لم يكن أحد يدري أن 13 آذار 2011 سيكون آخر احتفال جماهيري واسع اجتمع فيه لبنانيون من كل الأصقاع والاتجاهات لتأدية تحية وفاء وتقدير لغسّان تويني في قاعة مسرح الأخوين رحباني في دير مار الياس – انطلياس، ضمن إطار المهرجان اللبناني للكتاب الذي تنظمه "الحركة الثقافية" منذ ثلاثة عقود. تكريم طالبناه به دوماً بإلحاح، وأجَّلَه دوماً بإصرار إلى آتٍ طال انتظاره. كل ذلك على وقع صخبٍ وطنيّ مطَّرد كان هو الوازنَ الأبرزَ لمدى مخاطره، والوامضَ الأسطعَ بآمال تجاوزه. لقد كان لإيمانه العميق والعنيد بالانتصار الأكيد لقيم الحرية والاستقلال والديمقراطية، إيمانه المتشظِّي من قلمه المسنون ومواقفِه الرياديّة، سريان َالنار في الهشيم في وجدان مواطنيه، يفيقه فيهم كالمعلِّم السقراطي. تفاؤلٌ هو صنو شخصيّته، صاغه بجرأته المميَّزة، وبالمجازفة القدوة الصعبة، وبأثمان باهظة كان يعيها سلفاً، ولم تكن إلاّ لتعزِّز إِقدامَه وطلاَّته المنتظرة على منبر "النهار" التي جعلها من أرقى الصروح الإعلامية والمدنيّة في لبنان ودنيا العرب وعوالم الشرق. غسان تويني المتعدِّد على غنىً ثقافيٍّ حضاريٍّ هو واحدٌ في نموذجيّته الوطنيَّة النادرة، حيث الوطن صورةٌ مثلى للجماعة تصوغها لنفسها، وتجعلها أيقونةً لوجودها واستمرارها، وبوصلةً لأفعالها وإنجازاتها الكبرى. إلاّ أنها تبقى دوماً بحاجةٍ إلى "المعلّم" الذي كانه دوماً وبكل جاذبيَّته الأسطورية.
في ختام الزيارة التي قام بها وفد "الحركة الثقافية-انطلياس" إلى منزله في بيت مري لترتيب حفلة التكريم في انطلياس، كان غسّانٌ آخر، جالساً على كرسيٍّ نقّال، أنيقاً بهيّاً كعادته، ولكن صامتاً جامداً، مُنصتاً ربَّما طيلةَ ساعةٍ إلى محادثتنا مع زوجته السيّدة شادية اللبقة. إلاّ أن مشاعرَنا التي لا يمكَن أن تُنسى في ذلك اللقاء الأخير معه لن تنفصلَ عن ختامه: فعندما هممنا بالانصراف، وحاولنا أن نمسك بيده على سبيل السلامٍ الوداعي، أمسكَ يد أحد زملائنا وأبى أن يتركَها لفترة طويلة! عرفنا أنه كان معنا طيلةَ اللقاء أكثرَ ممَّا ظننَّا. قال ذلك الكثيرَ من غير كلام، وبمحبةٍ كبيرةٍ يختزنها، راغباً في إطالة حضورنا، متحدِّياً كما دأبه وهنَ الجسد وقدرته على الاحتمال.
في واحدةٍ من دلالاتها العديدة الثرَّة، يمكن قراءة سيرة غسّان تويني كرسالة أملٍ بوطنٍ تذكِّرُنا باستمرار أنّه يستلُّ من تميُّز تراثه وفرادة كينونته، في أزمنة القهر والخيبات على الخصوص، عزماً لمستقبلٍ أكثر إشراقاً، لا يأتي من غير إيمان وإبداع وصبر وتضحيات.
بذلك، غيابُه مفصلٌ ومؤشِّرٌ لخسارةٍ وطنيةٍ لا تعوَّض.
في 9/6/2012 الحركة الثقافية – انطلياس