مناقشة كتاب فارس يواكيم
ظلال الأرز في وادي النيل: لبنانيون في مصر
أقامت "الحركة الثقافيّة- أنطلياس"ندوة لمناقشة كتاب: "ظلال الأرز في وادي النّيل: لبنانيّون في مصر" الصّادر عن دار "الفارابي، في بيروت" للصّحافيّ والمؤلّف اللبناني فارس يولكيم، الّذي يتناول سيرة عدد من الشخصيات اللبنانية التي عاشت في مصر، وأسهمت بشكل فاعل في الحياة الثقافية والإعلامية فيها، وبخاصّة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، شارك فيها الدّكتور فارس ساسين والأستاذ سليمان بختي، وأدارتها المحامية حياة هاشم.
رحّبت المحامية حياة هاشم بالمشاركين في النّدوة، ووصفت الأستاذ فارس يواكيم بأنّه ذاكرة الثقافة اللبنانية منذ سبعينات القرن المنصرم، إذ اشتهر في كتابة السيناريوهات السينمائية (لسبعة أفلام روائية)، والمسرحيّة (لمسرحيّات من بطولة شوشو) والتلفزيونية (لمسلسلات درامية كثيرة)، وشغل منصب رئيس القسم العربي في الإذاعة الألمانية، وانخرط في مجال الترجمة من الفرنسية والألمانية الى العربية، ونشر مخطوطة هامة عن تاريخ زحلة. ونوّهت الأستاذة هاشم بكتابه البالغ الأهمية "ظلال الأرز في وادي النيل" الذي يتناول شخصيات من أصل لبناني لعبت دوراً هاماً في مجال الصحافة والفكر والمسرح والسينما والأدب النسائي والفن الموسيقي.
وتُرك المنبر للدكتور فارس ساسين، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية، الذي أشاد بخفّة ظل صديقه الأستاذ فارس يواكيم وتجدّده الدّائم، وبصفاته الحميدة الأخرى مثل وفائه لمصر التي وُلد فيها وللبنان موطنه وفسحة إبداعه، وأمانته للدّقّة والحقيقة في البحث والتّنقيب، ومقدرته الأدبيّة على إضفاء تقاسيم وألوان وروح الفكاهة والنكتة على الشخصيات المدروسة. وشدّد الدّكتور ساسين على أنّ الكاتب أنشأ قاموسًا بأسماء اللّبنانيين المتألّقين في مصر، مبديًا بعض الملاحظات، مثل إغفال الكتاب التّحدّث عن الدّور الّذي أدّته مصر كمركز أساسي لنشوء فكرة لبنان الكبير، وعدم ذكر بعض مصادر بحثه الأمر الذي حال دون تحويل الكتاب إلى أداة بحث أكاديمي.
الأستاذ سليمان بختي الذي جمع في ثقافته العلوم والإدارة من جهة، والفكر السياسي والاهتمام بالأدب والترجمة من جهة أخرى، وأصبح منذ العام 1990 مدير دار "نلسون" للنشر، رأى في عودة فارس يواكيم إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر وإلى القرن العشرين وسيلةً يرى من خلالها المرء أين كان في الماضي وأين أصبح اليوم. فالكتاب هو "حكاية اثيرة من حكايات الهجرة المضيئة في ليل هذا المشرق الطويل"، تروي قصّة الّذين هاجروا من لبنان إلى مصر وكانوا من بين نخبة النّخبة. فقد هاجروا من أجل الحرية هربًا من الظّلم ليصنعوا النّور والإبداع. وتساءل الأستاذ بختي لماذا لم تستطع هذه الشّخصيّات تحقيق إنجازاتها في لبنان؟ وهو ما يُجيب عليه الأستاذ يواكيم في كتابه قائلاً إنّ المناخ السياسي في لبنان آنذاك لم يسمح بنمو الحركة الثقافية والاعلامية، في حين كانت مصر تستقطب المثقّفين لتمتّعها بحكم ذاتي نوعًا ما، وتفتح لهم فسحة حرية أوسع للنّضال، إلى جانب إسهاماتهم الأخرى في تجديد الأدب العربي. وأشار، كما فعل الدكتور ساسين، إلى بعض النواقص في ذكر عدد من الشخصيات الثقافية اللبنانية الفذة التي لمعت في بلاد النيل الخالد.
وكان للكاتب فارس يواكيم مداخلتان أوضح في الأولى بعض النّقاط الواردة في كتابه ذاكراً ما فاته فيه من أسماء جديرة بالدرس، وشكر في الثّانية "الحركة الثّقافيّة-أنطلياس" على إقامة هذه النّدوة لمناقشة كتابه "ظلال الأرز في وادي النّيل: لبنانيّون في مصر" فضلاً عن المشاركين فيها والحضور الكريم.
وكانت مداخلات حول الندوة من الأساتذة أنطوان سيف، وعصام خليفة، وأنطوان معلوف، وجان دايه، ونور سلمان، وأدمون رزق.
كلمة الأستاذة حياة هاشم
الخميس 14 آذار 2013
"آخ يا بلدنا"، صرخة أطلقها فارس يواكيم على لسان شوشو وذلك قبل الحروب التي اندلعت بعد عام 1975،
فارس يواكيم ذاكرة الثقافة اللبنانية منذ سبعينات القرن الماضي:
- في السينماكتب السيناريو والحوار لسبعة افلام روائية.
- وكتب السيناريو والتعليق لعدد من الأفلام الوثائقية.
- في المسرحكتب العديد من المسرحيات بطولة شوشو، واخرجها كبار الفنانين امثال برج فازليان وروجيه عساف وغيرهما.
- كما كتب العديد من نصوص فرقة السيغال chansonnierوأربع مسرحيات للاطفال.
- في التلفزيونكتب السيناريو والحوار لمسلسلات درامية كثيرة وفي الصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة كتب البرامج الثقافية والمسلسلات التمثيلية المتنوعة.
- أعدّ في تلفزيون لبنان 52 حلقة للسيدة ليلى رستم كان لها الأصداء الواسعة آنذاك.
- شغل منصب رئيس القسم العربي في الإذاعة الألمانية له ترجمات عديدة من الفرنسية والألمانية الى العربية وكذلك في مجال ترجمة الشعر أيضاً.
اهم انجازاته الأخيرة نشر مخطوطة هامة عن تاريخ زحلة.
وفي ندوتنا هذه نتوقف عند كتابه البالغ الأهمية "ظلال الأرز في وادي النيل" الصادر عن منشورات الفارابي. هذا الكتاب تناول شخصيات لعبت دوراً هاماً في مجال الصحافة والفكر والمسرح والسينما والأدب النسائي والفن الموسيقي.
كل هذه الشخصيات من أصل لبناني، وكثيرة من بينها ولأول مرة تلقى الأضواء عليهم على حياتهم وانجازاتهم.
باسم الحركة الثقافية في انطلياس نحيّي الجهد الفكري الذي قام به الباحث فارس يواكيم ونتمنى عليه ان يستمر في هذا الجهد لأنه الأكثر كفاءة لإبراز دور اللبنانيين خاصة والشوام عامة في ارض الكنانة.
ان الذي اطلق صرخة "آخ يا بلدنا" قبل الحرب كان يعكس في أدبه آلام مجتمعنا وآماله، وهذه الصرخة نستطيع ان نطلقها اليوم آملين ان لا يقع مجتمعنا تكرارا في تجربة العنف.
د. فارس ساسين:
- من المع اساتذة الفلسفة في الجامعة اللبنانية
- له الكثير من الدراسات والابحاث التي لا مجال لعرضها كلها.
- كان له دوره الكبير في دار النهار
- هو استمرار لمثقفي زحله الكبار وصديق شخصي لابنة جارة الوادي فارس يواكيم.
- الكلمة له فليتفضل.
الأستاذ سليمان بختي:
- جمع في ثقافته العلوم والادارة من جهة والفكر السياسي والاهتمام بالأدب والترجمة من جهة أخرى.
- شارك في العديد من المؤتمرات العلمية والثقافية في لبنان والخارج وله مقالات دورية في جريدة النهار وغيرها من الدوريات اللبنانية والعربية
- هو منذ عام 1990 مدير دار نلسون للنشر انه الاستاذ سليمان بختي فليتفضل قارئا كتاب صديقه فارس يواكيم موضوع ندوتنا.
كلمة سليمان بختي
يقول فيردي "العودة الى القديم ستكون تقدماً" وها نحن نعود لنرى ونستشرف أين كنا ؟ وأين نحن ؟ والى أين ؟ ينطلق هذا الكتاب ليروي حكاية شخصية جداً وعامة جداً. حب كبير لوالد هو الياس يواكيم عاش ومات وفي قلبه حبان كبيران لمصر ولبنان. وبعض الوفاء لابن رأى والده يلهج بلسان المحب عن مصر ولبنان. فوثق لكل ذلك واستقصى المعلومات وجمعها فيما يشبه الانطولوجيا الموسعة لحدث هو لعمري حدث رائع في تاريخ البلدان والعمران.
كتاب " ظلال الارز في وادي النيل – لبنانيون في مصر" هو حكاية اثيرة من حكايات الهجرة المضيئة في ليل هذا المشرق الطويل. انه سيرة عدد من الشخصيات اللبنانية "الشوام" التي عاشت في مصر وساهمت بفعالية في نهضة الحياة الثقافية والصحافية فيها.
من هم هؤلاء الذين هاجروا؟ وما السيبل الذي دفعهم الى الهجرة؟ تؤكد الباحثة سلمى مرشاق سليم وهي من شوام مصر وتقيم في لبنان بان الذين هاجروا الى مصر كانوا من نخبة النخبة. والا كيف نفسر عدد الصحف والدوريات التي بلغت 119 صحيفة او مجلة بحسب إحصاء المؤرخ الصحافي جوزف الياس في محاضرته عن "دور اللبنانيين في صحافة وادي النيل". اما دافعهم الى الهجرة فيصوره هذا البيت لنزار قباني خير تصوير انا حريتي فان سلبوها تسقط الارض دونها والسماء .
نعم هاجروا لاجل الحرية والرزق فصنعوا النهضة، وسافروا هرباً من الظلم والظلام والظلاميين وحققوا الضوء والتنوير والابداع ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. وعسى ان نستعيد دوماً هذه الصور والظلال وتكون لنا دائماً نشأة مستأنفة. لأن دور اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً، على ما يقول المؤرخ كما ل الصليبي، هو في التربية والتعليم والثقافة والتنوير في العالم العربي.
وللدلالة، أيها الاحباء على زخم هذه الهجرة وقوتها، سأورد لكم هذه اللقطة من محاضرة الكاتب وديع فلسطين وهو أحد الشهود الكبار على هذه الهجرة وكانت بعنوان "هجرة الأدباء الشوام الى مصر في القرنين التاسع عشر والعشرين (حكايات)" وهذا الكلام قاله في بيروت في 2011 وهو الذي لازم شاعر القطرين خليل مطران في السنتين الاخيرتين من حياته. يقول انه عندما تسلم وظيفة في جورنال الاهرام في قسم التوزيع اثر توصية من فريدريك شقير اكتشف ان كل العاملين في هذا القسم من الشوام . آل سوقي وحبيقة وشيخاني وأبي ناضر وضاهر وبحري وشدياق وبشارة وصقلي وان معظمهم كان يسكن في حي الفجالة وحي الظاهر وهما الأقرب الى محطة قصر وما زال الحي يحتفظ بمعالم شامية وفيها دار المعارف ومكتبة العرب لصاحبها يوسف توما البستاني وفيه قصر يسكنه حبيب سكاكيني باشا وهو أيضاً من الشوام ".
انطلقوا في ارض الكنانة مصر حتى صح فيهم قول حافظ ابراهيم
ما عابهم انهم قي الارض قد نثروا فالشهب منثورة مذ كانت الشـــهب
رادوا المنــــــــــاهل في الدنيا ولو وجدوا الى المجرة ركباً صاعداً ركبوا
او ما كتبه شكري الخوري في جريدة أبو الهول " لو كان للقمر طريق لرأيت الواصلين اليه اثنين : الاول يحمل كشة والاخر قلماً ودواة لينشىء مدرسة او جريدة في القمر، والاثنان من بلاد مباركة تدعى لبنان".
ولكن لماذا لم يقدروا ان يحققوا كل ذلك في لبنان؟ يعلل فارس يواكيم ذلك بان المناخ السياسي في لبنان لم يسمح بنمو الحركة الثقافية والاعلامية، وان مصر كانت تتمتع بشيء من الحكم الذاتي وهذا كان عامل استقطاب، وبالتالي اسس لنهضة ثقافية وصحافية . وانه لم تشكل الجالية اللبنانية حزب او تياراً وظلوا افراد وان التعامل معهم لم يكن بالجملة او كجهة واحدة وانما تعاملت مصر معهم كافراد وبحسب موقف كل منهم ازاء كل حالة بعينها.
ولكن ما أذهلني في الكتاب هو من صنفهم الاستاذ يواكيم تحت خانة اهل النضال، وهم :
· انطوان مارون مؤسس اول اتحاد لنقابات العمال المصريين وحتى وفاته مضرباً عن الطعام في 1925.
· رفيق جبور، من المشاركين في تأسيس الحزب الاشتراكي المصري وأبعد الى بيروت في 1926 وتوفي في يافا وكان رئيس تحرير جريدة "فلسطين".
· فؤاد الشمالي وكان أحد أبرز الناشطين في الحركة النقابية الشيوعية في لبنان وكان بدأ نشاطه في القاهرة.
وهذا يلقي الضوء على الدور السياسي الذي لعبوه.
اما النقطة الثانية الجدلية التي سأتوقف عندها في الكتاب فهي قصة التجديد في الادب العربي. ونكتشف هنا ان الكتاب يثبت دور اللبنانيين في مصر ومساهمتهم التجديدية في الادب وكانوا بالفعل بذور التجديد الحقيقية في الادب العربي، ونذكر منهم : خليل مطران، بشر فارس، مي زيادة، ابراهم اليازجي، فليكس فارس، فؤاد الحداد.
يؤكد فارس يواكيم ان ابداع اللبنانيين مصرياً يؤرخ في سجل الثقافة المصرية، وهذا صحيح، ولكن يسجل ايضاً في سجل الثقافة العربية ونهضتها. لاننا حتى اليوم لا زلنا نتلفت تارة الى القاهرة وطوراً الى بيروت لنعرف ما الجديد في العالم العربي. وعذراً من دبي.
يبذل فارس يواكيم الجهد البين لتغطية حقبة ربما من أغنى الحقب فيما بين مصر ولبنان ويرفدها بالمعلومات الوفيرة. هذا الكتاب هو وثيقة في ذاكرة وفي التاريخ الثقافي والاجتماعي والحضاري لمصر ولبنان. كتاب يتغذى بالذكريات الخاصة لتجربة الكاتب في الموضوع ومع والده وايضا من خزان الذكريات الشخصية والمهنية التي عاشها الكاتب كما مع الفنان عبد السلام النابلسي.
تبقى الملاحظة عن النقص، والموضوع يحتاج الى أكثر من بحث، النقص الحاصل في الاسماء. وهذا النقص بدأه المؤرخ مسعود ضاهر في كتابه "هجرة الشوام الى مصر" الصادر عام 1985 منشورات الجامعة اللبنانية اذ لم يذكر الا لماماً أسماء الممثلين والمخرجين والسينمائيين والمسرحيين ودرهم في نهضة فنية مشهودة عرفتها مصر في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. في كتاب يواكيم ثمة نقص في بعض الاسماء ونذكر المخرج هنري بركات وعزاه لعدم تثبته من الانتماء وقد ذكره الناقد ابراهيم العريس في مقالة بعنوان " دور اللبنانيين في الحياة الفنية المصرية" كذلك لم يذكر الممثل عمر الشريف ولا فايزة أحمد ولا محمد البكار. وثمة نقص آخر في بلاط الصحافة اذ لم يذكر يواكيم اسم اول الواصلين الى ارض النيل لويس الصابونجي ومجلته النحلة الحرة 1871 ولا استير ازهري ومجلتها العائلة 1899 ولا سليم حبالين الامة، العدل، الوظيفة، ولا ابراهم نجار: المصباح الجديد، الكلمة الحرة ، الكلمة الحقة، ولا اسكندر شلهوب الذي اسس الرأي العام، الفترة ، السلطنة، العصر الجديد. ولا نجيب غرغور : الببغاء، حديقة المنارة، الابتسام، ابو نواس ، العالم الجديد. ولا اديب اسحق، التجارة ، المحروسة، مصر. اضافة الى الصحفيين مثل يوسف آصاف الذي كان يصدر دورية تشبه AL Manacوتوفيق الشمالي الذي عمل في الاهرام والمقطم. وماري كاترين بولاد التي كانت تكتب بالفرنسية وترجم لها وديع فلسطين بعض الكتابات.
ولا اسبيرو الجسري الذي غير اسمه الى سامي الجسري وكان سكرتير تحرير المقتطف. وهذه كلها امور يمكن استدراكها.
وبعد، ينطلق هذا الكتاب من الحرية ويصب في النهضة ولعله احلى مسار. كانت هجرة مستحبة معطاءة في أقاليم النهار، وتركت أثرها في الصحف وتسمياتها واتجاهاتها، وفي ا لهوية الثقافية في زمن كانت فيه هجرة الى أميركا وهجرة الى اوروبا وهجرة الى اسطمبول ولكن الهجرة الاغنى كانت الى مصر.
في كلمة لشيخ النقاد مارون عبود مؤرخاً النهضة يؤكد فيها ان النهضة نهضتان اولى أسبق زمناً كانت على الشاطىء الشرقي للبحر المتوسط، والاخرى لاحقة جاءت أعم واشمل وكانت على ضفاف النيل. انها تماما كما وصفها الكاتب فارس يواكيم " ظلال الارز في وادي النيل" اي سؤال الحرية وسؤال النهضة.
واخيراً، هل استطيع ان امرر لكم في الخاتمة ما كنت لاحب همسه في اذن فارس يواكيم مناجم الذهب توجد دائماً في ما وراء الحدود. ولكن علينا ان نحمله من هنا الى هناك ليشع ويتوهج عقول من ذهب وقلوب من نور وارادة من حديد وويضعون المكان الصحيح في الزمان الصحيح. يصنعون التاريخ . هل كان لا بد من الهجرة اوعلى طريقة اهل الصوفية " كان لا بد من الرحلة" ولعلها كما ظهر كانت رحلة مؤسسة وموفقة ومستحقة ومستعادة على طريق التقدم والنهوض.
كلمة د. فارس ساسين
سيداتي، سادتي
أيها الأصدقاء
من تقع عيناه على عنوان كتاب فارس يواكيم، ظلال الأرز في وادي النيل، لبنانيون في مصر، ويكون ممن أِلفوا الشخص، ولو من فترة ليست ببعيدة - بعد أن رصدوه اسما ظاهرا وخافيا، وصوتا عاليا وخافتا في دنيا المرسح والإعلام اللبنانيين ما قبل الحروب، يرى في العنوان، وقبل مطالعة الكتاب، صفات خبرها جيدا في صاحبه: خِفةُ الظل التي لا تُثقل على الرفيق بل "تبادله نارا بفي"، وسيلان النهر المتجددِ أبدا والزاخرِ دوما بالحياة يهبها ويوزع هباتها. وبين الظلال العذبة والمياه المنسابة، ظلال الأرز الأبدي ومجرى النهر الخالد، تزول حدّة الأشياء ويُرفع ثقلُ الأمور ونعيش في الأريج، في عالم أفلاطوني مقلوب لذيذ الأشباح شيّق الكون (بمعنى الصيرورة). لكنه عالم ملؤه المثل:
وهل يسألُ الوردٌ الشذي عن المّوله بالغوالي
أول هذه المثل الوفاء. الوفاء لمصر التي ولد فارس يواكيم فيها وللبنان موطنُه أباً عن جد ومجالُ عمله وفسحةُ ابداعه، من قيتولي الأصل إلى زحلة العمّ الأسقف والشقيقة واكتشاف الذات وبلورتها. والوفاء لما بين البلدين من مودة ولدت ولن تموت ولو عرفت في غير هذه الأيام أوجها. يورد فارس هذا البيت لأحمد شوقي عن لبنان في تكريم خليل مطران:
وبنوكَ ألطفُ من نسيمِك ظِلُّهم وأشمُّ من هضباتِك الأحلامُ
وثاني هذه المثل الأمانة للحقيقة والدقّة في البحث وطولُ الأناة في التنقيب، والله وحده يعلم كم من الجهدِ يأخذُ التحققُ من تاريخ والتأكد من بلدة مولد أو وفاة وتمييز الحقّ عن الباطل عند تعدّد الروايات. وإلى هذه الصفات يضاف التواضع في رسم حدود الكتاب. أنشأ فارس يواكيم قاموسا جديا حافلا باسماء اللبنانيين المتألقين في مصر خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين لكنه أوضح منذ البداية خياراته مبرراً "استبعاداته" بعض الشخصيات عن الكتاب: من الذين أقاموا في أرض الكنانة مؤقتا (ص 10: أحمد فارس الشدياق، يوسف السودا، صباح...)، إلى أبناء الجيل الرابع الذين تمصّروا كليا (آل الرافعي)، إلى الذين تفجرت عبقريتهم خارج مصر (شحادة، شديد، خلاط...) وشملت مقالاته 3 ميادين واسعة ( أهل الصحافة وأهل القلم وأهل الفن من مسرح وسينما وأنغام) وميدانين لن نقول عنهما أنهما أقل اهمية حتى لا نثير بوجهنا عواصف محقة بل نقول أنهما يدينان كثيرا لموسوعيته وعنايته باللطائف وولعه بالخروج من الدروب الأليفة ("الأقلام النسائية" و"أهل النضال"). وأشهد انني شخصيا تعلمتُ الكثير من هذا الكتاب عن شخصيات قرأتُ لها أو سمعتُ بها وكانت لي شبه مجهولة أخصّ منها بالذكر بشر فارس ويوسف كرم...وأنني إكتشفتُ شخصيات أخرى لم أكن قط قد سمعتُ بها. كنت مثلا أعرف اسم إسكندر الشلفون لاعجابي بقصيدة " تأبين عوّاد" لأمين نخلة:
للفن قد بُرئت وللأوتار من لين النبات
وتكاد من لطف القرار تسيلُ فوق الغلغلات
لكن كنت أظنه مغمورا كليا.
وثالث هذه المثل هي مقدرة فارسنا الأدبية على إضفاء تقاسيم وألوان على الشخصيات المدروسة، فإذا كل واحد منهم شاخصٌ أمامنا بخاصه والعام، ينبض بالحياة بضعفه وجبروته وطبعا دون مبالغات تجعل منه كائنا أسطوريا أو بطلا ملحميا، بل هو هنا بما بلغه وما عجز عنه وما رددت عنه الأقاويل وما تناقلت به الألسن. كل ذلك بإيجاز وبعدد من الصفحات يفي الموضوع حقّه - أو يكاد - ولا يقود القارئ العادي (وهو الذي يتوجه إليه الكتاب، وليس القارئ صاحب الإختصاص) إلى الملل. طبعاً الغلبة في تصوير الشخصيات هي للكياسة والروح الإيجابية وابراز المحاسن، وإلا لما كان الكتاب وزال المبرر إليه. سيكون لنا إلى المسألة عودة. لكن لا يخفانا طلاوة الأسلوب على بساطته ومتعة قرأته.
أضيف أخيرا، إلى ما سبق، ما أعتبره شخصيا مثالا وهو روح الفكاهة والنكتة والدعابة التي غالبا ما تتخفى وراء الجدية والجهد الكثيف لكنها تعود فتطل برأسها بين الحين والحين متماهية مع المؤلف مواكبةً تهذيبه موازنة إياه. (ص 222 يوسف معلوف صاحب لقب "مبروك" والذي خانته البركة في آخر لحظة على رصيف شارع الحمرا).
سيداتي، سادتي
أيها الأصدقاء
كل مجهود قيّم وكل تأليف جدّي يستحق المناقشة. لذا يقودني تقديري لعمل فارس يواكيم ما قبل الأخير إلى أبداء 3 ملاحظات حوله تبقى متفهمة لوجهة نظره ولا تنتقص أبدا من قيمته:
1. عدم تحويل هذا الكتاب/القاموس إلى أداة بحث وهو ما كان ممكنا بشيء من المجهود. على سبيل المثال: يذكر المؤلف مرتين مذكرات بديعة مصابني لكن لا يقول لنا ما عنوانها وأين نشرت ومتى. يقول في نصه عن مي زيادة إن سلامة موسى زارها ووصف حالتها النفسية في مقال. أين نشر وهل يمكن العودة إليه في كتاب؟ في حالات أخرى تذكر المراجع لكن الأمر ليس منهجيا.
2. تمليس الأمور (تمليس الحَصاة) واستبعاد بُعدِها الخلافي والمأسوي.
أورد هنا 3 نماذج: - على صعيد شخصية (رشيد رضا)
- على صعيد التناقض (هكتور خلاط، خليل مطران بين الأهرام وبعلبك)
- على صعيد الصراع السياسي والاستعمار البريطاني (تذكر الأمور وكأن المسألة شيء عابر أو ثانوي)
3. يغيب عن الكتاب موقع مصر كمركز أساسي لنشؤ فكرة لبنان الكبير: دور الاتحاد اللبناني في مصربين1908 و1920 (في سبيل لبنان، في سبيل الاستقلال...)
أيها الأصدقاء
الكتابةُ، إفادةُ الأجيال من الخبرات الذاتية المتراكمة، التنقيب والسلوى، روح النادرة الفريدة والساخرة، الإبداع في العمر المختمر ...كل هذه الأمور تغوينا في فارس يواكيم اليوم وتجعلنا ننتظر منه المزيد.
فشكرا له وشكرا لحركة انطلياس الثقافية