تكريم الفنان منير معاصري
كلمة بريجيت كساب
الفن رسالة. نعم وبكل ما للكلمة من معنى، خصوصا عندما نتكلم عن المسرح والتلفزيون والسينما، عن الاخراج والتمثيل والتأليف والاداء. انه رسالة انسانية بامتياز حيث يمكن ان نرى ونقرأ من خلال عمل هؤلاء المبدعين مستقبل البلد وحتى مستقبل الانسانية. لا ليسوا بعرافين ولا قارئي الكف وضرب المندل، انما هم يغوصون في عمق الانسان من خلال ثقافته، وتفكيره ، فيقرؤونها لنا بطريقة مختلفة عنا حيث تترجم من خلال اعمال تلفزيونية، مسرحية، سينمائية بطابع كوميدي او درامي حسبما تقتضيه القصة ونتفاعل نحن معها ونتجادل حول نهايتها والعبرة من خلالها، وربما لا ندري ان هذه الاعمال ما هي سوى تظهير مكبّر لواقعنا واين يمكن ان تقودنا افكارنا وثقافتنا ومعتقداتنا سوى الى مزيد من السلبية اذا كانت متطرفة، او ايجابية اذا كانت ثقافية وبناءة. فلننتبه جيدا لما يقولون ويقدمون، انهم ذاكرة التاريخ وعمل الحاضر ورسل المستقبل.
مبدع من بلادي حمل هم الوطن في فنه، ليكون سفيرا له من خلال نتاجه على مر السنين متخطيا كل التحديات ليرقى باعماله الى النجومية العالمية، فيحصد الجوائز والتهاني والاهم منها كلها هو اعجاب الناس باعماله وتقديرهم لعطائه الفني، الذي يحمل في طيّاته رسالة الثقافة الحقيقية والصدق في التعبير والمشاعر والاحاسيس، التي دعّمها في الدراسة العالية والمهنية المتفوقة، والخبرة العالمية الى جانب ممثلين ومخرجين عالميين معروفين.
انه المخرج، كاتب سيناريو، المنتج، الممثل، الأستاذ الجامعي لفنون الاداء، منير معاصري الذي عرفناه ممثلا ومخرجا ومؤلفا وهو لا يزال في سباق مع المستقبل من خلال مجال عمله اليوم في السمعي البصري الذي يشكل تحديا في ايامنا هذه مع تقدم التكنولوجيا السريع واللامحدود وخصوصا في فن التواصل.
منير معاصري، تكرمه الحركة الثقافية اليوم ايمانا منها بان الفنان لا يعمل لذاته انما يعمل للانسان والوطن معا، ليكون حبة القمح تلك التي تجهد نفسها كثيرا لتملأ الارض بالثمر الوفير والجيد.
يضيق الوقت في تعداد انجازاته السينمائية والتلفزيونية والمسرحية، تمثيلا وكتابة واخراجا وهم حوالي ثمانون عملا على مر السنين ولغاية يومنا هذا وبلغات عدة منها البرازيلية والفرنسية والانكليزية والعربية. كما انجز اعمالا دينية فابدع في مسرحية مار شربل لريمون جبارة، والمهرجانات الفنية مع الفنانة ماجدة الرومي وملحم بركات. كما شارك في مهرجانات دولية كمهرجان دمشق وقرطاج وطهران وبغداد وموسكو وايطاليا وفرنسا.ايضا شارك في أعمال مسرحية على مسرح برودواي، وحديثا شارك في الفيلم السينمائي اللبناني "مارينا" انتاج و اخراج الذي يعرض اليوم على شاشات السينما في لبنان.
علم فنون الأداء خلال 12 سنة في جامعات في البرازيل ولبنان، وأنشأ معهد لفنون الأداء في جونيه لبنان.
منير معاصري المتعدد المواهب سوف يقدمه لنا صديقه الاستاذ انطوان رعد الحائز على الاجازة التعليمية في اللغة العربية وادابها من الجامعة اللبنانية درّس الأدب العربي في معهد الرسل بجونية, وفي مدرسة كرمل القديس يوسف ببيروت, وفي البعثة العلمانية الفرنسية ببيروت.
انتخب عضواً في نقابة المعلمين, ثم أميناً عاماً للنقابة, وانتخب نقيباً للمعلمين منذ عام 1975 لغاية 1992
رئيس المجلس الثقافي السابق جبيل، رئيس رابطة خريجي معهد الرسل ورئيس جمعية اهل الفكر.
له دواوين شعرية عديدة وهي الملاك الشيطان- خصلة شعر - أبداً في رحلة - تاجر الرماد - بطاقة دعوة إلى سجن ما - مواويل لبنانية لحبيب اسمه العراق - وشم على الريح , وله مجموعات شعرية للأطفال منها: سلة الطفولة - أعياد الطفولة - مهرجان الربيع - دورة الفصول- كما ترجم منها الى لغات عدة وهي لبنان صورة وشعرا، ومرايا حواء.
فيلم قصير يعيدنا الى ذاكرة احببناها ونفتقدها اليوم، ويلقي الضوء على اعمال منير معاصري المكرم نشاهدها معا.
___________________________________
كلمة أنطوان رعد في تكريم الفنان منير معاصري
في الحركة الثقافية – أنطلياس
ترقى علاقتي بمَن نحتفل الليلة بتكريمه إلى العام 1956. يومذاك كنا تلميذين داخليين في معهد الرسل – جونيه، وقد انطلقت صداقتنا في ملاعب الرياضة إذ كنت متفوقًا في سباق الضاحية وفي المسافات الطويلة، أمَّا منير معاصري فكان رياضيًّا خارقًا في شتًّى أنواع الرياضة (كرة طائرة، كرة سلة، ملاكمة، فضلاً عن ألعاب القوى ولاسيَّما القفز العالي والقفز العريض وسباق المئة متر). وترسَّخت هذه الصادقة لأنَّها ارتكزت على تفاهم روحي عميق وعلى إخلاص متبادل، ولكونها كانت ثلاثيَّة الأضلاع بين رياضيِّين ومدربهم الأستاذ جوزف صقر أمدَّ الله بعمره. ومع أن هذه الصداقة دخلت عامها الثاني والستين وشارفت سن التقاعد، إلاَّ أنَّها والحمد لله ما شابت وما شاب صفاءها كدر...
في تلك الحقبة من الزمن كانت المدارس تعطِّل يوم الخميس بعد الظهر، وتقديرًا لإنجازاتنا الرياضية كان مدربنا يمنحنا Bonus يوفِّر لنا فرصة الذهاب إلى بيروت لتزويد الجرائد أخبار انتصارات الفرق الرياضية في المعهد، على أن نعود إلى المدرسة قبل السابعة مساءً. صدِّقوني أن ذلك الـ Bonus كان يسبِّب لنا فرحًا عظيمًا لا يضاهيه الفرح الذي يغمر الرياضيِّين المحترفين الذين يتقاضون حاليًّا مبالغ طائلة. إنه الزمن الجميل، زمن الهواية، زمن عصفورَين أُطلقا من قفص المدرسة الداخلية، ليطيرا من جريدة إلى جريدة، وليشربا العصير في أعلى ساحة البرج، وليحضرا فيلمًا سينمائيًّا يختاره منير لأنَّ السينما كانت شغفه، وينتهي بهما المطاف عند فلافل فريحه قبل العودة إلى القفص.
صدِّقوني أنَّ شريط الذكريات هذا يمرّ ببالي كما لو أنَّ أحداثه جرت البارحة، أو جرت قبل البارحة بيوم على أبعد تقدير.
لقد عرف منير معاصري النجومية في ملاعب الرياضة وفي السهرات الاجتماعية قبل أن يتألَّق في سماء السينما والمسرح، ومردّ ذلك إلى ما سجَّله من أرقام قياسيَّة مدرسيَّة في ألعاب القوى ومن تفنُّنٍ في الكرة الطائرة فضلاً عن وسامته وبراعته في الرقص ومهارته في الغناء. إنَّه باختصار كوكتيل مواهب، وعندما تتعدَّد مواهب المرء وطاقاته يصبح صعبًا عليه أن يختار طريقه في الحياة. وقد كانت التجربة التي مرَّ بها منير قاسية ودراميَّة إلى حدٍّ بعيد، إذ عرضت عليه منحة دراسية للتخصص في الرياضة في فرنسا مع عقد عمل للتدريب إثر عودته بمرتَّب يسيل له اللعاب، إلاَّ أنَّه على ولعه بالرياضة، ورغم إغراءات العرض آثر أن يصغي إلى نداء القلب وأن يتخصَّصَ في السينما والمسرح. وقد اغتنمَ فرصة قيامي برحلة إلى الولايات المتّحدة في بعثة طلابية سنة 1960، فألحَّ عليّ كي اتَّصل بـ Actors Studio للمخرج الفذّ إيليا قازان للاستفسار عن معهد لإعداد الممثلين، وقد عدت برسالة من إيليا قازان دون أن يتسنَّى لي لقاؤه تتضمَّن شروط المعهد الذي سيلتحق به.
وخلال دراسته في Senior Dramatic Workshop بإشراف الأستاذ الكبير Lee Strasberg لم ينقطع التواصل بيننا فقد كان منير يطلعني على المراحل التي قطعها والممثلين الذين التقاهم وأنا بدوري كنت أطلعه على أخبار المعهد والمدرب والنادي والأصدقاء، ولا تسألوا عن فرحه وفرحي عندما قام الممثــل القديــر ريتشارد بيرتون بتوزيع شهادات الدبلوم على المتخرجين في العام 1962 ومنير في عدادهم.
وبعدما شارك منير في أعمال مسرحية في برودواي، عاد إلى لبنان فأسند إليه دور البطولة في الفيلم اللبناني "غارو" للمخرج غاري غرابديان وكان تألُّقه في أداء الدور فاتحة لأعمال سينمائيَّة وتلفزيونيَّة لفتت إليه الأنظار، ومنها مشاركته في فيلم "آخر طائرة إلى بعلبك"، وهو إنتاج لبناني إيطالي فرنسي إنكليزي مشترَك، وكرَّت السبحة، فأدَّى الدور الرئيسي في فيلم "المليونيرة" إلى جانب الشحرورة صباح، وفيلم "الأخرس والحب" بالاشتراك مع ريمون جبارة وفيليب عقيقي، وهنا تحضرني حادثة طريفة، ففي العام 1966 قام نادي الرسل الرياضي برحلة إلى فرنسا، وكان منير كابتن فريق الكرة الطائرة. وعشيَّة عيد الفصح أقمنا في أحد الأديرة في مدينة Blois استعدادًا لمباراة اليوم التالي. في الصباح أُعدَّ لنا فطور غني وشهي إلاَّ أنَّه كان يفتقر إلى البيض وبالتالي سيحرمنا متعة "المفاقسة". وقد حاولنا جاهدين أن نفهمَ الخادم الأخرس والأطرش أنَّنا نريد بيضًا فلم نفلح. وفجأةً انتصب منير ومدَّ يده إلى مؤخرته وراح يقوقئ كالدجاجة. فانفجر الأخرس ضاحكًا، وهزَّ رأسه مرارًا علامة الفهم، وما هي إلا دقائق حتى اندلعت حرب "المفاقسة"، وكانت هذه الحادثة شهادة دامغة على نجاحه في أداء دور الأخرس.
وخلال تجولنا في شوارع المدينة مررنا أمام إحدى دور السينما، ومن غرائب المصادفات أنَّها كانت تعرض فيلم "آخر طائرة إلى بعلبـك" مع صـوَر منيــر معاصري وجاك سيرناس، فقلت للأصدقاء: "هذا فال خير". سنربح المباراة في مساء هذا اليوم، وقد صحَّ توقّعي، ففاز النادي بعد مباراة ماراتونيَّة بثلاثة أشواط مقابل شوطَين.
والجدير بالذكر أنَّ منير معاصري قام بدور البطولة في مسلسلات تلفزيونية أذكر منها على سبيل المثال: "كان يا ما كان"، "جريمتكم أنَّكم أبرياء"، "آثار على الرمال"، و"الرهائن الثلاثة". وأخرج وأنتج الفيلم الوثائقي القصير "الرقص الشرقي"، وكان الممثل الرئيسي والمؤلف والمخرج والمنتج لفيلم "القدر"، وعن هذا الفيلم يقول منير: "في أحد الأيام قررت أن يكون لي فيلمي الخاص كتابة وتمثيلاً وإخراجًا وإنتاجًا لكي أكون حرًّا في خياراتي الفنية. وهكذا ولد فيلم "القدر"، وقد شعرت بالارتياح للنجاح الذي لقيه في عدد من المهرجانات الدولية التي عرض فيها. ولا بد لي من التنويه بفضل التقنيين والممثلين الذين شاركوا معي وعملوا بشغف لا يقل عن شغفي بالسينما".
وفي العام 1974 حقَّق منير قفزة نوعية إذ شارك في الفيلم السينمائي العالمي "الرسالة" بطولة أنطوني كوين وإيرين باباس وإجراخ مصطفى العقَّاد، وقد عبَّر أنطوني كوين في شهادة له عن إعجابه بمنير وتقديره لانضباطه في العمل قائلاً:
«في فيلم "الرسالة" الذي صور في ليبيا والمغرب وجدت أن منير معاصري يتمتع بكفاءة عالية كممثل. كما وجدت إنسانًا مخلصًا للعمل الذي يؤديه بجدارة وحماسة واندفاع، وأنا لا أتردَّد لحظة في أن أوصي العاملين في مجال السينما في الولايات المتّحدة الأميركية بالتعامل معه لأنَّه جدير بالثقة».
وفي العام 1986 درَّب منير معاصري الممثلين في الفيلم البرازيلي "حفلة رقص معطرة" وقد صُنِّفَ كواحد من أفضل مئة فيلم برازيلي من قبل المؤسسة البرازيليَّة للأفلام. وبين سنتي 2012 – 2013 اضطلع بالدور الرئيسي في الفيلم السينمائي البرازيلي "المحطة الأخيرة" ، وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن لمنير فضلاً لا ينكر في فتح آفاق جديدة أمام السينما اللبنانية وعلى الأخص مع البرازيل التي يفوق عدد المغتربين اللبنانيين فيها عدد المقيمين في الوطن الأم.
وفي المسرح لا تقلّ مساهمات منير معاصري شانًا عن مساهماته في السينما علمًا أن المرحلة التي نشط فيها تعتبر العصر الذهبي للمسرح اللبناني وأنا سأكتفي بذكر بعض المسرحيات التي ستبقى محفورة كالوشم في الذاكرة وفي القلب.
سنة 1963 أدى الدور الرئيسي في مسرحية "هملت" لشكسبير إخراج منير أبو دبس. وفي سنة 1968 قام بالدور الرئيسي في مسرحية "الإستثناء والقاعدة" لبرتولد برخت إخراج منير أبو دبس. وفي سنة 1969 شارك في مسرحية "كارت بلانش" كتابة عصام محفوظ وإخراج روجيه عساف. وفي سنة 1970 مثل وأخرج مسرحية "لماذا رفض سرحان سرحان ما قاله فرج الله الحلو في ستريو 70" كتابة عصام محفوظ. وفي العام اللاحق اضطلع بالدور الرئيسي في مسرحية "لِتَمُتْ ديدمونه" لريمون جبارة. وشارك في مسرحية "تحت رعاية زكور" لريمون جبارة. وأدى الدور الرئيسي في مسرحية "كباريه" لشكيب خوري.
وقام بدور "القديس شربل" في مسرحية ريمون جبارة، وشارك في مسرحية "قندلفت يصعد إلى السماء" وأدى الدور الرئيسي وقام بإنتاج مسرحية "صانع الأحلام" وكلاهما من إخراج ريمون جبارة.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ منير معاصري تعاون مع الفنانة ماجدة الرومي ما بين سنة 1981 وسنة 1990 فأخرج حفلاتها الغنائية وصمَّم الإضاءة الفنية في مسرح جورج الخامس ومهرجان قرطاج الدولي – تونس ومهرجان جرش الدولي – الأردن ومهرجان بغداد الدولي ومهرجان دمشق الدولي وفي كازينو لبنان، فضلاً عن جولتها في الولايات المتحدة الأمريكية على مسرحDavid Symphony Hall سان فرنسيسكو ومسرح Carnegie Hall بنيويورك.
أيَّها الكرام،
إنَّ الجهود المضنية التي بذلها منير في مجال السينما والمسرح لم تضع سدى مع أنَّها لم تنل حقها الكامل من التقدير... ففي سنة 1967 نال فيلم "الأخرس والحب" جائزة أفضل فيلم في مهرجان طشقند الدولي في الاتحاد السوفييتي.
وسنة 1971 نال فيلم "الرقص الشرقي" جائزة أفضل فيلم وثائقي قصير في مهرجان طشقند. وسنة 1975 نال جائزة أفضل ممثل عن دوره في فيلـم "غارو" في مهرجان أقامه المركز السينمائي في لبنان للأفلام التي أُنجزت خلال 25 سنة. وسنة 1984 نالت مسرحية "صانع الأحلام" جائزة أفضل مسرحية في مهرجان قرطاج الدولي في تونس. وفي سنة 2010 كرّمه تلفزيون لبنان لإنجازاته المهنية. وها هو الليلة يكرَّم في الحركة الثقافية – أنطلياس.
وفضلاً عن أنَّ أفلامه ومسرحياته شاركت في مهرجانات دولية مختلفة، شارك منير معاصري في لجان تحكيمية لعدة مهرجانات، فكان عضوًا في لجنة تحكيم مهرجان Urban International Film في طهران، وعضوًا في لجنة التحكيم لأفلام التخرّج السمعي البصري في جامعة الألبا – لبنان، ورئيسًا للجنة التحكيمية في مهرجان Cannes Junior International Festival، ورئيسًا للجنة التحكيميَّة في المهرجان الدولي للسينما في جونيه سنة 2018.
أيُّها الكرام،
عذرًا لأني أطلت الكلام، فأنا سعيت جاهدًا لأن أختصر ما استطعت، ولكن ما حيلتي إذا كانت حياة المكرَّم منجمًا غنيًّا بالحجارة الكريمة وإذا كانت أعماله الفنية موزَّعة على غير صعيد؟. منير معاصري هو مثال للفنان العصامي الذي شق طريقه بأناة وصبر ومثابرة. فالفن في نظره ليس موَّالاً نغنِّيه، ولا كأسًا من العرق نقفِّيه، بل هو موهبة تصقل بالثقافة والخبرة والمراس والعمل الدؤوب، وحسب صديقي منير أنَّه عرف بتواضعه الجـمّ، كيف ينأى بنفسه عن وسط فني يمـور بالنرجيسية والحسد والمؤامرات، وكيف يقبل على العمل بشغف وإخلاص فيرقى به إلى مستوى العبادة، متأثِّرًا بما غرسته العائلة والكشفيَّة من قيَم في نفسه.
أيُّها الكرام،
التكريم هو غالبًا تتويج لحياة حافلة بالنشاط والإبداع في مختلف الميادين، وقد يكون أحيانًا دعوة لبقة إلى التقاعد، أما تكريم الحركة الثقافية – أنطلياس لمنير معاصري فهو حافز لمزيد من النشاط ومزيد من الإبداع، لذا نحن على موعد فني جديد مع منير معاصري ولن يطول بنا الانتظار...
_______________________________
كلمة المسرحي منير معاصري
أيّها الحضور الكرام
اخترت وسائل التواصل السمعي – البصري مجالاً للعمل وأنا أُدرك أنّي أسلك دربًا شاقّة وشائكة إيمانًا منّي بأنّ الفن يجب أن يكون في خدمة الإنسان وبأنّ الفنّ وسيلة وليس غاية بحدّ ذاته.
إنّنا في سباق على المستقبل.
مستقبل فن التواصل (السمعي – البصري).
هذا الفن الذي أصبح اليوم جزءًا لا يتجزّأ من حياتنا اليوميّة والذي هو الأكثر فعالية وتأثيرًا إلى حدّ السيطرة على النفوس والعقول والقلوب.
الحقيقة عند الكثيرين تتفق مع ما تحدّده وسائل الفنون السمعية – البصرية.
ما سوف نقوله لا ينطبق فقط على الإنسان اللبناني وحسب بل على جميع البشر...
لماذا؟
تسليط الضوء والتركيز على الإنسان حامل الوعد بالإنسانية ليمجّد خالقه الذي منه يأتي وإليه يتّجه كل شيء في العالم والتاريخ.
الهدف واحد التواصل بين الإنسان وأخيه الإنسان.
منذ أن اكتشف الإنسان الأول في أول كهف أنّ بإمكانه خط علامة سهم على التراب بطرف عصاه... أو خربشة رسوم على جدران كهفه بواسطة حجر صوّان... وهو يحاول التواصل بالإنسان الآخر بواسطة الرموز المصوّرة... من الممكن أن يكون سهم إنسان الكهف هذا ما كان إلاّ لإعلام أهل قبيلته بأنّ الفريسة قد مرّت من هنا.
إنّ التصاميم التي نقشها على الجدران الصخريّة لغرفة جلوسه في الكهف ما كانت إلاّ لتمثل ميلاً طبيعيًا – غرائزيًا للتعبير عن ذاته...
ولكن مهما كانت الأسباب الباعثة لهذا التعبير... فإنّ نسيبُنا البعيد هذا كان يلبّي الدافع المحرّض الأساسي عند الإنسان.. الا وهو عملية التواصل... وكانت البداية حتى عصرنا هذا... ولو أنّ التواصل اليوم عبر الوسائل السمعية – البصرية هو أكثر تعقيدًا وأكثر دقّة.. وشفافيّة.. ووعيًا في أهدافه مقارنةً مع تلك الرسوم البدائية لإنساننا الأول، يبقى الدافع الرئيسي وراء كل كتاب.. كل شريط سينمائي أم تلفزيوني أو أي عرض مسرحي أو شريط موسيقي أو لوحة مرسومة... هو الدافع ذاته كما في البدء... التواصل أي تبادل المعرفة والأفكار والأحاسيس..
حتى نقول للعالم: هكذا هو نمط الأشياء...
نحن نحتاج لرؤية الأشياء الآن كما تبدو دائمًا في ضوء الأبدية.
- ما هو السمعي البصري؟ هو أداة تعبير حرّة عن هواجس وقلق الإنسان.
- من هو السمعي البصري؟ إنسان صادق مع نفسه وملتزم بقضية أخيه الإنسان.
- كيف حال أغلبية المؤسسات السمعية – البصرية اليوم؟ سلعة تجارية رخيصة تعتمد الإثارة لتهيج الغرائز الحيوانية عند الإنسان...
- كيف حال عالمنا اليوم؟ مادي أولاً... مادي ثانيًا... ومادي أخيرًا.
لماذا؟
إنّ مجموعة الأُمم في هذا العالم تسعى جاهدة لتُدخل في حياة الشعوب روائع العلم والتكنولوجيا.
ليس هناك أدنى شك في أنّ حياة الشعوب على كوكبنا الأرضي هذا باتت أغنى بكثير من جراء التقدّم العلمي والتكنولوجي هذا.
بشكل أو بآخر كل واحد منّا ينعم بقسط وفير من هذا التقدّم العلمي والتكنولوجي. لكن واقع الحال الذي نعيش يثبت العكس. فنحن نعيش اليوم في عالم مضطرب.. مشغول الفكر. نعيش بظلّ الخوف والرعب من الحروب وخطر الإبادة. حتى لو أردنا أن نتجاهل ولو للحظة هذا التهديد الشامل للكرة الأرضية وركزنا الرؤية على بعض البلدان الخاصة متقدّمة كانت أم أنّها في طريقها نحو التقدّم السيناريو في غاية الخطورة.
هناك الكثير من القلق في تقدّمنا السريع هذا وحبّنا للسيطرة، وتبني هذا العالم المادي بالمقابل كان هناك تقدّم ضئيل في شخصيّة الإنسان وقيمه وفضائله.
بالفعل أغلب المراقبين في هذا المجال يشعرون بأنّ القيم الإنسانية تضمحل على جميع الجبهات، سواءً داخل المجتمع أم داخل الحياة الفردية.
الدليل الواضح لهذا هو:
أولاً: الإصرار على التمييز العنصري والإنساني بشتّى أنواعه.
ثانيًا: التصدّع الذي أصاب بناء العائلة. إحصاءات الدول في هذا الموضوع ترسم لنا صورة مرعبة كلها شؤم.
ثالثًا: انعدام احترام الأهل، والمعلّمين والسلطات المدنية والشرعية والروحية.
رابعًا: النموّ الكبير في العنف والإرهاب والسلوك الهدام على شتّى أنواعه داخل العائلة والمدرسة، في الشوارع، في ألعاب وأماكن التسلية. واللافت في هذا المجال، والذي يجعل الأمر مفجعًا، هو أنّ مجموع هذه الجرائم ترتكب من قبل شباب وشابات دون الحادية والعشرين من العمر.
خامسًا: الغموض في الهدف والتوجّه يشمل شباب اليوم، وهو يؤدّي إلى نتيجة غير مرضية في الحقول التربوية والثقافية والفنية، وإلى شرور إجتماعية أخرى.
لن نكون على خطأ إذا قلنا إنّ النظام البيئي بكامله معرّض للخطر الشديد والشنيع. عالمنا هذا متوقف على التجديد في التزام فردي فعال ونشيط لقيم الحياة الأساسية.
على الجنس البشري أن يكتشف من جديد معنى الوجود، ويسترجع الإحساس في تكريس كامل لذاته وللمثل العليا. المثل التي تدعم هذا المعنى، المثل التي تجد التعبير في أفعالها، لخدمة المجتمع والعالم.
هذا يحمّلنا على التساؤل، هل تجد الوسائل السمعية – البصرية معنى إنسانيًا وثقافيًا لذاتها في هذا المجتمع؟؟
الجواب: نعم! نعم...
إذا كان المجتمع في خطر كما ذكرنا سابقًا، وإذا سلّمنا بأنّ الوسائل السمعية – البصرية هي من صنع الإنسان وأنَّ الإنسان مسؤول تجاه مجتمعه، فإنّ لهذه الوسائل دورًا رئيسيًا في تثقيف هذا المجتمع.
لذلك، على حامل هذه الوسيلة أن يكون ملتزمًا بقضايا الإنسان ومشاكله.
التربية والثقافة ينموان مع نمو الإنسان.
هنا السؤال يطرح نفسه، هل الوسائل السمعية - البصرية أداة تثقيفية؟ أم أداة تسلية.
الوسائل السمعية – البصرية أداة تثقيفية ملتزمة أولاً، مصنوعة في إطار مسلٍّ وترفيهي.
على حامل هذه الوسيلة أن يسعى دومًا ويعمل جاهدًا حتى يدخل في نفوس الشعوب روائع الحياة. فالفن رسالة ملتزمة في المضمون.
حريّة الإنسان هي في اختيار وسيلة التعبير في الشكل...
ولكن عليه ألاّ ينسى أنّه إنسان مسؤول تجاه نفسه أولاً ومن ثمّ تجاه مجتمعه.
هناك من يقول إنّ الإنسان قد خلق ليكون حرًّا هذا صحيح.
ولكن حريته تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين. وهنا تكمن الخطورة في وسائل التعبير على مختلف أنواعها، المسرح والسينما والتلفزيون والفنون التشكيلية والموسيقى والشعر الخ...
مسؤولية كل شخص يتعاطى إحدى وسائل التعبير هذه كبيرة وخطيرة. إنها سلاح ذو حدّين، إذا ما أسأنا استعماله فالويل لمجتمعنا وأولادنا.
والنتيجة... أجيال تنمو على قلّة الذوق... ولا تعرف أن تميّز بين الرديء المبتذل والجودة والصدق في التعبير.
شعبنا في حالة ضياع لذا يكثر الحديث عن الخصوصية اللبنانية..
ولبنان اليوم في خضمّ الضجيج المسيطر على العالم يترتّب عليه أن يؤكّد مجدّدًا مساره القائم على المعرفة في سبيل الإلفة والسلام والمحبّة التي وحدها تحلّ مشاكل الإنسانية. والأعمال التي سوف يقوم بها هي لإبراز الشواهد الإنسانية التي تثبت الخط الثقافي الحضاري للبنان وهو ما يشكّل التراث الحقيقي والأصيل باعتبار أنّ التراث هو مجموعة الأعمال المبدعة الخلاقة التي ترفع من شأن الكرامة الإنسانية وتصبّ في حقوق وحرّيات الإنسان الكوني (L’homme Universel)وبصورة خاصة خدمة فكرة السلام والتضامن والاحترام بين الحضارات وعملية التفاعل لإبداع جديد... والإبداع والخلق باستمرار هما صفة الشعوب الحيّة. الشعب الذي يتوقّف عن الإبداع يموت حضاريًا.
الماضي لا يتغيّر ولكن إمكانية إدراكنا له ونظرتنا إليه يتغيّران.
نحن اليوم نتيجة ما صنع منا آباؤنا في الماضي...
ومسؤول المؤسسة السمعية – البصرية كالمعلم... عندما يختار هذه الوسيلة مهنة له لا يعود بوسعه وضع شروط مع الحياة وتكييفها على هواه.. إذ عليه أن يعلم أنّه يلعب بمستقبل الأمة. وهذا يحملنا على القول:
إنّ ولد اليوم هو والدُ الغد... وأنّ الطفل هو والد الإنسان...
والأطفال قادرون على تعريض مستقبل بلدهم للانحطاط.
يقول “Will Durant”
الحقيقة لا تجعل منّا أثرياء.
إنّما تجعل منّا أحرارًا.
وختامًا، يطيب لي أن أعبّر عن إمتناني العميق للحركة الثقافية انطلياس التي كرّمتني ودأبت على تكريم الفنانين والمثقّفين وهم على قيد الحياة، لا بعد مماتهم.
وآمل أن تنتقل هذه البادرة الطيّبة إلى سائر المؤسسات الثقافية ولاسيّما مؤسسات الدولة.
كما أودّ أن أشكر زميلي الفنان رفعت طربيه رفيق الأيام الصعبة والعمل المسرحي الجاد ورفيق الدرب الصديق جوني صفير، والدكتور عصام خليفة، والحضور الكريم الذي وقف إلى جانبي طوال مسيرتي الفنيّة باستثناء صديقي أنطوان رعد لأنّ المرء لا يشكر ذاته.