انطلياس في 2015/4/17
رقم الصادر 18/37
بيان من الحركة الثقافية – انطلياس
حول غياب المسرحي ريمون جبارة
يتموضع ريمون جباره في المرحلة التأسيسية لحركة المسرح الحديث في لبنان على الرغم من أن بيروت شهدت أوّل عرض مسرحي باللغة العربية منتصف القرن التاسع عشر، عصر النهضة العربية الحديثة، وأن مصر كانت السباقة في التأليف والعروض المسرحية. إلاّ أن ستينات القرن العشرين، مع جيل الاستقلال اللبناني، تُعتبر بداية عصر المسرح الطليعي العربي الذي قدم له الواقع اللبناني، وهامش الحريات فيه النادر عربياً، شروطاً طيّبة للمغامرات الابداعية المتنوِّعة. التحق ريمون بمدارس المسرح المؤسَّسة حديثاً وقتذاك، وبدأ ممثلاً قبل أن يفجّر موهبته المتفرِّدة في التأليف والاخراج بدءًا من عمله "فلتمت ديسدمونة" (الشكسبيرية) التي مسرحَ مسرحتَها، وشفَعها بتلك السخرية المريرة بوعائه المحليّ الفاقع، التي غدت ميزته الفنية وبلغت ذروتها مع عمله اللبناني بامتياز: "تحت رعاية زكُّور" (1972) كتابةً مخصوصةً للمسرح وممثليه وإخراجاً لها حيث العبث الكاريكاتوري للواقع العام والشخصي يبدو وكأنه انقضاض بالضحك على البنى الموروثة في التقاليد ونمط الحياة، وتحدّ للسلطات الظاهرة والمخفيّة العليا والأقل علوًّا: لقد مسرحَ المسرح الذي هو الحياة كما يعيشها الوعي ويراها بمرآةٍ مقلوشةٍ جزئياً ومعوجَّةِ السطح ومغبَّرةٍ، توغلاً في تلك السوريالية الشائعة هناك في الشعر والفن.
لقد دمّرت حروب لبنان التواصل البشري الصاخب في بيروت. تهجَّر ريمون مع مسرحه، واستمر بإبداعه الذي الذي باشرَ بمحاكمة الحرب تحت مسميات مختلفة، يمكن قراءتها في ثنايا نصوص الاعمال، كما في عناوينها عندما نرهف في تأويلها: فزرادشت السوبرمان النيتشوي "صار كلباً"، أذلّته الحرب بمعيشته ونمط حياته وقدرته الجنسية، حطّمت عنفوانه عندما أدخلته الى الملجأ الوكر... لقد حمل خشبته من بيروت وتلازم بها مهاجرةً في أمكنة عدة. أنجز في ذلك الجو من الدمار والقتل، "مؤتمر المسرح اللبناني"، مؤتمر كل لبنان المسرحي، موحِّدًا به، تحدياً، كل لبنان الوطن.
انكسر ريمون في خضم تلك الحرب، وحملَ جسدَه المهزوم على مدى ربع قرن لحين غيابه. ولكنه أعطانا درساً في الإرادة الذاتية الطيِّبة التي يصعب فسخها عن لغته الساخرة الضاحكة الفريدة وشغفه الكبير بالابداع والتخطِّي.
جيل ريمون في المسرح كانوا عصبةً إبداعية متفرقةَ الرؤى متعددة النزوات الفنية، مفتوحة على رياح متنافرة، بنوا بهذا التنافر مسرحنا الحديث. وهم اليوم كهول لم يغادروا شغفهم، أحياءٌ جميعهم، باستثناء يعقوب الشدراوي وأسامة العارف، يُرزقون أو لا يُرزقون، شهود كلهم على ذلك الزمن الجميل حياةً وخشبةً
ريمون كان دوماً محل نزاع وموضوع نزاع، كما يكون الموضوع بالعادة وفي الآن ذاته فاعلاً ومفعولاً على حدٍ سواء. تلك ميزة وسمت حضوره إذ ظل يتمسك، في زعله وسخريته غير المنقطعة، بمحبةٍ مخبوءةٍ سليمةٍ لم تنحدر مرةً إلى الحقد الجارح، نال بها أولاً وقبل كل شيء أوسمةً كثيرةً في حياته، إلاّ أنّ غيابه يكشف لنا كم يصعب الحطّ من قدره الباقي أبدًا في ثقافتنا.
الحركة الثقافية – انطلياس