ندوة حول ديوان الشعر "الأمل الوليد" للمحامي فريد حلو
إدارة الأستاذ منير سلامة
السبت 17 آذار 2018
حضرة السيدات والسادة،
نلتقي اليوم في رحاب الحركة الثقافية – انطلياس، حول كتاب " الامل الوليد" للمحامي الشاعر الاستاذ فريد الحلو.
يسافر شاعرنا بين ضفتي الكتاب حاملا أحزانه وافراحه، آماله وآلامه كما يقول ولكنه في الحقيقة هو العاشق الذي يدّون مراحل عشقه في وجوهها المختلفة. يهيم في لقاء المعشوق ويعاني ألم الفراق ويهرب من عودة ذكريات عبرت وغار جرحها في روح شاعرنا الشفافة.
ايها الأصدقاء،
الى جانب حالات الحب، تبرز عاطفة الاستاذ فريد الجياشة في رثاء شقيقه سمير وكذلك في مناجاة مناه وفي التوجه الى كريمتيه. ولكن ما يميّز الشاعر المرهف شفافيته في كل قصيدة وفي كل حالة استفزّت موهبته الشعرية.
لن أسترسل في التوغل في شاعرية الصديق فريد الحلو لأن الفصل في ذلك لأديبين كبيرين على المنبر لهم صولات وجولات في الكتابة وفي الشعر وفي التعليم الأكاديمي.
حسبي أن أشير أخيراً الى التفاؤل الذي يعنون هذا الكتاب ...فهو يفتح نوافذ على الآتي من الايام بفرح وأمل... مع كل ما يحمله من خزين ذاكرة الاستاذ فريد، في حلوها ومرّها.
### أديب واستاذ جامعي، مؤلفاته عديدة وتتناول مواضيع متنوعة. من الميتولوجيا الى الثقافة الشعبية الى السيَر وغيرها من المواضيع. يحمل ضيعته في البال ( دير ميماس ) ويدّون حكايات أبناء قريته في شريط اغترابهم الى الاميركيتين، وهموم هجراتهم في كتابه " حكايات من ضيعتي ".الكلمة للدكتور عصام تيودور الحوراني .
## إعلامي بامتياز وأديب متميّز وشاعر حين يريد. مؤلفاته تروي مسيرة قلمٍ " من كلّ أرض " " وعندما يأتي المساء " الى " كلمات على هوا الايام " " وأبعد من كورا ...وأبعد من ارارات " وهو كتابه الصادر حديثا والذي يوقعّه على منصة جامعة سيدة اللويزة بعد نهاية هذه الندوة.
مسيرة تمتّد على ما يقارب أربعة عقود ٍ من الزمن إنّه رفيق المهرجان اللبناني للكتاب والحركة الثقافية – انطلياس، انه الصديق الاستاذ جورج مغامس ...له الكلام.
________________________________________
فريد حلو و"الأمل الوليد"
د. عصام تيودورالحوراني
قال أمين الرّيحاني في سياق كلامه في خطبةٍ كان يُلقيها في جمعيّة شمس البِرِّ ببيروتَ في 19 آذار عام 1908: "ثلاثةٌ يُتاجرون بشيءٍ من الحقيقةِ وبكثيرٍ من الخُزعبلاتِ والأوهام، والثلاثةُ يا سادتي من سُلالةٍ واحدةٍ ومن بطنٍ واحدٍ، نعم إنَّ الطبيبَ والكاهنَ والمحامي ثلاثة عُقبانٍ من بيضةٍ واحدة...". وأُعقِّبُ على قول فيلسوف الفريكة فأقول: ولكنّ إكسيرَ الأدبوالشعر، كما إكسير العلماء الأقدمين، إذا لامس نفسَ واحدٍ من هؤلاء الثلاثة أنسنها وحوّلها وبدّلها وجمّلها وعركها بزيته العجائِبيّ، فيُصبح العُقاب حمامةً بيضاءَ تنثرُ السلامَ والمحبّة والخيرَ والجمالَ الفريدَ الحلوَ،تنثرُالأملَ الوليدَ شعرًا يشعّ في كلّ زاوية ومكان وفي فضاءات الإنسانيّة جمعاء.وهكذا نرى كثيرين من المحامين وقد أصبحوا من كبار أهل الأدب والشعر والإنسانيّة والأمثلة كثيرة جدًّا. وشاعرنافريد حلو الذي نكرِّم اليوم واحدٌ من الذين تذوّقوا جمال النفس والجسد كما جمال الرّوح والمشاعر، فقد تجسّد ذلك لديه أدبًا حيًّا يضجّ شوقًا وعُذوبة وحلاوةً ورقيًّا وحبًّا صافيًّا، وهو القائلُ:
فـــلا تحلـو الحيــاةُ بدون حبٍّولا يحـيــا الغـرامُ بــلا تـدانِ
ولا تسمو النفوسُ بدونِ شوقٍ إلى أسمى المشاعرِ والمعاني
ديوانه"الأملُ الوليدُ"، هو عُصارةُ تجاربَ مختلفة، في أبياتها التعبيرُ الصّادقُ عن الحياة التي نعيشها، فيشعر القارئ أنّ الشّاعرَ يُصوِّر ما في نفسه من آمال وآلام وأحلام بمرونة وعذوبة. إنّ المشاعر الإنسانيّة تتنوّع وتختلف من فردٍ إلى آخر، ولكنّها لا تبتعد عن المشترك الذي يحوي الفرحَ والحزن، السعادةَ والتعاسة، يحوي الأملَ والرجاءَ واليأسَ والقنوط، والتفاؤلَ والتشاؤمَ...إنّ نفسَ الإنسان في كلّ مكان تضجُّ بهذا الطِّباق وهذا التضادّ، فتنتشي وتترنّح على دروب الحياة، ونردِّد مع الشاعر:
إنّ الحياةَ وإنْ رقَّتْ ملامسُها لا تستمـرّ بلا شوكٍ ولا نكـدِ
هكذا تعبث مشكلاتُ الحياة المتنوِّعة في النفس، فتبعثرها أحيانًا، وأحيانًا أخرى تُعاود جمعَها، فهي كما لهيبُ النار في تصاعدٍ وهبوط. فالتجاربُ الأليمة وقساوة الدهر والعذابات المتنوِّعة قد تضخّ في أعماق النفس حزنًا عميقًا، يتلاشى مع الأيّام أو قد يَدحَرُ بالنفس نحو الهاوية. وها شاعرنا فريد حلو في "الأمل الوليد"، نقرأه وهو يمرّ بانقباضٍ يدفعُ به نحو الغربة، غربة الشعراء في فضاءات الخيالات المجنَّحة والأحلام التائهة، فيتسمَّر بلا رجاء ولا أمل قائلًا:
إنْ كنتَ تسألُ عن قلبٍ بلا فرحٍ إنّي المعــذَّبُ في الدُّنيـا وفي الأبـدِ
وغِبتُ تُثْقِلُني الأحزانُ عن زمنٍ قد عِشتُ فيــه غريبًا غيــرَ مُفتقَــدِ
وسرتُ خلفَ سرابٍ خلتُـهُ أمـلًا يشفي الجراحَ وقد صارت بلا عددِ
يصل التشاؤمُ بالشاعر إلى حدِّ الألم والضّيق والملل، وبخاصّة أنّه يرى خريفَ العمرِ ماثلًا ومحدِّقًا وشاكيًا، والزّمنُ يعدو به مسرعًا لا يُبالي، فيهرع إلى مَن ينقذه من هذا القهر كالملهوف الولهان صارخًا:
لا تتركوني بِــلا دِفْءٍ ولا أمــلِ فالعمرُ يوشكُ أن يمضِيَ على عجـلِ
اللّيلُ يَنفرُ مــن ضيقي ومن ألمي والصبحُ يعجُزُ عن صَوْني مِنَ المللِ
العمرُ يمضي بسرعةٍ مذهلة قاهرة، وتمرّ الأيّام واللّيالي مثقلة بالهموم فقال:
وخريفُ عمرٍ لم يُراعِ ربيعَهُ فمضتْ بعمري تُسرِعُ الأيّامُ
بيد أنّه في قرارة نفسه يكاد يُردِّد مع أحمد الصافي النجفيّ الذي لم يأبه للزمن قطّ، فقال:
عمري بروحي لا بعــدِّ سنينـيولأسخرَنَّ غـدًا من التسعيــنِ
عمري إلى السبعينِ يمضي مسرعًا والرّوح باقيــــةٌ على العشريــــنِ
بعد هذا الضيق الشديد يتوق الشّاعر نحو الحريّة، بعد أن يرى أنّ الحياة ربّما كانت مجرّد مُصادفة عشوائيّة عمياء، فهو يرى كما عمر الخيّام في قوله:
لبستُ ثوبَ العيش لم أستشـــروحرتُ فيهِ بين شتّـى الفِكـر
وسوف أنضو الثوبَ عنّي ولم أدرِكْ لماذا جئتُ أين المفرّ؟
وقال فريد حلو:
مـا أردتُ العيشَ عبــدًاما أردتُ العيشَ ضالّ
بل أتيتُ الأرضَ قَسْـرًامثلمــا تأتــي الظِــلالْ
وقال:
هل أنا مَنْ حلَّ لُغزًا؟ هَل تَرَى حَلًّا ببالْ؟
مـا أنـــا إلّا تـــرابٌ حـنّ دومًا للجمـالْ
إزاء هذه الطلاسم في أمور الحياة وكنهها، وكما الفلاسفة، راح الشاعر ينشد التعرّف إلى أسرار هذا الوجود، فإذا به يتعثّر في الوصول إلى اليقين قائلًا:
فانقضى عمري وعقلي ينشـدُ الســرَّ المُحـالْ
وهكذا استسلم الشاعر للقدر الذي يمضي خبط عشواء، وقال:
لا تسألوني إذا ما راعني قـدَرٌ فلـن أجيبَ لمستــاءٍ ومنتقِـدِ
ولن أفتِّشَ عن سرٍّ وعن سببٍ لغزُ الحياة تعدّى كلَّ مجتهدِ
بعد هذا القلق الغريب وبعد تلك الهموم والأفكار خلص الشاعر إلى فلسفةٍ شبهِ أبيقوريّة تدعو إلى الأخذ بما هو موجود، وبالتمتّع في الحياة وقوامها الحبّ والحبّ فحسبُ:
سنينَ العمرِ لا تَعِدي فؤادًا خــاب بالظّفـــرِ
فليس الوعـــدُ ينقـذِهُ من الآهاتِ والضّجــرِ
بل الأشواقُ توقظِـهُ بدِفء الحبِّ والسّمــرِ
فتحييـــهِ وتحيــينـي وتحيي اللّحنَ في الوترِ
ويقول:
سأمضي العمرَ في عشقٍ دؤوبِ وأهوى السيرَ في كلّ الدروبِ
وأُبقي القلبَ خفّاقًــــا لقلـــــــــبٍ يُبادلُنـي الغـرامَ بــلا نضــوبِ
القلق الذي كان يُساور شاعرنا فريد الحلو يُذكِّرنا بشاعر قريبٍ له من بعبدا كان زجّالًا مجيدًا بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، هو أسعد الحلو الذي عُرف باسم "السِّنيُور" ربّما بسبب كثرة ترداد هذه اللّفظة على لسانه، ذلك أنّه كان يتقن الإسبانيّة بسبب سفره إلى البرازيل، لقد أخفق في المهجر،أحبّ وتعثّر في الحبّ كما تعثّر في جمع المال، فرجع بخفي حنين إلى بلدته بعبدا. كان صديقًا للقضاة والموظّفين يستعذبون حديثَهُ ونكاتِهِ وأخبارَهُ وعلى رأسهم القاضي الشاعر والأديب الكبير بولس سلامة. نذكر من شعره:
أنــا الظالمنـي دهــريودومًا يسعى في قهري
صِرتْ مِتـلِ البـزّاقَـــهْ حامِل بيتـي عـا ظهري
ورفاقـك مِتـْـل البطّيـخبيعملـــولك طبيــخَــــه
بِتْجرِّب مِيِّي عــالسّيـختــا تْصدِّقـلـك بطّيــخَــه
أمّا ما بقي من شعر أسعد الحلو فنذكر إحدى قصائده التي تحدّث فيها عن السبع والفأرة، وكيف ضاقت الأيّام بالسبع، فرحل إلى الأودية، حيث وقع في مقلب الواوي الذي احتال عليه وربطه بجذع شجرة بلّوط، وكان ما كان... إلى أن جاءت الفأرة وقدّمت له نصيحة، واستطاعت بعدها أن تفكّ قيده وتطلقه. وهنا قال الشاعر أسعد الحلو:
يا بْلادي عا فْراقِكْ ناوي راحَتْ آمــالــي خسـاره
صار يُربُط فيكِ الـواوي وِتْفِــكِّ السَّبْـــعِ الـفـــاره
(جوزيف نعمة، حكايات جدّتي، ص 37)
ولعلّ كلامَ هذا الشاعر ِينطبقُ على واقعنا المرير، فكم من واوي في زمننا هذا يربط ويفكّ على هواه وبحسب هوى أولادِه وأقربائِه ومحيطِه. وشاعرُنا فريد الحلو الذي أبصر بعين المحامي الثاقبة ما يُحاك في الخفاء من تلاعبٍ بالقوانين والأعراف ومن احتيالٍ واختلاسِ يمسّ هيبة القانون والحقيقة، ما يبعث في النّاس الإحباطَ والإخفاقَ والذلّ فيستنهض فريد الحلو الشبابَ، شبابَ الأرز، ويدعوهم إلى وثبة البطل نحو تحطيم كلِّ مغتصبٍ ورفع صروح العِزّ، وهدم جدارٍ قد عوَّق ثورة الشباب فقال:
واحْفظْ لمهدِ الحرفِ عِزّتَهُ..... بِالسَّيفِ والأقلامِ والرُّسُلِ
وهو الذي عاين ويُعاين ما يدور في كواليس هذا الوطن من مهازلَ وتكاذبَ ورياءٍ وتدليسِ، فيُخاطب الشبابَ يحثّهم على النهوض بعزمٍ لرفع رايةِ الوطن "خفّاقةً في الموعدِ الجللِ":
ضجَّتْ عقولُ الناسِ شاكيةً ما يُنهِـكُ الأذهانَ مِنْ جَـدَلِ
فاحسِمْ بطُهرِ الرّوحِ مَهْزَلةً قامت على الأهواءِ والدّجلِ
لا يُنقــذُ الأوطــانَ مِن زللٍ إلّا شـبـــابٌ ضــاقَ بالزَّلَـلِ
يبقى فريد الحلو شاعرَ الحبّ بلا منازع، فالحبّ لديه يُحرِّر الإنسان من عبوديّة القلق واليأس والفراغ، الحبُّ يُحرِّر الإنسان من أقبية الظّلام ومن عبث الأوهام، فيقول:
فتعالَـيْ نعتِــقُ دنيــانــامِن جحرِ وقبضةِ أوهامي
وهو على غرار امرئ القيس المولَّه الذي خاطبَ حبيبته بذلٍّ وطاعةٍ عمياء: أغرّكِ منّي أنّ حبَّكِ قاتلي.... وأنّكِ مهما تأمري القلب يفعلِ... لكنّ شاعرنا الحلو يترفّع بالحبّ عن الإذلال، فالحبّ لديه إدمانٌ وشهوةٌ وإرادة وصدق مع نشوة المحبّة والوئام، فيقول:
فدعي الفؤادَ على المحبّةِ مدمنًافالحبُّ أمرٌ يُشتهى ويُرامُ وانسي الملامةَ، إنّ حبَّكِ قاتلـي فجنى المحبّةِ نشوةٌ ووئامُ
يبقى الحبّ لديه شوق ومشاعر لا تخبو مشاعلها:
إنّ المشاعرَ لا تخبو مشاعلُها حتّى تروحَ جراحُ الشوقِ تلتئِمُ
ونسمع نداءَ الصِّبا على لسان شاعرنا فريد الحلو، هذا النداء الذي يدغدغ الأحلامَ الخامدة والخيالاتِ الراكدة، فتزهو الذكرياتُ حنانًا وشوقًا وهُيامًا، ونحن نردِّد مع الشاعر فريد الحلو نداء الحبِّ الصادقِ الذي لا غُشَّ فيهِ ولا خِداع، الحبّ الشامخ الرّاقي:
يا رفيـقَ الدربِ هيّا نمـلإ الدُّنيـا حنــانـا
ولنعِش أحـلامَ حـبٍّ لم يـذُقْ منـه سِوانـا
صادِقٍ، لا زَيفَ فيه شامخٍ، يأبى الهوانا
ولنعِشْ للعِشـقِ زادًا وليعِـشْ فيـنـا هوانا
_____________________________________
يَعقِدُ رايةَ الشّعرِ على صولجانِ المحاماة
جورج مغامس
في ديوان فريد حلو: الأمل الوليد
الحركة الثّقافيّة - أنطلياس 2018/3/17
الشِّعرُ فنٌّ خطير. قدسُ أقداسِ الأدبِ هو. وهو شررُ الفكرِ حين الفكرُ في ذُراهُ. صورٌ من شجرِ الدّهشةِ. سحرُ النّبضِ في الوترِ. لغةٌ نبويّةُ السَّمتِ والسّيماءِ..
فإلى عُلّيتِه لا يَرقى إلّا مَن تطهَّرَ من النّوافلِ والأورامِ.. تخلّى وتحرَّر؛ فمالَ عن كلِّ عَرَضٍ رَخوٍ إلى كلِّ جوهرٍ صُلبٍ، واعتصمَ بالأصيلِ من كلِّ جليلٍ جميلٍ.. اعتنقَ الباهرَ السّاحرَ الآسرَ وتمسحنَ!
بلى. الشّعرُ إشراقةٌ كشَافةٌ وحالة.. فيضُ وجدانٍ بالإكسيرِ من جَمهرةِ الفنونِ؛ فعلى أُجّةِ المعاناةِ يتقطّرُ! وإذ هو كذلك، وأكثر: الوليدُ تناسجَه الانبجاسُ والحلولُ، وختمت على شفتيه جمرةُ البيانِ أبلغَ الرّسالاتِ،.. فإنّه قِبلةُ القلوبِ ومشتهى ما وراءَ السَّمْعِ والبصر؛ وكم إليه من الأقلامِ تنتسبُ.. تنتحلُ صفة؟! بل كم من سُوقةٍ يسوقون بحقِّه الإهاناتِ حين يُسقطونَه على السَّفسطةِ نعوتا؟!
الشّعرُ، تقدّسَ سرُّه، بلى هو واحدُ الفنونِ وأرقاها، أبهاها وأبقاها؛ ومَن مسَّه مسَّته سَرّاءُ!
وبَعدُ، فإنّنا في لبنانَ، هذا الجبلِ الملهَمِ، يَكثرُ بين ظَهرانَينا الشّعراءُ، وقُلْ مَن أدخلتهم شَياطينُه في التّجاربِ، على خطَّيه المتوازيَين: المحكيّةِ والفُصحى، فبرّزَ في كليهما الأعلامُ. ومَن لم يكنْ شاعرًا، فهو للشّعرِ تابعٌ ومريدٌ.
ومن الظّاهراتِ الدّامغاتِ أنَّ لوثتَه كادت تعمُّ، إلى رَحْبةِ الصُّحفِ، أقواسَ المحاكمِ محامينَ وقضاةً؛ والأسماءُ تَترى على قوائمِ الشّرفِ!
وهل أبو "الأمل الوليد" إلّا واحدٌ من هؤلاءِ، عقدَ رايةَ الشّعرِ على صولجانِ المحاماةِ، وأعلاها جائزتَه بعدَ طولِ جهاد؟!
فريد حلو، الّذي من آخرِ عناقيدِ هذا الزّمنِ الجميلِ، حملَ على الهامةِ شيبَه، ومشى بهمّةِ الشّبابِ صوبَ جبلِ الأولمب يَجِدُّ ويصعّدُ؛ وكم في الطّريقِ غنّى الهوى، كم شكا، كم بكى، كم أُسقِطَ بين يديه، كم جدّدَ الأملَ، كم استصرخَ، كم سألَ وحارَ وخيَّرَ، كم أنكرَ، كم أمسكَ بفصلِ الخِطابِ!!
مشاها طريقَه، عُكّازُه سلامةٌ في الصّرفِ وفي النّظمِ؛ ثمّ لا يلحَنُ ولا يُقوي، ويُجري القصيدَ على السّائغِ الجَزْلِ من الألفاظِ، والهيّنِ الليّنِ من القوافي، واللطيفِ الأليفِ من الأوزانِ.
ولكن، دون ذلك، بعضُ شروطِ الشّعرِ على اضطرابٍ وقَلقَلة.
وهل الإنشاءُ الطّلبيُّ أو الرَّوسَمُ يتردّدُ والمآلفُ تفكيرًا وتعبيرًا، تستطيعُ حقًّا أن تُخرجَ الكلماتِ من جلودِها ومن حدودِها، وتمدَّها بالضّوءِ والتّمرّدِ والحلم..، تستحضرُ الرّؤيا، تدركُ ما وراءَ الأكماتِ.. تَخلقُ من العالمِ القديمِ عالمـًا جديدا؟!
إنَّ الشّعرَ عصا موسى، إن تضَربِ الأرضَ تُخرجْ من الأرضِ ماءً!
إنّ الشّعرَ عودٌ رطبٌ، إنْ جفَّ من النُّسغِ صارَ الحطبَ!
إنَّ الشّعرَ ليس مرتا..
فإنّه لا يُقرَبُ إلّا بعد أربعينَ في بريّةِ الصّلاةِ والصّيامِ. والخيولُ أرشقُها الضّوامرُ!
إذًا، لو كان لي، يا أستاذ فريد، لأَفردتُ، من ديوانِك، ما لم يُوافقِ الفرادةَ أو توافقْه.
وفي كلِّ حالٍ، إنَّ السّمينَ فيه كثيرٌ، ولن يضيرَه قليلُه العَجيفُ..
أستاذيَ العزيز، تعذرُ زعميَ تجرّأَ على عزمِك؟
تعذُرُ قِصرَ الباعِ في عُجالةِ التّقويمِ.. في مِنصّةِ التّكريمِ؟
تعذرُ!
أنتَ تعذرُ.
فإنْ أنا إلّا نظرتُ في مرآتِكَ النّقيّةِ، فرأيتُ إليكَ الصّدقَ والوفاءَ في كلِّ ما شغَلَ قلبَك وعقلَك من حبيبةٍ وفِلذةٍ وأملٍ وليد، من أخٍ صريعٍ شهيدٍ ظليمٍ وطنٍ مَجيد، من قلبٍ جاحدٍ وحبٍّ بليد، ومن عمرٍ يتزأبقُ بين الأشواقِ والأحلامِ على واقعِ الانتظاراتِ الحَرّى. ورأيتُك أبدًا تتّشحُ بعذوبةِ الرّوحِ وكرامةِ الأخلاقِ ونعمةِ الأملِ.. وبالحبِّ جمّا.
رأيتُك تريدُ تقولُ قولَكَ الصّريحَ، لا تبالي إنْ أثارت ريحُه بعضَ الغبارِ.
إذًا لَتعذرُ!
إنَّ المحبَّ للأحبّةِ يَعذرُ..
______________________________