مهرجان الكتاب-أنطلياس: ندوة عن "الفنان وجيه نحلة في ذكراه الأولى"
كلمة د. نجاة الصليبي الطويل
الفنان وجيه نحلة في ذكراه الأولى
الأحد 4 آذار الساعة الرابعة
تذكُرُهُ، فتفيضُ الألوانُ، ترتعشُ، تنفجرُ في فضاءات تملأُها، تسكنُ الأشياء تنعشها. تتحدّى الخطوطَ والأشكال تبارزُها وتعيدُ ابتكارَها. تنفخُ فيها المشاعرَ والأحاسيس، فتلوذُ الأحلامُ خفرةً الى الظلالِ والانعكاسات. تـتراءى لك أنوارُ عوالم بعيدة، ملتبسةِ الأُطر، تذكّر بالتصوّف والتنسّك، وتنتقل بك الى امكنة جديدة، سكّانها، حالاتٌ وتدرّجُ ارواحٍ تنبضُ موسيقى وشاعرية، سحراً واشراقاً.
تذكُرُهُ، فيهلّ عليك باناقته ورشاقته متأبطاً ابتساماته، مصافحاً بكلا الكفّين يميناً وشمالاً. تذكره، فتبتسمُ لتواضع وعمق وغنى هذا الانسان الذي كسر الصورةَ النمطيّة للفنان التي كانت سائدة في اواسط القرن الماضي، فهو لا يُظهر تشاؤماً ولا تبرماً ولا توحداً ولا استعلاء. لم يبتعد عن مجتمعه ولم يتنكّر لأصوله. كان منفتحاً، يطوي عميقاً خيباته واحاسيسه... تحمّل الانتقاد واستفاد منه وتابع مساره باصرار لتحقيق احلامه.
تعمّق في التراث العربي ونهل منه مادة لموهبته فصاغه وتلاعب به واحياه رونقاً وجمالاً. طوّر اسلوبه فلا نتمكّن من الامساك بمروحة انجازاته المتعددة من رسم ونحت وجدرانيات وحروفيات وسيراميك وفسيفساء وسجّاد وتراثيات وغيرها من الجماليات التي انطلق بها من الشرق الى آفاق وثقافات الغرب المتنوعة.
لم يتنكّر يوماً لمن اعتبرهم أساساً لبلورة موهبته وتطورها. اخترت البعض منهم على سبيل المثال. فقد كان يذكر والده الاطفائي الذي كان يمارس أحياناً هواية الرسم وتصوير المشاهد.
كما كان يخبر انه عند ذهابه الى المدرسة وعودته منها كان يمرّ من امام بيت الرسام مصطفى فروخ، وكان يضع حجرين ليتمكن من التلصص عليه وعلى اعماله الى ان ادخله يوماً واخذ يعطيه دروساً في الرسم. وقدّم له يوماً النصيحة النبوءة، بعد افتتاح معرض الرعيل الأول لكبار الفنانين اللبنانيين سنة 1947 في المتحف الوطني، اذ قال له: "اسمع يا وجيه، ان لبنان بلد النور، نور الشرق، اهتم بالنور والتراث اللبناني والشرقي".
ويذكر صديقه الناقد والفنان جوزف ابو رزق الذي قبل بمشاركة له للمرة الأولى في معرض الاونيسكو، وأضاف أيضاً نصيحة مماثلة: "ابحث عن الكنز في الشرق وفي التراث العربي والاسلامي".
كما يعترف بأهمية حضور الفنان عمر أنسي في حياته وبتردده الى محترفه وقد أخذ عنه الكثير من التقنيات والشاعرية.
ولبعض الاشخاص أثر في تمكينه من الانصراف الى الغور اكثر فاكثر في تجاربه. سافر الى اسطنبول وبغداد ودمشق والقاهرة وطهران واصفهان والمغرب العربي واسبانيا لاكتشاف امكانيات الخط العربي، وقام بتحويلها الى لوحات تشكيلية. لكن الفن "لا يُطعم خبزاً " كما يردّد اللبنانيون، وكان وجيه نحلة موظفاً في وزارة الاشغال، عندما اقام معرضاً لأعماله الحروفية سنة 1963. وقد زار رجل الأعمال السعودي غسان ابراهيم شاكر المعرض، وطلب من الفنان انجاز بعض الآيات القرآنية ودفع له مبلغاً كبيرا ... واقترح عليه الاستقالة من الوظيفة، وكان آنذاك رئيسه وزير الأشغال العامة الشيخ بيار الجميل، فاعطاه اجازة مدفوعة قبل أن يقبل استقالته.
وكان لمحافظ بيروت متري النمّار أثر في تثبيت تفوقه من خلال اشراكه في مسابقة سنة 1964 لوضع تصميم مستقبلي للمدينة بعنوان "بيروت سنة 2000 كما يراها المبدعون"، وبالنتيجة فاز تصميمه وثبُت تفوّقه.
اشترك في معارض مختلفة وفي بلدان متعددة وفاز بمسابقات عديدة. لكن الحرب عصفت بلبنان وأعاقت حركة الساحة الفنية عامة. وخلال معرض في غاليري سنتر دلتا العالمي فرع بيروت (مركزه الأساسي في روما)، (1975-1976) اختار السيد أمين العجّة ابن شقيقة رجل الأعمال أكرم العجّة (احد مستشاري وزير الدفاع السعودي الأمير سلطان بن عبد العزيز)، ثماني عشرة لوحة من بينها واحدة منفذة بالذهب الخالص بلغ ثمنها مئة الف ليرة لبنانية، وهو اغلى سعر يُدفع للوحة. وشكل حضوره تحولاً في حياة الفنان اذ ساهم في اقامة معرض له في اكبر غاليري في باريس سنة 1977 وفي تكريسه فناناً عالمياً.
توالت المعارض والنجاحات وذاعت شهرته في المملكة العربية السعودية وفي الدول الخليجية، فاتجه في الثمانينات الى انتاج اعمال الأماكن العامة بمواد مختلفة على حساب انتاج اللوحة الفردية. نفّذ جداريات الى جانب مجسّمات جمالية للمطار في جدّة والرياض... اضافة الى جداريات وزخرفات لقصور مختلفة يُعتبر بعضها آيات في الجمال كما نفّذ اعمالاً في مطار البحرين ومركز دبي العالمي وفي ابو ظبي. وأذكر بصورة خاصة الصالة الشرقية التحفة لقصر الرئيس رفيق الحريري في الرياض. وعرض في الكثير من الدول الاوروبية والاميركية... اضافة الى المعارض المتعددة في لبنان.
نفّذ سنة 2015 آخر لوحة كبيرة له، للسيد المسيح، بطول 3 امتار، وهي موجودة في كنيسة لوس انجلوس في الولايات المتحدة الأميركية (مع العلم ان للفنان لوحة للمسيح في الفاتيكان). يصعب إحصاء لوحاته وأماكن وجودها لوسع انتشارها.
معارضه لا تُحصى وجوائزه متعددة، لا مجال لتعدادها ويمكن الاطلاع على اهمها في الموجز الموزّع الذي أعده الناقد الفني سيزار نمور بمناسبة إقامة معرض ضخم لأعمال الفنان وجيه نحلة سنة 2015 في مركز بيروت للمعارض.
- كرّمته الحركة الثقافية انطلياس سنة 1995 (السنة الرابعة عشر) من ضمن أعلام الثقافة في لبنان والبلدان العربية (الرعيل العاشر).
صدرت عنه وعن أعماله كتب وسيَرٌ ومختارات من لوحاته وموسوعات محلية وعالمية وأطروحات جامعية، كما عُقدت حلقات تلفزيونية واذاعية. وهنا أنوّه بالمخطوطة الشيّقة عن سيرة الفنان وجيه نحلة والمعدّة من قِبَل الفنان والشاعر جوزف ابي ضاهر، التي استقيت منها معلومات مفيدة.
وفي الخط الموازي للمسيرة الفنية التي تصلح ان تكون مادة فيلم سينمائي، لا بد من الأخذ بالاعتبار، اعتماده الركن العائلي الدافئ، وهو المكان الثابت وسط تماوج الأمكنة والمسافات التي كان يتـنـقل فيها. عائلته مؤلفة من زوجته السيدة منيرة شهاب الدين، واولاد خمسة، جميعهم فنانون. وقد شاركهم في معرضين، في سويسرا وفي لبنان. كما قام معهم سنة 2002، بعرض مباشر في دبي لتنفيذ لوحة طولها 12 متراً. ويقول نحلة: "أولادي لم ينقلوا عني، لم يستسهلوا الفن (...). هم ببساطة اخذوا الموهبة وشقوا طريقهم".
تخطّى وجيه نحلة حدوداً كثيرة ودفع بآفاق مفاصل حياته بعيداً، فلا احد يهتمّ لاي ضيعة او طائفة او مدرسة فنية ينتمي... فهو "وجيه نحلة" الألوان والحركة، الطرافة والتحدي، الخطوط والخيول، الوجوه والنساء، الضيعة والمدينة، الظلال والأنوار، التصوير والتجريد.
انطلق من الأصول الى العالمية وعاد من بقاع الأرض الى الجذور، الى القلوب المحِبّة، الى تراب بلاده، ليكون هو التراث ويبقى توهجاً ومثالاً يُقتدى به للأجيال القادمة.
________________________________________________
كلمة الأستاذ سيزار نمّور
وجيه نحله – الفنان المعطاء
لا اعرف فنان اكثر عطاء من وجيه نحله. فقد كان كريم معطاء مع عائلته وأصدقائه ومحيطه كما كان معطاء في ابداعه. عطاؤه الفني استمر ٦٢ عاما دون انقطاع وبوتيرة قياسية. تعدت اعماله الموثقة ١٠،٠٠٠ عملا تؤهله ليدرج اسمه في موسوعة غنيس للارقام القياسية. معارضه الفردية تزيد عن ٦٠ معرضا وقد اشترك بعشرات المعارض الجماعية حوالي العالم. وقد حاز على اكثر من ٢٠ جائزة توجت بشهادة دكتور فخري من الجامعة اللبنانية الاميركية. وسريعا ما كان يعطي اصدقائه ومعارفه مخطوطة جميلة باسمائهم عندما يلتقي بهم.
ساوجز اعمال وجيه نحله في خمسة عشر بابا مع شرائح ضوئية لاعطي لمحة قصيرة عن ابداعاته.
تحولت اعماله من الرسم التقليدي الى الزخرفة العربية الجصية النافرة والملونة، ومن المنحى التزييني بجانب الخط الكوفي التقليدي المغلق الى الحروفية المتحركة حيث ينساب كل حرف منفردا في فضاء لا نهاية له، ومن رسم الشكل الجامد الى ضربات ريشته العريضة السريعة المشبعة باللون التي تشع ضوءا، كما تراوحت اعماله من المنمنمات الصغيرة الي الجداريات الضخمة المقرنصة في القصور والأماكن العامة.
1- تصوير الطبيعة
كانت بداياته في الرسم التقليدي في نقل المناظر الطبيعية بالألوان الزيتية. نرى اعمالا له في هذا المنحى من أواخر الأربعينات حتى أواخر الستينات.
2- طبيعة صامتة
كذلك في رسم الطبيعة الصامتة. نلاحظ هنا على اليمين رسما بدأ يأخذ طابع أعماله اللاحقة وعلى اليسار عمل سوريالي يدل على الفضاءات التي سيرتادها لاحقا والحروفية التي سيبرع فيها.
3- الرسم البارز
إستلهام التراث العربي الاسلامي بدأ مع وجيه نحله منذ بداياته في الرسم وكثيرا ما استعمل الخط الكوفي بكتابة كلمات كاملة. إستعمل نحله البوليستر وهو رزين سريع النشاف ليخلق الشكل البارز على ألواح المازونيت او الخشب ولونها في البداية بالألوان الزيتية ثم بالأكرليك.
4- الحروفيات
إستقل كل حرف بذاته في بداية السبعينات متخذا منحى تزييني ذو بعدين في البداية قبل ان يتحرر ويمتد بحركات سريعة في جميع الإتجاهات في فضاء محدود في البداية سيتسع في التسعينات في فضاء لا حدود له.
5- الحبريات
بدايات الحبريات كانت في نهاية السبعينات وقد بدأت تشخيصية ذات حركة مغلقة في رقص الدراويش سريعا ما تحررت لتنطلق منفتحة في جميع الإتجاهات بمنحى تجريدي.
6- الأكرليك
إستعمل وجيه ألوان الأكرليك بدل الزيت في أعماله التزيينية النافرة وقد كان أول فنان إستعمل ألوان الأكرليك بدل ألوان الزيت على القماش في لبنان.
7- المائيات
اعماله المائية في التسعينات أكدت اتجاهه الى الشفافية في الألوان والحركة السريعة في الشكل الذي يخسر حجمه في إنسياب الخطوط في فضاء صافي.
8 - المقرصنات
أستلهم نحله التراث العربي الأسلامي في العمارة في أعمال زخرفية جصية ناتئة بمنحى هندسي إستعمل فيها الريزين. وقد قام باعمال باهرة بنكهة معاصرة في القصور والمطارات والابنية العامة في المملكة العربية السعودية.
9 - المنحوتات
صمم وأنجز وجيه نحله العديد من المنحوتات باسلوب هندسي تجريدي في حجر تستا اللبناني. خطوطه الرشيقة تتناغم وتحوي غالبا فضاء داخليا.
10- الأنصبة
صمم وجيه نحله عددا من الأنصبة في المملكة العربية السعودية في الثمانيات.
11- اللون الواحد Camaieu
أنجذ العديد من الرسوم عل القماش بدرجات متعددة من لون واحد في كل عمل حيث حركة الأشكال المتناغمة تخلق فضائها.
12- المرأة
المرأة كانت الملهمة في البداية وموضوعه الرئيسي في أعماله كما سنرى.
13- الراقصة والفرس
يبدأ نحله بتصوير الفرس والمرأة ليصل في النهاية الى رسم الحركة السريعة في الفضاء المتناهي. يستعمل نحله اللون الأزرق البارد بدرجات متفاوتة ليخلق شفافية منفتحة على فضاءات واسعة أمام ألوان الأحمر والأصفر الحارة.
14- الحروفيات المتطورة
إكتسبت حروفه ديناميكية فريدة في تسعينات القرن الماضي. إستقل كل حرف بنفسه وأنساب بحركة إنفعالية في فضاء لا محدود.
15- أبعاد وضياء
إختزل نحله الشكل ليصبح حركة، كما إختزل نحله اللون ليصبح فضاء. سحر نحله عين المشاهد فتركه يتأمل في اللوحة عسى يجد المشاهد ما يبحث عنه.
______________________________________
الحركة الثقافية-انطلياس
المهرجان اللبناني للكتاب 2018
دورة وجيه نحله
الفنان وجيه نحله في ذكراه الاولى
الاحد 4 آذار 2018
د. إلهام الكلاَّب
احيّي الحركة الثقافية في انطلياس في مهرجانها السنوي العريق والذي كان رائداً هذه السنة في تتويج نشاطاته بأسم فنان... هو وجيه نحله.
هي تحيّة الى الفنان وجيه نحله، ولكن هي احتفاء بالفن، وبالفن التشكيلي في لبنان والذي ارسى، ومنذ بدايات القرن الماضي، تاريخاً ثقافياً وفنياً وابداعياً حراً، وطيّب ذائقة اجيال، آمنت بأن تكريم الفن والفنان، دلالة على رقيّ الشعوب.
اشكر الحركة الثقافية في انطلياس على هذا الاصغاء العميق الصادق لكل تجليات الثقافة في لبنان، وعلى الريادة التي تميّزت بها منذ سبع وثلاثين سنة على اقامة مهرجاناتها القيّمة.
عاش وجيه نحله حياته، ملء جوارحه، امسك الفن بتفاصيل حياته ودقائق ايامه، فالتصقت الريشة بأنامله، ولم يتوّقف يوماً عن الرسم، الذي كان جهداً واجتهاداً، وتحوّل مع نضج اليّد وسلطتها واتساع رؤى الفنان، الى سعادة وغبطة، لولاهما لانطفأت الحياة...
بلى... كان هناك بالتوازي، كنزٌ من الصداقات التي نسجها وجيه نحله، ورعاها، واطمأن الى صفائها، فكان ينساب بين قلوبها، وفياً كريماً، يرتاح الى وجودها، يرعاها، ويصطفي اياً منها، منصرفاً اليه كأنه الصديق الاوحد.
كان وجيه نحله يدعو دوماً الى زيارة محترفه، كدعوة مؤمن لزيارة معبد..
ومن زار هذا المتحف الوسيع الوسيع دخل غابة من لوحات عديدة وكبيرة، تنبض بحياة الوانها ولذعة نورها وجنون حركتها...
لوحات تتالى، تشّدك كل منها الى اللوحة التالية دون ان تظفر ببقعة هدوء تخفّف من زوغان اللون او من دوران اللوحة.
امام لوحات وجيه نحله تعرف-ربما- اين يبتدئ اللون، ويغافلك عندما يتلاشى، او يخادع العين بانتقاله الرشيق المفاجئ .. وكعصفور الجنة، يبعثر الوانه محوّلا السماء الى فضاء آخر، محوّلاً كل لوحة الى قفزة غزال، الى جموح حصان، الى دلع امرأة، او.. الى خاصرة موجة.
خاصرة الموجة... ربما هو العنوان الذي يصلح للوحات وجيه نحله.. خاصرة متلوّنة تتحوّل الى مفاجأة ضوء في كل لحظة تكوّن.. موجة هي انحناءات متكررة، مغتسلة بنور مائها المتجدد..لا تشبه موجة منها موجة اخرى، مهما تعددت البحار...
وجيه نبع فيّاض من الموهبة الاصيلة، والتقنية المتينة والشغف الدائم والحلم المثابر...
لذا، سأحاول في لمحات سريعة التقاط نكهته الجيّاشة، كما تعترض اليّد اللاهية مسار المياه في نهر متدفق، واتوّقف عند ثلاث نقاط :
- الخط
- اللون
- التحوّل والحركة
الخط
لم يشكّل الخط او الحرف المكتوب والذي اتقنه وجيه في بداياته، سجناً للموهبة في تكراره وعاديته.. ولكن وجيه ادرك، منذ اول خط القاه على قماشة اللوحة، انه ما وراء سور الكلمة يمكنه القفز الى مدى لا نهاية له..
وسرعان ما اهتدى الى فرادة وحرية تشابه اغصان الشجر في ارتسام تشعبها الى ما لا نهاية.
ان تأمل مسار الخط عند وجيه نحله يقودنا الى تساؤلات اساسية:
كيف حوّل الفنّان الخط الى حركة تتموّج، تتطاول، تنحني، تختفي، تتجمّع، تنفجر دون ان تهيم عن اصولها؟
كيف انتقل من رسم الكلمة وتخطيطها الى سبر غور غرابتها وامتحان اثر تردادها؟
كيف قفز من هاوية الزخرفي الى فضاء البصري؟، من الكلمة الى المعنى، من حروفية البدايات الى فضاء الاستثارة، من مادية الخط والكلمة حتى لو شكلت الكلمة جاذبية للعين واغراء بجمالية غاوية؟
اللون
اللون عند وجيه قوي، فرح، متحرك، يحتضن اللوحة وينضح بالاغواء، متآلف على الرغم من تصادمه المتفجّر...
اللون صانع للشكل، هوية للشكل، وليس لوناً له.
اتوقف عند توالد اللون الواحد، عند مراقصة الالوان، وعند هيبة اللون الاسوّد.
ففي توالد اللون الواحد، يستخدم الفنان التقنية المسماة "كامايو" وهي لون واحد، يستّل وجيه من تحوّلاته وتدرجاته من اغمق الغامق الى ابهت الباهت ويلاحقه باصرار في تردداته وعمقه وشفافيته ووقاحته، وخفره.. يتحول الى لون متسبت بتحوّلاته، فاقد لاسمه الاول، متوّهج بصفاته..
واذ تنحو غالباً لوحات الكامايو الى لطف تجاور الالوان وحميميتها وقرابتها، فان كامايو وجيه وردة جريئة صارخة في اقصى تفتح بتلاتها، وتدرّج تحوّلاتها، بين التوّهج والذبول، في لذعة الاخضر، او وقاحة الوردي، او غموض الازرق القطبي.
هذا الحفر داخل اللون الواحد، فعل ايمان بلا نهائية اللون..هو تمويه التسميات حيال لون يتحوّل الى ضوء مفاجئ لا ضابط له، يستجلب العين، شريكته في تحوّلاته القزحية المدهشة.
اما في مراقصة الالوان، فوجيه نحله يمسك باللون وكأنه لمسة خلق بين اصبع وريشة، يحوّله الى دفق نوراني، يشعل اللوحة من داخلها في ايقاع موسيقي ينطلق من نقطة محوّرية تراقص افقها.
ليس من سكون في لوحة وجيه نحله، حيث تتعانق السيطرة على الحركة مع عفوية اليّد البارعة، وحيث تنساب اللوحات اللونية في ارتحال لون الى آخر دون الحاجة الى ملوانة..
ضربات لونية مسحورة بشاعريتها الخاصة، تسرع او تتمهّل في دورانها الصوفي، تراقص اللون في تواطؤ او الفة او خفّة...تفجّر اللون وهي مطمئنة الى السيطرة على كل شظاياه..
اما في اللون الاسود، فمع الاسوّد يخرج وجيه من نارية الالوان الى عظمة الاسوّد المتدرج لوناً نارياً آخر.. وكأنه يلاعب اللهب كي يتحوّل الى اسود الفحم...يتسلق سلم اللون الاسود، بين عتمة ليلٍ واكفهرار عاصفة والتماع ثلج، في تبيان الخط الاسود من الخط الابيض.. فلا يفصح الاسوّد عن نهاية.. ولا يفضي الابيض الى بداية..
آلاف الالوان السوداء تداعب مخيّلة وملوانة الفنّان... الاسوّد المكتوم الحزين، الاسوّد الشفّاف...الحنون... الاسوّد الملكي، الفاخر، القاسي، اللمّاع، اسود الليل بين شفق وغسق، وضياع والفة.
هو الاسوّد... كمادة ولون، كظل وضوء، يجاور الفخامة ويهدهد الحزن، وينسكب كليل يفخر باسراره..
كيف انتقل الفنّان من الهيام بالالوان الى سطوة اللون الاسود، نقطة الثقل، النقطة الصفر، حيث لا تتجلى الالوان والاشكال من دون ظلاله؟ وهل كان يمتحن عينه ويده ام عبن الرائي؟
التحوّل والحركة
تتوافق اللوحة مع مزاج الفنّان المتفجر، المتجدّد، الطموح، ولكن وجيه بعد اختمار تجربته الثريّة تحوّل معها الى اطمئنان وثيق لا يحتاج الى اطراء او اعجاب.
تحوٌل... حصيلةً لمثابرته وقدرته الفائقة على مغالبة النفس والجسد، وملاحقة الالهام دون كلل، واقتحام اللوحة البيضاء دون وجل، طوال حيانه وحتى الرمق الاخير...
لم يعد وجيه فناناً تصنع حركته اللوحة، بل اصبحت اللوحة تحّرك جسده، فتأتيه الحركة دون ان يقصدها، بل من دون ان ينتظرها، ويأتيه اللون دون ان يفتش عنه.
في لوحاته الاخيرة، نشاهد عصفاً للاشكال في حركة لولبية متماوجة، تنطلق من نقطة محوّرية، تشعل ضوء اللوحة، تستبطن الحرارة كموقد المدفأة وتوزعها على كل انحاء اللوحة، حيث تموّه النهايات كل بداية.
تولد الاشكال في اللوحة من نمو شعابها اللونية، وسواء بدت يشكل احصنة متسابقة او بشكل امرأة تخترق الفضاء وتتبخر في شفافية ارديتها.. فهي تنظر دوماً الى سماء فسيحة بينما تداعب اقدامها ارضاً هلامية متخيّلة.
اخيراً،
يستبطن فن وجيه نحله شحنة انفعالية، تستثير الفرح بالحياة، بمؤازرة حركة اليّد الحرّة القادرة، وانطلاق الروح وطموح اللغة البصرية.
ومن لوحة جعيتا... اول لوحة رسمها وجيه نحله الشاب محاولاً التقاط لمعان ثريات الضوء المتحوّل الشفاف والوانها الكونية... حتى آخر لوحة اشعلت يده تحوّلات الوانها... لم يتوّقف وجيه عن ملاحقة اسراراللون والحركة وحساسية الضوء وشغف التحوّل، في فرح وحرية وابداع.
________________________________