دوة حول كتاب "إدارة الممتلكات الكنسية بحسب شرع الكنيسة الكاثوليكية" للأب ريمون جرجس الفرنسيسكاني
مداخلة د. عصام خليفة حول كتاب الأب ريمون جرجس الفرنسيسكاني:
"إدارة الممتلكات الكنسية بحسب شرع الكنيسة الكاثوليكية"
62019/3/6
نجتمع هذه العشية حول كتاب استثنائي في أهميته، للأب الدكتور ريمون جرجس الفرنسيسكاني، وهو بعنوان "إدارة الممتلكات الكنسية بحسب شرع الكنيسة الكاثوليكية مع مراعاة القانون المدني في سوريا لبنان والأردن ومصر. منشورات جامعة الحكمة. عدد صفحاته 734 ص. يتألف من ستة فصول تتناول القوانين البيعية والرسوم والتشريعات المدنية التي تستند اليها الكنيسة. عدد المراجع العربية التي يستند اليها 26. وعدد المراجع والمصادر باللغات الأجنبية 216.
في الفصل الأول يركز على الممتلكات الزمنية في الكتاب المقدس، في التقليد وقوانين الكنيسة الأولى.
في الفصل الثاني يتوقف عند بعض القوانين التمهيدية.
في الفصل الثالث يعالج اكتساب الكنيسة الممتلكات الزمنية.
وفي الفصل الرابع يتناول إدارة الممتلكات في الكنيسة.
في الفصل الخامس يركز على العقود وعقود البيع بوجه خاص.
وفي الفصل السادس يتطرق للإدارات التقوية بوجه عام والمؤسسات التقوية خاص.
ثم يصل الى خلاصة.
ليس من دوري، كمدير لهذه الندوة، أن أتوسع في عرض ومناقشة هذا الكتاب العميق في شموليته واحاطته بموضوعه. لكن أجد من واجبي أن اتوقف عند مجموعتين من الملاحظات:
المجموعة الأولى: كم كنت أتمنى ان يتوسع الأب المؤلف بمعالجة الاقتراحات العملية التي توفق بين استمرار ملكية الكنيسة لأوقافها وبين انماء المواطن.
لقد جاء في المجمع الفاتيكاني الثاني (الترجمة العربية، ص 129) ان "للبشر كلهم حق في الحصول على قسط كاف من الخيرات لهم ولعيالهم".
وتدعو الكنيسة الرهبان "لتجنب مظاهر البذخ والربح المفرط وتكديس الأموال" وقد أكد المجمع الفاتيكاني "ان الشخص الإنساني هو، في أي مؤسسة، المبدأ والموضوع والغاية، ولا بد له من أن يكون كذلك". فكل انسان له الحق في العمل وفي ان توفر له إمكانات تنمية مواهبه وشخصيته في التمرّس بمهنته، وفي اجرة عادلة تمكنه، هو واسرته "من العيش الكريم على الصعيد المادي والاجتماعي والثقافي والروحي". وفي ان يُسعف عندما يقع في حاجة من جراء المرض او الشيخوخة. (مؤلف الأب جرجس، ص 516). وهكذا يدعو المجمع الى "مبدأ المشاركة في استعمال الممتلكات" (المرجع السابق، ص 517)، ويعتبر المجمع "ان الممتلكات المحتفظ بها ولم يتم استخدامها بمنطق التقاسم، وافتقرت وظيفتها إلى تعبير عن الحب، ولم تستخدم وفقاً لإرادة الله، تعتبر اساساً سرقة من شخص ما، وبهذا المعنى "مسروقة" وغير شريفة. فاستعمال الممتلكات فرصة هامة للحب، نحن نستطيع ان نحب من خلال ممتلكاتنا، والانفع تحت خطر بان نضفي عليها عبادة وثنية" (المرجع السابق، ص 707).
وقد جاء في توصيات المجمع الماروني الانطاكي (2006) لاسيما في التوصية (60): "استعمال ممتلكات الكنيسة والرهبنات واوقافها للمساهمة في إيجاد فرص عمل تأمين مستوى معيشة لائق بخاصة في الأرياف".
وفي رسالته (رجاء من اجل لبنان)، أكد قداسة البابا يوحنا بولس الثاني (10 أيار 1977) "على ضرورة تحقيق إدارة عقلانية وشفافة وموجهة بوضوح الى خدمة الأهداف التي نشأت من اجلها الأوقاف".
والبابا فرنسيس في خطبه وفي ممارسته يجسد الالتزام بالفقر ويعتبر ان الأوقاف هي في الأساس وجدت لخدمة الفقراء. وهو في موقفه هذا لا يستند فقط على توصيات المجمع الفاتيكاني الثاني بل الى القانون اللاتيني ولاسيما المادة 640: "مع مراعاة ظروف كل مكان، على المؤسسات ان تسعى الى ان تؤدي شهادة محبة وفقر شبه جماعية، وان تساهم، بحسب إمكاناتها ومن أموالها الخاصة، في سد حاجات الكنيسة وفي مساعدة الفقراء". (المرجع السابق، ص 224).
المجموعة الثانية:يتعرض مواطنو المشرق العربي عموماً، والمسيحيين منهم بشكل خاص الى عملية تهجير واقتلاع من ارضهم التاريخية (ما حصل في لبنان 1975 – 1990، ما حصل في العراق، وفي سوريا، وفي فلسطين). وعلى سبيل المثال هاجر من لبنان بين 1975 – 1990 ما يقارب 894.717 شخصاً. وبين 1990 – 2009 هاجر 2.390.136 شخصاً. وبعد 2009 ثمة هجرة سنوية الى الخارج لا تقل عن 22 ألف معظمهم من الشباب.
بالمقابل جنّس مرسوم 1994، المناقض لاتفاق الطائف، اكثر من 900 الف شخص. وقد هاجر الى لبنان بصفة لاجئ او للعمل ما يزيد عن 3.7 مليون شخص. واضح من خلال هذه الأرقام ان هناك توجه لتغيير هوية لبنان.
في فلسطين ثمة وضع مشابه، وكذلك في العراق (هجرة كثيفة لمسيحيي سهل نينوى، قره قوش تراجع عدد سكانها من 80 الفاً الى 20 الف نسمة، وكذلك الامر في سوريا.
السؤال المطروح على الكنائس الشرقية: هل تبقى متفرجة على خطورة ما يجري ام تتحرك للدفاع عن استمرار وجود أبنائها فوق ارض المسيحية الأولى؟
منذ أيام حُكم الرئيس فؤاد شهاب (عام 1970) أنشئت لجنة مشتركة مؤلفة من الرهبنات اللبنانية ومؤسسة المشروع الأخضر الرسمية لاستصلاح الاراضي، والمؤسسة الكندية للتنمية، ووضعت دراسة تفصيلية بالغة الأهمية لاستغلال الأوقاف في لبنان على نحو عقلاني وحديث لمصلحة الكنيسة والمجتمع. ولا تزال هذه الدراسة غير المنفذة حتى اليوم، صالحة كقاعدة للإصلاح.
فمتى يبادر رجال الدين والسياسة الى العودة الى هذه الدراسة وتطبيق ما ورد فيها من اقتراحات؟ وماذا ينتظرون ليتحركوا؟
لماذا لا يتم تحديث إدارة الأوقاف لجعلها أداة لإنماء المجتمع ومحاربة الفقر والبطالة؟
لماذا لا يتم تنشيط المجالس الاقتصادية في الابرشيات واعطائها دوراً فاعلاً في انماء هذه الابرشيات؟
ولماذا لا يتم اشراك العلمانيين أصحاب الاختصاص في الاقتصاد والإدارة والمال والمحاسبة والهندسة وغيرها في مواجهة تحديات المرحلة؟
ما هي الوسائل التي تحد من الهجرة الى الخارج، وكيف يجب ان نتحرك لإعادة الطاقات التي هاجرت من اجل بناء مجتمع المعرفة والقانون وحقوق الانسان؟
هل تبقى نصوص توصيات المجامع الكنسية كلاماً على الورق ام يمكن ان تتحول ممارسات فعّالة على ارض الواقع؟
في الحرب العالمية الأولى تحرك البطريرك الياس الحويك مع مساعديه وبخاصة الخوري بولس عقل والمطرانين نعمة الله ابي كرم ويوسف دريان، وقادوا شبكة مقاومة لأهوال المجاعة المنظمة من قبل السلطات العثمانية. حيث تم ربط المهاجرين بأقاربهم في الوطن، وتم توزيع 136 الف مساعدة على المحتاجين من كل الطوائف. ولولا هذا التحرك من قبل الكنيسة لاستطاعت المجاعة ان تقضي على ثلثي عدد سكان جبل لبنان. وتالياً لم يكن هناك امل بقيام دولة لبنان الكبير.
هذا هو دور الكنيسة: مساعدة أبناء المجتمع ليواجهوا مصاعب الحياة، ذلك ان الشعب هو جسد المسيح وبالتالي جسد الكنيسة.
أيها الحفل الكريم،
ان كتاب الأب الدكتور ريمون جرجس الفرنسيسكاني يأتي في الوقت المناسب. ونحن ننتظر منه اعداد الجزء الثاني الذي يبلور خططاً إصلاحية تطبق توصيات المجامع وتوجهات قداسة البابا فرنسيس. ويمكن ان يكون حرق جورج زريق نفسه في الكورة انذاراً مسبقاً يجب ان يحرك ضمائرنا.
الم يكن دور الآباء الفرنسيسكان، على امتداد تاريخهم، حمل شعلة الايمان وتشكيل همزة الوصل بين روما ومسيحيي الشرق في أحلك أيام ظلم المماليك؟
الشكر العميق للأب جرجس وعسى ان يكون هناك الوقت الكافي للقيادات الروحية والمدنية في مشرقنا لكي تتعمق في فهم ابعاد هذا المؤلف واستنتاج العبر من مضامينه.
______________________________________________________
مداخلة الأباتي أنطوان راجح
في كتاب الأب ريمون فرنسيس
إدارة الممتلكات الكنسيّة بحسب شرع الكنيسة الكاثوليكيّة
الحركة الثقافيّة 6 آذار 2019
مقدّمات عامّة في الكاتب وفي الكتاب وناشره
يطيبُ لي بدايةً أن أرحّب بكم في دار الحركة الثقافيّة- انطلياس، وأن أعبّر عن تقديري العميق لمؤلّف الكتاب الذي نحتفي به اليوم، الأب الدكتور ريمون جرجس، لا على جدّيته ورصانته والمثابرة وحسب، بل وعلى سِمات البحث عندَه خصوصًا، وأنا أختبرُ في مجالاته ما يلذُّ ويطيب، عنيت تلك الاستعداداتِ النفسيّةَ والمعرفيّةَ والتنفيذيّة التي يحوّل بها الباحثُ فضولَه وقلقه من المجهول الى استراتيجيّات استدلاليّة واستقرائيّة واستشرافيّة، تفضي به الى توسيعِ أفق المعرفة والى إشباعِ فضوله موقّتًا، لا بما ُيسكت الفضول، بل بما يرفعُه الى مستوى أعلى من التطلّب، هو وقودُ انطلاقه الى بحث جديد. فهذا المؤلَّف ليس الأوّل ولن يكونَ الأخيرَ في نهج الأب ريمون.
إنّه يمارسُ ثقافةَ الإنطواء الصارم والعنيد على الذات وعلى موضوع البحث، في زمن الإغراءاتِ الكبرى لثقافة المظاهرِ والمغانم والوصول. " انّه يبحثُ عن حكمة جميع المتقدّمين ويتفرّغ للنبؤات. يبحث عن خفايا الاقوال السائرة. يستهدي بمشورته وعلمه (...)" (يشوع بن سيراخ 39، 1-38).
ويطيب لي أيضًا أن أهنّىء الناشرَ، جامعةَ الحكمة التي أحبّ، على تبنّي مثلِ هذا الإنتاج وترويجه، وعلى الإسهام في تغذية مكتبتنا العربيّة القانونيّة، والكليّةِ المختصّة، بأبحاث رصينة ومفيدة مثيلة. إني واثقٌ من إصداراتٍ وافرة آتية في جامعة الحكمة، مكتوبةٍ بالحبر والشّهد.
فالواقعُ انّي اطّلعت على الكتاب ورحت أتبحّر بفضول في عمق ما تحاكيني به مكنوناتُه وخطابُه الشيّق، ولم أر نفسي الاّ مبادرًا عفوًا وبغير استمهال الى الكتابة فيه، مستحضرًا صورةَ الكاتب، خصوصًا في ظروفِ تكوينه ودوافعه، أي تحتَ وابلِ القذائف في دمشق حيثُ يعيش، وفي ظلّ قلقٍ عارم على المصير، فآثرَ التعبير عن طاقة قويّة بالحياة ومواصلةَ التزام الخدمة الرسوليّة. إنّ في الكتاب دفقَ كلامٍ وغزارةَ محتوى، وسموَّ برهنة، فجاء شاملًا في بابه، واسعًا في جمع شروحاته، يتناول قوانينَ الكنيسة اللاتينيّة، وقوانينَ الكنائس الشرقيّة الإحدى والعشرين، وبعضَ الأنظمة المدنيّة المحليّة بسبب الإحالات عليها. لقد برهن الكاتب أنّه شديدُ الاطّلاع على هذه المادّة التي يدرّسها لطلّاب الحقّ القانوني. إنّ نظرةً على وفرةِ المراجع التي ذكرها تشيرُ بوضوح الى أنّها تكاد تكون إحصائيّةً لمعظم ما قيل ونشر عن الموضوع.
ويبدو أنّ الكاتبَ بات يتحكّم بأدوات اللغة العربيّة، بل ويبتكر ما يصيب التعبيرَ الغربي الأصلي، فأعجبتني عباراتٌ كثيرةٌ استخدمَها وطوّعها، كما لفتتني على سبيل المثال، عبارةُ "أيقنة"، مع انّي كنت أفضّل قوننة لـ canonisation، كما أفضّل اعتماد عبارة قانون الهي وضعي، لا إيجابي، ترجمةً لــdroit divin positif .
في كلّ حال، أتوقّفُ عند نقطتين. فلا يمكنني التطرّق في هذا الحفل الى كلِّ مكنونات الكتاب، بل أدعو الى اقتنائِه والتلذّذ في الانكبابِ على قراءته بتمعّن، كما أرجو المرجعيّاتِ العليا المسؤولةَ، القلقةَ من حساسيّة الطروحات المحتملة، ومن بعض إشكاليّات الممارسة، ومن مشقّة ايجاد الاشخاصِ الكفوئين أو تنشئتِهم ومرافقتهم، الإفادةَ من سعة اطّلاع الأب ريمون ومن موضوعيّته وتجرّده العلمي، لارساء سياسةِ نموٍّ لمؤسّساتنا الكنسيّة التي أفادت الكثيرينَ والكثير.
النقطتان هما: موضوعات الكتاب، والردّةُ الأخلاقيّة في التعاطي مع الأموال.
أوّلًا- موضوعات الكتاب
إنّ موضوعَ الكتاب، يتناول قوانينَ خيراتِ الكنيسة الزمنيّة، باكتسابها وتملّكها وادارتها ونقل ملكيّتها، فضلًا عن الارادات والمؤسّسات التقيّة. وهو موضوع كلما اقتربت القوانينُ فيه عمومًا من الواقع كلّما أصبحت غيرَ ثابتة، وكلّما اقتربت من الثبات أصبحت غيرَ واقعيّة(أنشتاين).
في كلّ حال، إنّها كسائر القوانينِ الوضعيّة، مثلّثةُ الطابع:
1- فهي وقائيّة، تستدرك الاخطاءَ والمخالفاتِ وتحذّر منها،
2- تنظيميّة،-انضباطيّة توضيحيّة، ترسمُ أطر الممارساتِ الضروريّة، فتحدّد طرق الادارة
3- علاجيّة، تلحظ حالاتِ ابطال اعمال أو تصحيحِها أو تحدّد عقوباتٍ في حال المخالفة وترسمُ طرقَ المحاكمة القضائية والادارية وأصولَها.
الاّ أنّ قوانينَ الأموالِ الكنسيّة قليلةٌ نسبيًّا، فهي 48 قانونًا (بمدلول مادة) في مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة)، و57 مادة في قوانين الكنيسة اللاتينيّة. وقد أوضح الأب ريمون انّنا محكومون بما ينصّ عليه القانون الكنسي العام وبما ينصّ عليه الشرعُ الخاص، إضافة الى مراعاة الاحكام المدنيّة الذي تحيل عليه، خصوصا في العقود، وبحسب البلد الذي تتمُّ فيه الادارةُ الماليّة.
لقد حدّد القانون العام أهدافَ الاموال الكنسيّة وطبيعَتها كما حدّد المسؤولين عنها، فأوضح أنّ الأهدافَ أربعة، هي: أعمالُ العبادة، أعمال الرسالة، أعمال المحبّة، وتأمين المعيشةِ اللائقة للخدّام. يرتبط الاستخدام وحق التملّك والإدارة بتحقيق هذه الأهداف وخدمتها، فيلبسها الكاتب عبارة "أداتيّة". وألحق تبعةَ مسؤوليّتها بمن يسوس (يحكم) الشخص القانوني. وهنا بيّن مشكلات الفهم والتطبيق التي تُحدثها بعضُ العبارات، مثلُ عبارة المدير المالي أو الوكيل أو القيّم، والحدود التي يحاول القانون وضعَها لرسم الدور وطبيعة المنصب بين المدير المالي وبين من يدير الأشخاص الذين وُضعت الأموالُ أساسًا لخدمتهم. هكذا أشار الى التمييز بين حدودِ الاعمال الاداريّة العاديّة وغير العاديّة، ثمّ أفرزَ فصلا خاصا بالعقود ولا سيّما عقدِ نقل الملكيّة بمعنييها: الواسع والضيق، مبيّنا الشروطَ لصحّتها، والتي تطول أيضًا كلّ عمليّة قد تؤول معها الذمّةُ الماليّة الثابتة الى انتقاص أو ضرر. وفي الفصل الاخير تكلّم على المؤسّسات التقوية، المستقلّة وغير المستقلّة، بعد ان أسهب في الكلام على الارادات التقويّة بالعموم، مشدّدا على ضرورة التقيّد الشديد باحترام ارادة الواهب.
وهنا، حبّذا لو أكمل الكاتبُ بحثه بإجراء مقارنةٍ بين قوانينِ المؤسّسات التقويّة وما نعرفه في شرقنا بالأوقاف، مع تبيانِ الأسس التي تتقاطع في التعبيرين، أو أقلَّه الفوارقَ الجوهريّة بينهما، إذا كانت ثمّةُ فوارق.
ثانيًا- الردّة الأخلاقيّة في التعاطي مع الأموال
أتوقّف ثانيًا عند ناحية تُغلّف الموضوع، خصوصًا وأنّ الكاتب نقل قولَ قداسة البابا بندكتس السادس عشر، أطال الله بعمره، بأنّ طريقةَ إدارة الممتلكات هو تحدٍّ كبيرٌ للمؤمن المسيحي.
إنّ الكنيسة تعمَد، عبر توجيهاتها ورسائلها، إلى معالجةِ هذا الموضوع الحسّاس، لا من منظارِ اقتصاديّ محض، بل من مواقفَ أخلاقيّةٍ وروح كنسيّ يغلِّف النموّ الاقتصادي برؤى إنسانيّة. وإننا نلحظُ ارادةً مصمّمةً لتأمين إدارة عقلانيةٍ وشفّافة موجَّهةٍ بوضوحٍ نحو الأهداف التي من أجلِها تُقتنَى الخيورُ الأرضيّة. إنّ في التوجيهات ما قد يُسقط مقولةَ أحد الوزراء الإنكليز: إنّ السياسة الماليّة هي الحصول على أوفر قدرٍ ممكن من المال، بأقلِّ استياء ممكن من الشعب. الاّ أنّ بين أيدينا النصوص، وتحت ناظرنا الواقع. ولذا أتوقّف عند الردّة الأخلاقيّة السائدةِ اليوم في الكنيسة وخارجها.
لقد عرفَ عالمُ الأعمال والإقتصاد، منذ ما يقاربُ العشرينَ سنةً، نوعًا من "الردّة الأخلاقية"، فبدأ الحديثُ عن أخلاقيّات المؤسَّسات كمؤشِّر أساسي في تقييم أدائها، بعدما كان الخطاب الأخلاقي حول الإقتصاد والشركات محصورًا في الإطار المطلبي النقابي وفي المؤلّفات المناهضة للرأسمالية، ومتّسمًا في غالبِ الأحيان بنبرة رومنطيقيّة دفاعيّة. أثارت هذه الموجةُ التي عرفت بـ "كانطية الإقتصاديّين" انتقاداتٍ وتحفُّظاتٍ كثيرةً، لم تشكّك بطبيعة الحال بضرورة احترامِ القيم الأخلاقيّة في ميدان الأعمال، بل شكّكت في صدقيّة هذا النهج الذي لم ير فيه البعضُ سوى موضةٍ عابرة، تهدفُ إلى تلميع صورة الرأسمالية. فالشركات برأي هؤلاء تبغي الربح ولا شيءَ سواه ولا مجال لإدخال قيم أخرى إليها إلا بشكل إصطناعي مخادع، منها مثلا القول إنَّ الأخلاقيات مربحة Ethics pays، فهي إيجابيّة لصورةِ المؤسّسة وصيتها، وهي تحفّز موظّفيها على مستوى أعلى من الإنتاجيّة، وتاليًا، فهي لا تناقضُ معيارَ الربحيّة بل تدعمه. إلا أن تحويل الأخلاقيّاتِ استراتيجيّةً ربحيّة، أي ربطَ الهدف الأخلاقي بهدف سواه يعني بكل بساطة تعريتَه من طبيعته الأخلاقيّة.
مهما يكن موقفُنا من صدقيّة ما يطرح حول "أخلاقيّات الأعمال"(business ethics) ومدى ملاءمتِها لما يعنيه الفيلسوف بالأداء الأخلاقي، الذي تريده الكانطية منـزّهًا عن أيّ مصلحة أو اعتبار سوى احترامِ الواجب، لا يمكن إلا أن نقرَّ بأن الردّة الأخلاقية تعّبر عن حاجة المؤسّسات إلى أن تشرعنَ أداءها إزاء المجتمع، وبأن "الطلب الإجتماعي على الأخلاق" ازداد وتبلور بشكل جعل كلفةَ إغفالِه عاليةً جدًا على المؤسّسات. فبات منطقُ السوق لا يكفي، وباتت الشركاتُ بحاجة إلى "براءة ذمّة" أخلاقيّة، ليس فقط في تسويغ أدائها أمام الرأي العام، بل أيضًا كي تحفظ "التعاقدَ الأخلاقي" العفوي الذي يجعل العملَ معًا أمرًا ممكنًا.
أين مؤسّساتُ الكنيسة من هذه "الردّة الأخلاقية"؟ لا شكّ في أن علاقةَ الكنيسةِ بالمجتمع وبموظّفيها تعقّدت وتطوّرت بفعل العوامل المذكورة ولاتساع المؤسّسات وحاجتِها الى كفاءات، ولم تعد قاصرة على تطوّع أو على مجرّد حسنِ صنيع مع مهمّشين وبطّالين، إلا أن مسؤوليّتها الأخلاقيّة لا يمكن أن تقارنَ بمسؤوليّة أيِّ مؤسّسة أخرى إلا جزئيًا. لأنّ مهمّةَ الكنيسة أساسًا مهمّةٌ أخلاقيّة، ولأن دورَها الرئيس احترامُ الحقيقة وخدمتُها. حتّى السلطةُ في الكنيسة هي سلطةٌ أخلاقيّة قبل أيّ آخر. إنّ الكنيسةَ هي المكان الذي يدار بالإقناع لا بالإلزام، لذا فلا يمكن إلصاقُ الأخلاقيّات بمهامها كإضافةٍ خارجيّة. ولا يمكن أن نتجاهلَ تذمّرَ الناس، وخصوصًا في البلدان التي تعاني أزماتٍ ماليّةً وانكماشا اقتصاديا، ويرزح معظم شعبها في فقر بائن، من ريبٍ لناحية مدوات التقيّد الشديدِ بإرادة الواهب، ومن شحّ تحرّكات كنسيّة جريئة، كانت لها شواهدُ تاريخيّةٌ كبرى في التاريخ غير البعيد.
إنّ الأخلاقيّاتِ الكنسيّةَ هي إذًا بين حدّين أدنى وأقصى.
الأوّلُ هو الأخلاقيّاتُ المطلوبة من أيّة مؤسّسة في احترامها مبادئَ الأمانة والصدقيّة والشفافية واحترام الملكيّة، والكرامة الإنسانيّة، واعتمادُ العدالةِ والإنصاف، والتفاعلِ الإيجابي مع شركائها الداخليّين والخارجيّين مطبّقة على كل مستويات العمل الإداري والعلائقي. أما الأقصى فليس حدًا بل نهودٌ إلى التطبيق الأفضل والسخيّ لرسالتها كمهمّة تنويريّة خلاصيّة، مؤنسنة في المجتمع، ودفعًا الى مزيدٍ من توجيه ريع الممتلكات، بل وأصولِها، نحو أهدافها، ولا سيّما أعمالُ المحبّة للأناويم (الفقراء والمساكين)، ومشاريعُ الثبات كاستراتيجيّة في بعض البلدان المشرقيّة.
خاتمة
هذه رسالةُ الكتاب، وروحُ الكاتب، نستشفّهما من ابتعاد الأب ريمون عن ضجّة المنهمكين باستذكار مآثرهم وضخّ أحاديثَ مستهلكة، الذين يقتلون الوقتَ بثقافة التشكّي والتذمّر. فهو قد أتانا بطرح عقلاني ومناقشةٍ هادئة عميقة، سكبهما في عمل رصين، فاصطفى هذا المؤلَّف الذي توقّعناه منه، بعد عدّة محاضرات أعدّها ولقّنها لطلاّب كليّة القانون الكنسي، وخدمة لهم ولنا، فصحّ فيه قول الكتاب: "انّ الرؤيا للميقات وفي الانقضاء تظهرُ ولا تكذب. ان أبطأت فانتظرها فإنها ستأتي إتيانًا ولا تتأخّر"؟ (نبوءة حبقوق 2، 3).فالىمزيدٍ من مثلِ هذين الانتاجِ والشهادة.
____________________________________________