوف من السكّان على ترك منازلهم ألا يعني ذلك اقتلاع شعب من وطنه؟
- والإتفاقات الدوليّة تمنع الهجوم على المستشفيات والكنائس والجوامع والمدارس والجامعات وغيرها، ومن الواضح أنّ اسرائيل لم تحترم تلك الإتفاقيّات.
السؤال الذي يفرض نفسه لماذا لم تبادر قمّة الدول العربيّة والإسلاميّة (57 دولة) إلى تكوين ملف موثّق وتقدّمه إلى الجهات الدوليّة ذات الصلة من أجل إدانة اسرائيل على تجاوزاتها للقوانين الدوليّة والإتفاقيّات الإنسانيّة؟!
ثالثاً: ما العمل في هذه المرحلة؟
إزاء احتمال تدحرج الأوضاع باتجاه إدخال لبنان في الحرب الدائرة نجد أن المطلوب من الشعب اللبناني – كما جاء في النداء الذي أطلقته جمعيّة الدفاع عن حدود لبنان البريّة والبحريّة بتاريخ 15/10/2023– أن يتضامن فوراً حول المصالح العليا للدولة اللبنانيّة ويتمسّك بالأسس التالية:
- عدم تحقيق أهداف العدو يجرّنا إلى الحرب، والتحصّن في عمليّة دفاعيّة عن حدود الدولة اللبنانيّة، في إطار الوحدة الوطنيّة من جهة وحماية القانون الدولي من جهة اخرى.
- تأمين كل المستلزمات الضروريّة لصمود شعبنا (اقتصاديّاً وصحيّاً وعسكريّاً.....) والتكيّف مع مؤشّرات تدل على أن الحرب الدائرة ستستمر إلى وقت غير قصير.
- التفاف كل القوى حول الجيش اللبناني، واعلان حال التعبئة العامة او الطوارىْ لمواجهة الأخطار الداهمة.
- دعوة كل وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء مع وسائل التواصل إلى وضع مصالح لبنان الدولة ، وأمن الشعب اللبناني، فوق كل اعتبار والتضامن مع عدالة القضيّة الفلسطينيّة، وكذلك التضامن مع الإجماع العربي.
- ضبط كل تحركات القوى غير اللبنانيّة والحيلولة دون توريط شعبنا في مواقف غير مسؤولة.
- التنسيق مع الإغتراب اللبناني على الصعد كافة دفاعاً عمن مصالحنا وحريّاتنا.
- إن كل المؤشّرات تدل على أن اسرائيل، مدعومة من قوى دوليّة كبرى، ستسعى، إذا قدرت، لفرض جغرافيا وديموغرافيا جديدة في شرق المتوسط, وسيطال ذلك لبنان من دون شك.
- قديماً قال أجدادنا: عند تغيير الدول احفظ رأسك وكرامتك وحقوقك.
- فماذا يمنع أن يجتمع مجلس النواب فوراً وينتخب رئيساً جديداً للجمهوريّة يحافظ مع حكومة اصلاحيّة جديدة على استقلال الدولة اللبنانيّة وسيادتها، ويحول دون تمرير التسويات على حساب لبنان. وينفّذ حلولاً تعيد للمودعين حقوقهم وتحل أزمة النازحين.
إن المشرق العربي، ومن ضمنه لبنان، على مفترق خطير، وهو الآن على مشرحة الخرائط الجديدة، والهندسة الإجراميّة لإعادة تموضع الشعوب.
فإمّا أن تحافظ على استقلال وسيادة ووحدة دولتنا اللبنانيّة، وبقاء شعبنا بكل مكوناته على أرضه التاريخيّة ، أي أرض الدولة اللبنانيّة ضمن حدودها المعترف بها دوليّاً، ونشارك من موقع مصالحنا وامكانياتنا،مع أشقائنا العرب، في مواجهة الأطماع والمخطّطات المختلفة، وفي هذا السياق نعود إلى اعتماد بيان بعبدا 2012، وهو الذي يشكّل رؤية استراتيجيّة وتنفيذيّة لإعادة بناء الدولة اللبنانيّة .
وإمّا أن نكون وقوداً في لعبة الأمم وأداة للقوى الإقليميّة والدوليّة الساعية لتأمين مصالحها على حساب مصالحنا وحقوقنا. وعند ذلك نخون أمانة الأجداد ونخون الوطن ونشارك في انهياره وفنائه.
إنها مسألة وعي للأخطار ولسبل الانتصار عليها. فهل نسقط أم ننجح في الإمتحان القاتل؟