مناقشة كتاب "شبلي ملاّط شاهداً" للأستاذهيام ملاّط

ندوة مناقشة كتاب شبلي الملاط شاهداً

كلمة مدير الجلسة الأستاذ نعوم خليفة

أيها الحضور أصدقاء الحركة الثقافية – انطلياس ومحبو الثقافة والمعرفة وقادري هيام ملاط وتراث جده الفكري.

يسرني ان أرحب بكم في الحركة الثقافية – انطلياس وفي المهرجان اللبناني للكتاب الثامن والثلاثين – دورة المعلّم بطرس البستاني ونحن نجتمع حول كتاب شبلي الملاط شاهداً.

كتاب أنافت صفحاته على المئتين ولكنه يحفل بمخزون ثقافي وفكري وأدبي وتاريخي تحتاج الإحاطة به آلاف الصفحات. انه كتاب يوثّق فيه هيام ملاط تاريخاً ثراً من الأدب المهجري مسلطاً الضوء على دور جدّه شاعر الأرز شبلي الملاط في إظهار هذا التراث النفيس عن طريق احياء العلاقة والتواصل بين جناحي لبنان المقيم والمنتشر خاصة في جنوب القارة الأميركية. وربما كان هاجس المؤلف ان يحقق امنية جده ويبدد خوفه من انقطاع التواصل الذي عبر عنه في "تحيّته" الى المغتربين عندما قال:

ليت الأحبة في المهاجر عندهم                 ما عندنا من الأشواق

اني أخاف غداً تطور نسلهم                     وجفاف ذاك الميل في الأعراق

        يحتوي هذا الكتاب أرشيفاً غنياً لنتاج ادبي مهجري يتضمن أسماء أمهات الصحف والمجلات وعلاقة شبلي الملاط بها والمراسلات التي تمت بينه وبينها كما يتضمن علاقة الملاط بالعصبة الاندلسية في ساو باولو – البرازيل وبمجلة الاصلاح في الارجنتين ومجلة الفصول في الارجنتين ايضاً وبصحيفة الخواطر في المكسيك كما يتكلم على علاقته بكولومبيا وبأدباء المهجر وبعض القصائد الرثائية لكبار ادباء المهجر وشعرائه ليضمنه اخيراً شهادات من ادباء المهجر بشبلي الملاط وتحيتهم له. هذا باختصار مضمون الكتاب فقد اكتفيت بالعناوين فقط لأن ليس من شأني الغوص في تفاصيل المضمون – مع انه شيق جداً، لأن دوري ينحصر في إدارة الجلسة، ولكني أشهد ان المؤلف كان شاهداً على الشاهد وشهادته صادقة وشهادتي ايضاً صادقة وفي مجال القضاء وفي حضرة الرئيس غالب غانم فأي قضية تحتاج الى شهادتين وقد توفرتا لإثبات دور شبلي الملاط في توثيق العلاقة بين لبنان المقيم وبين لبنان المنتشر تلك العلاقة التي كان يخشى من انقطاعها.

اترك الكلام في تفاصيل المحتوى الى عملاقين من عمالقة الفكر وسيدين من أسياد الكلمة في مجالي التشريع والقضاء والفكر السياسي والعدلي وعلمين من اعلام الثقافة في لبنان ولهما طول باع في تشريح المعاني وصوغ المباني، اعني معالي الأستاذ ادمون رزق الذي سبق وكرمته الحركة الثقافية وتكرمت به كعلم من اعلام الثقافة في لبنان في العام 2014. وحضرة الرئيس القاضي غالب غانم الذي كرمته الحركة الثقافية وتكرمت هي أيضاً بتكريمه منذ أسبوع كعلم من اعلام الثقافة في لبنان.

___________________________________

 

 كلمة ادمـون رزق

   فــي ندوة كتاب

"شبلي ملاط شاهداً"

 للدكتور هيام ملاط

 

فرحُ الكلمة ونعمةُ الكتاب

كتاب الدكتور هيام جورج ملاّط، عن جدِّه شاعر الأرز، استكمالٌ نوعيّ لسيرةِ رائدٍ مؤسّسٍ، للنهضةِ اللبنانية العربية، المتجدّدةِ في النصفِ الأول من القرن العشرين. فشبلي بك ملاط، من أبرزِ أعلامِ الشعرِ وسادةِ البيان، الذين مهروا تلك الحِقبَة، بدفقِ مواهبِهم وغنى شخصيتهم.

 

حسناً فعلَ الحفيدُ العزيز، بجمعِ هذا الإرثِ المحفوظ من المراسلاتِ والمداخلات والمناسبات، التي تُميّزُ التواصُلَ والتفاعل بين روّادِ النهضة، على بُعدِ الشِقّة، في الوطنِ والمَهاجر، حيث توقَّدَتِ الشُعلةُ، تأكيداً لدَورِ لبنانَ الريادي، والتزامِ أهلِ الثقافةِ والأدبِ من بَنيه، الحفاظَ على الموروثِ الحضاري المشترك.

 

كان شبلي بك ملاط مرجعاً في عِلْمِ العَروض والبيان، تتلمذَ له عديدٌ من الأُدباءِ والشعراء، وحرصَ على استمرارِ العَلاقةِ مع أقرانِه وتلامذتِه، رعيلِ الأفذاذِ والأنداد، لبنانيينَ وعَرَباً، كما رعى الجيلَ الذي تأثر بهم وسار في خطاهم. واننا لواجدون في هذه الصحائف التي جمعها المؤلّفُ باتقان، إذّكاراتٍ جميلةً، وكشوفاتٍ ثريّة؛ فمن عصبةٍ اندلسيّة الى رابطةٍ قلميّة، ومن تجمّعاتٍ فكرّيةِ وأدبية، في مختلفِ ديارِ الانتشار، الى صُحُفٍ ومجلاّتٍ مهجريّة، علاماتُ نهضةٍ وإِشاراتُ إِبداع،

تجسيداً لإرادة التحرّر وإثباتِ الهُويّةِ الفكرية، أي الانتماءِ النوعيّ الى وَطنٍ مميّز، والوفاءِ بلغةٍ آلَت أَمانتُها الى لبنان، فحفِظَها في المناسِك والأديار، قِمَمِ الجبالِ وأغوارِ الأودية، وقاها الإِعجامَ، أنشأَ مدارسَها، مواجِهاً محاولاتِ طمسِها، للقضاءِ على روحِ الاستقلال وطموحِ التقدّم في أصعبِ المراحل.

 

       "شبلي ملاط شاهداً"، كتابٌ غنيٌّ بالتعريفِ والتوثيق، عن الأدبِ المهجريّ، حاملِ الحضارةِ اللبنانية، العابرةِ للأعصر والقارات، المنتفضِ على الرجعيّةِ المذهبيّة، والذِميّة الفكرية، المعتصمِ بلُغةِ الضاد، في أبعدِ مطارحِ الانتشار.

تؤكدُ نفحاتُ الكتاب أنَّ الاغترابَ اللبناني لم يكن هروباً من الوطن، أو تخليّاً عنه، بل هو رفضٌ للإِذعانِ والانكفاء، وخرقٌ بطوليّ للحصار، قُلْهُ تَحَدياً للتهديد الوجودي، وقراراً حاسماً بفتحِ أَمداءٍ رحابٍ، تُـشكّلُ بدائلَ مكانيةً لتنامي الذاتِ الانسانية، "فَــتَــبني أنّى تــشأْ لبنانا"...

لقد هاجر اللبناني من وطنِه، لكنه لم يَهْجُرْه، حملَه في قلبه مندمجاً في كيانِه، ملأ المغتَــرَباتِ نَدَواتٍ وحَلَقات، عُصَباً وروابط، "أَعادَ مجدَ أنْدَلُسٍ"، على حدِّ ما قال أمين رزق:

 

حَـــــيِّ شَعْباً مِلءُ الزمـــــانِ بَنوهُ

إنْطِلاقاً ونَهْضَةً واغْتِرابـــا

لهمُ الكَـــــوْنُ مَسْرَحٌ وَمجــــــــالٌ

يَخْدُمونَ الأَخلاق والآدابا

وَمِنَ العَـــــزْمِ يَرْفَعونَ صُروحاً

عالياتٍ ويَعْـقِدونَ قِــبابــــا

يُنبتونَ الصُخورَ إِنْ ضاقتِ الأَرضُ

عَلَيْهِمْ ويَعْصُرونَ السَرابا

 

 

ولأمين رزق قولٌ آخر، عن دورِ اللبنانيين، في خُطى استاذِه شاعر الأرز، عمّي شبلي بك، مستعيداً فضل "أمّ المدارس في سوريا ولبنان"، على النهضةِ العربيةِ الكبرى، في القرن التاسع عشر، قال:

 

يا زماناً في عينِ وَرْقَةَ أَضحى

 

مَنْهَـلُ العِلْمِ سائغاً لِلـــوُرودِ

ورَعيلُ الأَعلامِ خيرُ رَعـــــيــــلٍ

 

أَخْرَجَتْهُ في عَهْدِ خَيْرِ عَميدِ

فأَثاروها نَهْضَةً عَمَّتِ الشَرْقَ

 

انطلاقاً وَوَثْبَةً من جُمُودِ

يومَ لبنانُ خَـلْجَةٌ مِنْ رَجاءٍ

 

وَسْطَ شَرْقٍ مُكَبَّلٍ بالقُيودِ


 

 

أَطْبَقَ الجهلُ فَوقَهُ وَرَماهُ

 

في ظَلامِ التَخَلُّفِ المَنْكودِ

يومَ غَنَّتْ بلابِلُ الأَرزِ لَحْناً

 

وتَـنَاغَتْ بأَلفِ أَلفِ نشيدِ

فكأَنَّ الزمانَ عادَ جديداً

 

وكأَنّا عُدْنا لِـعَـصْـرِ الرشيدِ

نـنـشرُ العزَّ والبطولاتِ والآدابَ

 

والشعرَ في مداها البعيدِ

فَـتُـغَـنّي بغدادُ رَجْعَ صَداها

 

ويَهُزُّ الشآمَ وقعُ القصيدِ

وَوَقَـفـنا على المُقَطَّمِ نَـشدو

 

وملأنا الأَهرامَ بالتغريدِ

وأَعَدْنا ايامَ أَندَلُسٍ والـعهدُ

 

عَهدُ الموشَّحاتِ الغيدِ

فَنَظَمْنا الفُصْحى عرائسَ تَزْهو

 

حالياتٍ مُرَصَّعات العقودِ

تَـتَهادى أَلفاظُها والمَعاني

 

موقَعاتِ التَـثْـليثِ والتَوحيدِ

 

 

إن مكانةَ شبلي بك ملاط، والد وَجْدي وشوقي وجورج "غرام" أبيه، وجدّ هيام، صاحبِ الكتابِ والأُمسية، مهابتَه وطاقتَه الشعرية والأدبية، الى ريادتِه الوطنية وتحدّيه، مع شقيقه وتوأم روحِه تامر، الحاكمَ الغاشِمَ الفاسد، فضلاً عن وَقَفاتِه في حواضرِ العرب، أَثْرَت التجربةَ الشعريّةَ والأدبيّةَ في جَناحَي العالم اللبناني، إِقامةً واغتراباً، وأهّلتْهُ لمبايعةٍ شعبيةٍ نُخبوية، أواخرَ اربعينياتِ القرنِ الماضي، نادَتْ بهِ "أَشْعَرَ الشعراء"، هو مَن كان الرفيقَ الأصغرَ سناً، والصِنْوَ المُتْرَف، لأحمد شوقي وخليل مطران وحافظ ابرهيم، واستاذاً للأخطلِ الصغير، خليفةِ أميرِ الشُعراء... وللكثيرين من أربابِ القوافي ونخبةِ الأُدباءِ والمربّين!..

 

*                   *                   *

 

أيُّها الإِخوةُ والأصدقاء،

لن أدخُلَ في تفاصيل الوثائقِ المتاحةِ في الكتاب، لأنّها تُعَرِّفُ بذاتِها، وتَروي فصلاً حميماً من ملحمةِ الفكرِ اللبناني في الأمكنةِ والأزمنة، وتَرقى الى أَعلى ذُرى البلاغة، وهي جديرة أن تُقرأ بامعان، إِحياءً لزمنٍ بَهِيّ.

 

*                   *                   *

وبعد، فمِن نِعَمِ اللـهِ على المَرءِ، أن يُرزقَ أبناءً بَرَرةً، يكرّمونَ اسمَه، وحَفَدَةً أُمناءَ يحفظونَ إرثَهُ، وأصدقاءَ أوفياءَ يُحيونَ ذكرَه. هذا ما يستحقُّه الأبُ المنجِبُ والجَدُّ المُعْجِب، الشاعرُ المبدع، شبلي بك ملاط.

 

شكراً للعزيز الدكتور هيام، ما جمعَ وأفاض، وهنيئاً له ما أصابَ من سعادةِ كولومبيا التي أحبّها جدُّه وأُغرم بها هو، فاصطفى سفيرتَها المميّزة السيدة "جورجين" شريكةً لحياته، أمّاً لعيلةٍ مباركة وملهِمةً لطموحه.

 

حَمْداً للجامعة اللبنانية الأميركية ورئيسِها، لمركزِ التراثِ فيها ومديرِه، احتضانَ الكتابِ المرجِع وإصدارَه،

التحيةُ للحركة الثقافية أنطلياس، بأركانِها اللامعين، الذين أثْرَوا المكتبات وأعلَوا المنابر.

وليَدُمْ للبنان فرحُ الكلمةِ ونعمةُ الكتاب !

 

         الحركة الثقافية- انطلياس                             ادمــــــون رزق 

            14 آذار 2019

___________________________________________

 

هيام ملّاط في كتابِهِ عن جدّهِ شبلي بك

بينَ مقتضى العلمُ ونبرات الوجدان

غالب غانم

 

    يتبدّى للمتبصِّر في شعر النّهضة، في الشّطرةِ الأولى من القرن العشرين، أنّ روّادهُ عقدوا مع الوطن واللّغة ميثاقاً انطوى على التزاماتٍ متبادلة. لا روحيّةٌ هي وحسب بل جسديّةٌ أيضاً. أَفديكَ وتفديني. أُلقي على أشطرِك وشائحَ الجمال ووشائجَ الحنين فتجعلُني أميرَ القصيدةِ أو حسناءَ اللغات... حملوا الرايتين. خفقت قلوبهم للحبيبين. هتفوا لمجدِ لبنان ومجد العربية. رفعوا التّعلّق بالأوّل إلى مصافّ العقيدة وبالثانية إلى مصافّ الإبداع. صبّوا ماءةَ الوجدان في الأجاجين وجدّدوا مذاق الخمر. تبادلوا عهود الوفاء مع وطنِ الأرز وحسناءِ البادية. جعلوا عاصفَ الحريّة يلفحُ النّص فسقط المتهافتُ ونهضَ الفتّان. وكانت أناشيدُ الولهِ لديهم أجراسَ كلمة وحرّاس جبلٍ وضفاف.

   على هذه الأنماط وفي مثل تلك المغاني والمراقي كان شبلي ملّاط... أحد أُمرائهم وصدّاحيهم وبلغائهم وسفرائهم إلى منابر العرب في كلّ موقفٍ جَلَلٍ ومبارزةٍ نبيلةٍ بالقلم.

  

__________

الحركة الثقافية انطلياس، الخميس 14/3/2019، عبر ندوة حول كتاب شبلي الملاط شاهداً/الأدب اللبناني في النصف الأوّل من القرن العشرين بين أرض الوطن ومهاجر أميركا الجنوبية، للدكتور هيام جورج ملّاط.

   كان بينهُ وبين لبنان تَبادُلُ أطياب، وإلفةُ ندامى، وعشقٌ يمتدّ من عطرِ المحابر وعطرِ المشاهد إلى عهودِ الحماية، ومواثيقِ الإقرار بأنّ أيّ طرفٍ منهما هو المصطفى والمدلّل في عينِ الآخر. عام 1930، في واحدةٍ من تغريداته المختالةِ طولاً وتطريباً كأنّها لأسرابٍ وأسراب، قال:

   وتذكّروا الجبلَ الذي أجدادكُمْ

                              عاشوا حُماةَ حياضِهِ وذِمامِهِ

   يتداولون عقيدةً وقناعةً

                             وإباءةً بظلالهِ وخيامِهِ

    كلُّ المدائنِ لا تُساوي شمّةً

                            جبليّةً من شيحِهِ وخُزامِهِ..

 

   وكانَ بينهُ وبين العربيّة أسرارٌ لم تتكشّفْ إلّا لتلك الأقلام التي راهنتْ على نضارة القصيدة، وبحثتْ عن أحرفٍ تُشرِقُ وأشكالٍ تشتعل، وعن الطراوة والنسائم العليلة وموجاتِ الرّونق... وأحياناً عن دفقاتِ ينابيع تردّ الحياة إلى اليباب وتطوي صفحةَ المكرور والمتقهقر. وفوق هذه جميعاً عن التماسُكُ والانسجام حتى لا يكبُوَ راقصٌ في حَلَبة ولا يفلِت إيقاعٌ في مقام!.

    عام 1931، تسابقت صحف لبنان والمهاجر على نشر تغريدة أخرى من تغريداته عنوانها "ملكة تدمر" أقتطف منها مقطعاً كامل الأوصاف، يشهد للذاتية اللبنانية في الشعر. لتلك الطريقةِ الفريدة التي شقّت طريقِ الحداثة وآخَتْ ما بين مقتضى المهابةِ ومقتضى الغِوى. ما بين عبقريةِ العربية وإبداع الريشة اللبنانية. ما بين العَرعَر والورد، والنّسر وعنادِلِ الجَبَل:

   بَنَتِ الهياكلَ والحصون غرائباً        في الفنّ للمتأمّلِ المتبصّرِ

   والموحشاتِ من القبورِ صوامتاً        وروائعاً في تربةٍ من عَرعرِ

   والشاهقاتِ من القصور رواسخاً       بدعائمٍ وصفائحٍ من مَرمَرِ

   منقوشةٌ جدرانها وسقوفها             مرقوشةٌ بمفضّضٍ ومُعصْفرِ

   والناضراتُ من الخمائلِ حولها       مغروسةٌ بالوردِ والنيلوفَرِ

   والطيرُ غادٍ في الغصونِ ورائحٌ      غَرِداً على شجرِ النّخيلِ المثمرِ

   تتلألأ النُّعمى على جنباتها           كندى الصباحِ على الوريقِ الأخضرِ.

 

***

   هذه كانت الطوالعَ الأولى التي شئتُ أن أصدّرَ بها كلمتي في كتاب وَسَمُهُ صاحبه، وصاحبي، الدكتور هيام جورج ملّاط، بالعنوان الآتي: شبلي مّلاط شاهداً/الأدب اللبناني في النصف الأوّل من القرن العشرين بين أرض الوطن ومَهاجر أميركا الجنوبية.

   وثمّةَ، في باب الطوالع أيضاً، خواطرُ لا غُنيةَ عن تسجيلها، السّاعةَ، إذ ما من فرصةٍ أنْسبُ من هذه الفرصةِ لإماطةِ اللّثام عنها.

    في عُرفنا، نحن أولاد عبدالله غانم، أنّ لَنا أبناءَ عمومةٍ من رَحَمِ الرّوح وفرعِ الأدب لا من عُصبةِ النّسب وأفخاذِ العشائر. تغنّينا بذلك وتغنّوا... على ما نعتقد، أو نودّ. إنّهم، تمثّلاً لا عدّاً: أبناءُ الأخطلِ الصغير، وكرم ملحم كرم، وسليم حيدر، وأمين نخله، وعبدالله العلايلي، وأمين رزق، وعبدالله لحّود، ومارون عبّود، وميشال طراد... وأبناءُ شبلي الملّاط، ومَعَهم أحفادُهُ، وهيام في صدارتهم.

   وفي الذكريات النديّة أنّ صاحب جريدة "الوطن"، شاعرَ الأرز ذاتَهُ، احتفى بقدوم صاحب جريدة "صنّين" والدي الشاعر عبدالله غانم إلى بيروت وأَولَم له بمناسبة زواجه... روَت الوالدة هذه الواقعة عندما كنّا نستعدّ للتوجّه إلى قصر الأونيسكو، عام 1961، لحضور الاحتفال اللبناني العربي بذكرى شاعر الأرز. وحين شاركنا في تصفيق تراخى الى دقائق آن ألقى سعيد عقل قصيدته الخالدة، كانت تتلاطم في دُخيلائنا أمواج الشاعريّة الساحرة بأنسام العمومةِ الأدبيّة الرّوحيّة.

    وفي دفاتر الحنين كذلك، أنّني عدّتُ، فورَ اطّلاعي على الكتاب الذي نحفو به الآن، إلى قصاصاتِ نسّقها الوالد في واحدةٍ من محفوظاتِهِ، بعضها عائدٌ إلى صُحُفٍ عربيّة في البرازيل والأرجنتين، وبعضها في كولومبيا ونيويورك، وجميعها يحمل مواقفَ إعجاب بديوان "العندليب" الصادر عام 1939... هذه القصاصات، وظلال الأمس الذي كان رافلاً في الأمل، جعلتني أنظر إلى كتاب الدكتور هيام ملّاط النظرةَ الأولى، لا بعينٍ نقديّة، بل بعينٍ تكادُ الدمعة تنزلقُ منها، تأثّراً بما كان عليه هؤلاء الآباء، معتمرو الطرابيش لِياقةً وشمماً.. شاقّوا الطرق والطرائق في الوعر، مفجّرو عيونَ الماء في أدب العرب وسهول اللّغة... كلّ ذلك وهم يمدّون سلطانهم من الوطن الصغير حتى آخرُ الدّنيا قائلين:

   نحن لسنا الغزاة. ننزلُ قفراً

                    فنخلّيهِ أنهراً وجنائِنْ.

***

   إنّ طغيان نبرات الوجدان على كلمتي، يا أخي الدكتور هيام، كان خياراً اخترتُهُ لأستعيد زمناً ولّى، وأوجهاً وقامات كأصبحةِ الخير وسيوف النّبل. أو كالسّيوف المشهورة على البُطْل بوحي ممّا جاء في قصيدة سعيد عقل عن جدّك.

   ولكنّ هذا الطغيان لا يحول دون الالتفاتةِ إلى ما قمتَ بهِ، وإلى ما أنت عليه، التفاتةً علميّةً خالصة.

   إنّك من فئةِ العلماء في ميادين شتّى، قانونيّةٍ وتاريخيّة واجتماعيّة وتوثيقيّة.

   ولكَ، ولشجرة شبلي ملّاط الوارفةِ الظلال، الكثيرةِ الثمر، الفضل في حفظ تراثهِ وفي ضبط كلّ ما يمتُّ إليه بصلة. إنّ الأمم الراقية لا تتركُ أثراً من آثار مبدعيها إلّا وتلتقطُهُ. ولو تسنّى لها التقاط أنفاسهم الحرّى المواكبة لولادة أعمالهم العظيمة لما قَصَّرَتْ.

   إنّ ما بين إضمامتي هذا الكتاب أكثرُ من وثائق. إنّه لقاء شطرتي الوطن على منعطفاتِ الكلمة، ومواكب الروح. كانَ المهجريّون من أُدبائِنا يتلقّونَ قصائد شاعر الأرز ورسائِلَهُ بغبطةٍ أين منها تلك التي يتلقّى فيها المقيمون رسائلَ أنسبائِهم بما تحمِلُهُ من كنوز عاطفيّةٍ وماليّة. كان الانتظارُ جزءاً جميلاً من الحلم، ومن الملحمة اللبنانيّة في تلك الغضون.

   ولكنَّ أسمى ما أسجّلُهُ في هذا المقام هو وفاؤك. لفحكَ الوفاء بلفحاته الصّوفية كما لفحني. وأنت تعرف أنّني سأظلّ حتى الرمقِ الأخير بَرّاً بوالدي، حافظاً تراثَهً وقيمَهُ. ولسانُ حالي، وحالِكَ، ما قالَهُ المتنبّي:

    خُلقْتُ ألوفاً، لو رجِعتُ إلى الصّبا

                           لفارقتُ شيبي، موجَعَ القلبِ، باكيا.

 

                                                   غالب غانم