ندوة حول كتاب الدكتور يوسف عيد
وجع العبور الى النص الآخر
انطلياس في 2014/3/12
الأستاذ نعوم خليفة
أيها الأصدقاء المثقفون
اهلاً وسهلاً بكم في الحركة الثقافية – انطلياس
نجتمع اليوم، وفي اطار المهرجان اللبناني للكتاب – السنة الثالثة والثلاثون حول كتاب وجع العبور الى النص الآخر للدكتور يوسف عيد، مع الدكتور الصديق ربيعة أبي فاضل والدكتور عبد الفتاح الزين.
يقول الدكتور يوسف عيد في مطلع كتابه: "العبور لا يتم من باب واحد وعتبة واحدة، فاذا دخلت النص من باب واحد الفيت نفسك امام ابواب ونوافذ وعتبات، وتراءى لك فضاء الابواب وامكانية اجتيازه.
ثم يتابع "هذه الرؤية في تآلفها واختلافها الى النص، هذه الحركية الجدلية تفرض تكوين فضاء ملموس، يقف داخل النص المطروح او امامه او خلفه، هذا ما يجعل العبور الى النص المريح وجعاً فكرياً وقلقاً نفسياً ومأزقاً حقيقياً لعدم التأكد من صوابيه الفضاء النصي الجديد..."
عندما قرأت ذلك انتابني وجع وفزع في آن. هل انا قادر ان اعبر الى النص. وهل افهم النص كما قصد صاحبه او انطلق منه في بناء مفاهيم جديدة فيكون النص الذي بين يدي هو الأساس كما يقول المؤلف، الذي انطلق منه الى نص آخر او نصوص أخرى.
واذا كان كل انتقال او عبور يشكل وجعاً او هو بحد ذاته وجعاً فكيف بالانتقال بين فضاءات النص المختلفة. وهكذا فالنص الاساس يغدو نصوصاً متعددة بتعدد القرّاء. ولكل قارئ طريقة في النظر الى النص لأن المبدأ الفلسفي الشهير يقول إن في كل طريقة نظر هناك طريقة وجود. Dans toute façonde voir il y a une façond'êtreولذلك فالوجع الفكري والقلق النفسي لدى القارئ يتمثلان بمدى قدرته على العبور الى النص وفهمه كما قصد صاحبه. ومن هنا تعدد القراءات والمفاهيم للنص الواحد اذ ان كل قارئ يخضع النص لتحليله الخاص ويستخرج منه افكاراً ربما كانت مخالفة تماماً لما قصده الكاتب. بل يغدو القارئ كالمحلل النفسي الذي يكتشف في النص اموراً لم تكن في وعي الكاتب. لن أكثر من الغوص في مضمون الكتاب، علماً ان وجعي من العبور اليه بل فزعي قد تحول سريعاً الى لذة وفرح، بل اترك عملية الغوص والتشريح لحضرة المنتدين. ولكن لا بد لي من قول كلمة حق فانا لم اعتد من قبل على قراءة هذا النمط من الكتابة حيث هناك غنى وعمق وعمل جدي ونقد وسعة اطلاع وتداخل الأدب مع اللغة والنقد والفلسفة وعلم النفس تشهد على طول باع المؤلف وقدرته على ارساء منهجية جديدة في النظر الى النص ليس من خلاله وحده بل من خلال هموم القارئ واهتماماته ومشاعره وعواطفه وثقافته ومشاغله الواعية وغير الواعية. علني وفقت في العبور الى النص. اترك الكلام للدكتور ربيعة ابي فاضل كاتب وباحث اكاديمي. توزع نتاجه الفكري بين الشعر والقصة وأدب الأطفال. له مؤلفات عديدة منها جبران والتراث العربي – أثر انطون سعاده في أدباء عصره، فوزي المعلوف شاعر الألم والحزن النزعة الصوفية في الأدب المهجري وغيرها لا مجال لذكرها وتعدادها.
صاحب نزعة صوفية متأثراً في ذلك بالحلاج وبوذا ولاوتسو وغلغامش والفيدا ودانتي وجان دولاكروا وتيار دوشاردان وتجربتهم الانسانية
له مختارات شعرية "الحان السكينة: ويلخص تجربته معتبراً ان الشعر طريق الى الحقيقة والجمال والخلاص.
ولو أردت ان أحيط بكل جوانبه الفكرية لما اتسع الوقت ولا الصفحات. ولكن حسبي ان اقدمه بكلمة متواضعة تشبهه الى حد كبير. يتناول الدكتور أبي فاضل الكتاب من الناحية النقدية. لك الكلام ايها الصديق العزيز.
الدكتور عبد الفتاح الزين استاذ الألسنية وفقه اللغة في كلية الآداب الجامعة اللبنانية. له عدة مؤلفات تتوزع على قضايا الألسنية واللغة وقواعد اللغة العربية. كما له عدد من الابحاث التي تتناول مسائل متعددة نشرت في عدد من المجلات. شارك في مؤتمرات عدة داخل لبنان وخارجه، كما شارك في العديد من الندوات وقام بالعديد من النشاطات الاكاديمية والتربوية وغيرها. وهو سيعرض للكتاب من الزاوية اللغوية. لك الكلام دكتور زين.
---------------------------------------------------
يوسف عيد : البعدُ الإنسانيّ للجمال!
الدكتور ربيعة أبي فاضل
1- بين التّأصيل والتحديث
يتّفق الباحثون في اللّغة وشؤونها، والقراءَة وأَنماطها، على أنّه يتعذّر التّفاهم والتواصل في فحوى موضوع معيَّن إذا كانت حدودُ المصطلحات ومفاهيمُها، حول الموضوع، مشوَّشة وتفتقر إلى التَّقييس (وضع المقاييس) والتوَّحيد (توحيد المصطلح أو المعايير المؤديّة إليه)، والتّرسيم والتنظيم[1]. وفي مجال توضيح هذه الحدود، ووظائفها، نلاحظ أنّ المؤلّفات النقديَّة تتطوَّر بشكل سريع، منذ العقد الأَخير من القرن الماضي، وهي تستوحي بشكل لافت ومتصاعد، معجم المصطلحات النقديّة، في الغرب، وأُفق استخدامها، وطبيعة مقامها. فبينما توقّف إحسان عبّاس عام 1971 ، على السّرقات متتبِّعًا المفاهيمَ التّراثية، من جودة ورداءَة، وتفوّق[2] ، رأينا زكي نجيب محمود يُحدّث عام 1979، عن القارئ الذي يدركُ ما وراء النَّص، ويكون قارئًا لقارئ، أي ناقدًا يكشف أَبعاد المقروء وأعماقَه، ولمسنا عنده إشاراتٍ إلى فرويد ويونغ و"الأرض اليباب لإليوت[3]. وتزامنًا (1979)، رأَينا كمال أَبو ديب، في "جدليّة الخفاء والتجلّي"، يَستوعب المقوّمات الجوهريّة للبنيويّة، لفهم دلالات مكوّنات النّص وإشعاعاته، شأن الثنائيات المثقلة بالدّهشة والمفاجآت، وأَسرار المعاني[4]. وبعد بضع سنوات كتبَ محمد مفتاح، عام 1985، "تحليل الخطاب الشّعري" (استراتيجيّة التّناص)، وكان شأنَ سابقه "أبو ديب"، متضلّعًا من الثقافتين، العربيَّة والغربيَّة، وحاول إيجاد تعريف جامع مانع للتّناص، على أنَّه تعالقُ نصوص مع نَصّ، يُعيدُ إنتاجًا سابقًا في حدود من الحريّة[5]. وراحت تترى، عام 2000 ، التَّرجمات والاجتهادات لنقل نصوص حول التأويل والتّفكيك والمناهج والمصطلحات[6] ، على قاعدة تحديث التّراث النَّقدي، وتأصيل الحداثة (الردّ إلى أُمّ مباشرة أو جدّة من التراث).
2- الآداب والنقد المنهجي
وقد عايشنا في كليّة الآداب – الفرع الثّاني نهضة، نقديّة، في فضاء هذا التّطور النّاتج من تفاعل الثقافات والحضارات، على غير صعيد. ومنذ كتب د. نبيل أيّوب "النّقد النّصي" عام 2004 ، بعد "التّعبير ومنهجيّتُه وتقنيّاته"، وبعد توسيع أُفق نقده، نظريّاتٍ ومقاربات، عام 2011، في كتابيه :"النقد النصّي وتحليل الخطاب" و"نصّ القارئ المختلف وسيميائية الخطاب النقدي"[7]، حدث تحوّل على مستوى المنهجيّة والمناهج، والثقافة النقديّة، ما تطلّب مرحلة انتقاليّة للتحوّل من القراءَة التقليديَّة إلى الأُخرى التي تنهج نهج آباء النقد شرقًا وغربًا. ولم يكن لأَيّوب فضل الخروج على النقد الانطباعي المكرّر، وحسب، إنّما أَطلق مناخًا لطيور مباركة، طليعتها، في مقام النّقد، أديب سيف في كُتبه، ومنها : "الملاءمات النّقديّة من عالم الدلالة إلى معالم التأويل"، و"سيمياء العدد والقلق الأكاديمي"[8]. وميزة أيوب وسيف أنّهما يجيدان فهم المناهج الغربية بلغاتها، من دون رتابة التّكرير والتَّرجمة المصطنعة، وتشويه المصطلحات، من هنا كونُهما، حتمًا، ناقدين عالمين، وقارئين تأويليَّين بارزَين. ولا شكّ في أَن كتابي هدى رزق ويوسف عيد مثّلا محطة جديّة، ومسؤولة، وتنويريّة، في سياق النّقد العلمي، الـمُـشرق، النابض بالنَّباهة والحياة:
- Petites clefs pour grandes oeuvres [9]
وجعُ العبور إلى النّص الآخر"[10]
وإذا كانت ليليان سويدان أَشارت إلى مهارة رزق ناقدةً ، وشغفِها بالقراءَة والكتابة، فَإنّ ما حاول تقديمُه صاحبُ :"وجعُ العبور إلى النّص الآخر"، هو محاولاته الجادّة لفهم مصطلحات النَّقد قديمًا وحديثًا، وتوظيفها في قراءة الشّعر، شأن ما حقّقت هدى رزق في مقاربتها الحارّة لنص ﭘول إلوار (SANS ÂGE). وتبقى محاولةُ الدكتور عيد مرتكزةً في إطار إزالة الخلط أو الالتباس عن مصطلحات ومفاهيم، قد لا يكون لها مواز في تراثنا.
3- البحث عن حقيقة المفهوم
وأمام دخول المفاهيم "برج بابل النَّقدي"، كما قال عيد، وبإزاء تحوّل الانفتاح على نظريات الغرب النقديّة إلى انبطاح، وكثرة الالتباسات المفاهيميّة، رأيناه يتوقّف على معجم من المصطلحات، منها : الشّعرية، التّناص، التضمين، العبور النّصيّ، الفضاء التأويلي، السّبك، التكرار، الانزياح، الإحالة، التّضام، الحذف والحبك، العدسة النقديّة، ديناميةُ التناص واستراتيجيّتُه، البنية، الحِزَم الدَّلالية، الاستدانة، الاسترجاع، السَّرقة، السلوك النَّصّي، أساطير النظريات، الجنون النّظري، فينيشيّة النّص، النقد المحايث، القراءَة، التوازي، المفاتيح، الخطابات، الترابطات المتناظرة، قانون التبادليّة، التأويل، الثنائيات... القوة الإنجازية، التصحيف (paragramme). ولم يكتفِ النّاقد بتحديد موجز للتناص أَو للشعرية، وغيرها، إنّما كان يكرّر ويذكّر، في معظم فصول كتابه، بماهية التّناص والشّعرية، ويبسط التّفاصيل، مستعينًا بالمصطلحات الغربية – الألسنية تارة، وأُخرى بالنقد العربي الكلاسيكي. وكلُّ نَص كما رأى، هو مخزون لنصوصٍ لا حدود لها، ويشكّل حقل التّناص، إذًا، بناءً متعدّد الأَصوات والقيم[11]، والتفاعلات، على تنوّعها (امتصاص، تذويب، إبداع ألخ)، وقد استعان بـ Gérard Genette، وآخرين، للكلام على أنماط التّناص[12] وأصنافه[13]. وهكذا توقّف على الشعريّة التي تعتمد المجازات اللغوية لكشف قوانين الإبداع في النّص الأدبي، شعرًا ونثرًا. وقد ميَّز الشعريّة وَحُكمَها العلميّ، من الجمالية وحكمها الحدسيّ[14]، وهي اجتهادات نجدها تتردّد في كتابات مغربية وجزائرية، وعربيَّة، وقد وجَدت حضورها الموضوعيّ، عندنا، مع كتابات الدكتور نبيل أيّوب حول النقد النصّي، والقراءات، والمناهج. والذي أَضافه عيد، في رؤيته، هو عدم الاكتفاء بالتفكيكات الميكانيكيّة للنّصوص الشعريَّة، والعبور نحو الروح الإنسانية، في النقد الشّعري، والعوالم الروحيّة[15]. وباختصار أراد وضعَ الطّاقة الألسنيّة في خدمة التجربة وجوهرها الخفي والراقي[16]، أي الذّهابَ بالتأويل إلى قراءَة الحاضر والغائب معًا. وتجلّى ذلك في قراءَته لبعض شعر درويش والخال وأبي شبكة وأبي فاضل.
4- البحث عن مفهوم الحقيقة:
وبناءً عليه، كانت قراءَته لرمزيّة الأزرق، والأرض والسّماء، في قصيدة محمود درويش[17]، وإشارتُه إلى البيت الشّعري، المقرّ الدافئ لسكن الرّوح الشّاعرة[18]، وإلى لا نهائية اللون، وبالتالي التّجربة التي صدرت عن الإنسان، لكنّها أبعدُ من المكان والزمان. وفي المقابل، فإنّ يوسف الخال، بدلاً من الرَّحيل الأزرق وراء نقاء آخر، كما فعل درويش (من المفيد العودة إلى كتاب مهى جرجور :"محمود درويش قراءة جديدة في شعره، الدلالة الثانية "دار العودة، ط1، 2009، (البحر، ص65)، عاد إلى بئر القلب، إلى ماء الرّوح المجدّد الذات والحياة، والمحرّر من العقم ومأسويّة الوجود[19] ، إلى بحر المسيح بحثًا عن نقاء لا يُلوَّث[20]. لذلك، فالعبور إلى النّص، في نقد عيد، هو مرحلة تؤسّس للعبور إلى النّفس، وبالتالي إلى مثالها عبر رمز ابراهيم، وهذا ما سمّاه الناقد "العبور الدِّيني"، في حياة الخال، ورحلته[21]. ومن أزرق درويش إلى الولادة بالماء، لدى الخال، وإلى توبة الانتصار على الثنائيات، في معاناة أَبي شبكة، والعبور من الصّراع إلى الانسجام[22] ، حاولنا أن نرى كيف أَنّ البنية الشعريّة والجماليّة هي في خدمة الموقف والرؤية، أَي في مقام البحث عن الحقيقة. أولم يقل أفلاطون إنّ الفيلسوف الحقّ لا يغدو إنسانًا نبيلاً إلاّ عبر شغفه بالحقيقة؟
“L’attachement à la vérité, qu’il doit prendre pour guide et poursuivre en tout, et partout…”[23]
وفي هذا المقام، لا يحقّ لي هنا، أن أتكلّم على قراءَة عيد لتجربة الشَّاعر في :"عطشان يحنو على الينبوع"، فهو يتمتّع بمنتهى الحريّة والطّاقة لتذوّق أقرب النصوص إلى قلبي، لكنّي أكتفي بالقول إنّ صفات العزلة والمعرفة ورحلة العبور نحو الينبوع – الله، والعطش إلى الحريّة، والبعد الكوني في المعاناة، كلّها مفاتيح تساعد على فهم عالمي الخفي والظّاهر، وعلى تذوّق لغتي المشحونة بالتخيّيلات والتمزّقات والزّهو الخالق. وقد ألبسني الله نعمةً، وكرامةً، وأنا أكاد أُنهي ربع قرن من حياتي الجامعيّة، بأن جمّل زماني وحياتي بصداقات زارت حديقتي، وسقت أزهاري بغيث المحبَّة والأنس والوفاء : ديزيره سقّال، نبيل أيوب، ربى سابا، أديب سيف، ناتالي خوري، طوني الحاج ، بيار شلالا، يوسف عيد، موريس عوّاد. وأكتفي بالقول الآن، إنّ البحث الذي تضمّنه الكتاب، حول البعد الصّوفي في قصيدتي العطشى، هو غنيّ وعميق، وقد كُتب بحبر الرّوح، لأنّ عذوبة العذاب، لا يُعبَّرُ عنها بالعاديّ والمألوف[24]. وكل ما أستطيع قوله، في هذا الموضوع، أَنّ كتابة هذه القصيدة لم تكن بقوّة الوعي أو اللاوعي بل بنعمة الانخطاف، حيث يغدو الزمان والمكان والإنسان سحابةً تلفّ الكائن، وهو داخلها، يتناغم مع ذاته والأشياء، ويبعث من صمته البليغ نشوة تتردّد وسطَ هياكلِ المساحة الكونيّة. بهذا المعنى، لم يعد الشعر لعبة بلاغيّة بل هو حقل القيم المتفتّحة على المطلق، والـمـُعانَيات المفوِّحة فضاءَها ، والعالم، والحقيقة الحرّة المطمئنة.وتبقى قراءَة عيد الدّيوان محاولةً للدّخول في عرفانية الارتقاء، لدى الشّاعر، وهو لم يلتزم نهج تراث قال عن الدّنيا : "مَنْ عبَرها سَلِمَ ومَنْ عمَّرها نَدِمَ" بل استمرَّ قياميًّا، خبزُه الفرحُ، ولو عاريًا على صليب الزّمان والمكان! وقد وضع الناقدُ اصبعه على هذا الجرح الطَّيِّب!
5- خاتمة:
إنّ محاولة الدكتور عيد، بعد تجارب الدكتور أيوب، في مجالات تحديث النَّقد واستكمال الدكتور سيف الرِّسالة الصَّعبة، اتّسمت بالحرص على تقريب المفاهيم من القارئ. وإنّ معجمًا بالمصطلحات النقدية الحديثة الغربية، يُستلّ مما كتب الثلاثة الباحثون، يُشعرنا بأزمة حادة، وبمشكل، يجعلنا نكرّر بأَلسنة طلاّب اليوم، وهم القرّاء الأَقرب مِنّا إلينا :"لماذا لا تكتبون ما يُفهم"؟ على طريقة أَبي تمام، فيُجيب هذا الأخير : "لماذا لا تفهمون ما أكتب!"، الحقيقة أنّ الفلسفة اليونانية التي أغنت الشّعر، بناءً وتحليقًا، تحوّلت، في هذا النّقد الرّزين إلى تلقيح أدبنا الوصفي بالكثير من الإبداع العلميّ، وبمئات المصطلحات الفرنسية والإنكليزية، التي من المتوقَّع أن تُنميّ خطابنا النقدي، ومفاهيمنا، وتنهض بثقافتنا . لكن، إلى أيّ حَدّ تستمكن هذه الترجمة التأصيليّة (العلم بمقاصدها ووضوح أهدافها)، من التواصل مع المتلقّي، وإدماج النّص المترجم في البيئة المعرفية واللغوية للثقافة المتلقيّة، لتكون قادرة على الانتاج الفكري؟[25]، ولتناسب الخصائص التَّداولية لمجال المتلقي؟ إنّ احتكاكنابطلاَّبنا، في غير معهد وكليّة، جعلنا نلاحظ أنّ مادّة النّقد الصّعبة، الـمُمنْهجَة، المثقلة بحقول المعرفة، وجدت تجاوبًا لدى قِلّةٍ نخبة من الأَحبّاء، فإلامَ يعود الأَمر؟ هل هو عجزٌ عن فهم المصطلحات الأَجنبية، وعن الخوض في تعقيدات النّظريات الحديثة؟ هل هو تقصير، وإشاحة عن الأصعب لاختيار الأَقرب؟ وما العمل لتبسيط التلاقح، على صعيد النّقد، ما بين الأصيل التراثي والـمُحدث الـمُستجلب من الثقافات الأُخر؟
إنّ عملك، يا صديقي يوسف، ولو في مَقام القراءَة، إنَّما كُتبَ بحبر الروُّح والوفاء، وبعمقٍ ورقيّ، بَرْهَنا أَنّ الشاعر عندما يكتب نقدًا أَدبيًّا، يَمنحُه بعدًا مختلفًا، وتأويلاً نبيلاً.
[1] - علي القاسمي، علم المصطلح، مكتبة لبنان، ناشرون ط1، 2008، ص 355.
من المفيد العودة إلى محاضرة أَحمد شفيق الخطيب، مكتبة لبنان، 1989 (التقّييس والتوحيد المصطلحيّان في الوطن العربي)، ص 8
[2] - إحسان عبّاس، تاريخ النّقد الأدبي عند العرب، دار الثقافة، بيروت، ط1، 1971 ، ص 279 ، 301 (ط4، 1983)
* راجع أيضًا حامد قنيبي، دراسات في تأصيل المعرّبات والمصطلح دار الجيل، دار عمار، الأردن ط1، 1991.
[3] - زكي نجيب محمود، في فلسفة النقد، دار الشروق، بيروت، 1979، ص109 – 110.
[4] - كمال أبو ديب، جدليّة الخفاء والتجلّي، دراسات بنيويّة في الشعر، دار العلم للملايين، بيروت، ط1، 1979، ص 11،13، 14، 294.
[5] - محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري، (استراتيجية النّص)، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1، 1985، ص 121، 124،
[6] - راجع مثالاً : سعيد بنكَراد، أومبرتو إيكو، التأويل بين السيميائيات والتفكيكيّة، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1، 2000.
[7] - مكتبة لبنان، ناشرون، ط1، 2011.
[8] دار العلم للملايين، 2006، 2014.
[9] - Dar el- Machreq, Beyrouth, 2010
[10] - دار نعمان للثّقافة، ط1، تموز 2013.
[11] - ن. ص 18 – 19.
[12] - ن.ص 31.
[13] - ن. ص 39.
[14] - ن.ص 79 – 80.
[15] - ن.ص 216.
[16] - ن.ص 217.
[17] - ن. ص 140.
[18] - ن. ص 141.
[19] - ن. ص 186.
[20] - ن. ص 188.
[21] - ن. ص 190.
[22] - ن. ص 213.
[23] - Platon, la République, Eds. Gonthier, Paris, 1963, p. 490
[24] - وجع العبور إلى النّص الآخر، ص 117 (إنّ الرّوح يتطلّب طعامًا وماءً روحيّين).
[25] - علي القاسمي، علم المصطلح، مكتبة لبنان، ط1، 2008، ص 177 .
--------------------------------------------
فـرح العبـور إلـى النّـصّ الآخـر
د. عبد الفتّاح الزّين
أستاذ بالجامعة اللبنانيّة سابقاً
أستاذ زائر بالجامعة الأميركيّة
أستاذ زائر بالجامعة اللبنانيّة الأميركيّة
بيـروت فـي 12 نيسان 2014
فـرح العبـور إلـى النّـصّ الآخـر
أيّهـا الحفـل الكـريـم
الصديق الطيّب، د. يوسف عيد
كان منك عبور إلى النّصّ الآخر، بل إلى النّصوص الأخرى، إن لم يكن إليها وإلى أصحابها معاً. واليوم جاءك من يعبر إلى نصّك، بل من يعبر إليكَ أنت في كتاب وَلَدْتَه ووسمته بـ"وجع العبور إلى النّصّ الآخر".
هنيئاً لك أنّك توجّعت قبل أن تلد ما ولدت. وهنيئاً لنا، نحن القرّاء؛ لقد فرحنا. فرحنا بالمولود الجديد فرح الفرح.
توجّعت قبل أن تنجب ما أنجبت، وأيّة ولادة بلا وجع تكون يا صاح؟! تمخّضَت مريم، فولدت نوراً هَدى، وتمخّضت أنت ، بل تمخّض عقلك، فكان نور على هيئة كتاب.
صحيح أنّ العبور إلى النّصّ لا يتمّ من باب واحد وعتبة واحدة، كما تقول، فدون العابر متى ولج باباً أبوابٌ وأبواب، عتباتٌ وعتبات. نعم دون هذا العابر متاهاتٌ ومتاهات، لا يفوز بالخلاص منها، من دهاليزها وسراديبها المعتمة، إلاّ البارع البارع، هذا إذا فاز.
قُل لي بربّك يا صديقي، ماذا عنك ؟ أين أنت اليومَ من هذا الوجع؟ فاتحتنا فيه فاتحةً لعبورك إلى النّصّ الآخر، ولكن ماذا عنه بعد أن خرجت من هذا النّصّ ؟ يقيني، أيّها البارع ، أنّ حرفاً واحداً من سِفرك السمين الّذي أكتنفه الآن اكتنافي طفلاً جميلاً في شهره الثامن، وهو عمر كتابك، قد أنساك كلّ هذا الّذي تكبّدته في رحلتك الشّاقّة إلى النّصّ الآخر ؟ أنت اليوم في فرح عامر. أنت فرِحٌ فرَحَ الفرح، أليس كذلك؟
أمّا أنا، فماذا عنّي بعد أن عبرت إلى نصّك الّذي لم يكن لولا عبورك أنت إلى النّصّ الآخر، بل إلى النّصوص الأخرى، إن لم يكن إليها وإلى أصحابها معاً؟ لأنّ خطاي حملتني إلى الآخر المختلف عنّي، فكشفت عنده ما كان خفيّاً عليّ، وقبلت به؛ ولأنّ مركبتي أقلّتني فبلغَت بي، وبلغتُ بها سحباً لا تبلغ وعوالم لا تنظر؛ ولأنّ غوّاصتي أخذتني إلى سديم البحار والمحيطات؛ ولأنّ بوصلتي، الصديقَ الطيّب، ذهبت بي بشوق إلى حيث ذهب، وبحبّ لا يعرفه إلاّ العاشقون؛ ولأنّ من رافقته، المؤدَّبَ العارف بآداب الرحلة وأصول التّرحّل، سقاني من لذّة الترحّل معه ألذّ ممّا ذكر في كتب الرحلات؛ لكلّ هذا فقد غمرني فيض من نور الكلمة إذ قرأت الكتاب، وفيض من نور الله ، وفيض من نور الفرح: إنّه فرح العبور إلى النّصّ الآخر، العبور إلى فضاء كتابك، وفضائك أنت، وأفضية من عبرت إليهم.
ثمّة لوحة تخلب لبّك في مطلع الكتاب، وفي ثناياه. ثمّة مشهديّة علميّة رائعة تحملك إلى فضاء رحب، أرحب من الفضاء. وجوه تحدِق بها، تستذكرها، تستذكر الزّمان الّذي صنعته بأسلات ألسنتها وأسلات أقلامها. ووجوه أُخر تحدِق بها، تنضح بماء الحياة الحيّ. هي حيّة ترزق في زمان تصنعه على هدي نور قلبين: القلبُ والعقل، أو على هدي نور أصغرين: القلبُ واللّسان. يا لفرح المتأمّل هذه اللوحة! إن هو إلا فرح كفرح الواقف، أو الرّاكع المصلّي أمام محجّة. هو فرح الداخل إلى مفحلة فحولها صنعوا الحياة. هو فرح البهلوانيّ الخارق المتنقل على شعاع شمس متموّج يختزن الأزمنة والأمكنة أو يختزلها.
انظُر ترَ. هذا الجاحظ، وهو من هو؛ وهذا ابن طَباطَبا، وهو من هو؛ وهذا ابن الأثير، وهو من هو؛ وهؤلاء ابن رشيق، وابن عربيّ، والحلاّج، والغزاليّ، والجرجانيّ، وأبو تمّام، والبحتريّ، وأبو عمرو بن العلاء، وهمُ من همُ. اللهُ يا اللهُ على زمن العمالقة، أين همُ؟ انظُر ترَ. هذا غاستون باشلار، وهو من هو؛ وهذا رولان بارت، وهو من هو؛ وهذا جيرار جينيت، وهو من هو؛ وهؤلاء دو سوسّير، وتشومسكي، وجوليا كريستيـﭭا، وتودوروﭪ، وباختين، ودِريدا، وفوكو، ... وهمُ من هم.
أولم تفرح يا صديقي يوسف أنّك جمعت هؤلاء الفحولَ في مفحلتك؟ أولم تفرح إذ قبضت باليمنى على قبس من نور عمالقة الماضي، وباليسرى على قبس من نور عمالقة الزّمانِ هذا؟ أولم تفرح أنّك جمعت هؤلاء في دارك؟ وكم هي رحبةٌ دارك! هي التي لم تتّسع لهذه الكوكبة من النّور فقط، إنّما اتّسعت لإرث لهم، ما أثمنه إرثاً! أسفارٌ على أسفار على أسفار! مائدة عليها من ألوان المشرب والمأكل ما لذّ وطاب! هنيئا مريئًا شربت منها وأكلت. ومحظوظون نحن أنّك لم تبخل علينا بما شربت وأكلت. أطباق من العلم كثيرة على هذه المائدة؛ نقّل عينك أنّى شئت ترَ ما يشتهيه عقلك: المدرسة البنيويّة، المدرسة الشّكلانيّة، المدرسة التّوليديّة التّحويليّة، التصوّف، مناهج البحث الأدبيّ، النّقد الأدبيّ، الأدب المقارن، التّناصّ، النّقد النّصّيّ، السّلالة الأدبيّة، النّقد الاجتماعيّ، النّقد الموضوعاتيّ، النّقد التّحليليّ النّفسيّ، النّقد التّكوينيّ، الشّعريّة، ... ما أعظمها ثروةً أيّها السّادة!
أولم تفرح بهذه الثّروة الفكريّة العلميّة القابعة راضية مرضيّة في دارك؟ أولم تسِل بها إلى بلوغ المعرفة التي نشدت، وكان لك بفعلها ذلك الغوص في أعماق أعماق من عبرت إليهم في نصوصهم؟
أولم تفرح بها هي الّتي كان لها الفضل في أنّك جمعت بين مجدين: مجد الأصالة ومجد الحداثة؟ أولم تفرح بهذه الثّروة الّتي قرّبتك من الحضارات الإنسانيّة وقرّبتها منك؟ لو لم تكن مغتبطاً بها لما بُحت بأنه لا يمكنك أن تفحص تراثك إذا أغلقت بابك ونوافذك، وظللت داخله. لو لم تكن مغتبطاً بها لما قلت حرفيّاً: "إنّ الفكر الإنسانيّ العربيّ المعاصر لا يتجدّد ولا يكتمل بناؤه المعرفيّ بانفتاحه على حضارة واحدة فحسب، بل هو بحاجة لأن ينهل من حضارات العالم المتعاقبة والمتزامنة كلّها، إذ لا تستطيع أمّة من الأمم، مهما بلغت من الرّقي الحضاريّ والمعرفيّ، أن تكتفي بتراثها وثقافتها القوميّة الخاصّة بها". لو لم تكن مغتبطاً بها لما قلت في مقام كلامك على " ربيعة أبي فاضل " : "والتّجديد الّذي أتى به ربيعة لا يرهبنا بل يسعدنا".
كان الطّبقُ المفضّل عندك، إذ جلست على المائدة "التناصَّ" علماً ومنهجاً. هذا الطّبق صنعته يد طبّاخ ماهر جوّالة على شعاع شمس متموّج بين الشرق والغرب. طبق صنعته يده، وطبخته يده، ثمّ قدّمته إلى ذوّاقة أكله، هو أنت. من يقرأْ "فرح العبور إلى النّصّ الآخر"، بل من يقرأ "وجعه"، يعلمْ أنّ هذا الطّبق الغنيّ بموادّه، كان قوّة دفْع لآكله، مكّنته من اقتحام حصون لا يجرؤ على اقتحامها إلاّ الشّجعان البواسل. اقتحم الصديق يوسف حصوناً أربعة وفاز. اقتحم مرّة وفاز، حين عبر إلى قصيدة"ربيعة أبي فاضل "، "عطشانُ يحنو على الينبوع"، واقتحم مرّة وفاز، حين عبر إلى ديوان "محمود درويش "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهيَ"، واقتحم مرّة وفاز، حين عبر إلى قصيدة" يوسف الخال"، "البئرُ المهجورة"، وختم اقتحامه وفاز، حين عبر إلى ديوان" إلياس أبو شبكة"، "أفاعي الفردوس".
عناني، على العموم، من فرسان الكلمة الأربعة هؤلاء، الصديق الطيّب" ربيعة أبي فاضل". وفاتحة الكلام ها هنا، أنّني حسبت يوسف، في عبوره إلى ربيعةَ الصّوفيّ، صوفيّاً يذهب إلى صوفيّ. رأيت نصّ يوسف، وهو يحلّل "عطشانُ يحنو على الينبوع"، يحاكي نصّ ربيعة. تهت وأنا أقرأ "سيغماتا صوفية" وقد قرأتها بأناة. أهي ليوسف أم لربيعة؟ وهل حَلّ يوسف في ربيعة أو ربيعة في يوسف؟ تهت وأنا أقرأ "سيغماتا صوفيّة"، فتداخلت في ذاكرتي الأسماء. لم يعد يوسف عندي كما هو في الهويّة، ولا ربيعة. صار " يوسف عيد " عندي " ربيعة أبي فاضل "، وصار " ربيعة أبي فاضل" " يوسف عيد". نعم، أعترف أنّي تهت، فاختلطَت عندي الحدود والمسافات. لم أعد أعرف أين يبدأ نصّ يوسف وأين ينتهي ليبدأ نصّ ربيعة، ولا أين يبدأ نصّ ربيعة وينتهي حتى يبدأ نصّ يوسف... أدخلني التّداخل في متاهات، ومع ذلك أحسست بفرح الحلول، حلولُ كبيرٍ في كبير. يقول يوسف، في سياق الحديث عن المعرفة: "هذه المعرفة لا يبلغها إلاّ مَن صفت مرآة قلبه، وأصبحت قابلة للتجلّي الإلهيّ، واصطفت همّته، فارتفع الى منزلة الأخلاق في الفضائل. ويقول في ربيعة، في إيمانه بالينبوع، رمزاً للّه: "هو في كلّ هذا قد طهّر قلبه للوصول إلى قلب الجمال والحرّيّة، إلى قلب المحبّة والحقِّ، إلى قلب الينبوع، إلى الله". أوليس هذا من أساليب أهل التّصوّف؟
وبعد، فلقد استطاع المؤلّف، بمجهر كان يحمله بيمناه، ومبضع كان يحمله بيسراه، تشريح شخصيّة ربيعة الصّوفيّة، وإبراز كلّ العناصر التي دخلت في تكوينها. والمؤلّف لم يعوّل في دراسة هذه الشخصيّة إلاّ على ما تركته هي ماء للعطشى. نعم، لم يقل كلمة من عنده في ربيعة، ولم يطلق حكماً عليه أو له، ولم يبرز قيمة له أو صفة... لم يكن ذاتيّاً في تحليله، وإنّما كان موضوعيّاً إذ رجع إلى نصّ شاعرنا نفسه. لقد صمت هو، وجعل النصّ يتكلّم. كُلّ ما فعله أنّه أيقظ لسان النصّ، ودوّن ما نطق به. لقد رقش المؤلّف ما أفصحَت عنه "عطشانُ يحنو على الينبوع" بريشة رسّام ماهر. رسم تصوّف ربيعة، ورسم ربيعة نفسه، فكان الرسم في مَرآة عيني أنا لوحة راقية. انظر إلى ربيعة ترَ من بديع صفاته التأمّل، والميل الى العزلة، وطلب المعرفة، والإشعاع الرّوحيّ، والإيمان بالينبوع وهو الله، وترَ، ترَ، ترَ، .... وتتمثّل براعة المؤلف لإبراز هذه الصفات في اعتماده التقابل. فحين يحدّث عن تأمّل شاعرنا مثلاً، يأتيك بنصّين، في أحدهما الصّفة الّتي يريد تجسيدها، وفي الآخر صفة أخرى تقابلها، مختلفة عنها اختلافاً يبلغ، في بعض أحواله، حَدَّ التّضادّ. يقول الباحث في هذا السياق: "التّكنولوجيا التّي غزت البشريّة جعلت الحياة سريعة، متغيّرة، سطحيّة، متنقّلة، ضاجّة، صاخبة، لا صمت فيها ولا سكينة". ثمّ يقابل هذا، في النّصّ نفسه، بقوله في ربيعة: "هو الصوفيّ، متأمّل، مصلًّ، متعبّد في الذّات، ذاتٌ تأخذ بمدبّرها إلى منازل لا يستطيع الإنترنيت الوصول إليها مهما علا كعبه العلميّ". ومن هذا قوله محدّثاً عن ميل ربيعة إلى العزلة: "وتنسُّك أبي فاضل هو كلّ الحرّيّة، بل الحرّيّة كلّها، حيث المناجاة تحفر في القفر، وفي الصخر، علاماتٍ وإيقاعاتٍ تتضجّر ولا تيبس. وهو في ذروة ارتقائه يسلك طريق التّوبة وحده، بعيداً عن الزّؤان الفاني، عن الرَّغبات، ليس ناسكاً واحداً بل ألف ناسك من الشّمال".
وشغف الباحث بالتّقابل دفع به إلى اعتماد نمط منه في دراسته، وهو المقارنة. فبغية جلاء رسم أبي فاضل الصوفيّ، رأى من الضّرورة مقارنته بصور تقوم العلاقة بينها وبين الرّسم إمّا على التّماثل، وإمّا على التغاير، عنيت الاختلاف. لقد عبر بنا عيد الى اثنين من أهل التصوّف، أحدهما نعيمة، والآخِر ابن عربيّ. يقول وهو يحدّث عن "أنا" ربيعة: "كأنّي بهذه "الأنا" نضجت في ذات مردادٍ لنعيمة، لأنّ مردادًا يمثّل الله والإنسان معاً. وكما خلق نعيمة مرداداً من نفسه، هو الشاعر ربيعة يخلق "أناه" من أناه، من نفسه وروحه وفكره وإرادته، لينعم بالمعرفة التيّ توصّل إليها. فإن لم يستطع أحدٌ أن يشاركه تلك النعمة الكبرى فليكن مرداده، أو لتكن أناه، نفسه". ويقول محدّثاً عن "الأنا" هذه أيضاً: "... إنّ "الأنا" المنثورة طيّ المفاصل في القصيدة هي صورة طبيعيّة، وانعكاس بدهيّ لغبطة المعرفة. أمّا ذكر ابن عربيّ في مجال الحديث عن " ربيعة أبي فاضل " على سبيل المقارنة، فذلك أمر مبرّر لإعطاء البعد الإسناديّ للنّزعة الصوفيّة، مع التّشديد على أن الاثنين يختلفان كلّ الاختلاف من حيث العقليّة والذّهنيّة والتجربة الشعريّة".
وممّا صوّره الكاتب في ربيعة تصويراً راقياً لغته. فهي عنده في "صدورها عن مرتبة المعقولات سوف ترتقي بالشّعر وبالصّورة عن برزخ المعقولات الكونيّة إلى برزخ المعقولات الإلهيّة. من هذه الرؤية اتّخذت لها موقع الأمومة اللغويّة، وتمثّلت في أرقى أشكال الصوفيّة المعاصرة. لقد أوقف المتنبّي مرّةً ممدوحه في جفن الرّدى، كذلك الشّاعر ربيعة، فقد أوقفه الله في مطلع القصيدة مع اختلاف الموقفين، كأنّه طفل ميّت يحنّ إلى نور الشّمس".
وتمكُّن الباحث في التحليل والتعليل لا يقلّ عنه في الرّسم والتّصوير. صاحبنا باحثٌ أيُّ باحث، عماده في بحثه هذا النور المسمّى عقلاً. فما أتى به من تحليل وتعليل في غير موضع من كتابه كان بهدي منه وتوجيه ليس إلاّ. وبعض تجلّيات العقل أو بصماتِه يتجسّد في مقدرة صاحبه على الملاحظة الرّشيدة، واستقراء النصوص بدقةٍ علميّة موزونة. فهو عندما يحدّث عن النّفي في اللغة، مثلاً، يأتيك بكوكبة من النّصوص فيها ما فيها منه؛ نصوص يقرأها جيّداً، يفلّيها تفلية، يُعمل فيها مباضع الملاحظة، ثمّ يخضعها إلى ميزان العقل قبل أن يُصدر الأحكام.
في مقام كلام المؤلّف على الشّعريّة الصوفيّة في قصيدة "عطشانُ يحنو على الينبوع"، يقول في النفي وفائدته: "إنّ شعريّة هذه القصيدة ولغتِها الأمّ تقوم على تحقيق الفعل ونفيه. فهي(أي: عطشانُ يحنو على الينبوع) قصيدةُ "لا"، لأنّ الشاعر قد استخدم فيها أكثر من ثلاثمئةٍ وخمسين مرّة لا النافية، بما يشبه الحلم واليقظة:
لا إيقاع للماء
لا الجزيرةُ تطرب
لا أقول، لا أنفي، لا مسافات
فتكرار النفي (والكلام للباحث) لم يصدر عن غفلة، وانّما عن قصد وتأمّل، وذلك لما فيه من فوائد التوكيد".
وحتّى يُطمئن الباحث القارئ إلى ما ذهب إليه من وظيفة للنفي المكرّر، وهي التّوكيد، فإنّه يأتيه بنصّ آخر، لشاعرٍ مختلفٍ هو " محمود درويش "، فيه نفي مكرّر، ليست الغاية منه النّفي، إنّما الإثبات المؤكّد:
نعرف الماضي ولا نمضي
ولا نقضي ليالي الصيف بحثاً
عن فروسيّاتِ أمسِ الذّهبيّة
وبعد إيراد هذا المقطع يقول المؤلّف: "يثبت الشّاعر علمه بالماضي والفروسيّات التي مارسها العرب، ويعرف أنّ العيش على الأمجاد سهل ممتع. ولكنّه يختار النفي في الرّحيل إلى الوراء من جديد، فهو بنفيه هذا يثبت ما لم يقله".
الحقَّ الحقّ، بعد أن عبرت إلى "وجع العبور الى النصّ الآخر" ازددت قناعة بأنّ صاحبي عالي الكعب في التعبير، أحدُ أبرع الخّرازين في صناعتيِ النّثر والشّعر. نعم خرّاز هو، يختار الدّرر الثمينة، يتفنّن في نظمها، يرصفها رصفاً خلاّباً في سلك ينتزعه من بين نياط قلبه، ثمّ يدفع بها عِقداً جميلاً يزهو به صدر سيّدةٍ جميلة.
ها هو الرحّالة، ها هو العصفور العابر، يهبط في اليونان. يدخل سوق الصّاغة هناك، يأتي بلؤلؤة تليق بـ"عطشانُ يحنو على الينبوع"، لؤلؤة اسمها "سيغماتا". وقد كان اختياره لهذه اللؤلؤة حفراً وتنزيلاً، ذلك أنّ " السيغماتا "، اليونانيّة، تعني لغةً الأثلام أو الأثر العميق، وأنّ ربيعة يُحْدث، في قصيدته، ثلماً في الأدب اللبنانيّ مميّزاً ومؤثّراً وعميقاً.
وها يوسف. ها أسلوبه السهلُ الممتنع. ها تراكيبه المصفّاة، المحلاّة، المذهّبة بغير لون من ألوان البيان والبديع. فاللغة عنده من "ريق الوجدان وريق الله"، والكلمة روح من عند الله تتوق، كالبشر، إلى الخلاص والخروج من الأقفاص إلى خبز الحياة. وقصيدة ربيعة الصوفيّة، هي عنده "سائلة كسبيكة ذهب بنار لا توصف... أو كأنها طائر هاشل في السهول والجبال والأودية والبراري". وربيعةُ، في عينيه، وفيّ كالبطل جلجامش، بحرّيته كان واثقاً كأيّوبَ يعبر المسافات، وكأنّ بين نفسه والجنة ورقة تين. وخرّازنا نفسه يدعو، بلغته الجميلةِ، الأجيال "الفراخ.. أن تتوجّع بعبورها إلى النصّ الآخر، فتحظى بفرصة النقش والوشم، ونقعة النفوس في أنباض الحروف، ونبرات المقاطع وأصوات الكلمات المرتجّة المتموّجة على وقع صدى القلم...".
وها هو الحرفيّ يوسف، الصّانع الماهر الذي علّم نفسه، ودرّبها، وثقّفها حتى صار صَناعاً في حرفته. ها هو الغوّاص يشق صدور البحور والمحيطات، يجمع منها حبّاتٍ من لؤلؤٍ وزمرّدٍ ومرجان. لصدور الجميلات الحباتُ هذه! ينظمها الحبّةُ على كتف الحبة على كتف الحبة، في سلك ينتزعه من نياط قلبه. عذراً، أخذتني حبّات اللؤلؤ والزمرّد والمرجان والجميلات. نسيت أنني في مقام الحديث عن يوسف. يوسف يعتني برصف ألفاظه الجميلة. كثيرًا ما ينظمها، اللفظةُ على كتف اللفظة على كتف اللفظة. اسمعوه يقول: فن العبور حفر، وكشف، وحوط، ونقش، وروب... فنُّ الاقتداح، والترسّم، والتوسّم، والتفرّس، والتفلية، والاستشفاف، والتدبّر. والعابر نقّاد، بصير، خبير، ثاقب الفكر، دقيق البحث، غوّاص". للّه درّك يا صديقي الطيّب! حشدت المفردات مرصوصة متماسكة كأنها جندٌ في عرض عسكريّ بأمرة ضابط فنّان حكيم كنته أنت. أو كأنها ذاك القطيع الذي يهش عليه موسى بعصاه، فينتظم راضياً مرضيّاً، في لوحة فنيّة لا يعرف قيمتها إلاّ الرّعاةُ الأحرار. ولم يكن حشدك لها إلّا رومًا للإبلاغيّة، لفتح باب الدّلالة على مصراعيه. تنقر بالمفردات على الباب نقراتٍ متتالياتٍ مسرعاتٍ مدوّياتٍ وتنقر، حتّى ينفتح لك هذا الباب ولو كان من حديد.
الصديق الطيّب. كنت أحلم، عندما كنت طريّ العود، أنني عصفورٌ يطير لا يُعييه الطيران. كنت إذا غططت على صخرةٍ، أو عودٍ، أو غصنِ شجرة، أغطّ لبرهة ثمّ أطير وأطير. لم يكن ثمّة ما يوقفني: كانت الطيرةُ على كتف الطيرةِ على كتف الطيرة، بل كان ما يوقفني أمراً واحداً: أنّ الحلم انتهى. شكراً لك يا عزيزي، فقد أيقظت فيّ عبداً آخر...