تكريم أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي
الدّكتورة سعاد الحكيم
قدّمت التّكريم:الدّكتورة نايلة طبّارة
أدارت اللقاء: الدكتورة أسمهان عيد
كرّمت "الحركة الثقافيّة- أنطلياس" الدّكتورة سعاد الحكيم، إحدى منارات التّصوّف في الجامعة اللبنانية، والمرأة الأكاديميّة التي تعمّقت في فهم التّراث الفلسفيّ وفرضت حضورها في المجالات الأكاديميّة والإداريّة المختلفة.
رحّبت الدكتورة أسمهان عيد بالمشاركين في حفل التّكريم واستهلّت كلمتها بتهنئة الدّكتورة سعاد الحكيم لنيلها منذ أسبوع فقطجائزة "ترجمان" عن دراساتها حول ابن عربي في مهرجان الأفلام الثقافية في مدينة مُرسية في اسبانيا، وتحدّثت عن أنّ المحتفى بها لم تكتفِ بالتعليم الجامعي، بل انفتحت على الحياة الثقافية بكل أبعادها، وترأست الجمعيات الثقافية، وأوكلت إليها عمادة المعهد العالي للدكتوراه، وحضّرت المؤتمرات وشاركت فيها واعتلت المنابر المحلية والعالمية عاملة على نشر ثقافة التقارب الفكري، ومحاربة التفرقة المذهبية لعلها تصل إلى إرساء مجتمع افضل مبني على الأخلاق الفاضلة والروحانية، على غرار الفلاسفة الإصلاحيين، وبحثت عن الحقيقة، وأقلقها فساد المجتمع وانهيار الأخلاق، وتذوّقت التّصوّف، فأصبحت "متصوفة في أخلاقها، مؤمنة بربها"، لكنها لم تكن يومًا منعزلة، بل "متجذّرة في قلب عائلتها وقلب العالم".
وتُركت مهمة تقديم المحتفى بها للدّكتورة نايلة طبّارة، صديقة العميدة سعاد الحكيم وإحدى تلميذاتها السابقين، وأستاذة علوم الأديان والإسلاميات في "جامعة القديس يوسف"في بيروت، التي اعتبرت أنّ سيرة الدكتورة سعاد الحكيم تقدّم نموذجًا لمن جمع العلم والعمل "ليصبح صدقةً جارية لأبناء عصره وللأجيال القادمة". وأشادت بالاحترام الكبير الذي تكنّه المحتفى بها لقدسيّة الكلمة، إذ تدقّق في كلّ كلمة تستخدمُها لنشرِ الفكر والوعي والثقافة، سواء أكان في مؤلّفاتها الكثيرة أو بحوثها أو نصوص المؤتمرات والندوات والحلقات الإذاعيةوالدروس الجامعية. ورأت الدكتورة طبّارة أنّ مجملَ نتاجَ الدكتورة سعاد الحكيم يتمحور،حتى اليوم، حول الإسلام في بعديه الأخلاقي والصوفي، وأنّ المحتفى بها لطالما انتهجت مسارين في عملها هما: مسار التصفية المستمرّة للذات من نفس وعقل وقلب،ومسار الجَهد الدائم في سبيل التّعلّم والتّعليم. ثمّ تطرّقت الدّكتورة طبّارة إلى نتاج المحتفى بها الفذّ في التّصوّف من جهة، ومن أبرز كتبها عن التّصوّف مؤلّف "المعجم الصوفي، أو الحكمة في حدود الكلمة" الذي يشكّل مرجعًاأساسيًّالكلّدارس في التصوف، وبخاصة لمن يريد فهم فكر الشيخ الأكبر إبن عربي، وعن الإصلاح والأخلاق الإسلامية و واتصالها بالواقع المعاصر من جهة أخرى.
واستهلّت لمحتفى بها العميدة الدّكتورة سعاد الحكيم كلمتها شاكرةًالأصدقاء والأحبّاء الّذين أغدقوا عليها الدّعم طوال مسيرتها ويسّروا لها درب العمل والإنتاج، ومتحدّثةً عن مختلف الجوانب التي رسمت معالم ذاتها وجعلتها كلّ ما هي عليه اليوم. فالجانب الأوّل هو اختصاصها العلمي بالحقل الصّوفيّ الذي تعتبره تكريساً علمياً لما انعقدت عليه "نوازع النفس" و"جوامع الروح" لديها منذ سنواتالمراهقة، وتأثّرها البالغ بالشّيخ محي الدّين ابن عربي الذي تتلمذت على يديه وساعدها على العيش في عالم الحكمة. والجانب الثاني هو انتسابها إلى الأسرة الدندراوية، وهي كيان اجتماعي يعمل على الإصلاح الإنساني. والجانب الثالث هو دخولها المبكر سلك الوظيفة في الدولة، وتسلّمها مناصب إدارية حرصت فيها على الولاء للبنان من خلال التّفاني في نقل العلم للطّلّاب. والجانب الرابع يتألّف من العائلة أوّلاً، وهي التي جعلتها إنسانًا إذ وظّفت في هذا العالم الصّغير كلّ معارفها وتجاربها، ومن المجتمع ثانيًا، والتزامها به وعملها في الشّأن العامّ. وختمت الدّكتورة سعاد الحكيم كلمتها موجّهةً أثقال شكرها إلى "الحركة الثقافية-أنطلياس" التي بادرت إلى إسعادها بهذا التّكريم.
وكانت شهادات بالمحتفى بها من السيدة رباب الصدر، وعزف على الكمان لموسيقى من وحي التصوُّف للبروفسور نداء أبو مراد مدير المعهد العالي للموسيقى في الجامعة الأنطونية، ومن الدّكتور ناصيف نصّار، ومن الدكتور أنطوان سيف.
وفي الختام قدّم أمين عام الحركة، الدكتور عصام خليفة أمين النشاطات الثقافية فيها الدكتور أنطوان سيف، شعار الحركة ونسخة عن "النصّ الأصليّ لعاميّة أنطلياس الشهيرة، عاميّة 1840، إلى المحتفى بها.
تكريم العميدة الدكتورة سعاد الحكيم
كلمة د. اسمهان عيد
ايها الاصدقاء اسعدتم مساءً واهلا وسهلا بكم في رحاب الحركة الثقافية ـ انطلياس لتكريم علم من اعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي، تميّز بين اهل الفلسفة والفكر، فألف تحية تقدير واكبار لعلمنا الثقافي العميدة الدكتورة سعاد الحكيم.
يسرني بالمناسبة ان افتتح هذا التكريم بتهنئة عميدتنا لنيلها السبت الماضي جائزة "ترجمان" في سنتها الثانية، وهي الجائزة الاكاديمية التي استحقتها هذه السنة منفردة والتي تقاسمها اثنان في السنة الماضية عن دراساتها وابحاثها حول ابن عربي في مهرجان الافلام الثقافية في مدينة مُرسية في اسبانيا.
بيروتية من بيوتات بيروت العريقة، حباها الله جمال الخَلق والخُلق، وزيّنها بمواهب قلَّ نظيرها.
شبت فتمايزت بعلمها وأدبها، وتربعت ملكة على عرش مملكتها الصغيرة الى جانب شريك عمرها الدكتور حسن شرف الدين، فكانت ثمرة زواجهما شموساً اربعاً وقمراً، اما الشموس فهنّ: القاضي ريما، الدكتورة رنا، والدكتورة نادين، وتالا، اما القمر فهو محمد عمر.
لم تكتفِ بالتربع على عرش مملكتها الصغيرة، ولا بالتعليم الجامعي وما يترتب عليه من بحث وتحبير ومناقشة رسائل واطاريح، بل ذهبت ابعد، انفتحت على الحياة الثقافية بكل ابعادها، ترأست الجمعيات الثقافية، اوكلت اليها عمادة المعهد العالي للدكتوراه، فساهمت في تطويره على كل الاصعدة، وخصوصاً ما يتعلق منها بالبحث العلمي، عدا الندوات، والمقابلات التلفزيونية. حضّرت المؤتمرات وشاركت فيها واعتلت المنابر المحلية والعالمية عاملة على نشر ثقافة التقارب الفكري، ومحاربة التفرقة المذهبية لعلها تصل الى ارساء مجتمع افضل مبني على الاخلاق الفاضلة والروحانية العالية، دأبها في ذلك دأب الفلاسفة الاصلاحيين الذين افنوا العمر في تشييد مدنهم الفاضلة وبحثهم الدائم عن الحقيقة.
عشقت الحقيقة، فسارت في دروب الفلسفة، وتعمقت في شعابها، وتذوقت "التصوف"، وبحثت في معانيه الرفيعة، ومذاهبه وشيوخه، فاحتل ابن عربي مكانة مميزة في ابحاثها وكتاباتها. فارتقت به وارتقى بها.
ولما كان "التصوف" تركاً للدنيا واخلاقاً عالية وعكوفاً على العبادة والصلاة والتوحد مع الله. تراها متصوفة في اخلاقها، مؤمنة بربها، لكنها ليست منعزلة، بل متجذرة في قلب عائلتها وفي قلب العالم وفي قلوبنا. فالعلم عندها ليس انعزالاً، بل تحقيق وعمل مستمران في سبيل انسانية افضل، ولما كان العمل عندها "شريعة الهية"، اصبح من واجب الانسان ان يعمل ليحقق ذاته في العمل، "فقيمة الانسان تتجلى فيما يقدم لمجتمعه".
اقلقها فساد المجتمع، وآلمها ما تراه في هذا العالم من انفصام ما بين العلم والاخلاق. فحاولت جعل العلم آداة للاصلاح، ولكن ليس اي علم، بل العلم الصحيح المبنيّ على القيم الانسانية. وهي التي حرصت كل الحرص على "زرع قيم الانسانية في ضمير اطفالها، مقتنعة بان القيم هي الواح النجاة وهي امان الشواطئ". وكم نفتقد اليوم لهذه القيم!
هنيئاً لك ايتها العميدة الدكتورة سعاد الحكيم ما حققت من ثمار طيبة، لا يمحوها الزمن، خالدة بخلود الروح الالهية. هنيئاً لك عالمك هذا، عالم الحب، والعطاء، والرحمة والاخلاق العالية، فانت السعيدة في هذا الزمن الذي قلّ فيه الحب، وفقدت فيه الرحمة وطاول الفساد كل مفاصل الحياة، وحلّت شريعة الغاب في وطننا العربي الذي كان لقرون خلت منارة للعلم والفلسفة والابداع.
هنيئاً لك ايتها العلم الثقافي، العميدة، الدكتورة سعاد الحكيم جائزة "ترجمان" وهذا التكريم، وباركك الله، وكللك بأكليل الصحة والعافية، وليبقى عطاؤك متوهجاً وثمارك يانعة.
ـ ايها الاصدقاء وقبل ان اترك الكلام للدكتورة نايلة طبارة لتتحفنا بما عندها من رياض حديقتها في علمنا الثقافي، سنستعرض معاً فيلماً يسلط الضوء على بعض المحطات المضيئة في مسيرة العميدة سعاد الحكيم.
ـ الكلام للدكتورة نايلة طبّارة صديقة العميدة سعاد الحكيم والتي تفخر بانها عملت في بداية مسارها في البحث العلمي كمساعدة لها. وهي نائب رئيس مؤسسة اديان ومديرة قسم الدراسات فيها. استاذة علوم الاديان والاسلاميات في جامعة القديس يوسف، شاركت في العديد من المؤتمرات الدولية والمحلية، لها ابحاث وكتابات في التفسير القرآني، والتصوف، والتربية على التعددية الدينية، تفضلي.
ـ تسحرك بحضورها الهادئ الرصين، فلا تكاد تسمعها مرة حتى تعشقها، تجذبك برقتها، بجمال ملمحها، بدفء صوتها، بعذوبة كلماتها، باسلوبها البليغ. انها العميدة الدكتورة سعاد الحكيم، المنبر لك تفضلي.
ـ الشهادات
ـ من عادة الحركة الثقافية ان تعطي المجال لاصدقاء المكرم ومحبيه للبوح عما في قلوبهم.
ـ فالشهادة الاولى من الجنوب، من المعاناة، من الكبر والوطنية، من فوح عطر العلامّة والوطني الكبير موسى الصدر اتت، بلسمت الجراح، علمت، ساعدت، انها رئيسة مؤسسات الصدر السيدة رباب الصدر، الكلمة لك فتفضلي.
ـ الشهادة الثانية من عالم الموسيقى. عالم الموسيقى هو عالم الفن والابداع، عالم الحلم والخيال، عالم تستحيل فيه الكلمات الحاناً وانغاما، اليكم البروفسور نداء ابو مراد مدير المعهد العالي للموسيقى في الجامعة الانطونية في تحية صوفية، بتقاسيم مرتجلة على آلة الكمان يعزفها خصيصاً واستثنائياً للعميدة سعاد الحكيم. فليتفضل.
ـ الشهادة الثالثة من قلب جبل لبنان الأشّم، من نابيه الشامخة، علم الاستقلال الفلسفي، المفكر اللامع، الناقد الفذّ، انه العلاّمة ناصيف نصّار.
ـ تقديم درع الحركة
ـ ندعو امين عام الحركة الثقافية الدكتور عصام خليفة الى المنصة لتقديم درع الحركة لعلمنا الثقافي العميدة سعاد الحكيم.
ـ الختام: نشكر لكم حضوركم، واخص بالشكر الدكتورة نايلة طبارة، السيدة رباب الصدر، البروفسور نداء ابو مراد والدكتور ناصيف نصّار وكل من اسهم في انجاح هذا الحفل، ونهنئ المكرمة العميدة سعاد الحكيم في تكريمها هذا، فتكريمك فخر لحركتنا وللبناننا العزيز.
سعاد الحكيم
سيرة كلمة
كلمة د.نايلا طبارة
من كانت له الفرصة أن يعمل مع الدكتورة سعاد الحكيم يعلَمُ أنّ مِن أهمِّ خصائصِها العلميّةِ احترامُها لقدسيّةِ الكلمة. فمنذ أن عرفتَها وأَذهَلُ لدِقّتها في اختيارِ كلِّ كلمةٍ في أي مقالٍ أو نصٍّ كَتَبَتهُ إن كان في الفلسفة أو التصوف أو الفكر الإسلامي. ولا زالت، بعد أحَد عشرَ كتاباً منشوراً (ومنهم ما يتخطى الألف صفحة)، وما يفوقُ المئةَ بحثٍ منشور في العالمين العربي والغربي، وعددٍ مضاعفٍ من المؤتمرات والندوات والحلقات الإذاعية، كما وعددٍ لا يحصى من الدروس الجامعية والحلقات التوعوية، لا زالت تتّسمُ بهذه الدقّةِ والاحترامِ الكلّيِ لكلِّ كلمةٍ تستخدمُها لنشرِ الفكر والوعي والثقافة.
لذا أقدّمُها إليكم ككلمة: كلمةٍ سواء، كلمةٍ طيبة وكلمةَ تقوى، مستعينةً بالمثل القرآني :"أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا "(ابراهيم 24-25)
وكما تمتدُّ أغصان الشجرَةِ المتأصّلِة في الإتجاهاتِ الأربع وفي فرعٍ سماوي، كذالك تُرسمَ سيرةُ الكلمة سعاد الحكيم.
1-الأصل الثابت
أ. التأصيل الجغرافي
إن الدكتورة سعاد الحكيم عَلَمٌ لبنانيٌ، وُلِدت وتعلّمت في لبنانَ ومدارِسَه ومن ثم في دار المعلمين وبعدها في الجامعة اللبنانية. إلا انها في دراساتها الجامعيةِ العليا من ماجيستير ودكتوراه في جامعة القديس يوسف، عرفت العالم الأكاديمي المتخصِّص الغربي قبل العالم العربي. فكان لها أن تدرسَ مع العالمِ الأب بول نويا العراقي الذي كان يدرّسُ أيضاً في السربون (الكلية التطبيقية للدراسات العليا)، حيث التحقت لسنةٍ جامعية، و على إثرها، عُرِض عليها أن تبقى في باريس إلا أن "خيالهُا لبنانيٌ" فخيارُها الواضح كان العودةَ والبقاءَ في لبنان. ففتحُها المعرفيُّ كان هنا في لبنان، ومن لبنان انطلقت إلى معرفة العالمين الأرضي والسماوي وإلى إيصالِ كلمتَها في المشارق والمغارب.
ب. التأصيل في الإنتماء الديني
نشأت الدكتورة سعاد الحكيم في عائلة مسلمة، أعطتها منذ صِغَرِها مثالين، مثال الأخلاق الإسلامية والعطاء المتفاني لوجه الله الذي جسدتهُ والدتُها، ومثال التسليم من ناحية والدها الذي سلك منهاجَ العبادات والمجاهدات والذكر. ومن خلال صحبة أبيها تعّفت ودخلت في جمع الأسرة الدندراوية الذي كان هو أحد أبنائها.
فلا بدَّ لمن يرى مجملَ نتاجَ الدكتورة سعاد الحكيم حتى اليوم، المتمحورُ حول الإسلام في بعديه الأخلاقي والصوفي، أن يعي أهمية هذا التأصيل الذي سمح لها أن تتجذّرَ في هويّة متماسكةٍ ومتناغمة تتغذّى منها لتصبح كلمتها كلمةَ حياةٍ يستفيدُ منها الجميع.
2- المسار العلمي والعملي
اذا كان نتاجها يوصّف اليوم على أنّه نورٌ على نور، فذلك لأنه تطلّبَ جَهداً على جَهد. الجَهدُ الأولُ في إختيار المسار العلمي، أو بالأحرى في تصفية الذات والذهن لسماع الهاتف الرباني الذي اختار عنها ولها. فإن كان الله هو الذي علّمها الأسماءَ أولاً وكرّمها بمفاتيح فكّ أقفال لغة المتصوفة، فهي بدورها لم تسترح، استحقاقاً للفتح الأول. فكان الجهد كحبّات السبحة، متتالياً ومترابطاً، يجمع بين العالم الداخلي والعلمي والعملي والإصلاحي، ليفيضَ الكلُّ في نتاجٍ معرفي وثقافي وإنساني حول خطين أساسيين: الأول الصلاح، وذلك على صعيد الإسلام في بعده الأخلاقي والمعاصر كما والتصوف التربوي والأخلاقي، والثاني الوَلاية أو التصوف في بعده العرفاني.
فمن يعمل في هذا المضمار عليه أن يجمعَ مسارين في مسار واحد:
1- المسار الأول مسار التصفية المستمرّة للذات من نفس وعقل وقلب وسرّ. فعاشت الخلوةَ في الجلوة وأثمر هذا المسار في فرعين: الفرع الأول ساعد على بناء فهمها للنصوص الصوفية على التجربة الشخصية فخرجت كلمتها من نقطة الصمت أو بعبارة قرآنية كلمةَ تقوى نابعة من السكينة الداخلية[1]. والفرع الثاني لهذا المسار في الأخلاقيات والقيم الإسلامية والصوفية تجلى في الخدمة. فكما ارتوت في البدء من معين الأسرة الدندراوية، كرّست سنواتها بموازاة المنحى العلمي إلى هذا الجمع المسلم: فهي صاحبة مؤسسة دندرة للدراسات ورئيسة مركز دندرة الثقافي. وإلى جانبه، استمرّت وتستمرّ في الخدمة والعطاء في المجتمع والثقافة مُزكيّة من كلّ ما أنعم الله عليها من نِعمٍ.
2- المسار الثاني مسار الجَهد الدائم في سبيل التعلم والتعليم: فهي طالبةُ علمٍ ومعلّمةٌ في آن واحد منذ بدايتها وحتى اليوم. فقد درّست في المدارس الرسمية أولاً ثم في الجامعة اللبنانية وجامعة القديس يوسف والمعهد العالي للدراسات الإسلامية (المقاصد). ومناصبُها التعليمية كالمناصب الإدارية لم تأخذها بعيداً عن البحث، فمع أنها تولّت مناصبَ إداريةً متتالية في الجامعة اللبنانية كرئيسة الدائرة الإدارية في كلية الحقوق ثم كرئيسة قسم الفلسفة ثم كعميدة المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والإجتماعية، وإلى جانب عضويتها في هيئات تربوية كالهيئة المركزية للبحث العلمي في الجامعة وفي اللجنة الوطنية العليا لليونسكو وفي لجنة وضع المناهج الجديدة للفسلفة والحضارات مع المركز التربوي للبحوث والإنماء، سارت مسيرةً طويلة في البحث الفردي كما والجماعي بالشراكة مع متخصصين في الإسلاميات وفي التصوف، مشرقيين ومغربيين. وقد نتج عن هذا البحث المستدام أعمالاً لا تحصى من منشورات وكتب، كما نتج عملٌ تربوي وتوعوي طالت به الآلاف.وانكانت هي لا تُحصي، سأحاول أن أقدم فكرة عن نتاجها المطبوع سواءً في الكتب أم في قلوب وأذهان سامعيها.
3- النتاج
وأحصرُ تقديمي لنتاج الدكتورة سعاد الحكيم في التصوف والإصلاح، مع أن نتاجها يتخطاهما.
أ. في التصوف
كتابها الأول: المعجم الصوفي أو الحكمة في حدود الكلمة، مرجع أساسي لكل دارس في التصوف وخاصة لمن يريد فهم فكر الشيخ الأكبر إبن عربي، وسعاد الحكيم هي دون أدنى شك الترجمان لابن عربي في القرن العشرين والواحد والعشرين. وقد صدر عنها أيضاً لإبن عربي أو عنه الكتب التالية: الإسرا إلى المقام الأسرى (لإبن عربي)، إبن عربي ومولد لغة جديدة، مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية بالعربية والإسبانية مع د. بابلو بينيتو، شرح مشاهد الأسرار للست عجم بنت النفيس مع د. بكري علاء الدين، بالإضافة إلى ما يزيد عن ثلاثون مقالة علمية لمجلة جمعية ابن عربي في انكلترا وغيرها من المؤسسات المهتمة بفكر الشيخ الأكبر في اسبانيا وسائر العالم. أما في نتاج الآخرون من المتصوفة والتصوف بشكل عام، فقد كتبت عن الوَلاية الصوفية فيعودة الواصل، حيث تطرأت إلى الأسرة الدندراوية وأميرها كما كتبت عن الأسرة الدندراوية في أصداء الوثيقة البيضاء، كتاب جامع عن تاريخ الأسرة وتكوينها وكيانها. إلى جانب ذلك جهدت على إيصال فكر المتصوفة الكبار بكلام وشكل معاصر خاصة في كتابإحياء علوم الدين في القرن الواحد والعشرين، كتابٌ مرجعٌ أيضاً في الإسلام والتصوف الأخلاقي إذ أنه إعادةُ كتابةٍ لموسوعة الغزالي، وواكب هذا الكتاب أربعةَ وتسعون حلقة إذاعية عن نتاج الغزالي، كما وكتبت عن تاج العارفين الجنيد البغدادي الأعمال الكاملة، وعن عبد الكريم الجيلي في إبداع الكتابة وكتابة الإبداع، عينُ على العينية وهو شرح معاصر للقصيدة العينية( لعبد الكريم الجيلي). وكتبت عن العطار وابن الفارض ورابعة العدوية والمرأة في التصوف، ولغة التصوف والجمال في التصوف..فمن لبنان إلى انكلترا وإسبانيا وإيطاليا واسكتلندا وإيران والمغرب وتركيا وسوريا والسعودية وقطر ومصر وغيرها من البلدان نشرت فكرَها وفكر أعلام التصوف ونتاجهم.
ب. في الأخلاق الإسلامية والإصلاح
أما على صعيد الأخلاق الإسلامية واتصالها بالواقع المعاصر فقد كتبت وحاضرت عن الإصلاح الديني وقيم الإسلام ومعاني الإيمان والصلاة والحج والأذكار كما وعن المرأة في رؤيةٍ إسلاميةٍ متنورة، أيضاً من لبنان إلى العالم العربي والغربي وصولاً إلى الولايات المتحدة. وتعمل الآن على موسوعة علم مكارم الأخلاق في الإسلام، إلى جانب الكتابات والحلقات الإذاعية والتوعوية عن هذا الموضوع. وتناولت أيضاً الفكر والعمل الإصلاحي عند أعلامه كالإمام رشيد رضا والإمام موسى الصدر. ومن هنا فإن عملها في الفكر الإسلامي الإصلاحي وفي التصوف المقارن والعرفان قادها إلى العمل في مجال العلاقات بين المذاهب والأديان، على الصعيدين الفكري والعملي فهي أيضاً عضواً مؤسس في جمعية تصالح: تجمع الصداقة اللبناني للحوار المسيحي الإسلامي وهي المشرفة الأكاديمية في مركز محمد دمشقية الثقافي-ويك الذي يهتم بتعزيز ثقافة الحوار بين أبناء الدين الواحد وبين أهل الديانات المختلفة في لبنان.
خلاصة
سيرة سعاد الحكيم مثال لمن جمع العلم والعمل ليصبح صدقةً جارية لأبناء عصره وللأجيال القادمة. أقتبستُ منها القليل لأقدمَها إليكم، مع العلم أن هناك بحاراً وبحار خلف ما تيسّر لي أن أقدم.
وأختم بالعودة إلى صورة الكلمة: فمثلُ الكلمةِ التي تجمعُ الحروفَ وتشكِّلُ كلُّ حرفٍ، تجمعُ سعاد الحكيم بعلمها وعملها بين الناس والثقافة والفكر فتضمُّ الناسَ على بعضهم البعض بنشرها القيم والأخلاق والمودّة، وتفتح الآفاق أمامهم بعلمها الغزير النابع من التجربة الشخصية والجهد، وتكسرُ الحواجز بين العالم الحسي والعالم الروحي وتُسكن القلوبُ بالتذكير بجوهر الإيمان. فكملةُ حقٍّ وتقوى وسواءٍ هي، كما هي كلمةَ طربٍ نابعة من تناغمٍ بين المحكي والمُعاش، ومن احترامها، من خلال احترامها للكلمة، لكرامة كلّ شخصٍ يسمعها.
كلمة د.سعاد الحكيم
أصدقائي وأحبائي وإخوان عمري..
أوقفني هذا التكريم على مشارف ذاتي ومسيرة حياتي، وأشهدني بعين الصدق، أن هذه اللحظة السامية ليست من نتاجي المنفرد، بل شركائي فيها كثر، وأنه لولا الدعم الكبير الذي نعمت به من محيطي القريب والبعيد، العالم والأمي، لما تمكنت من تحقيق ما انطوت عليه شغاف الفكر من إمكانات.. فالشكر العميق إلى كل جهة أو شخص شارك في بناء معرفتي، أو يسّر لي درباً للعمل والإنتاج، أو أذكى شعلة الإبداع في وجداني بكلمة استحسان أو بفعل تكريم.
إن الرائي لصوري المتنوعة في مظهرها، والمتتبع لأماكن وجودي ومشاركتي في مؤتمرات شرقية وغربية، قد يخيل إليه أن هذا من جنس التلوُّن لإرضاء الآخر والتشبه به.. وأرى من حقكم عليّ اليوم، أن أبيّن الرابط التمكيني الذي يفسر تنوع مظهري الخارجي مع بقاء ذاتي واحدة متمكنة في المجالات التي تتحرك فيها.. فأقول؛
إنه منذ بدايات وعيي الأول، أدركت أن ذاتي الواحدة لها وجوهٌ متعددةٌ وأصيلةٌ كلها، وكلّ وجهٍ يتحقق في ميدانٍ يتصل بالآخر ويكمله دون أن يناقضه أو يسعى للحلول مكانه أو إلغائه..
وأرى أنه يمكنني ضمّ هذه الميادين في رباعيّة، ترسم معالم ذاتي كما تتجلّى لحدقة بصيرتي:
الميدان الأول..الاختصاص العلميّ بالحقل الصوفي.
لكل إنسان من اختصاصه نصيب، فكيف إن كان الاختصاص تكريساً علمياً لما انعقدت عليه "نوازع النفس" و"جوامع الروح" منذ سنيّ المراهقة الأولى.
كان الشيخ محي الدين بن عربي، معلّماً أصيلاً.. ساعدني على العيش في عالم الحكمة الذي تفسره السببية المادية، ويرضي توجهي العلمي وعقلي الرياضي الذي مارست عملي التدريسي الأول في إطاره. وفي الوقت نفسه، مكنني من الانفتاح على إدراك قدرة الله اللامتناهية وفعلها في عالم الحكمة بسببية روحية.. فتمكّنت من جمع منطقين (منطق الحكمة، ومنطق القدرة) في عقل واحد.. ومن المجاهدة للرضى القلبيّ في كل حال.
كما شرّب رؤيتي للعالم كلّه بأشيائه وكائناته، بنفحة محبّةٍ قدسيّةٍ.. عندما أقنعني بوحدة الأكوان، وبأن كل شيء مقدس في الأصل لأنه ينتسب إلى الله سبحانه بنسبة الخلق.. كل شيء هو فعل الله..
وحملت هذه المعاني الإنسانية وترجمتها بالتحرر الفكريّ والنفسيّ، وبالانفتاح على الآخر بكل تجلياته، وبالانطلاق في المجال الإنساني الكوني والدخول في حوار عالمي، وبالاستعداد للتنقل في كل مكان مخلص يقدّم منبراً صادقاً للإنسان في هذا الزمان.
الميدان الثاني..الانتساب الشخصيّ لجمع مسلم هو الأسرة الدندراوية.
إن الأسرة الدندراوية ليست طريقة صوفية ولكنها كيانٌ اجتماعيٌّ يعمل على الإصلاح الإنساني.. ولا يتناقض انتسابي لجمع الأسرة الدندراوية مع توجّهي الصوفي، بل العكس لقد وضع الإطار المعاصر لمسيرتي الحياتية؛ بصوفيّتها وسلفيتها.
وعلمني الفكر الدندراوي أن الإنسان هو محور الإصلاح، وأن كل شيء يبدأ من أعماق الإنسان، ومن ماهية تكوينه.. وعملت على إعادة صياغة تكويني الإنساني بالارتباط بشخص المرسل رحمةً للعالمين صلوات الله عليه..
وتقدّس العالم كلّه، عندي، بأشيائه وكائناته، مرتين، في المرة الأولى لأنه صنع ربي الذي أتقن كلّ شيء وأراد إيجاد كلّ موجود، وفي المرة الثانية هنا لأن نبيي صلوات الله عليه هو أصل الوجود والسرّ الساري في كلّ موجود.
الميدان الثالث..
دخلت في سلك الوظيفة في الدولة وأنا دون العشرين من العمر.. وخدمت بلدي لأكثر من أربعين عاماً. مارست التعليم الابتدائيّ والجامعيّ، وتسلمت مناصب إدارية من رئاسة دائرةٍ إلى عمادةِ معهدٍ للدكتوراة.. وفي كلّ ذلك حرصت على الولاء للبنان.
وترجمتُ هذا الولاء للبنان في جودة التعليم، وعدم البخل بمعلومةٍ على طالب، وفي الدخول إلى قاعة المحاضرة مدفوعة بشغف التعليم وأمانة الوظيفة.. إيماناً مني بأن الوطنية هي جزء أصيل من عقيدة الدين وأن حسن ممارستها يرسخ الأمن والأمان في لبنان.
وهنا أحبّ أن أنوّه بأن الجامعة اللبنانية غنية بالأساتذة المتمكّنين من العلم والمعرفة والمبدعين في ميادينهم والمتحلين بأخلاقيات التعليم وخلق الوظيفة.. وأنه من عدم الإنصاف التنكّر للجهد الطيب المبذول في قاعات المحاضرات والمختبرات، وأن الدفاع عن الجامعة اللبنانية هو دفاع عن حقوق الصالحين المصلحين ودفاع عن الوطن.
الميدان الرابع.. العائلة والمجتمع.
إن العائلة هي الدنيا الصغرى أو العالم الصغير (microcosme) في حضن الدنيا الكبرى أو العالم الكبير (macrocosme).. في ثنايا أيامها ولياليها؛ ضحكت وبكيت، حزنت وفرحت، تذوقت طعم هشاشتي وصلابتي، جعلتني إنساناً بكل مواصفاته هلوعاً ضعيفاً، وخصيماً مبيناً.. شربت من كأس الخوف على الولد والحفيد، وجاهدت لتسكين قلق قلبي بالثقة بربي الذي لا تسقط ورقة إلا بإذنه.. وظفت في هذه الدنيا الصغرى كل معارفي وتجاربي ومجاهداتي.. لقد شكلت امتحاناً لذاتي أمام ذاتي.. فنجحت حيناً وفشلت حيناً, وحاولت دائماً.. إيماناً مني بأن الحفاظ على رباط العائلة هو حفاظ على صلابة الذات، ووحدة الوطن.
وهذا البعد العائلي دفعني إلى تعميق التزامي بالمجتمع وحفّزني على العمل في الشأن العام، فشاركت في تأسيس جمعية gladic– تصالح (تجمع الصداقة اللبنانية للحوار المسيحي الإسلامي) وجمعية wake(مركز محمد دمشقية الثقافي) من أجل عالم أفضل لأولادي ولأولاد كل اللبنانيين.
في الختام؛
تنوء الكلمات بحمل أثقال شكري إلى الحركة الثقافية – انطلياس التي بادرت إلى إسعادي بهذا التكريم، وأتاحت لي بهذه المناسبة الفرصة لأن أشكر جميع المشاركين في هذا اللقاء، متكلمين وحضور.. أشكر الزميلة د.أسمهان عيد على تألّق محبتها وحسن ظنها بي، وأشكر الصديقة والرفيقة د.نايلة طبارة على صدق مرآتها في إبداء ملامح شخصي، وأشكر السيدة ليندا غدار على إعداد الفيلم الذي شاهدناه.
والشكر الرائق للسيدة الراقية صاحبة المكانة الرفيعة لديّ ولدى كلّ اللبنانيين السيدة رباب الصدر، والشكر العميق لـ.د.نداء أبو مراد الذي تكرّم عليّ في هذه اللحظة السعيدة ولم يحرمني من جزئي السماعي عند حضور الذات، والعرفان الشاكر لصديق الجوهر الفلسفي الدكتور ناصيف نصار على مشاركته وصدق صداقته.
كما أشكر في هذه المناسبة زوجي د.حسن شرف الدين على حبّه للعلم والتقدّم المعرفي وعلى قناعته بجدوى عملي وجديته ووقوفه إلى جانبي في رحلتي الطويلة والشاقة، وأشكر أولادي وأحفادي على السماح لي بإعطاء جزءٍ من ذاتي لتحقيق ذاتي، وأشكر أهلي وإخوتي، وزملائي جميعاً على حضورهم ودعمهم، وإخواني في الأسرة الدندراوية، وأحبائي في الطرق الصوفية، ورفقائي في الجامعات والجمعيات، وخالص مودة قلبي لكلّ شخص تكلّف عناء المجيء إلى هنا، للمشاركة في إسعادي..
وأسأل الله سبحانه أن يديم على وطننا نعمة الأمان وتظل الحركات الثقافية والمراكز أرض النقاش المعرفي ومسرح التكريم لأعلام من لبنان والعالم العربي.
[1](فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى(الفتح 26)