كلمة انطوان ضومط
في ادارة ندوة مناقشة كتاب جوزيف لبكي
" الانتشار الماروني في العالم واقع ومرتجى 1840-2010
ايها الحضور الكريم، في اطار المهرجان اللبناني للكتاب، تعقد الحركة الثقافية – انطلياس، هذه الندوة لمناقشة كتاب العميد جوزيف لبكي المعنون "الانتشار الماروني في العالم واقع ومرتجى 1840-2010
الموارنة جماعة دينية مرتبطة بالقديس مارون، كاثوليكية المشرب والمعتقد، مشرقية المحتد والثقافة، لبنانية الهوية، عربية اللغة والانتماء، بل متجذرة بالعروبة الثقافية. والامة المارونية كاصطلاح ومعتقد مرتبطة بتاريخ الموارنة منذ نشأتهم، جسّدها مؤرخون موارنة خلال العصور الوسطى وبعض الحديث، ولا سيما البطريرك اسطفان الدويهي الذي لم ينظر اليهم كطائفة قائمة بذاتها فحسب، انما كأمة تتمتع بكل المقومات. وتبعا لهذه الرؤية دوّن كل ما يتعلق بهم منذ نشأتهم في القرن الخامس + في وادي العاصي وحتى عصره. وهذه الطائفة الامة المتكاملة الشروط، كما يراها الدويهي، تتوضح معالمها في كتابه "مقدمو جبة بشراي" لأنها خضعت لرئيس ديني اعلى هو البطريرك الذي كان يدير معظم شؤونها ان لم يكن جميعها، ويساعده رئيس ديني آخر هو " الشدياق" الذي احتل ادنى درجات الكهنوت، وفي مرحلة ما ارفع المناصب الزمنية بل العسكرية، الى ان تولى القيادة الزمنية المقدمون. فصارت الطائفة الى حد بعيد تيوقراطية الادارة، لها جيشها الخاص يقوده عدد من المقدمين كانوا يخضعون الى مقدم بشراي. ولم يكن هذا التدبير مستحدثا انما تزامن مع نشوء البطريركية المارونية، وتمركزها في "كفر حي" لبنان على يد القديس يوحنا مارون اول بطاركة الموارنة، على اثر التهجير القسري الاول الذي اصابهم في وادي العاصي بعد ان قتل منهم حوالى 350 راهبا. ويمكن تسميته الانتشار الماروني الاول.
لم يتقوقع الموارنة اراديا في عزلة عن محيطهم، انما الاعتداءات والاضطهادات المتكررة اوجبت عليهم التحصن في جبل لبنان الشمالي. فمنذ بدايات العصر الاموي وتحديدا على عهد عبد الملك بن مروان اعتصموا في جبالهم المنيعة وشبه استقلوا بها، وحافظوا عليها، واسسوا ما يشبه الامة الدويلة المارونية التي حصّنتها المقدمية ونسجت ابرز خصائصها ومميزاتها.
لن نوغل الآن في الكلام على المحن التي تعرّض لها الموارنة عبر الزمن التاريخي، انما سنكتفي بالاشارة الى ما يرتبط بالانتشار الماروني في العصور الوسطى ونجعله مقدمة للانتشار الواسع الذي تناوله العميد لبكي. ولعل ما افرزته ثورة المنيطرة 759-760 باسبابها ونتائجها يمكن تسميته التهجير القسري الثاني او الانتشار الماروني الثاني ، فهي تجسد تعبيرا صارخا عن رفض الموارنة المذلة، والتبعية العمياء المقيتة، وأسست لخيفتهم على وجودهم واستمرارهم من طغيان الحكام المركزيين والاقليميين، وعقم سياساتهم واستبدادهم.
اما التهجير الثالث او الانتشار الماروني البطيء فكان نتيجة سيلسة الممالكي عموما، لا سيما حملاتهم على جبة بشري وعلى كسروان، بما خلّفت من دمار ومآسى، واضطهادات متنوعة يندى لها جبين التاريخ. فهذا العهد قوقعهم في جبالهم في بداياته، وسمح لهم في نهاياته وفي مطلع العهد العثماني الانتشار الارادي لاعادة احياء الاماكن التي فرغتها الحملات المملوكية من سكانها الشيعة والدروز والمسيحيين. فكسروا جدران العزلة التي فرضت عليهم قسرا وتمددوا في رحاب جبال لبنان، وتمازجوا مع العائلات الروحية اللبنانية الاخرى.
ايها الصدقاء، لست بوارد التأريخ للموارنة بمآسيهم ونجحاتهم، لأنه مسار طويل وشاق. وشاب تاريخ الموارنة ظلام امس لم يبدأ بالتفتح الا في العهد الصليبي من دون ان يزدهر، لأن مؤرخي التاريخ العام العربي والاسلامي اهملوا في حولياتهم الكلام على احداثهم الا بمقدار ما كانت تتقاطع مع مجريات التاريخ العام، ولم تذكرهم كتب السير والتراجم. وبالتالي صاروا، من هذا المنظار، وكأنهم على هامش التاريخ. وفي الوقت عينه ضاعت معظم مدونات مؤرخيهم، والقليل الذي نجا منها نظر الى الموارنة كأمة قائمة بذاتها، متجذرة بارضها، تستميت بالدفاع عنها.
وباتت المارونية من هذا المنظار _ منظار المؤرخين الموارنة بعامة-اندماجا بين الارض والشعب والدين، من دون ان تتحول الى ايديولوجية وفق الاصطلاح المستحدث. لهذا اعتنى مؤرخون موارنة بالمدونات التاريخية القليلة التي حصلوا عليها، موزعة بين الكهوف والاديار، ودرسوا محتوياتها مستقرئين ماضى معرفته ضنينة.
ومع تقلب الاحوال تبعا للظروف السياسية، وتطور الافكار واختلاط المشرقي منها بالغربي وبالعكس، باتت المارونية اصطلاحا دينيا سياسيا، تحددت معالمه ورؤآه؛ بتجديد الانسان في انسانيته، والثقة المطلقة بقدراته على التطور والتكيف تبعا لعاديات الزمن وتقلب الظروف. ولم يكن يوما ايمانها، الراسخ في جذوره، جامدا، بل متطورا يتماهى مع الفكر الانسانيّ النزعة. واستمر الموارنة ابدا تواقين الى الحرية ينشدونها في كل بقاع الارض، كلما كانوا يحرمون منها في وطنهم الام.
ايها الحضور الكريم، ان كلامي هذا على الموارنة في العصور الوسطىى ليس الا مقدمة تنسجم مع سياق كتاب "الانتشار الماروني". لان جوزيف لبكي اكمل هذا المسار، واضاف اليه مدماكا مهما فتتبع اوضاع الموارنة في بلاد الاغتراب لأنهم لبنانيون بالدرجة الاولى، ودوّن تاريخهم الاجتماعي والاقتصادي، والديني، والسياسي. فتحدث عن اسباب الهجرة من لبنان من دون ان يجعلها حكرا عليهم، انما ربطها بهم لأنهم كانوا الاكثر استهدافا من غيرهم في زمن المجاعة والنكبات التركية، فعلى الجبل اللبناني موطن الموارنة تركزت الاساآت التركية الظالمة.
واستمر، على ما يرى جوزيف لبكي، استهداف المسيحيين عموما والموارنة ربما بشكل اخص ابان الحرب اللبنانية 1975-1990، على مختلف المستويات؛ في المؤسسات الدستورية وفي السلطة التنفيذية والادارة العامة. فاضافة الى ذلك، فند اسباب الهجرة تفنيدا فذا. وتحدث عن احوال المسافرين في بؤسهم ومعاناتهم. كما عن كيفية حلولهم في بلاد الاغتراب في القارات كلها. واننا لنجد في طيات هذا السفر الضخم والغني اسماء لدول ومناطق قد لا نكون قد سمعنا بها قبلا، او ادركنا انها دول ذات سيادة او موجودة اصلا على الخارطة العالمية، بحيث تتبع جوزيف لبكي شؤون وشجون اللبنانيين فيها، ما يؤشّر على دقته في البحث والتقميش. ونهج في تأريخه خطة واحدة عممها في كلامه على كل القارت ودولها، ويطلق على هذا المنهج التأريخ حسب الموضوع. فتتبع احوال المهاجرين الموارنة في حلّهم وترحالهم، في نجاحات بعضهم، وفشل البعض الآخر. وفي تعاضد معظم اللبنانيين لمساعدة من تصيبه نازلة. واجتهد بإبظهار سعيّ معظمهم للمحافظة على التقاليد والعادات اللبنانية، والحنين الدائم الى الوطن الام. وارتباط معظمهم بهويتهم الدينية، فكشف عن الجهود التي بذلوها للحصول على مؤسسات دينية او على الاقل تكوين رعية صغيرة يرأسها كاهن لبناني ترتبط بالبطريركية الام. من دون ان يغفل على الكلام عن اسباب تبديل اسماء بعض الموارنة لتنسجم مع المعايير اللغوية في الدول التي حلوا فيها لاسيما تلك التي تتحدث الاسبانية والبرتغالية، فضاعت اسماؤهم العربية، وبات من الصعوبة بمكان تقصي احوالهم.
لن اخوض اكثر في تفاصيل كتاب الانتشار الماروني في العالم، فاسحا في المجال امام المحاضرين الاصدقاء الزملاء الكرام، ليتحفونا بما تكون لديهم من آراء تفصّل الكتاب، بهدف اغنائه بالملاحظات الموضوعية، لا سيما انهم اهل اختصاص ومعرفة. وتشي سيرهم الذاتية، بما تضم من مؤلفات قيمة، بقدراتهم العلمية.
قد اكون محابيا ان اوغلت بالكلام على جوزيف لبكي الصديق اولا، ورفيق الدرب ثانيا في قسم التاريخ، وعميد كلية الآداب ثالثا، ومن المغالات الا اقول انه ليس طارئا على البحث والتأريخ فباعه طويلة جدا في هذا المجال، حسبنا ان نذكر بعض كتابه ومؤلفاته لمن يجهلها مثل " اضواء على المسألة اللبنانية 1908-1914"، "بعبدات بين المارونية والروتستانية واللاتينية" ولا سيما كتابه "متصرفية جبل لبنان"، وغيرها.
--------------------------------------------------
كلمة عبدالله الملاح في تقديم كتاب الدكتور جوزف لبكي، الانتشار الماروني في العالم، واقع ومرتجى 1840 – 2010 الحركة الثقافيّة ــ انطلياس 13 آذار 2014
|
أيُّها الحفلُ الكريم
جوزف انطون لبكي،
علمٌ من أعلامِ التربية والثقافة في لبنان،
خطيبٌ منبريٌّ مفوّهٌ لامعٌ،
مديرٌ وعميدٌ، وفي الموقعين إداريٌ بارعُ التنظيم والتدبير، ومبرمِجٌ مهندس ماهر مُجيد، ما زالرجع انجازاته يتردد في قاعات كلية الآداب،
أيُّها الصديق
أنت رفيقُ المشوارِ الجامعي الطويلِ، الذي جمعنا منذ العام 1971،
أنت الصديقُ الذي ما خبت جذوةُ صداقَتِهِ يوماً،
أنت المؤرخُ الذي حباه اللهُ الصبرَ والمثابرة الحديديّة والجلَدَ والمنطق والأسلوب والرصانة، ما خوّلك أن تكونَ مؤرِخاً أديباً عاليَ الشأن، خبرةً ومعرفةً.
أيُّها الأصدقاء المنتدون
جمعَتنا الحركةُ الثقافيةُ – انطلياس، في هذه العشيّةِ، مشكورةً، لنقرأَ معاً في كتاب الدكتور جوزف لبكي: "الانتشار الماروني في العالم" الذي صدر في العام 2013 بحلةٍ فنيّةٍ راقيةٍ وبمواصفاتٍ طباعيّةٍ فاخرة، في قَطْعٍ موسوعيٍّ كبيرٍ. يكتنزُ هذا المصنفُ مصادرَ غزيرةً ومحفوظاتٍ جمةً وصوراً رائعةً وخرائطَ عديدةً وجداولَ بيانيّةً معبّرةً. وإلى جانبِ هذا العملِ النميقِ تأريخٌ عميقٌ، وفهمٌ أعمقُ لحراكِ اللبنانيين المنتشرين على مساحةِ العالم.
إن تقديمَ الكتابِ المذكور، وتقييمَه في عُجالة من الوقت تشويهٌ له، وعرضَ مضمونِه على مدى ساعات أمرٌ نستعجزُ عنه. فكان لا بدَّ من اعتمادِ المخططِ الوسطي الآتي:
* الهجرةُ وميزاتُها
الهجرةُ في هذا السفرِ هي ابتعادٌ عن أرضِ الوطنِ. هي نزفٌ مقلقٌ وخوفٌ صارخٌ على الكيانِ والمصيرِ، وحلقةٌ من مجموعةِ حلقاتٍ، كَتبَ صفحاتِها الأولى الفينيقيون، وتلقّفها اللبنانيون فُرادىً وجماعاتٍ ضاربينَ مجاهلَ المعمورةِ حتى كادوا يصلون إلى القمرِ لو كان للقمر طريقٌ. بدأت هذه الحلقاتُ هجرةً عفويّةً لكنها سرعان ما تحوّلت إلى جُرحٍ في جسمِ الوطن.
* من هم المهاجرون؟
كانوا في البداية حَفنةً من المسيحيين المغامرين، ومن ثمّ انجرفَ في تيارِها مجموعاتٌ مسيحيّةٌ وغيرُ مسيحيّةٍ... ما يعني أن حركةَ الهجرةِ أضحت "ظاهرةً وطنيةً وقوميةً ودينيةً"[1] طالت جميعَ الطوائفِ اللبنانيّةِ على تنوعِها وتعددِها. وأصبحت هجرةً عارمةً عامةً.
* أسبابُ الهجرة
لا نغالي ولا نبالغُ إذا استعرنا لتصويرِ أسبابِ الهجرةِ ماضياً وحاضراً، ما قالته جريدةُ البرق منذ نيّفٍ ومئةِ عامٍ في مجتمعِ جبلِ لبنان:
«شَقيٌّ هذا الجبلْ، كلُ ما فيه مضطربٌ، مضطربٌ بمتصرفِهِ، مضطربٌ بحكومتِه، مضطربٌ بأحزابِهِ وجمعياتِه. واللبنانيون بلا علْمٍ ولا اتحادٍ ولا عَمَلٍ، غارقون في ضَياعٍ وجهلٍ وفوضى. والزعماءُ مشغولون بالسياسةِ، يُنفقون عليها القناطيرَ من الذهبِ»[2].
ألا يعبّرُ هذا الكلام عن أسبابِ الهجرة في كلِ عصرٍ وزمان؟
بالإضافةِ إلى ما تقدّمَ نذكرُ أن الاسبابَ الاقتصاديةَ، بمختلفِ وجوهِها وتنوعاتِها، تأتي في طليعةِ الأسبابَ الدافعة، ثم تليها الدوافعُ السياسيةُ والأمنيةُ والطائفيةُ التي دهمت وتداهمُ الساحةَ اللبنانيةَ بين الفينة والفينة، من 1840 حتى اليوم. وبعد هذا تندرجُ العواملُ الاجتماعيةُ والانسانيةُ الأخرى...
* اتجاهاتُ المهاجرين
تطلّعَ المهاجرون في مرحلةِ الإدراكِ الواعي نحو القاراتِ كافةً، وامتدت جذوعُهم الى أكثرِ من نصفِ المعمورِ، واستنبطوا «كفر باريس»، و«ضهور نيويورك»، و«لاغوس الفوقا»، و«فتوح لندن»، و«ذوق مونتريال»،و«قرنة جانيرو»، و«جديدة أبو ظبي»[3]…مستوطنين، جاعلين مملكةَ الانتشارِ مملكةَ لا تغيبُ عنها الشمس.
* صفات المهاجر اللبناني
اتصفَ المهاجرُ بالتواضعِ والاتضاعِ بعامةٍ، وقيل فيه إنه:
-سليلُ شعبٍ نشيطٍ أنوفٍ، نبيهٍ؛
-رقيقُ الخُلقِ، ذوّاقٌ،
-صاحبُ حجةٍ وقضيةٍ...؛
-نَقل الحياةَ والنشاطَ الى المجتمعاتِ التي حلّ فيها. وكان حضورُه محبباً، فمتى دخلَ بابَ بيتٍ خرجتْ الرتابةُ من الشباكِ.
* مضارُ الهجرةِ وحسناتُها
تميّزت الهجرةُ بوجهين، وجهٍ بائسٍ حزينٍ، وآخرَ متألقٍ متأنقٍ. والحديثُ عن كلٍّ منهما يطولُ ويطولُ، إلا أننا نكتفي بالإشارات التالية:
§ الوجهُ الحزينُ البائسُ أو مضارُ الهجرةِ
تمثّلَ هذا الوجهُ في:
- فتورِ الشعورِ الوطنيِ عند الكثيرين من اللبنانيين المهاجرين،
- تراجعِ الحركةِ الديموغرافيةِ وإفقارِ البلادِ من أبنائِها وحلولِ خليطٍ "من شعوبِ الأرضِ ومتشرديها" محلَّهم،
- فكِّ رباطِ الزواجِ الشرعي الناموسي عن طريقِ المحاكمِ المدنيّةِ المنتشرةِ في عالمِ الغربِ لغيرِ سببٍ جوهري؛
- إدعاءِ البعض القوةَ وهم ضعافٌ، والثروةُ وهم فقراء، والمعرفةُ وهم جهلة، والتديّن وهم أشبَه بملحدين؛
- الانبهارِ بحياةِ الحريةِ وإساءةِ فهمِها والتخبطِ في استعمالها؛
- سعةِ ذمّةِ البعضِ وتخدّرِ ضميرِ البعضِ الآخر؛
§ الوجهُ الجميلُ أو الحسناتُ
تجلّى هذا الوجهُ في أن الهجرةَ قد:
- شكّلت منفذاً وحلاً لنظريةِ فائضِ السكان،
- أعطت الأوطانَ الجديدة شباباً وحيوةً وقوةً ونشاطاً،
- أنشأت دويلاتٍ أدبيةٍ أسهمت في النهضةِ الفكرية الحديثة،
- عمّرت "المدنَ والقرى (الأم) وأحيت مواتَ الأرضِ وأيقظت الحركةَ الاقتصاديةَ". وكانت الدعامةَ المباشرة لتغطيةِ بعضِ العجزِ المادي على المستويين الأسري والوطني.
- رفعت اسمَ لبنان سياسياً واجتماعياً واقتصادياً عالياً،
ومهما قيل ويُقال في الحسنات والسلبيات، تبقى الهجرةُ الجسرَ الذي عبرَه اللبنانيون في أوقاتِ المحنةِ والملاذِ الذي لجأوا إليه في زمنِ الشدةِ، والأفقَ البعيدَ الذي يحلمون به.
* مزايا الكتاب
يتحلّى الكتابُ بصفاتٍ عديدةٍ، من أبرزِها إنّه:
- غاصَ في بحرِ الانتشارِ غوصاً عميقاً، واستخرجَ كنوزَهُ ولآلئَهُ،
- أبرزَ أطوارَ الهجرةِ وأبعادَها، وأظهرَ مرارتَها وحلاوتَها، أخطارَها ومضارَها،
- آمنَ بدورِ السلطاتِ المدنيةِ والمراجعِ الكنسيّةِ متمنياً عليها تبني شعارَ الرئيس بشاره الخوري القائل: "ليسَ عندَنا شعبٌ للتصدير"[4]،
- وضعَ صورةَ الانتشار اللبناني بعامة والماروني بخاصة، وأخبارَه وخفاياه، في طياتٍ ورقيةٍ أضحت في متناولِ الجميع بفضل الكتاب،
- كتابٌ اكاديميٌ موسوعيٌ منهجيٌ جامعٌ شاملٌ بامتياز. قال فيه غبطةُ أبينا البطريرك الراعي: إنه "الكتابُ الحدثُ"، إنه "موسوعةُ الانتشار الماروني"، جاء "مرجعاً مكملاً لما نصَّ عليه المجمعُ البطريركيُ الماروني" الذي انعقد بين 2003 و2006[5]،
- سفرٌ جريءٌ من أسفارِ النهوضِ والتوثّبِ ومغامرةٌ طويلةٌ وناجحةٌ،
- حدثٌ علميٌ بحدِّ ذاتِه، جديرٌ بالاهتمامِ والمطالعةِ على أملِ استخلاصِ العبرِ والنتائجِ...
- ثمرةُ سنواتٍ مديدةٍ من التفتيشِ والتقميشِ والبحثِ تعجزُ عن تحقيقِها مؤسساتٌ وفرقُ عملِ كبيرةٍ.
- ذو أسلوبٍ سلسٍ ومتين؛
- علميُّ المنطلق والتوجه والإسناد؛ مكتوبٌ بتقنيةِ المؤرخِ الماهرِ،
- يتميّزُ باسانيدِه المتنوعةِ والمتعددةِ القيّمةِ، وبمراجعِه اللبنانية والعربية والاجنبية (22 صفحة من صفحات الكتاب: 837-858).
- وإذا كان قد أُتيحَ لنا إصدارَ "أوّل فصلٍ" من تاريخِ الهجرة، على حدِّ توصيف الأب كرم رزق[6]، فإننا نضيفُ إلى كلامِه أن الدكتور لبكي قد تابع بنجاحٍ تسطيرَ بقيّةِ الفصول بالتزامٍ وأناةٍ لا مثيلَ لهما. استخرجَ الخلفيات بموضوعيةٍ، وطرحَ المعطيات بدقةٍ مبتعداً كلَّ الابتعادِ عن العشوائيةِ أو الاستنسابيةِ، فجاءَ نصُّه من فيضِ قلبِه وعقلِه مغموساً بحرقةٍ على هذا الوطنِ المشلّعِ المشتتِ، والمصدِّر للطاقاتِ والكفاياتِ.
* أهداف الكتاب
يهدفُ الكتابُ الى الاضاءةِ على:
-واقعِ الانتشارِ الماروني بخاصةٍ واللبناني بعامةٍ،
-الخطرِ الحقيقي الذي يُهدّدُ "لبنان الرسالة" والوجودَ المسيحي في المشرقِ العربي[7]،
-تشتّتِ المهاجرين في جوِّ من التباعدِ والتناقضِ والاختلاف،
-كونِ المهاجرين لا يشكلون في عالمِ الانتشار أكثر من رقمٍ عدديٍّ في بحرٍ من البشر،
-الأزمةِ الوطنيةِ والقوميةِ والدينيةِ التي سببتها الهجرة.
§ كما أنه:
- يطرحُ ربْطَ الموارنةِ المقيمينَ والمنتشرينَ بعضَهم ببعضٍ، وبوطنهِم الأم،
- يعرضُ ضرورةَ الحدّ من تيّارِ الهجرة؛
- ينشدُ تدريسَ تاريخِ المغتربين لأنهم باتوا يشكلون ظاهرةً وطنيةً وقوميةً، وتاريخُها جزءٌ من تاريخ لبنان؛
- ويناشدُ الموارنةَ المهاجرين المحافظة على نصاعتِهم واشراقِهم وابداعِهم والتمسكَ بحريتهم الايجابية وكرامتِهم تمسكُهم بأبوّة مار مارون، وبالتالي الكنيسة المارونية الكاثوليكية؛
- ويجيبُ على الاشكالية الكبرى التي طرحها المؤلف (هل أن الهجرة نعمةٌ أم نقمةٌ، مأساةٌ أم مخرجٌ وحلٌّ لأزمةٍ؟) بالقول: قد يكونُ الاغترابُ نعمةً في امتدادِه العالمي، ولبنان بدون مغتربيه "دولةٌ صغيرةٌ" مهما بلغ شأنُها. إنهم «له أكثرَ من روحٍ وقلبٍ وساعدٍ»[8].
أيُّها الحفلُ الكريم
لا تَعتَقِدنَّ أن الدكتور لبكي قد غابَ عن الساحةِ الثقافية وانعزلَ في صومعتِه. فهذا المولودُ الذي ندلّلُـﻪ اليوم لم ولن يكونَ عُجزةَ والدِه... فقد اتحفنا مؤرخُنا العزيز بآخرَ في 2 شباط 2014 تحت عنوان: بعبدات بين المارونية والبروتستانتية واللاتينية، وسنحتفي إن شاءَ الله في القريب العاجل بكتابِ الاب يعقوب الكبوشي... لذا اسمحوا لي أن أختم هذه المداخلة، بأبياتٍ شعريةً قمتُ بتكسيرِها وتحويرِها[9] لتتلاءمَ مع الجوّ الذي نحن فيه، قائلاً:
لا تحسبوا أن الدكتور لبكي قد رمَى سلاحَهُ
من بعدِ ما غزا المشيبُ ساحَهُ
*****
إن الخطوطَ البيضَ التي تكسو هامَتَهُ
هي من غبارِ الأيامِ ووقائعِ كفاحِه
لقد صحا من الهوى (لا تأخدوا بكلامي) ولكن
من سَكرة الإبداعِ ليسَ بصاحِ
[1] جوزف لبكي، الانتشار الماروني في العالم، منشورات جامعة سيدة اللويزة، 2013، ص 16.
[2] نقلا عن: عبدالله الملاح، الهجرة من متصرفية جبل لبنان، 1861-1918، 2007، ص 57.
[3]عصام عميرات،أفتتاحية مجلة المغترب اللبناني. http://the-best-tour.com/?p=31274
[4] جوزف لبكي، المرجع السابق، ص 797.
[5] المرجع نفسه، ص 11.
[6] راجع كلمة الاب كرم رزق على الموقع التالي:
http://www.mcaleb.org/ar/al-nadawat-wa-aliqaat/190-3abdallah-mallah.html
[7] جوزف لبكي، المرجع السابق، ص 18.
[8] جوزف لبكي، المرجع السابق، ص 784.
[9] الأبيات الصحيحة هي:
" لا تحسبوا أني رميت سلاحي من بعد ما نزل المشيب بساحي
تلك الخطوط البيض تكسو هامتي هي من غبار وقائعي وكفاحي
إني صحوت من الهوى لكنني من سكرة الابداع لست بصاح".
----------------------------------------------------
كلمة الدكتور عبد الرؤوف سنّو في الندوة حول كتاب العميد الدكتور جوزيف لبكي
"الانتشار الماروني في العالم – واقع ومرتجى"
الحركة الثقافية-أنطلياس، 13 آذار 2014
الانتشار الماروني في العالم، للعميد الدكتور الصديق د. جوزيف لبكي هو كتاب ليس بعادي يطلع عليه القارئ ويمشي، بل هو موسوعة معمقة جرى إخراجها بمواصفات أكاديمية راقية، تؤرخ لتاريخ طائفة لبنانية أدت دوراً بارزاً في نشوء الكيان اللبناني، وفي أن تكون صلة الوصل بين الغرب والشرق ومدماكاً من مداميك الحضارة في منطقتنا العربية. ليس هذا فحسب، بل أن أبناء الكنيسة المارونية شكلوا شعلة حضارة لبنانية في بلاد الاغتراب.
لقد أردف الدكتور لبكي عنوان كتابه بعنوان مكمّل هو "واقع ومرتجى". وهذا "الواقع" هو في الحقيقة "الحضور الماروني" في العالم وتأثيره الحضاري في الثقافة والمجتمع والاقتصاد والعلاقات الإنسانية. لكن هذا الواقع يطرح الكثير من الإشكاليات: الهجرة التي كانت موقتة ولأسباب اقتصادية في معظم مراحلها تقريباً، تحولت إلى هجرة أدمغة وكفاءات؛ الانتشار على مساحة العالم الذي يقوي لبنان المقيم ويضعفه في آن؛ تناقص أعداد الموارنة في لبنان من جراء الهجرة في مقابل التجنيس في لبنان الوطن لمن لا يستحق الجنسية اللبنانية؛ وتبعثر الموارنة المغتربين في مختلف بقاع الأرض وتباعدهم الفكري والجغرافي واللغوي. أما "المرتجى" من الانتشار الماروني، فهو في كيفية ربط بعضهم ببعض في بلاد المهجر وبلبنان وطناً وكنيسة.
وفي خضم هذه الإشكاليات نرى لبكي العالِم القدير مشغول البال قلقاً على لبنان المقيم من هذا النزف الوطني لكفاءاته، وعلى المغترب من الضياع في عوالم الاغتراب. فهو من جهة يقدر تماماً الأسباب والظروف التي تدفع الإنسان لأن ينتزع جسده وقلبه وروحه من أرض الأجداد وينتقل إلى وطن بديل حيث "المجهول له رهبته"، كما يقول. ومع أن لبكي يتفهم هذه الأسباب، إلا أنه يدق من جهة أخرى ناقوس الخطر من جراء ضياع الهوية واللغة الأم، ومن ارتفاع نسبة الهجرة اللبنانية والمارونية تحديداً، في وقت يتناقص فيه أعداد المسيحيين في لبنان، ما قد يؤدي إلى "موت لبنان".
يتألف الكتاب - الموسوعة القيمة المعمقة من ستة فصول، وتتبعها ملاحق من صور وخارطات وجداول ورسوم وبيانات وإحصاءات دقيقة شاملة، وقائمة مصادر ومراجع طويلة بالعربية والأجنبية تحتوي على وثائق غير منشورة، فضلاً عن التأليف المشترك والدوريات والصحف. أما المنهجية التي اتبعها المؤلف، فهي دراسة الانتشار الماروني في بلدان أميركا الشمالية، وأميركا الوسطى، وأميركا الجنوبية، وفي أوروبا وأوستراليا ونيوزيلنده، وآسيا وإفريقيا – كل على حدة. فيعطي لمحة جغرافية وتاريخية عن بلد الاغتراب، ومسائل اندماج الماروني في مجتمعه الجديد وإشكالياته. وعندما تتذبذب أعداد المهاجرين صعوداً أم هبوطاً، يوضح الأسباب. وهذه المنهجية الصارمة تنسحب على كل فصول الكتاب.
وفي معالجته لأوضاع المغتربين الموارنة في العالم على حدة، يتطرق إلى اجتماعهم واندماجهم وجمعياتهم وكنائسهم وأسرهم وشخصياتهم البارزة، وما بنوه من صروح حضارية في مجالات العلوم والاقتصاد والصناعة والتجارة والإدارة والأعمال والطب والصحافة والسياسية، وما قدموه من فؤائد لبلدان المهجر وللبلد الأم، وكيف أنه تشبثوا بعاداتهم وتقاليدهم وبلغتهم، التي بدأت تتراجع مع الجيل الثاني ثم أخذت تختفي مع الجيل الثالث الذي فقد الكثير من ارتباط بعاداته وبلغته.
لقد خصص المؤلف الفصلين الأول والثاني لجغرافية لبنان وتاربخه وطوائفه ونظامه السياسي، وللحديث عن جذور الموارنة ومعتقدهم وكنيستهم وبطريركيتهم، وصولاً إلى هويتهم: "إنها ثابت تاريخي قيمي مشترك، ورابطة دينية لها خصوصيتها، ورابطة عاطفية يصعب زوالها في هذه المنطقة أو في أية بقعة في العالم ..."، كما يقول المؤلف.
وفي الفصل الثالث، يحدد الباحث لبكي خمس مراحل لهجرة الموارنة: ما قبل الحرب العالمية الأولى، وخلالها حتى الاستقلال، وما بين الاستقلال والعام 1975، ثم المرحلة الرابعة خلال حرب لبنان (1975-1990)، ثم أخيراً المرحلة من 1990 وحتى العام 2008. أما أسباب الهجرة في كل مراحلها، فتختلط الجغرافية والاقتصادية منها بالسياسية والطائفية والمجتمعية والأمنية، وفق أوضاع لبنان. ويرى أنها سلكت حتى مطلع الحرب العالمية الأولى طريق البحر إلى مصر والأميركيتين وأوستراليا، ويشبهها بالمغامرة المليئة بالصعوبات والأخطار والسمسرات والتكاليف الباهظة. ويربط ما بين تراجع الهجرة بين العامين 1943 و1975 وبين النمو الاقتصادي الجيد في لبنان؛ ثم عودتها إلى الارتفاع مجدداً بشكل كثيف خلال حرب لبنان، عازياً ذلك إلى أسباب اجتماعية واقتصادية وإلى الفلتان الميليشياوي وتراجع سلطة الدولة، فضلاً عن الاجتياحات الإسرائيلية للبنان، والاحتلال السوري وإفساده الحياتين العامة والسياسية ونهب البلاد. ويختم لبكي هذا الفصل بالحديث عن تداعيات اغتيال الرئيس رفيق الحريري، مروراً بالاعتصام في وسط بيروت لعام ونصف العام وصولاً إلى اتفاق الدوحة وانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وكلها محطات مأساوية، زادت من منسوب الهجرة لدى اللبنانيين الموارنة وغيرهم.
الفصل الرابع، هو زبدة العمل، ويتناول فيه العميد لبكي الانتشار الماروني في العالم، وهو انتشار له حضوره المميّز في آن، حيث ينقلنا لبكي إلى "عوالم" الاغتراب العديدة، ويرى أن الولايات المتحدة بغناها وبرخائها الاقتصادي وحاجتها إلى العمالة الأجنبية، شكلت منطقة جذب للبنانيين؛ فقصدوها على أساس هجرة قصيرة لجمع المال والعودة إلى لبنان. ثم ارتفع منسوب الهجرة عشية الحرب العالمية الأولى وفي خلالها وتحولت إلى دائمة. ويربط لبكي بين تذبذب أعداد المهاجرين الموارنة في المرحلة التالية وبين استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية في لبنان تحت الانتداب الفرنسي؛ زيرى أن الهجرة بقيت في مستوى منخفض حتى أواخر الستينيات من القرن العشرين. ثم عادت إلى الارتفاع منذ اندلاع حرب لبنان، ثم انخفضت بعد الحرب واتفاق الطائف، ثم عادت إلى الارتفاع منذ منتصف التسعينيات بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية في البلاد.
يتابع الدكتور لبكي بدقة متناهية وتفصيل ينمان عن مقدرته البحثية وباعه وصبره في تسليط الضوء على أوضاع الموارنة اللبنانيين وإنجازاتهم في بلدان الاغتراب، من أعدادهم وأوضاعهم الاجتماعية والثقافية وجمعياتهم وروابطهم ونواديهم وأدوارهم السياسية والمهنية، من دون أن يغض الطرف عن علاقاتهم بكنائسهم في المهجر، أو إبراز دور شخصيات مارونية لامعة، وهي موجودة بكثرة وفي حقول اختصاص شتى: تجار وصناعيون ورجال أعمال وملاكون، وأطباء وعلماء وقانونيون وإداريون وعسكريون، وأدباء وفنانون وأساتذة ورياضيون. ولا ينسى لبكي أن يفرد صفحات بيضاء للمرأة المارونية المهاجرة: الأم والزوجة المخلصة والعاملة والبائعة التي تحمل الكشة من بيت إلى بيت، والأديبة والصحافية التي تسهم في الاكتفاء الاقتصادي العام للأسرة المارونية، ورأس حربة في الدفاع عن حريتها ومساواتها بالرجل. إن قلق لبكي لا يقتصر على تناقص أعداد الموارنة في لبنان لصالح هجرة لا تحمل تذكرة عودة، بل على هوية لبنانية ولغة ضاعتا أو أضاعها الجيل الثالث من المغتربين.
الفصلان الأخيران، الخامس والسادس، خُصصا لدراسة مشكلات الهجرة المارونية، مدنياً ودينياً، وما يراه المؤلف من حلول لها، وكذلك، فؤائد الانتشار الماروني ومضاره على لبنان الوطن وعلى لبنان المغترب.
أخيراً، مؤلّف الدكتور لبكي عمل يستحق عليه الثناء والتقدير، وأتمنى أن يُقرأ من الجميع وتُؤخذ منه العبر، بأن لبنان لا يستطيع أن يعيش إلا بجناحيه المقيم والمغترب، وأن قدره أن يكون رسالة حضارية إلى العالم، ولكن في كثير من الأحيان على حساب لبنان الوطن.