تكريم أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي
الدّكتور ابراهيم الحاج
قدّم المكرَّم: الدّكتور خليل نور الدّين
أدار اللقاء: الأستاذ جوزيف هيدموس
كرّمت "الحركة الثقافيّة- أنطلياس"علم الثقافة، عالم الرياضيات،الدكتور ابراهيم الحاج، مكرّمةً من خلاله رعيل الأكاديميّين الكبار الّذين بنوا نهضة الجامعة اللّبنانيّة، وبخاصّة كلّيّة العلوم، وفرضوا التّفوّق في ساحة المنافسة على صعيدَي لبنان والعالم.
رحّب الأستاذ جوزيف هيدموسبأصدقاء "الحركة الثقافيّة- أنطلياس" وبالمشاركين في حفل تكريم الدكتور ابراهيم الحاجالذي هو من أعلام الرياضيات،تابع علومه في المدارس الرسمية، ومن ثمَّ في الجامعة اللبنانية التي نجح فيها بتفوُّق جعله يحظى بمنحة دراسية لمتابعة علومه العالية، فسافر إلى فرنسا ليعود حائزًا شهادة دكتوراه في الرياضيات. وصفه الأستاذ هيدموس بـ "الدكتور المناضل" الذي استطاع بفضل ذكائه ومثابرته بلوغ أعلى المراتب، في فرنسا وفي لبنان أيام كانت الكفاءة العنصر الأساس في التصنيف الوظيفي والترقِّي. ونظرًا إلى أنّ العلم هو رأس المال الحقيقي والمستمر في الوطن، ذلك أنّ المعلّم الفاضل يربّي أجيالاً ترفع جبين الوطن عاليًا، و"تنقذه في أيام المحن وتقوده إلى الازدهار والعمران"، اختارت "الحركة الثقافية" تكريم الدّكتور الحاج الذي يقف في طليعة من عمل وضحّى في سبيل النهضة العلمية في لبنان.
وتُركت مهمة تقديم المحتفى به للدكتور خليل نور الدّين، الدكتور في الرياضيات هو أيضاً، وشكّل مع الدكتور ابراهيم الحاج ورفاق آخرين أعمدة كلية العلوم في الجامعة اللبنانية في عصرها الذهبي. استهلّ الدكتور نور الدّين كلمته موجّهًا تحية اعتبار وتقدير "للحركة الثقافية" لنشاطها المُميّز في نشر الثقافة وتثمين دورها في تنشيط الوعي في بلد يكاد نسيجه الاجتماعي أن يهترئ تحت وطأة الانقسامات والنزاعات بين مُكوّناته المُختلفة. ثمّ قدّم نبذة عن حياة الدكتور الحاج الذي يتحدّر من عائلة لبنانيّة من الطبقة الوسطى، وتلقى دروسه الابتدائية في مدرسة الغبيري الرسمية، ودروسه الثانوية في ثانوية البر والإحسان الرسمية، ودروسه الجامعية في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية حيث برزت موهبته وكفاءته في حقل الرياضيات البحتة، وتأثّر بالدكتور حسن مشرَّفيَّة علميًّا وأخلاقيًّا، وحصل على منحة من الجامعة لمُتابعة دراسته في فرنسا، فحاز شهادة الدراسات المُعمّقة في الجبر العالي ونال فيها علامة مُشرِّف جدًّا، مع التنويه والاعجاب من قبل الأساتذة العلماء الفرنسيين، ولاحقًا دكتوراه دولة في العلوم. وعلى الرّغم من فرص العمل التي انهالت عليه في فرنسا، أصرّ على العودة إلى لبنان، حاملاً أول دكتوراه دولة في العلوم ينالها واحد من خريجي كلية العلوم في الجامعة اللبنانية. وبدأ مهنة تدريس الرياضيات في هذه الكلّيّة، وترأس قسم الرياضيات فيها، ثمّ سافر مجدَّداً إلى فرنسا في العام 1987، بسبب الحرب الأهلية اللبنانية، فدرّس في عدّة جامعات قبل أن يعود إلى الوطن مجدّدًا ويوزّع وقته ما بين التّدريس وتأليف كتب لتعليم الرياضيات، والمشاركة في عدد من لجان "المركز التربوي" عندما عمل على إعادة النظر في مناهج تعليم هذه المادّة. وأشاد الدكتور نور الدين ببراعة المحتفى به كأستاذ هادئ وموضوعي وعقلاني وأخلاقي يستقطب "بسهولة فائقة انتباه طلابه بمعلومات ثابتة، مشفوعة بشرح واضح، حيّ ومُمتع"، إلى جانب كونه رجلاً علمانيّ الفكر والممارسة ومُتحرّراً من المُعوِّقات الطائفية والمذهبية.
وتُرك المنبر أخيراً للمحتفى به الدكتور ابراهيم الحاجالذي رحّب بالمشاركين في التّكريم، شاكرًا "الحركة الثقافية-أنطلياس" لمهمّتها النّبيلة في تكريم رعيلٍ بعد آخر من الرجال والنساء الذين أمضوا سنوات طويلة في خدمة المُجتمع اللبناني، كلّ في مجاله. وتحدّث عن مسيرته التي عرفت الكثير من التّجارب، وعمّا علّمته إيّاه الحياة، مركّزًا على بعض تجاربه الشخصية وعلى أمرين مُتلازمين طبعا مسيرة حياته، وهما: رفضه للدّوغماتيّة، وتمسّكه بالتّفكير النّقديّ، إذ يرفض الدكتور الحاج ما يُسمَّى الحقائق المطلقة التي لا تقبل التشكيك وترفض أيَّ نقد، ويرفض أن يحاول نظاملٌ عقائدي ما تطويع الواقع، سياسيًّا كان أو اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا، لينتظم وفق ما تقتضيه عقيدته، عِوضَ أن يُراجع العقيدة على ضوء ما يُبيّنه الواقع. من هنا حبُّه للعلوم التي تُعتبر بحكم طبيعتها غير دوغماتيّة، والأهمية التي يعطيها للفكر النقدي، مشدّدًا على ضرورة ألاّ يتوانى الإنسان عن التخلي عن أمور اعتُبرت لسنوات أنها الصواب بعينه. وختم الدّكتور الحاج كلمته مجدّدًا جزيل شكره "للحركة الثقافية-أنطلياس" بأعضائها الأفاضل.
وكانت شهادات بالمحتفى به من الدكتور ابراهيم الحلواني، والأستاذة لميا مبيّض البساط، والدكتور محمّد مهدي، والأستاذ يسار الحاج، نجل المحتفى به، والدكتور عصام خليفة.
وفي الختام قدّم أمين عام "الحركة"، الدكتور عصام خليفة، شعار الحركة إلى المحتفى به، ونسخةً عن "النصّ الأصليّ لعاميّة أنطلياس الشهيرة، عاميّة 1840.
كلمة الأستاذ جوزف هيدموس
في ادارة احتفال تكريم الدكتور ابراهيم الحاج
الاربعاء 13 آذار في المهرجان اللبناني للكتاب 2013
نجتمع اليوم أقرباء وأصدقاء، في الحركة الثقافية – انطلياس، لنكرّم علماً من أعلام الرياضيات، نشأ في بيئة متواضعة، تابع علومه في المدارس الرسمية وفي الجامعة اللبنانية، ثم التحق بالجامعات الفرنسية، ليعود الينا والى وطنه حاملاً شهادة دكتوراه دولة في الرياضيات. انه الدكتور المناضل ابراهيم الحاج زوج النقابية المناضلة السيدة ليلى الريس أمينة سر اول رابطة لأساتذة التعليم الثانوي الرسمي في السبعينات.
بذكائه وشطارته ومثابرته، استطاع الوصول الى اعلى المراتب رغم أنه بدأ دروسه منذ الصغر في المدرسة الرسمية أي "المعارف" كما كانت تُعرف يومها. وهنا يؤسفني القول والحسرة تغمرني، أن المدرسة الرسمية في الماضي في مرحلة التعليم الاساسي كانت أفضلَ منها اليوم لأسباب عديدة أهمها :
لا وجود لسياسة تربوية واضحة، تضع العلم والتربية في أولى اولوياتها.
انقلاب هرم القيم رأساً على عقب، وحلول الطائفية والمحسوبية مكان الكفاءة الشخصية في معظم التعيينات.
لا وجود لأي حساب او محاسبة.
لن استرسل في انتقاد السلطة والحكومات المتعاقبة، فهذا من اسهل الامور، لأنك كيفما ضربت تصيب وفي جميع الميادين. لكني لا أستطيع إلا أن أشير الى حدث بالغ الخطورة، تعدّى الخط الاحمر في الاستهتار والاستخفاف واللامسؤولية؛ وهو أنه في وقت أن المعلمين بأجمعهم في الشارع يصرخون، والتلامذة في بيوتهم يقبعون، وادارة القطاع العام شبه معطّلة، نتيجة سنة ونيف من الدرس والتمحيص والمماطلة والتسويف، لم يكلّف رئيس الحكومة نفسه، بعد سلسلة طويلة من الوعود العرقوبية التي أفقدت "الدولة" هيبتها ومصداقيتها، لم يكلّف نفسه الالتزام بموعد أقصى لتحويل سلسلة الرتب والرواتب الى المجلس النيابي. والانكى أن الحكومة مجتمعة برئاسة رئيس البلاد لم تجرؤ على تحديد هذا الموعد. فالنأي بالنفس نأي عن المسؤولية، نأي عن الشعب وقضاياه، وانصياع وتحالف مع الحكام الفعليين للبلاد، الذين كدّسوا الثروات من السرقة والنهب وتعميم الفساد على حساب حقوق الفقراء وتعبهم.
كل الدول الصناعية المتقدمة التي نهضت بعد الحرب العالمية الثانية، كرّمت معلميها ووضعتهم في المقام الاول مادياً ومعنوياً، لأنها أدركت أن العلم هو رأس المال الحقيقي وأن المعلم المكتفي ينشأ أجيالاً ترفع رأس الوطن، تنقذه أيام المحن وتقوده الى الازدهار والعمران.
هذا ما يدفعنا في الحركة الثقافية – انطلياس لتكريس يوم المعلم وطيلة أيام المهرجان لتكريم من عمل وضحى وسعى، ليبني مستقبلاً مضيئاً لهذا الوطن. والمحتفى به اليوم الدكتور ابراهيم الحاج في طليعتهم. فهو من شارك في تعديل برامج الرياضيات لجميع المراحل التعليمية وأسهم في تقدم وتطور كلية العلوم في الجامعة اللبنانية، وخرّج أجيالاً عديدة برزت وبرعت في كل الميادين ، فأثلجت صدر من نكرّم اليوم وكانت له وسام تقدير ووفاء.
لن ازيد أكثر فالمهمة كلّف نفسَه بها دكتور بارع وباحث في الرياضيات، صنع نفسَه بنفسِه، باجتهاده واصراره انتقل من مدرسٍ في التعليم الابتدائي حاملاً شهادة الفلسفة، الى دكتور دولة في الرياضيات، شكّل مع الدكتور ابراهيم ورفاق آخرين أعمدة كلية العلوم في عصرها الذهبي. إنه الدكتور خليل نور الدين.
كلمة الدكتور خليل نور الدين
في بداية هذه الكلمة، يُسعدني أن أوجّه تحية اعتبار وتقدير للحركة الثقافية في انطلياس لنشاطها المُميّز في نشر الثقافة وتثمين دورها في تنشيط الوعي في بلد يكاد نسيجه الاجتماعي أن يهترئ تحت وطأة الانقسامات والنزاعات بين مُكوّناته المُختلفة.
إن معرض الكتاب الذي تدأب الحركة على إقامته كل سنة، والذي تحرص على مواكبته بعدد من التكريمات المعنوية المشكورة للعاملين النشطين في مجالات التعليم والثقافة على اختلاف سبلها، بات يُعدّ من الأعمال التأسيسية المهمة في تكوين وتفعيل الوعي الوطني في زمن نحن أحوج ما نكون فيه لمثل هذه الأعمال البنّاءة، بينما يبدو لكل من يرى ويسمع أن منطقتنا بكاملها باتت ساحة لسقوط العقل وانفلات الغرائز ومن ثم الخوف من أن نكون قد وقعنا في بداية عصور انحطاط جديدة.
إن اجتماعنا اليوم لتكريم الدكتور ابراهيم الحاج، الأستاذ البارز في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية، هو خطوة كريمة من خطوات الحركة المُباركة.
تكريم الدكتور الحاج هو، في واحد من معانيه، عودة إلى النظر في ما كانت تُشكله كلية العلوم كعامل طُموحٍ وتنوير في بناء الوطن اللبناني والدولة اللبنانية على أسس سليمة وراسخة. إن كلية العلوم وأخواتها كليات الجامعة اللبنانية شكلت، من بداية نشأتها وحتى بدء الحروب اللبنانية المشؤومة، مُفاعلات نشطة لجمع الشباب اللبناني والعمل على توحيدهم في إطار المُواطنة الصحيحة والعيش المُشترك المُتعافي من عوامل الاختلاف والتباعد، والسائر بثبات نحو التقدم والازدهار.
إن الدكتور الحاج نموذج أمثل لما كان شبه مؤكد أن يصل إليه اللبنانيون لو أعطيت للجامعة اللبنانية الفرص كي تقوم بدورها لتحقيق أحلام وطموحات اللبنانيين.
نعم، إن الدكتور ابراهيم مصطفي الحاج هو نتاج وطني بامتياز :
بداية، إنه أصغر الأبناء الذكور في عائلة لبنانية من الطبقة الوسطى. عاش وترعرع في منطقة الغبيري في الضاحية الجنوبية. عائلته تشكلت، بالإضافة إلى الوالد والوالدة، من خمسة أبناء ذكور وثلاث بنات. تلقى دروسه الابتدائية في مدرسة الغبيري الرسمية، أما دروسه الثانوية فقد تابعها في ثانوية البر والإحسان الرسمية في منطقة الطريق الجديدة في بيروت. دروسه هذه، في مراحل التعليم ما قبل الجامعي، كانت، على ما يقول هو بنفسه، عادية لم تتميّز إلا بكون خطه سيئا لدرجة أن أستاذ اللغة الفرنسية كان يحتسب علاماته في واجباته الكتابية مناصفة : نصف على الخط ونصف على مادة الدرس، مُبتغيا بذلك حثّه على تحسين خطه.
إلا أن الأمور اختلفت كليا في مرحلة دراسته الجامعية التي بدأها في كلية العلوم في السنة 1959-1960 وأنهاها بالحصول على الإجازة التعليمية في الرياضيات في سنة 1963. في هذه المرحلة، برزت موهبته وكفاءته في حقل الرياضيات البحتة حيث حصل على المرتبة الأولى في كافة المقررات الدراسية. كما تميزت هذه المرحلة بالحضور القوي لشخصية الدكتور حسن مشرفية وتأثيره العميق في إعداد طلابه علميا ونفسيا وأخلاقيا، مما زرع في نفس ابراهيم وغيره من الطلاب الواعدين الروح العلمية والجد والمُثابرة في مُتابعة مسيرة الكلية والارتقاء بدورها العلمي والتعليمي إلى مرتبة حازت التنويه والتقدير في مُختلف الأوساط الأكاديمية في لبنان وفي الغرب الأوروبي والأمريكي.
مع انتهاء دراسته في كلية العلوم مُتفوّقاً، حصل ابراهيم الحاج على منحة من الجامعة كي يذهب إلى فرنسا لمُتابعة دراسته والحصول على شهادة الدكتوراه في الرياضيات. فحاز أولا على شهادة الدراسات المُعمّقة في الجبر العالي ونال فيها علامة مُشرّفة جدا، 19 على 20، مع التنويه والإعجاب من قبل الأساتذة الفرنسيين الذين لم يكونوا قد تعوّدوا بعد أن يأتي طالب من بلد غير أوروبي ويحصل على علامات مُميّزة يصعب على الكثرة من طلابهم الفرنسيين أن يحصلوا على مثلها.
في السنة التالية من دراسته في فرنسا، قدّم ابراهيم الحاج وناقش أطروحة دكتوراه حلقة ثالثة حول موضوع Demi-Modules، فحاز على لقب الدكتوراه هذه بدرجة مُشرّف جدا من جامعة Clermont-Ferrand.
بعد نيله هذه الشهادة، استدعاه رئيس قسم الرياضيات في هذه الجامعة الفرنسية وعرض عليه وظيفة مُعيد. إلا أن ابراهيم الحاج شكره على هذه الثقة واعتذر منه شارحا أن لكليته في بيروت عليه حقا. وهكذا عاد إلى لبنان ليُدرّس الرياضيات في كلية العلوم سنة واحدة اتفق خلالها أيضا على الزواج مع الآنسة ليلى الريّس. إلا أن مُعارضة أهل الآنسة الريّس لهذا الزواج دفعته لمُعاودة السفر إلى فرنسا ومُتابعة تحضيره لشهادة دكتوراه دولة مع البروفسور كراسنر والعمل معه كأستاذ مُساعد في كلية العلوم في باريس ابتداء من سنة 1966. في العام 1967، توجهت الآنسة ليلى الريّس إلى باريس لتحضير دكتوراه في الأدب الفرنسي. وهناك تزوّجا زواجا مدنيا وانطلقا معاً لتكوين أسرة مثالية تنعم بالتوافق والدفء الأسري منذ تكوينها حتى اليوم وطيلة عمرهما الذي نرجو أن يكون، بإذن الله، مديداً. وفي سنة 1969، أنهى ابراهيم هذه المرحلة بالحصول على دكتوراه دولة في الجبر الحديث وبدرجة مُشرّف جداً.
بعد ذلك، عاد الدكتور ابراهيم إلى لبنان حاملا في جُعبته أول دكتوراه دولة في العلوم ينالها واحد من خريجي كلية العلوم في الجامعة اللبنانية مُحققا بذلك خطوة كبيرة ومُهمة في عملية صعود كلية العلوم من كلية مُبتدئة إلى كلية معروفة يحوز خريجوها وأساتذتها على الاحترام والتقدير أينما وُجدوا في مُختلف كليات العلوم في أوروبا وأمريكا.
في لبنان، التحق الدكتور ابراهيم بكلية العلوم، فدرّس فيها الرياضيات من سنة 1969 حتى سنة 1987، كما درّس المادة نفسها في المركز الفرنسي للدراسات العليا في الرياضيات مدة سنة واحدة انتهت بدخوله إلى الملاك التعليمي في كلية العلوم بعد صدور قانون التفرغ وتطبيقه على مُختلف كليات الجامعة اللبنانية.
إن الحرب اللبنانية التي اندلعت ابتداء من سنة 1975 كانت في وجه من وجوهها حربا على الجامعة اللبنانية وعلى مُستقبل طلابها الذي كانت الجامعة تجتهد وتجهد كي يكون واعدا ومُعززا بالوحدة والتقدم. هذه الحرب اضطرت العديد من أساتذة الجامعة إلى النزوح والهجرة للعمل في بلدان أخرى. وكان الدكتور ابراهيم من بين الأساتذة الذين اضطرتهم الحرب للسفر إلى فرنسا حيث درّس الرياضيات في كلية العلوم في جامعة Reimsمدة سنتين بين سنتي 1987 وَ 1989، ثم درّس الرياضيات والمعلوماتية في كلية العلوم الاقتصادية في الجامعة نفسها من سنة 1989 إلى سنة 1999 وترأس مرتين اللجنة الفاحصة للبكالوريا الفرنسية في مُحافظة Haute Marne.
في سنة 1992، عاد إلى لبنان للتدريس من جديد في كلية العلوم واستمر في ذلك حتى سنة 2003 حيث أُحيل على التقاعد. وبين سنتي 1992 وَ 1999، رتّبت كلية العلوم وضعه التعليمي على وجه يُمكنه من قضاء جزء من السنة الدراسية في لبنان وقضاء الجزء الآخر في فرنسا.
كان الأستاذ ابراهيم الحاج في تدريسه في كل من لبنان وفرنسا استاذا بارعا، مميّزا يستقطب بسهولة فائقة انتباه طلابه بمعلومات ثابتة، مشفوعة بشرح واضح، حي ومُمتع. وعندما كانت تجري استطلاعات لرأي الطلاب في جودة تعليم أساتذتهم وحيوية العلاقة بينهم وبين الطلاب، كان الدكتور ابراهيم الحاج، وباستمرار، من بين الأساتذة الذين يحوزون على الدرجات القصوى من التقدير.
بالإضافة إلى نشاطه التعليمي، قام الدكتور ابراهيم الحاج بالأبحاث العلمية في مجال اختصاصه ونشر عددا منها في الدوريات العلمية المُختصة، كما ألّف عددا من الكتب الجامعية في مواد المقررات التي كان يقوم بتدريسها . ومن الجدير أن نذكر مجموعة محاضرات في نظرية Galoisكان قد صاغها وعلّمها لطلاب السنة الرابعة في قسم الرياضيات. أرسل الدكتور ابراهيم هذه المُحاضرات سنة 2000 إلى أحد مواقع الإنترنت التي تُعنى بالرياضيات، فنُشرت هذه المُحاضرات على هذا الموقع وما زالت منشورة حتى اليوم. وقد قام بتنزيل هذه المُحاضرات حتى اليوم 54240 شخصا للإطلاع عليها والاستفادة منها.
ومن مجال الجبر الحديث، وسّع الدكتور ابراهيم اهتماماته إلى مجال المعلوماتية الذي هو فرع من فروع الرياضيات التطبيقية، عرف في العقود الأخيرة من القرن العشرين تطورات كبيرة أثرت تأثيرات كبيرة في مُختلف النشاطات العلمية والاقتصادية في العالم الذي دخل في عصر ثورة فكرية علمية واقتصادية لم تبلغ مداها بعد. توسّع الدكتور في هذا المجال وأنتج عددا من الأنظمة المعلوماتية استُعملت في أعمال كلية العلوم من إدارة عامة إلى إجراء الامتحانات وتنظيم نتائجها، إلى إفادات الطلاب وتنظيم جداول الرواتب للأساتذة والموظفين في الكلية.
إلى جانب هذه النشاطات، لعب الدكتور ابراهيم دورا أساسيا في تحديث أنظمة وهيكليات التدريس في كلية العلوم. مرة عند تحويل التعليم فيها من نظام الشهادات إلى نظام المقررات الأكثر حداثة ومرونة ومرة أخرى في عملية نظام LMDللتدريس في مُختلف كليات الجامعة اللبنانية. وترأس لجنة هيكلية الـ LMDالتي شكلها رئيس الجامعة اللبنانية لتعديل هيكلية التعليم فيها.
تجدر الإشارة أيضا إلى أن نشاطات الدكتور ابراهيم تخطت الإطار الأكاديمي الجامعي إلى أطر تعليمية أخرى. فألّف عددا من الكتب لتعليم الرياضيات في مرحلة التعليم الثانوي في لبنان، واشتغل في مشروع لتحديث تعليم الرياضيات في إقليم كردستان في العراق. وشارك في عدد من لجان المركز التربوي عندما عمل على إعادة النظر في مناهج تعليم الرياضيات وترأس لجنة التعليم الثانوي في الإطار ذاته. بعد ذلك، عمل في إعداد الدورات التدريبية التي قام بها المركز التربوي من ضمن خطة المركز لتحديث تعليم الرياضيات في مراحل التعليم ما قبل الجامعي. وقام أيضا بإعداد الدورات التدريبية للمُدربين في إطار تحديث تعليم الرياضيات في إقليم كردستان وشارك فعليا في هذه الدورات.
على الصعيد الإداري في كلية العلوم، رأس الدكتور ابراهيم قسم الرياضيات في كلية العلوم من سنة 1970 حتى سنة 1976 ورأس القسم ذاته في كلية العلوم-الفرع الأول من سنة 1976 إلى سنة 1979 حين تسلّم إدارة هذا الفرع من سنة 1979 إلى سنة 1982. كما انتُخب مندوبا للأساتذة في مجلس إدارة الفرع من سنة 1982 حتى سنة 1987.
من المعروف أن العلم والسياسة تادرا ما يتجاوران في نفس بشرية واحدة، بمعنى أن رجل العلم لا يُحب السياسة إلا في ما ندر، والسياسي لا تكفيه مؤهلاته ليكون في الوقت نفسه رجل علم. وعلى الصعيد العملي، يُمكن للسياسي أن يُمارس عمله السياسي ويكذب باستمرار، بينما رجل العلم لا يُمكنه في ممارسة عمله العلمي أن يكذب ولو لمرة واحدة. أقول هذا الكلام لأشير أن الدكتور الحاج قام، منذ أن كان طالبا، بنشاطات ذات طبيعة سياسية : فانتسب باكرا إلى حزب البعث ثم إلى الحزب الشيوعي. كما شارك في العديد من الرابطات الطلابية في لبنان وفرنسا وترأس رابطة الطلاب اللبنانيين في فرنسا AGELFسنة 1966-1967، إلا أنه لم يخرج، في كل هذه الأنشطة، عن كونه رجل علم وبقي عمله العلمي والتعليمي هو الأهم في حياته وطيلة سنوات عمله في كلية العلوم.
في المُحصّلة، يُمكنني أن أخلص للقول أن الدكتور ابراهيم الحاج رجل هادئ، رضي، موضوعي، عقلاني، وأخلاقي في الصميم، علماني في الفكر والممارسة، وهو أولا وآخرا استاذ من أبرز الأساتذة الذين تخرجوا من كلية العلوم وعملوا جاهدين على إعلاء شأنها. تعليمه المُميّز أثّر بعمق في طلابه وبث فيهم الروح العلمية البناءة ودرّبهم على الالتزام بالموضوعية والأخلاق الرفيعة. وهو أيضا إداري ناجح، مُلتزم، مُجتهد ومُنظّم، أثّرت مسلكيته الوظيفية في جميع أساتذة الكلية وموظفيها. إنه في العمق نموذج مُميّز لما يُمكن أن تُقدمه كلية العلوم خصوصا والجامعة اللبنانية عموما من خدمات جليلة في تكوين مُواطنة لبنانية مُتنوّرة، مُبدعة، مُوحِّدة ومُتحررة من المُعيقات الطائفية والمذهبية.
إلا أنه، في الوقت نفسه الذي قدمت فيه الجامعة اللبنانبة مئات وربما آلاف الرجال والنساء المُعدين والمُؤهلين لبناء لبنان الحديث، بقيت السلطات اللبنانية، وعلى مدى عهودها من الاستقلال حتى اليوم، غير عابئة بأمور الجامعة وتتعامل معها كأنها جامعة لشعب غير شعبه. إلى متى ستبقى السياسة في لبنان غير واعية للحقيقة التأسيسية في أن لبنان الحديث، لبنان الموحد، لبنان الرائد والفاعل، لا المُنفعل، في مُحيطه والعالم، لن يقوم إلا على أكتاف خريجي الجامعة اللبنانية القوية، المُتألّقة والرفيعة المُستوى في مُختلف النشاطات العلمية والفكرية. إن تعزيز دور الجامعة الوطنية يقتضي رفع أيدي السياسيين الجهلة عن العبث بمسيرتها، كما يقتضي عدم إغراق كلياتها بأشباه الأساتذة الذين تنحصر كفاءتهم العلمية في القدرة على الانتفاع من المُداخلات السياسية السيئة في شؤون الجامعة.
إذا، من أجل الجامعة اللبنانية التي قدّمت للبنان ابراهيم الحاج وأمثاله يجدر بنا جميعا أن نُكرّم ابراهيم الحاج ورعيله بالعمل المُلح والدؤوب على إصلاح أوضاع الجامعة وتوفير كل المقومات اللازمة لإعادة انطلاقها في مسيرتها نحو لبنان الحديث الذي نأمل أن يكون غير هذا اللبنان البائس الذي تعمل أقوى شياطين الأرض على إفساده وتخريبه.
كلمة الدكتور ابراهيم الحاج
قال السهروردي : "إن التشبّه بالكرام صلاحُ". وأنا بدوري أتشبه بفيروز فأقول "يمَسّيكم بالخير".
أرحّب بجميع الزميلات والزملاء والصديقات والأصدقاء الذين شرّفوني بمُشاركتهم لي هذا التكريم الذي غمرتني به الحركة الثقافية في انطلياس كما أشكر لهم تحمّلهم مشقة الانتقال رغم صعوبات حركة السير.
وبعد،
درجت الجمهورية الفرنسية على عادة حميدة : فهي تُكرّم سنويا عددا من الأشخاص، فرنسيين وغير فرنسيين، في مُختلف مجالات الحياة الإنسانية من السياسة إلى الفكر والفلسفة والأدب والفن والعلم والطب والتعليم والاقتصاد، تقديرا لما قاموا به خلال نشاطاتِهِمُ المهنيةِ والاجتماعيةِ بما يخدم الإنسانية.
أما في لبنان، فقد أخذت الحركة الثقافية في انطلياس على عاتقها، مشكورة، هذه المهمة النبيلة. فهي تُكرّم سنويا، بمُناسبة معرض الكتاب الذي تُقيمه، رعيلا بعد آخر من الرجال والنساء الذين أمضوا سنوات طويلة في خدمة المُجتمع اللبناني، كل في مجال نشاطاته. كما تُكرّم في المُناسبة نفسِها، وهي تتزامن مع عيد المُعلم، عددا من الذين أمضوا سنوات نشاطهم في ميدان التعليم وكانوا مُمَيَّزين في ما أدوْه.
وكان من حسن حظي، أن الحركة اختارتني لأكون بين الرعيل الثامن والعشرين لمُكرّميها. فلها مني شكران : الشكر الأول لأنها أرست تقليدا نبيلا لاختيار المُكرمين استنادا إلى مسيرتهم المهنية والحياتية بعيدا عما هو سائد في هذا البلد من اعتبارات سياسية أو طائفية أو مناطقية أو توازنية. والشكر الثاني خاص، لأنها وقد اختارتني بين المُكرّمين، إنما تشهد لي شهادة اعتز بها وأفتخر.
كما أفتخر وأعتز بالشهادة التي قدّمها لي الصديق الصدوق الدكتور خليل نورالدين. لقد ذكّرتني كلمته بخبر من أخبار شاعر الخمرة أبي نواس.
مر أبو نواس بالقرب من كُتّاب فيه أستاذ يشرح لتلاميذه قصيدته "ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر"، فتوقّف قرب النافذة يستمع لشرح الأستاذ. قال المُعلم : "من فرط عشق أبي نواس للخمرة، أنه، عند احتسائه لها، يُريد لكل حاسة من حواسه أن تتلذذ بها. فحاسة الذوق تتلذذ بمذاق الخمرة وحاسة النظر تتلذذ بلونها الذهبي وحاسة الشمّ تتلذذ برائحتها الفوّاحة وحاسة اللمس تتلذذ بملمس الكأس الذي يحتويها. لم يبق من حواسه إلا السمع، فقال لنديمه : ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر، لكي تتلذذ حاسة السمع لديه بسماع اسم الخمرة". أطرق أبو نواس ثم قال : "والله يا صاح، لقد علّمتني من شعري ما لا أعلم" ثم مضى في سبيله.
وأنا بدوري أقول لخليل : والله يا صديقي، لقد أخبرتني عن نفسي ما لا أعلم.
أما بعد ، فقديما قيل : لكل مقام مقال. ما عساي أقول وأنا في هذا المقام ؟
تساءلت كثيرا حول هذا الأمر.
هل أتحدث عن التربية وأمورها وأنا الذي أمضى عمره في التعليم،
أم أتحدث في السياسة وأنا من أمضى فترة طويلة من حياته يٌناضل في صفوف الأحزاب،
أم أتحدث عن الموجة السلفية التي تجتاح العالم العربي وأنا المؤمن إيمانا عميقا بالعلمنة الكاملة التي تُعيد الدين إلى حقيقته تنظيما لعلاقة الإنسان بربه وتترك تنظيم شؤون الناس والمجتمع لأفراده،
أم أتحدث عن القناعات التي ترسّخت لديّ بفعل مسيرة حياة عرفت الكثير من التجارب، بعضها أصاب وبعضها أخطأ،
أم أتحدث عما علمتني إياه الحياة بحلوها ومرها، بصعودها وهبوطها، بنجاحاتها وإخفاقاتها ؟
علمتني الحياة الكثير الكثير، وطبعت هذه التعاليم شخصيتي وسلوكي الفرديِّ والاجتماعي كما طبعت ممارستي المهنية وحياتي العائلية.
سوف أتحدث في هذه الكلمة عن أمرين مُتلازمين طبعا مسيرة حياتي وشكّلا وجهين لعملة واحدة : الأول هو رفضي للدوغماتية Dogmatismeوالثاني هو التمسك بالتفكير النقدي.
يتميّز الإنسان بأنه قادر على تحديد سلوكه خلافا لما هو عليه الحيوان الذي يتصرف وفق منظومة يرثها عند ولادته. فالصوص الذي يخرج من البيضة يبدأ حرث الأرض مُستعملا قائمتيه بحثا عما يقتات به. بينما يكتسب الإنسان المعارف والمهارات التي تُمكنه من تحديد سلوكه. طبعا، يتمايز البشر في هذا الأمر. فمنهم من تراه يحسب لكل حركة يقوم بها حسابا يُجنّبه الكثير من الأخطاء والمطبات ومنهم من تراه يتصرف أحيانا بشكل غريزي. ولعل من أهم ما يتميّز به الإنسان هو قدرته على استخلاص الدروس من التجارب التي يمر بها فيُراجعُ بعض مُسلّماته ويُعيد النظر في بعض ما اعتبره حقيقة مُطلقة. غير أن بعض الأشخاص يرفضون حتى التساؤل عن السبب عندما تصطدم بعض مُسلّماته ومُعتقداته بالواقع فتولّد الفشل بعد الفشل.
يقول المثل الشعبي : "مين جرّب المجرّب، كان عقلو مخرّب". كم ينضح هذا المثل بالروح العلمية. فالعلوم، كما هو معروف، تستند إلى التجارب التي تُثبت أو تنفي صحة هذه النظرية أو تلك. إلا أن البعض، أفرادا أو جماعات، يُصر على تجريب المُجرّب.
تساءلت كثيرا كيف يتمسك الإنسان بما يعتقد أنها مبادئ لا يرقى إلى صحتها الشك، عندما يُثبت الواقع أنها لا تقود إلا إلى حائط مسدود. كيف يُصر على تطويع الواقع للعقيدة عندما تُثبت التجربة أن الواقع يتمرد عليها. كيف لا يستخلص الدروس فيعيد النظر في العقيدة ويُطوّعُها للواقع.
يُسمّي الفلاسفة هذا الموقف بالدوغماتية Dogmatisme. فالدوغماتية، هي صفة النظريات، الفلسفية أوالدينية أوالسياسية أوالاجتماعية أوالاقتصادية، التي تُقدّم ما تعتقد به على أنه حقائق مطلقة لا تقبل التشكيك وترفض أي نقد. الدوغماتية بالنسبة لي هي محاولة تطويع الواقع للعقيدة عوضَ تطويع العقيدة لما يُثبته الواقع وتؤكده التجربة.
إذا تأملنا في حياتنا الفردية أو المجتمعية، فإننا نجد الكثير من الدوغماتية. فاللبنانيون، مثلا، أسسوا نظامهم السياسي بعد الاستقلال على أساس طائفي وتوزعوا المراكز السياسية والإدارية والعسكرية استنادا إلى التوازن الطائفي الذي كان قائما يومها. فاتفقوا، بناء على نصيحة مصرية كما يُقال، على توزيع هذه المراكز بنسبة 5 إلى 6 استنادا إلى نسبة المُسلمين إلى المسيحيين في ذلك الوقت. فكان عدد النواب أحد مُضاعفات العدد 11 (55 ثم 44 ثم 77 ثم 99) واستمر ذلك حتى اتفاق الطائف. غير أن ما غاب عن تفكير الزعماء السياسيين الذين أسسوا النظام السياسي اللبناني على قاعدة التوازن الطائفي، هو أن هذا الأساس مُتحرّك بطبيعته مما يستدعي، وقد تم الرأي على اعتماده، الاتفاق على آلية لتعديل هذه النسبة من وقت إلى آخر للأخذ بعين الاعتبار التغيّرات التي تكون قد طرأت على هذا التوازن. لكنهم لم يتفقوا على هذه الآلية، بل إنهم لم يبحثوا هذا الأمر حتى، وكأنهم اعتبروا أن هذا التوازن ثابت لا يتغيّر. حتى أن قسما منهم ماهى بين وجود لبنان الوطن ولبنان النظام السياسي الذي تم الاتفاق عليه غداة الاستقلال. كان من شأن غياب هذه الآلية، إيصال الأمور إلى عنق الزجاجة في كل مرة استدعى تفاقم اختلال التوازن الطائفي تعديل هذا التوزيع. وفي كل مرة كان الأمر يبدو وكأنه تعدٍ من طائفة على حقوق طائفة أخرى مما يجعل كل طائفة تتصلّب في موقفها وصولا إلى الانفجار.
كان الانفجار الأول سنة 1958. طبعا لم يأخذ الصراع وجهه الحقيقي بل تلبّس وجوها أخرى. ولم يكن الانفجار داخليا فقط بل تأثر بما يجري في المحيط العربي. غير أن كل ذلك لا يُغيّر في جوهره العائد إلى اختلال التوازن الطائفي بفعل الديموغرافيا. انتهى انفجار 1958 تحت شعار "لا غالب ولا مغلوب" الذي أطلقه السياسي اللبناني صائب سلام. غير أن اللواء فؤاد شهاب، الذي انتُخب رئيسا للجمهورية، كان رجلا واقعيا فعمل على تعديل نسبة 5 إلى 6 بالنسبة إلى المراكز الإدارية فقط وأطلق شعار "6 وَ 6 مُكرر". وهكذا ترسخت عادة ألا يُعيّن موظف من طائفة إلا بموازاة تعيين موظف من الطائفة الأخرى معه.
إلا أن الخلل استمر على صعيد المراكز السياسية والعسكرية. وزاد الوجود الفلسطيني من حدة الشعور بهذا الخلل، فلم يطل الأمر وكان الانفجار الثاني سنة 1975. ترافق هذا الانفجار مع مُداخلات إقليمية ودولية جعلت الحرب تدوم سنوات. انتهت هذه الحرب باتفاق الطائف الذي نص على المُناصفة تحقيقا للمُساواة في المراكز السياسية والعسكرية وموظفي الفئة الأولى وجعل التوظيف في الفئات الإدارية الأخرى حرا من أي قيد سوى قيد الكفاءة مبدئيا.
لكن سؤالا مُهما غاب عن طابخي مُعادلة الطائف : قَـبِـل الجيل الحالي من المُسلمين، جيل اتفاق الطائف، بالمناصفة بغض النظر عن الأعداد، فما الذي يضمن أن تقبل الأجيال الطالعة بهذه المناصفة ؟ ويُعزز هذا التساؤل ما تشهده مرحلة ما بعد الطائف من تململ وغليان يطرح البعض فيها مسألة إعادة توزيع المراكز كلها على أساس المُثالثة بين المسيحيين والشيعة والسنة على اعتبار أن الشعب اللبناني يتألف من ثلاثة أثلاث مُتقاربة في العدد. والسؤال الأهم هو : من الذي يضمن أن يتم الانتقال من المُناصفة إلى المُثالثة، إن تم، من دون حرب أهلية جديدة ؟
تحدثت عن كل ذلك لأبيّن أن اللبنانيين لم يتعلموا من الانفجار الأول أن العلة تكمن في عدم التوافق بين البنى العليا على صعيد السياسة والإدارة والعسكر من جهة والبنية السفلى على صعيد التوازن الطائفي من جهة أخرى. قاموا ببعض التعديلات وأبقوا على سبب العلة رافضين بعناد استخلاص الدروس وأهمها التخلي عن إرساء النظام السياسي على قاعدة التوازن الطائفي المتحرك وبناء نظام جديد يرتكز إلى أساس ثابت هو المواطنة في دولة مدنية تنأى بالوطن والمواطن عن الطوائف فيما خص تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية وغيرها ؛ وتترك للمواطن أن يُنظّم علاقته بربه وفق ما يعتقد. إن إيغال اللبنانيين في تجاهل ما أثبته الواقع مثال عن الدوغماتية دفع الشعب اللبناني، وما يزال، أثمانا غالية نتيجة لها.
مثال آخر على الدوغماتية هو عندما يُحاول نظام عقائدي تطويع الواقع، سياسيا كان أو اقتصاديا أو اجتماعيا، لينتظم وفق ما تقتضيه عقيدته عِوضَ أن يُراجع العقيدة على ضوء ما يُبيّنه الواقع. يرتكب النظام، في هذه الحالة، خطأ قد تكون نتائجه مُدمرة لشعبه. هذا ما حدث للاتحاد السوفياتي. لقد أمضى القادة السوفيات عقودا يعملون على بناء الاشتراكية وفق ما رأوه، غير أن الواقع عاندهم. وبدلا من التوقف عند الأمر وتحليل الأمور لاستنتاج الأسباب، لم يجدوا تفسيرا لهذه المعاندة سوى رمي المسؤولية على المؤامرات الإمبريالية. وهكذا، انهار الاتحاد السوفياتي ولم تتحرّك الجماهير للدفاع عنه. وحدث أيضا مع نظام القذافي الذي لم يفهم كيف يثور الشعب عليه رافضا نظرياته التي أوردها في كتابه الأخضر، وكاد أن يحدث في الصين أيام الثورة الثقافية والكتاب الأحمر لو لم ينتبه بعض قادة هذا البلد إلى أن الاستمرار في هذا الطريق سوف يودي بالصين إلى الفوضى والخراب، فعملوا على تغيير الأمور ووفروا على أكبر شعب في العالم محنة سوداء.
ثال ثالث على الدوغماتية هو الدوغماتية الدينية. فقد رأينا مؤخرا وجها من وجوهها بمناسبة الحديث عن الزواج المدني. لقد جهد رجال الدين للبرهنة على أن الزواج المدني يضعف الأسرة ويُفكك العلاقات الاجتماعية. وكأني بهم لا ينظرون إلى المُجتمعات التي اعتمدت الزواج المدني. فالزواج المدني مُعتمد في الأكثرية الساحقة من الدول الأوروبية والأمريكية. وهو مُعتمد أيضا في بعض الدول الإسلامية ولعل أقربها إلينا دولتان : تركيا المحكومةُ من حزب إسلامي والجزائر التي لعب الإسلام دورا أساسيا في تحررها من فرنسا. فلينظر هؤلاء إلى هذه الدول. هل تفككت العلاقات الاجتماعية وضعفت الأسر في مجتمعاتها ؟
وجه آخر من الدوغماتية الدينية هو اعتبار أحكام الدين أحكاما مُطلقة تصلح لكل زمان ومكان. فهذه الدوغماتية ترفض بشكل قاطع موضِعية Contextualitéنزول الآيات القرآنية بالرغم من أن الطبعات القديمة للقرآن وتفسيره كانت تذكر، بالنسبة لكل سورة من سور القرآن، أنها "نزلت بمُناسبة ...". هذا التوجه في قراءة القرآن قراءة حرفية يُسيء إليه لأنه لا يسمح بتفسير التناقض الظاهر بين بعض الآيات التي نزلت بمُناسبات مُختلفة. وقد عارض عدد من المفكرين الإسلاميين هذا التوجه. وقد أعجبني في هذا المجال كتاب صدر في باريس في منشورات Grassetلمُفكرين اسلاميين مصريين هما عادل رفعت وبهجت النادي نشراه تحت اسم محمود حسين. عنوان هذا الكتاب هو "Penser le Coran" وفيه دعوة لقراءة القرآن قراءة تفكّرية وليس قراءة حرفية.
ما يُميّز العلوم أنها غير دوغماتية بطبيعتها. فكم من قانون علمي اعتمده العلماء في مرحلة من مراحل تطور الإنسان، تم التخلي عنه بعدما بيّنت اختبارات وأبحاث جديدة عدم صحته أو محدوديتها. وأبرز مثال في هذا المجال قوانين الميكانيكا التي وضعها العالم الشهير نيوتن. اعتُبرت هذه القوانين مُطلقة على مدى قرون حتى جاء أينشتاين بنظريته عن النسبية وبيّن أن قوانين نيوتن لا تصح في حالات السرعة الفائقة. إن المطلوب من العلوم الإنسانية، وهي الحاضنة لمُختلف النظريات الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أن تتشبه بعلوم الطبيعة وأن تعتمد التجربة والتحليل واستخلاص الدروس سبيلا لتطوير هذه النظريات.
الوجه الآخر لرفضي الدوغماتية، والذي علمتني إياه الحياة، يتعلق بضرورة حضور الفكر النقدي في طيات ذهن الإنسان بحيث لا يتردد في التخلي عن أمور اعتُبرت لسنوات أنها الصواب بعينه. لقد وجدت خلال ممارستي مهنة التعليم أن هناك أمورا لا بد من تغييرها حتى ولو بدا التغيير نوعا من الهرطقة.
أذكر أنه عندما انتقلنا بكلية العلوم في الجامعة اللبنانية إلى نظام المُقررات سنة 1971، كان بين مقررات السنة الأولى مقرر في الجبر الخطي Algèbre linéaireيدرسه طلاب الرياضيات والفيزياء والكيمياء. وكان تعليم هذا المقرر، وفق ما تمت صياغة منهجه، يتطلّب دراسة نظرية تمهيدية يُبنى عليها تعليم هذه المادة. ظهر لنا سريعا أن الدراسة النظرية التمهيدية صعبة بالنسبة لطلاب الكيمياء. لم أتردد في اقتراح مُقاربة جديدة لتعليم الجبر الخطي وتعهدت، عندما شعرت بتشكيك زملائي بهذه المُقاربة، أن أعلّم هذه المادة بنفسي وفق هذه المُقاربة. وهكذا كان، درّست هذا المُقرر وكانت النتيجة إيجابية مما دفعني إلى تأليف كتاب خاص بالمُقرر استعملته سنوات ثم استعمله غيري سنوات أخرى.
واجهت أمرا شبيها عندما كنت أستاذا في كلية العلوم الاقتصادية في جامعة Reimsفي فرنسا. طُلب إليّ تدريس مادة المعلوماتية في سنة الإجازة (السنة الثالثة). كان محتوى هذه المادة يقضي بتعليم الطلاب كيف يكتبون برامج معلوماتية باستعمال إحدى لغات البرمجة. درّست هذه المادة نظريا لأن عدد الساعات المُخصصة لها كان 25 ساعة تعليم نظري. كانت النتائج سيئة. في السنة التالية غيّرت لغة البرمجة لكن ذلك لم يُغيّر في النتيجة شيئا. ذهبت إلى عميد الكلية وقلت له إن تعليم البرمجة لطلاب الإجازة لن ينجح لسبب بسيط هو أنهم لا يهتمون لهذا الأمر واقترحت عليه تحويل تعليم المعلوماتية من تعليم نظري إلى تعليم عملي بحيث يتعلّم الطلاب في مُختبر المعلوماتية كيف يستعملون إحدى البرمجيات التي تُستعمل على نطاق واسع في الإدارة والإقتصاد والمُحاسبة. وافقني العميد، فوضعت مقترحي موضع التطبيق في السنة التالية وكانت النتائج جيدة.
تكرر الأمر معي عندما ترأست لجنة تعديل منهج الرياضيات للمرحلة الثانوية في أواسط التسعينات من القرن الماضي ضمن خطة النهوض التربوي. كان أساتذة الرياضيات في المرحلة الثانوية يعتبرون أن فهم التلميذ للنظريات الرياضية يفرض عليهم (أي الأساتذة) البرهنة على صحة كل شيء وأن قيامهم بذلك يُدرّب التلاميذ على التفكير المنطقي. كان هذا الاعتقاد بمُثابة المُسلمات في تلك الأيام. وعندما طرحت في بداية اجتماعات هذه اللجنة فكرة نزع القداسة عن هذه الفكرة ضجّت أكثرية أعضاء اللجنة بالرفض. لكن النقاش كان كفيلا بتوضيح الأمور، وجاءت كتب الرياضيات للمرحلة الثانوية خالية من البراهين المُعقدة ومُحتفظة بالبراهين التي تُساعد فعلا في تدريب التلميذ على التفكير المنطقي.
هذه الدروس التي علمتني إياها الحياة جعلت مني شخصا هادئا بالرغم من طبيعتي الثورية. فقد تعلمت أن البكاء على الأطلال لا يُجدي وأن العودة للأخطاء التي نرتكبها يجب أن يكون لاستخلاص الدروس والعبر لا للتحسر على ما فات. ولعل ما ساعدني في الوصول إلى هذا النوع من الحكمة هو العقود التي عشتها مع زوجتي. لقد كان الحب، الذي جمعنا أمام رئيس بلدية Gentillyفي ضواحي باريس في أحد أيام أيلول من سنة 1967 طلبا للزواج، خير حام لما تعرفه كل حياة زوجية من خلافات، كما شرح ذلك بكل روعة الشاعر والمُغني الفرنسي-البلجيكي Jacques Brelفي أغنيته الرائعة Les vieux amants. فلها كل شكري وامتناني على فعلته لكي أتقدم على طريق الحكمة.
أخيرا، لا يسعني إلا أن أعبّر عن عميق حبي لولديّ يسار وهند اللذان غمراني، وما زالا يغمراني، بمحبتهما وعطفهما، كما وهباني خمسة أحفاد هم درة حياتنا، أنا وزوجتي، بالرغم من أنني لم أحسن، كما Victor Hugo، L’art d’être grand pèreأو فن أن تكون جَدا.
لا يسعني، قبل أن أنهي كلمتي، إلا أن أكرر شكري العميق للحركة الثقافية في انطلياس بأعضائها الأفاضل وعلى رأسهم الصديق الدكتور عصام خليفة. كما أكرر شكري لجميع من تحمّل مشقة الطريق لمُشاركتنا، أنا وزوجتي وولدي وأحفادي، هذه الفرحة.