ندوة حول كتاب د. كمال ديب: عهود رئاسية، أزمات وحقائق من شارل دباس الى ميشال عون
مداخلة كريم بقرادوني حول كتاب "عهود رئاسية" للدكتور كمال ديب المهرجان اللبناني للكتاب الحركة الثقافية في انطلياس يوم 7آذار 2023 |
كتاب "عهود رئاسية" للدكتور كمال ديب هو اكثر من كتاب، انه موسوعة أرخت لــ 15رئيساً للجمهورية في 959صفحة من شارل دباس الى ميشال عون.
ولا أخفيكم اني معجب بقدرة المؤلف على الكتابة عن لبنان بغزارة وعمق وهو مقيم في كندا. والغزارة لا تعني كتابين او ثلاثة، بل تعني حوالي اكثر من ثمانية كتب ناهيك عن الابحاث والمقالات. اما العمق فيعني ان كمال ديب مطلع على التفاصيل في لبنان لكنه لا يغرق فيها بل يوردها بعناية ليرسم من خلالها لوحات عن تاريخ لبنان المعاصر. انه بالتأكيد اكثر المغتربين اللبنانيين كتابةً.
كان بودي ان اعلق على الخمسة عشر رئيساً للجمهورية الذين تناولهم كمال ديب، وبالاخص على خمسة منهم عرفتهم عن كثب وكتبتُ فيهم وهم: الياس سركيس، بشير الجميل، امين الجميل، اميل لحود، وهو رجل الثوابت بامتياز، وميشال عون وكتابي عنه قيد الطبع.
غير ان الوقت المحدد لي لا يسمح بالتعليق الا على عهد واحد فاخترتً تجربتي الاولى مع عهد الياس سركيس الذي امتد من 1976الى 1982حيث لعب بشير الجميل دور الخصم الاول لسركيس في النصف الاول من عهده، ومن ثم اصبح الحليف الاقوى لسركيس في النصف الثاني من العهد: رئيسان في عهد واحد.
كتب المؤلف عن الياس سركيس 52صفحة وعن بشير الجميل 42صفحة، ورأيت من المفيد ان اضيف بعض الصفحات عما عرفته عن الرئيسين بصورة مباشرة محتفظاً ببعض الوقائع والحقائق التي سأحتفظ بها لمذكراتي ان قدر لي ان اكتبها.
اشير بداية اني تعرفت على الياس سركيس في مطلع العام 1975وقد اصطحبني للاجتماع معه الصديق الكاتب راجي عشقوتي. وكان سركيس حاكم مصرف لبنان. فاتحني منذ البداية بانه مرشح لرئاسة الجمهورية، وطلب مني ان اساعده مع قادة الجبهة اللبنانية وسوريا، وهذا ما فعلت.
فور انتخابه رئيساً للجمهورية في 8ايار 1976كان هدف سركيس انهاء حرب لبنان، وهو مدرك ان مفتاح الحل يكمن بالمصالحة بين انور السادات وحافظ الاسد. وفي اثر اتصالات معقدة تقرأون جزءاً كبيراً منها في كتاب كمال ديب انعقدت في الرياض في 16تشرين الاول 1976، اي ما بعد تسلم سركيس الحكم بشهر واحد، قمة عربية مصغرة ضمت رؤساء السعودية ومصر وسوريا ولبنان والكويت ومنظمة التحرير الفلسطينية.
في هذه القمة ألقى سركيس خطاباً جمع فيه بين الواقعية والوجدانية. طالب بوقف القتال كلياً في لبنان، واحترام المقاومة الفلسطينية لسيادة لبنان وعدم التدخل في شؤونه الداخلية، وتشكيل قوة ردع عربية من 30الف جندي بانتظار توحيد الجيش اللبناني، وتقديم العرب مساعدة لاعادة اعمار لبنان، وختم مداخلته بالقول: "اني أضمن سلامة المقاومة الفلسطينية في اطار اتفاق القاهرة، وعلى العرب من ناحيتهم ان يضمنوا عدم تدخل المقاومة الفلسطينية في الشأن اللبناني الداخلي". وهكذا توقفت حرب لبنان مؤقتاً في العامين 1976و1977.
لم يكن بشير الجميل مقتنعاً بهذا الحل الذي يشرع وجود الجيش السوري في لبنان، كما شرع اتفاق القاهرة الوجود المسلح الفلسطيني في العام 1969. من جهته اختزل كمال ديب صورة تلك المرحلة بالقول: "نجحت سوريا في تدخلها، فحافظت على النظام اللبناني، انقذت المسيحيين، وكفت يد الفلسطنيين، وأنهت نفوذ اليسار اللبناني، ولكن هدفها الاهم لم يتحقق وهو منع اسرائيل التدخل في لبنان".
وحدث ما لم يكن في الحسبان عندما فاجأ انور السادات العالم يزيارته القدس في 19تشرين الثاني 1977. لم يكن بمقدور سركيس ان يلتقط مباشرة خطاب انور السادات، غير ان مدير عام الاعلام شارل رزق ادرك اهمية الحدث فاتخذ الترتيبات لتسجيل الخطاب على كاسيت فيديو وتوجهنا معاً الى القصر الجمهوري، وكان بانتظارنا الرئيس سركيس مع وزير المالية فريد روفايل. جلسنا الاربعة نشاهد خطاب السادات.
خلال استماعه لكلمة السادات في الكنيست الاسرائيلي قال سركيس: " ما اراه لا يُصدق. السادات يحيط به بيغين ودايان وويزمن وغولدا مائير؟ يا له من حلم، بل يا له من كابوس؟ حتى الامس كنتُ مستعداً ان اراهن ان السادات لن يذهب الى القدس كما اعلن، واليوم لا اصدق عيني، هذا جنون، الله يسامحه ويساعدنا"، واستطراد: "بعد المصالحة بين السادات والاسد خيل لي ان الحل في لبنان ممكن، بعد زيارة السادات صار الحل مستبعداً ولن يكون بمقدوري سوى ادارة الازمة اللبنانية وليس حلها".
بمناسبة خطاب السادات في القدس توجه رئيس الوزراء الاسرائيلي مناجيم بيغين نداء الى الرئيسين السوري واللبناني دعاهما فيه لزيارة اسرائيل، فعلق سركيس على الفور: "اذا قرر جميع الرؤساء العرب من دون استثناء الذهاب الى القدس، واذا تَوَسلوا الي جميعهم لاذهب معهم، فعندئذٍ ، وعندئذٍ فقط، ابدأ بالتفكير بهذا الامر، وخلافاً لتصورات بعض الاسرائيليين، فان لبنان لن يكون ثاني دولة عربية تعقد اتفاقاً مع اسرائيل بل الدولة الاخيرة".
التقيت بشير في هذه الاثناء فسألني عن رأي سركيس بالاوضاع فاخبرته ما قاله الرئيس اللبناني فعلق بشير بان "سركيس مخطئ وكل المعادلات في الشرق الاوسط ستتغير بعد زيارة السادات".
على الرغم من تحذيرات الرئيس سركيس لكل الاطراف انفجر الوضع في صيف 1978بين الجيش السوري والقوات اللبنانية وتصاعد القصف المتبادل، ولم يوفر القصف السوري اي منطقة مسيحية في بيروت والجوار، وانصب طوفان من الحديد والنار على الاشرفية فاصبحت جحيماً، لكن المقاومة اللبنانية بقيادة بشير لم تتراجع. ولم يوفر احد القصر الجمهوري فتساقطت عليه القنابل من كل صوب، ما اضطر الرئيس سركيس الى نقل مكاتبه وسريره الى الطبقة السفلى من قصر بعبدا، وحولها الى ملجأ من دون مياه ولا كهرباء ولا طعام ولا تلفون، واقام في هذا الملجأ 12يوماً حيث كان يستقبل من يجرؤ على زيارته من سفراء ووزراء ونواب واصدقاء. كنت اصعد عند الرئيس بصورة مستديمة رغم ان الطرق المؤدية الى بعبدا كانت خطرة جداً.
سجل الرئيس كلمة في 22ايلول 1978لمناسبة الذكرى الثانية لتسلمه صلاحياته الدستورية اعلن فيها التمديد لقوات الردع مع خطة امنية لاعادة انتشارها. عارضت الجبهة اللبنانية التمديد وعارضت دمشق اعادة الانتشار.
في 4تشرين الاول 1978استطاع سركيس الاتصال بالاسد الذي كان في زيارة لبرلين وكان الحديث بينهما جافا.ً رفع الرئيس اللبناني صوته قائلاً: " ليس في العالم دولة ترضى بما يحدث في لبنان، اريد جواباً بشأن الخطة الامنية واعادة انتشار الجيش السوري، واريد قبل كل ذلك وقفاً تاماً لاطلاق النار". اجابه الاسد: "اننا ندرس الخطة الامنية ونريد استشارة رأي الاطراف المختلفة". اغتاظ سركيس من هذا الجواب وقال الاسد: "انا رئيس الدولة، والمحاور باسم لبنان، ولا أقبل ان تتعاطوا مع سواي". هدأ الاسد من روع سركيس وقال له: " من غير الطبيعي، يا اخ الياس، ان نتطرق الى هذه الامور على التلفون، سأكون بعد يومين في دمشق فاهلاً وسهلاً بك". في 6تشرين الاول اتصل عبد الحليم خدام بسركيس ليعلمه ان الاسد بانتظاره متى يشاء فقال له: "انا ذاهب لعندكم على الفور لان كل دقيقة توفر حياة شخص على الاقل".
لا يفارقني مشهد الرئيس سركيس وهو يغادر القصر. حلق لحيته التي ارخاها قبل ايام من مخزون مياه الشرب بسبب نقص المياه. اعدّ حقائبه على ضؤ الشموع لانقطاع التيار الكهربائي. كانت اضواء الشموع ترسم على الحيطان ظلالاً لها اشكال مجنونة ومخيفة. الصمت مرهق. وفي البعيد قصف الاشرفية مستمر كأنه موسيقى سريالية تحي الرئيس الذاهب الى المجهول. وفيما كان يغادر القصر لم يكن واثقاً بانه سيعود اليه.
المحادثات بين الاسد وسركيس كانت حامية. اثار سركيس موضوع قصف قصر بعبدا على يد الجيش السوري. غضب الرئيس السوري واستدعى حكمت الشهابي الذي انكر كل مسؤولية تتعلق بقواته. اسفرت هذه المحاثات عن وقف اطلاق النار في 7تشرين الاول 1978. غادر سركيس دمشق وقام بجولة على بعض الدول العربية جرى الاتفاق خلالها على اجتماع يعقده وزراء خارجية البلدان المشاركة في قوات الردع العربية في بيت الدين.
عقد اجتماع بيت الدين بين 13و17تشرين الاول. اصرّ بشير على انسحاب الجيش السوري من لبنان، لكنه وافق بطلب من الجانب السعودي انه يقبل وقف اطلاق النار اذا انسحب الجيش السوري من المناطق المسيحية. في اليوم الثاني لمؤتمر بيت الدين وافق عبد الحليم خدام، بناء على طلب السعودية، بانسحاب الجيش السوري من المناطق المسيحية واحلال قوات سعودية وسودانية محله. رأى سركيس ان اجتماعات بيت الدين لم تتوصل الى حل بل الى هدنة.
وكان لكمال ديب قراءة اخرى للاستراتيجية السورية تجاه تداعيات السلم المصري- الاسرائيلي وانفجار حرب لبنان فكتب: "اثبتت سوريا مقدرتها على انهاء الحرب في لبنان رغم كل شيء، كان ثمن الدخول السوري الى لبنان ضرورياً كي لا تُحاصر سوريا، وتمنع تفرد اسرائيل وهيمنتها على الساحة اللبنانية".
في هذا السياق وصل عبد الحليم خدام الى بعبدا في 2ايار 1979فبادره سركيس بالقول: "انا رجل إتزان وتوازن، والتعايش الاسلامي-المسيحي هو خياري الاساسي... لن اجرد المسيحيين من سلاحهم ما دام الفلسطنيون مسلحين... ولن ابتعد عن سوريا ولكني لن اتنازل لها عن اكثر مما يجب...".
صارحني بشير بحضور جوني عبده وزاهي البستاني بالقول: "لم أكن أتوقع ان يصمد سركيس امام الجيش السوري، ويواجه حافظ الاسد سياسياً، ويتبنى مطلبي بانسحاب القوات السورية من المناطق المسيحية".ازاء هذه الملاحظة الايجابية، اقترحت على بشير ان يفتح خطاً شخصياً مع الرئيس سركيس وانعقد اول اجتماع بينهما في 13ايلول. علق بشير امامي: "كان الرئيس سركيس لطيفاً معي غير اني تعمدتُ ان اكرر مواقفي على الرغم من الحملة القاسية التي كنت اشنها عليه كي لا يتصور اني اتكلم لغتين فاجابني: انا ايضاً اقاوم على طريقتي مع الفارق بيننا انك تستطيع انت ان تقول وتعمل ما تريد، اما أنا لا يجوز لي ذلك"، وافشى لبشير: "انتَ تلعب الدور الاحلى". وتوالت الاتصالات والاجتماعات بين سركيس وبشير، وبين جوني عبده ممثلاً سركيس وزاهي البستاني ممثلاً بشير.
في هذه الاثناء دبت الفوضى في المنطقة الشرقية بعد انسحاب الجيش السوري من الاشرفية وتدهورت العلاقات بخاصة بين حزبي الكتائب اللبنانية والوطنيين الاحرار، ورأى بشير ان المقاومة المسيحية تربح ضد سوريا وتخسر في مناطقها، فقرر حسم الموضوع.
ارتكب محازبو الوطنيين الاحرار في مطلع تموز 1980خطأً غير منتظر حين دمروا مقر حزب الكتائب اللبنانية في وادي شحرور فاغتنمها بشير فرصة للانقضاض في 7تموز على كل مواقع حزب الوطنيين وثكناتهم في الاشرفية والمتن وكسروان وجبيل وجردهم من السلاح خلال بضع ساعات. عند انتهاء العملية العسكرية تحرك الاباتي بولس نعمان لعقد اجتماع في دير مار انطونيوس بين قياديي الحزبين، تقبل كميل شمعون الخسارة وتصرف كرجل دولة مسؤول عن قضية، ووجه الكلام لبشير قائلاً: "انت اردت ان توحد البندقية بالقوة، تَحملْ مسؤوليتك بالدفاع عن المنطقة الشرقية، ونحن سنقوم بدورنا السياسي من دون سلاح". كميل شمعون دعا الى ما يمكن تسميته: التعددية السياسية والوحدة العسكرية".
من جهته لم يقطع سركيس علاقته ببشير، وكان يجيب محرضيه على بشير ومشروعه الرامي الى الحلول محل الدولة: "تحدثوني عن دولة بشير، وتنسون دولة عرفات".
بناء على طلب بشير وضعتُ ورقة عمل جرى اعتمادها في 13تشرين الثاني 1980من فريق عمل بشير كوثيقة سياسية ومرجع لكثير من المواقف. وقد طرحت ما اسميته "استراتيجية التكامل بين الدولة والمقاومة"، وكتبت ما حرفيته: "ان المقاومة المسيحية رفعت ازمة لبنان الى مستوى القضية، وعلى الرغم من كل اخطائها استطاعت ان تخلق جيلاً مقاوماً يحمل البندقية من اجل قضية. كما استطاعت ان تحافظ على الحرية ولو في بقعة صغيرة من لبنان، ولم تقع في تجربة الحزب الواحد. وصارت ضرورة لبقاء لبنان المسيحي لكنها ليست كافية لتحرير لبنان بأكمله. فاذا بقيت المقاومة المسيحية وحدها فهي سائرة نحو اقامة وطن مسيحي من ضمن مشاريع التقسيم والتوطين... وهنا يبرز دور الشرعية اللبنانية، فالمطلوب منها ان تتحول الى شرعية اخرى ذات طابع ثوري كي تستطيع تحويل المقاومة المسيحية الى مقاومة لبنانية.
قرر بشير عرض الوثيقة التي اعددتها على الرئيس سركيس مع بعض الشروحات بحضوري وحضور جوني عبده فعلق الرئيس قائلاً: "اذا فهمت منكم جيداً انكم تطرحون احتمالين: اما ان تقوموا بانقلاب عسكري بموافقتي، اما اقوم بانقلاب سياسي بمساندتكم. ليس عرضكم بسيطاً ولا سهل التحقيق. اعطوني وقتاً للتفكير، ولدرس الامكانات الراهنة قبل اتخاذ قراري". لخص بشير عرضه قائلاً: "بقليل من الحكمة من جانبكم، يا فخامة الرئيس، وقليل من الجنون من قبلنا ستسير الامور على ما يرام". ردّ جوني عبده على بشير: "ما نحتاج اليه، يا شيخ بشير، هو العكس، قليل من الجنون من قبلنا، وقليل من الحكمة من قبلكم".
اثر هذا اللقاء، وبطلب من بشير كلف سركيس جوني عبده تأمين التواصل مع الجانب الاميركي. اعدّ جوني عبده العدة اللازمة للقاء على الغداء في منزله بين بشير والسفير الاميركي جون غنتر دين، وهو من افضل السفراء الاميركيين الذين عرفتهم. في هذا اللقاء استفاض بشير في شرح المخاطر التي تهدد المسيحيين في لبنان والمنطقة اضافة الى ضرورة ادخال اصلاحات جذرية على النظام اللبناني.
استمع السفير الاميركي باهتمام كلي على ما قاله بشير وفاجأ المجتمعين بقوله لبشير: "احذرْ الاسرائيليين، فهم لا يعجبهم عجب. تستطيع ان تعطيهم كل شيء، لكنهم يجدون دائماً شيئاً اضافياً يطالبون به". واضاف السفير: "هل لديك، يا شيخ بشير، طائرات تقدمها لهم؟ نحن لدينا طائرات ونقدم لهم افضل النماذج، ومع ذلك فهم غير راضين. لا تتكل على اسرائيل بل اعتمد على نفسك".
ما ان استتب الامن بعد سيطرة بشير على المنطقة الشرقية في اواخر العام 1980حتى بدأت بعض المناوشات بين الجيش السوري والقوات اللبنانية في زحله. قرر سركيس زيارة سوريا في 10و11 آذار 1981.بعد عودته من دمشق دعاني سركيس مع فؤاد بطرس وجوني عبده الى تناول الغداء. اخبرنا انه رسم امام الرئيس السوري لوحة شاملة للاوضاع المأساوية في لبنان: "الجنوب يفرغ من سكانه، وحوالي ثمانية قتلى يسقطون يومياً في بيروت الغربية، والقصف مستمر على وسط المدينة...". ثم شدد على ثلاث حقائق: "ان تصرفات اسرائيل في الجنوب ينتج عنها تدمير كل لبنان، ان عرقلة سوريا التفاهم بين اللبنانيين، سواء كان صواباً او خطأ، يهدد الامن في لبنان، ولم يفت سركيس مصارحة الاسد بان "انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية المقبل لا يمكن ان يتم من دون اتفاق سوري-كتائبي، وان صورة دمشق على المسرح الدولي "بدأت تتأثر سلباً، وان سوريا على وشك ان تُعتبر قوة احتلال". اجاب الاسد بايجاز: "الاوضاع ليست سهلة، ولا اعتراض لدي على التحدث مع اي كان"، وفوض الرئيس سركيس بترتيب الحوار السوري- الكتائبي".
رأى سركيس ان موقف الاسد بقي غامضاً، لكنه لم يكن يظن لحظة باحتمال ان يفتح الجيش السوري نيرانه على بيروت وزحله يوم 2نيسان 1981حاصداً في ساعات معدودة 50قتيلاً واكثر من 150جريحاً. اتصل سركيس بالاسد وطلب منه استقبال موفده الخاص الياس الهراوي الذي سمع كلاماً قاسياً من الاسد: "لن ينهزم الجيش السوري امام الميلشيات، وما دامت الجبهة اللبنانية تعامل السوريين والفلسطنيين على قدم المساواة، فلن اسهل دخول الجيش اللبناني الى اي مكان ما لم تتراجع الجبهة اللبنانية عن موقفها".
تصاعدت المواجهة واتسعت، فالتقى بشير الرئيس سركيس في ساعة متأخرة من يوم 2نيسان وقال له: "ان قصف بيروت هو عملية إلهاء، هدف سوريا احتلال زحلة. سنقاوم وسندافع عن السكان،واذا سقطت المدينة سقطت معها كل المقاومة اللبنانية... وكل لبنان".
تأثر سركيس بموقف بشير، وفضل التريث ريثما يتشاور مع الموفد الاميركي موريس درايبر، ممثل وزير الخارجية الكسندر هيغ. غير ان الوضع العسكري بدأ يشد الخناق على زحله. أبلغ فؤاد ابو ناضر، بصفته رئيس الشعبة الثالثة في القوات اللبنانية، بشير ان عمليات مجوقلة بالطوافات السورية احكمت قبضتها على الطرق التي توصل زحله بجبل لبنان، وان الطريق الاخير من طرق التموين ستقطع بعد بضع ساعات، والخيار اما ان تنسحب القوات اللبنانية من داخل زحله على الفور فتنهار المقاومة من داخل المدينة، واما يبقى رجال القوات في المدينة ولكن لا يمكننا تموينهم لا بالمقاتلين ولا بالعتاد.
كان الموقف مأساوياً فقرر بشير مخاطبة المقاتلين داخل زحله بواسطة جهاز لاسلكي، وكنت الى جانبه فسمعته يقول: "ايها الرفاق امامكم ساعة واحدة فقط لتتخذوا قراراً تاريخياً: اما ان تبقوا في زحله، واما ان تغادروها. اذا غادرتم زحلة تحافظون، ولا ريب، على حياتكم، ولكن سقوط المدينة يصبح واقعاً أكيداً، وهذا الواقع يشكل نهاية ملحمة المقاومة. واذا بقيتم ستجدون نفوسكم بلا ذخيرة، بلا دواء، بلا خبز، وربما بلا ماء. وستكون مهمتكم تنظيم المقاومة الداخلية، والدفاع عن هوية البقاع اللبنانية، وهوية لبنان المسيحي، فتعطون معنى لحربنا وللشهداء. لكم كل الصلاحيات لتقرروا ما ترونه مناسباً". وختم بشير نداءه بالقول: "لا اريد ان اتفلسف عليكم عن بعد، مكاني الطبيعي ان اكون الى جانبكم ومعكم في زحلة لانه بين الموت بقذيفة عشوائية في بيروت، والموت حاملاً سلاحي، افضل ان اموت في المعركة. واذا قررتم ان تبقوا، تذكروا شيئاً واحداً ان الابطال يموتون ولا يستسلمون". بعد هذه الكلمة الوجدانية قرر المقاتلون جميعهم، من دون استثناء، البقاء في زحله، وكان جو اده هو الذي يقود هذه المعركة المصيرية.
في 28نيسان وصل عبد الحليم خدام الى قصر بعبدا وبدأ محادثاته مع الياس سركيس وبحضور كميل شمعون وبيار الجميل. ولكن عند مباشرة خدام مشاوراته، قصف الطيران الاسرائيلي المواقع السورية الجديدة على القمم، واسقط طوافتين، ردت سوريا في 29بنشر قواعد صواريخ سام 2وسام 6في البقاع. رأت اسرائيل في هذا العمل "خرقاً جديداً للوضع الراهن"، وهددت علناً باللجوء الى عملية عسكرية لتدمير الصواريخ اذا لم تسارع دمشق الى سحبها. اعلن هيغ تأليف مجموعة عمل اميركية لمتابعة الاوضاع في لبنان، وتحولت "ازمة زحله" الى "ازمة صواريخ سام".
وحدث ما كان يتخوف منه الرئيس بعد شهر اثر الاعتداء على سفير اسرائيل في لندن في 4حزيران، اجتاح الجيش الاسرائيلي لبنان في 6حزيران 1982. كان سركيس يتوقع مثل هذا الاجتياح واول ما فعله هو الاتصال ببشير وتحذيره من خطورة الانزلاق في العملية الاسرائيلية وقال له: "لا يجوز ان تتلطخ يد المسيحي بالدم الفلسطيني في معركة الى جانب اليهودي". اجابه بشير بالايجاب فارتاح لرد بشير، وكان سركيس يكرر امام سامعيه: "لقد نضج بشير بسرعة لم اكن اتصورها".
تجاه هذا الوضع الاستثنائي لم يكن سركيس يملك الا الوسائل العادية. دعا سفراء الدول الكبرى المعتمدين في بيروت وطلب منهم اصدار قرار بوقف اطلاق النار وانسحاب اسرائيل الفوري من الاراضي اللبنانية المحتلة. والاهم شكل برئاسته "هيئة انقاذ وطني" تضم ستة اعضاء: شفيق الوزان (رئيس الحكومة)، فؤاد بطرس (وزير الخارجية)، بشير الجميل، وليد جنبلاط، نبيه بري، ونصري معلوف ممثلاً حزب الوطنيين الاحرار. كان سركيس يدرك سلفاً محدودية هذه الخطوة وكانت الغاية غير المعلنة ان يلتقي بشير بنبيه بري ووليد جنبلاط.
وأخذت الاشاعات مداها ومنها ان مناحيم بيغين سيحضر الى القصر الجمهوري للطلب من الرئيس سركيس ان يوقع على معاهدة سلام مع اسرائيل مغلق الرئيس اللبناني: "يمكنه ان يعتقلني لكنه لن يأخذ توقيعي". كما شاع خبر ان ارييل شارون سيقتحم القصر ويجتمع بسركيس الذي قال لي: " اعطيت الاوامر بنشر آليات الجيش في عرض الطريق، وان يفترش الحرس الجمهوري الارض، وان يتوجه جوني عبده للقاء شارون على المدخل الخارجي للقصر ليعلمه ان رئيس الجمهورية لا يرغب في مقابلته، واذا قرر الدخول عنوة فليدخل على اجسادنا...".
وفي 23آب 1982حدث ما لا يصدق. انتخب بشير الجميل رئيساً للجمهورية. وكان سركيس يردد منذ العام 1980: "لا حل بدون بشير". كان نصف مجلس النواب واكثر يؤيدون بشير، لكن العقبة كانت تتمثل بتأمين النصاب القانوني اي ثلثي اعضاء مجلس النواب، وكان ينقص بشير ثلاثة نواب. اخذ سركيس على عاتقه رينيه معوض. واخذت على عاتقي النائبين سالم عبد النور، خال زوجتي منى، وزميله فؤاد الطحيني، وكان الاثنان ينتميان للتكتل النيابي الذي يرأسه وليد جنبلاط المعارض لانتخاب بشير. وجاء رد فعل جنبلاط باعطاء اوامره باحراق بيت سالم عبد النور ومكتب فؤاد طحيني. وهكذا نجح بشير بتصويت الثلاثي رينيه معوض، سالم عبد النور وفؤاد طحيني.
في اول ايلول 1982توجه بشير الى نهاريا للقاء رئيس الحكومة الاسرائيلية مناحيم بيغين والقادة الاسرائيليين وفي مقدمهم ارييل شارون ورفايل ايتان. وصف بشير هذا اللقاء بانه "من اسوأ الاجتماعات في حياتي". طلب بيغين من بشير توقيع اتفاقية سلام مع اسرائيل، رفض بشير طلبه على اساس انه "لم يتسلم بعد رئاسة الجمهورية، وان طلبه يتطلب قراراً من الحكومة وقانوناً من مجلس النواب". ردّ بيغين بلهجة فيها شيء من الاحتقار: "أنت متل كل العرب". وأنهى بيغين الاجتماع بقوله: "وداعاً السيد الرئيس" (Good by Mr. President)، وقد اعتاد ان يودع بشير بقوله:"وداعاً يا بني" (Good by my son). فهم بشير االرسالة وراح يفكر على طريق العودة باعادة النظر في تحالفاته الاستراتيجية.
في اثر انتخاب بشير كان الجيش السوري انسحب الى صوفر المتاخمة لمنطقة البقاع، كما خرجت المنظمات الفلطسينية المسلحة وعلى رأسها ياسر عرفات الى اثينا برعاية فرنسية. وفي 2ايلول فتح ممر السوديكو الذي يفصل بين منطقتي بيروت منذ العام 1981. وفي 14ايلول انتشر الجيش اللبناني في المنطقة الغربية بعد غياب طويل. وفي 11باشرت بورصة بيروت اعمالها وعاد مرفأ بيروت الى العمل، واظهر المواطنون رغبتهم بالتلاقي اكثر من القياديين والسياسيين.
من جهته قرر بشير زيارة كل النواب الذين انتخبوه في منازلهم، كما قرر الاجتماع يوم السبت 11ايلول في القصر الجمهوري مع صائب سلام الذي كان يرأس الفريق النيابي المعارض لبشير. عند انتهاء اجتماعه بسلام دعاني وزاهي البستاني الى لقائه في منزل جوني عبده. روى لنا بشير تفاصيل لقائه مع صائب سلام فقال: "وصلتُ الى القصر الجمهوري وكنت عاقداً كرافات، وكان سلام في زي رياضي فبادرني بالقول: انت تُفقدنا صوابنا وتدوخنا، تارة تكون بكرافات وتارة من دونها. وفي مستهل الاجتماع اراد سلام ان اجلس على رأس طاولة الاجتماعات فرفضت فقال لي: انت الان رئيس الجمهورية، اجبته: انا حتى الان بشير. تأثر سلام بمبادرتي فقال لي: واحد يدعى كميل (شمعون) وآخر يدعى بيار (الجميل) وثالث يدعى ريمون (اده)، وحدك تحمل اسماً عربياً".
أكمل بشير حديثه فقال :" اشار صائب سلام ان النظام اللبناني ليس نظاماً رئاسياً، ولكن المسلمين يشعرون بالغبن، فاجبته: جَهِزْ لائحة بكل المطالب التي ترونها ضرورية، وانا اتعهد ان اوقعها من دون اي تعديل، بالمقابل تعهدْ لي بالتقيد بقواعد السيادة الوطنية، وكل من يخالف هذا العهد سأنزل به عقاباً قاسياً".
اخبرنا بشير ان سلام عرض عليه وساطته مع جنبلاط، فأجابه: "انا سأدعم الارسلانيين الذين دعموني. فليترأس وليد المعارضة اذا شاء، اما انا فسأحكم بواسطة الاكثرية النيابية، وساحترم كل معارضة في اطار الدستور اللبناني". وفيما يختص بعقد معاهدة صلح مع اسرائيل قال بشير لسلام: "انا اتعهد بانسحاب السوريين والفلسطنيين، وسأطلب من رئيس الحكومة ان يتعهد بسحب الاسرائيليين. بيغين وشارون يطالبان بمعاهدة صلح لانسحاب جيشهم من لبنان، وعلى اللبنانيين وبخاصة السنة ان يقرروا الثمن الواجب دفعه لتحقيق هذا الانسحاب".وأكمل بشير حديثه مع سلام قائلاً له: "انا لست رجل اسرائيل، ولا رجل اية دولة اخرى، لست سوى رجل لبنان، واريده سيداً حراً مستقلاً في حدوده المعترف بها اي 10452كم". وختم بشير روايته عن اللقاء مع سلام فقال: "اهمية هذا اللقاء انه حصل. انها بداية حسنة ولن يقاطع صائب سلام جلسة تأديتي القسم الدستوري".
انتقل بشير الى تشكيل الحكومة فقال لنا: "اود ان اطلعكم على شيئ يعرفه زاهي، فقد اضطررت الى وعد النائب سليمان العلي بتعيينه رئيساً لاول حكومة في عهدي. هذا هو الوعد الوحيد الذي قطعته اثناء حملتي الرئاسية. اعذروني على قيامي بهذا العمل من دون التشاور معكم ولكن الوعد دين". ثم طلب من زاهي ان يحضر له بعض اسماء للحكومة، وانتقل للبحث في تشكيل فريق عمله فقال: "زاهي يبقى الى جانبي كمدير عام لرئاسة الجمهورية، جوني عبده سيكون المدير العام للامن العام مع صلاحيات واسعة بصفته مستشاري في شؤون الامن القومي، فادي افرام (هورس) مستشاري للشؤون العسكرية، انطوان بريدي (توتو) محافظ بيروت او جبل لبنان، نازار نجاريان (نازو) المسؤول عن خدمة العلم".
ختم بشير هذا الاجتماع بالقول: "الثورة الحقيقية تقوم على ايجاد البديل السياسي، فلا يمكن الحكم برجالات ما قبل 1975وصيغة 1943... يجب نشر روح التغيير في كل طبقات المجتمع وفي كل الطوائف.... يجب ان يكون الجيش مثالاً يحتذى بالنسبة للمؤسسات الاخرى. يجب ان تكون كوادر الادارة شابة ومؤمنة وكفؤة لكي نبني دولة قوية. لا اريد هذه الدولة التي لا تحمي احداً، ولا يعترف بها احد، ولا يحترمها احد. وفي اعتقادي ان الدولة القوية هي الدولة القادرة على الدفاع عن هوية لبنان المسيحية، وعلى ضمان المساواة بين جميع اللبنانيين، هذه هي الثورة الحقيقية، وبدون هذه الثورة لا تكون حرب لبنان افادت لبنان بشيء".
بعد اربع ساعات من الاجتماع قطعه بشير بالقول: "انا ذاهب لاتناول العشاء مع رفاقي القدامى في الجامعة. علينا ان ننهي خطاب القسم الذي بدأ سجعان قزي باعداده. موعدنا المقبل سيكون الثلاثاء"، ولكن في ذلك الثلاثاء 14ايلول 1982كان موعده مع الشهادة.
عشية ذلك اليوم المشؤوم اتصل بي جوني عبده وكان الى جانبه الرئيس سركيس ليسألني عن وضع بشير، فلم اقدر ان اقول له: "ان بشير استشهد"، فتمتمت عبارة "انتهى الامر". بادرني جوني بلهفة واضحة: "هل رأيت الجثة؟" اجبت: "نعم". سمعت الرئيس سركيس يلح قائلاً: "هل شاهدته هو بالذات؟". استجمعت قواي وقلت بلهجة لا تقبل الجدل: "انا في مستشفى اوتيل ديو، وجثة بشير امامي، ولم يعد لنا رئيس للجمهورية"، وبعد لحظات سمعت الرئيس سركيس يبكي فاقفلت الخط.
كلمة اخيرة اوجهها الى العزيز كمال ديب: أحي عملك الجبار، فانت اول من تجرأ على الكتابة عن كل رؤساء الاستقلال دفعة واحدة. وكان بودي لو عرفت شخصياً الياس سركيس لما كنت كتبت بانه ترك لبنان "باسوأ مما تسلمه"، ولكنت قدرت ان سركيس بصموده وحنكته حافظ على وحدة لبنان وصيغة التعايش فيه، وليتك عرفت بشير الجميل المقاوم والمحرر والشهيد، والذي تخطى المقاومة والتحرير والشهادة ليصبح رمزاً لا ينسى.
بيروت في 7آذار 2023
كريم بقرادوني
__________________________________________________
كلمةألأستاذ منير سلامة-ندوة كتاب - عهود رئاسية – للدكتور كمال ديب.
هذا النشيد الوطني هو للمواطنين المقهورين والصابرين والمثقفين المدافععين عن
عن بقعة الضؤ الوحيدة في هذا الليل الحالك السواد, أما نشيد الطغمة الحاكمة والفاسدة الى حد إلإجرام والمتحالفة مع المافيات المالية فيختلف في أول حرف من الكلمة الثانية في مطلعه ليصبخ ( كلنا عالوطن ).
أيها السيدات والسادة,
أمامنا عدة كتب في كتاب واحد وهذا ما يفسر حجمه بصفحاته التي تقارب الألف
(959 صفحة ). وقدبذل المؤلف جها كنيرا وملحوظا في تتنسيق فصوله وتوزيع مواضيعه على عناوين مختلفة تناولت مراحل متعددة , ليس من تاريخ لبنان فحسب, إنما من تاريخ بلدان شرق المتوسط التي كانت تخضع لسيطرة السلطنة العثمانية وسقطت بيد ألحلفاء ( الإتكليزوالفرنسيين ) وال\ين دخلوها في أيلول سنة 1918 .
هذا التوسع في عرض المراحـل " خارج عنوان الكتاب " جعل المؤلف يقع في الإجتزاء أحياناً أو الإسهاب أو التناقض في سرد أحداث أثرت على الداخل اللبناني في العهود الرئاسية بشكل مباشر أو غير مباشر.
كان بالإمكان التركيز على العهود الرئاسية موضوع الكتاب , وترك التوسع في تاريخ المنطقة في نهاية الدولة العثمانية ودخول الحلفاء والإتفاقيات التي عقدوها وتقسيم المنطقة , وتطرات القضية الفلسطينية وما رافق عمليات إستيطان اليهود ودعم الإنكليز لهم والثورات ضد الانتنتداب الى كتاب آخر تتوفر معلوماته في الكثير من المؤلفات والوثائق والمراسلات المنشورة .
أيها ألأصدقاء,
لن أناقش مواضيع الكتاب في هذه العجالة وإن كنت أوافقه الرأي في بعض مقارباته وأخالفه في البعض الآخر. وسأكتفي ببعض الملاحظات ( وإن كانت عديدة ) على بعض ماورد في الكتاب:
- في مقاربات الحدود وأحوال مناطق الأطراف سواء في الشمال أو الشرق أو الجنوب هناك دراسات معمقة ومدعمة بالوثائق والخرائط أبرزها للدكتور عصام خليفة ( حوالي 12 كتاباً ) عدا المقالات وأبزها في السنتين ألأخيرتين حول ترسيم الحدود البجرية وسواها من الحدود.,حبذا لوإستعان بها المؤلف .
- أما في أحوال أبناء ألأطراف فكان بإمكانه الإشارة الى دور الإقطاعيين في الإسهام بفقر الناس وإذلالهموبخاصة في عكار.
- وفي موضوع الهروب الى لبنان عبر الحدود الفالتة من جنسيات مختلفة ذكرها المؤلف لم يشر إلى أسباب هذا الهروب بإتجاه واحد...أو ليست الحرية السبب الرئيسي له بالإضافة إلى البحث عن لقمة العيش, هذا عدا عن الهروب السياسي للملاحقين في بلدانهم بسبب آرائهم المعارضة لإنظمة القهر والغلبة.
- كما لم يُشر المؤلف إلى الشعوب التي وجدت قي لبنان ملجأ لها من الإضطهاد العتماني وحملات الإبادة التي تعرضت لها كالأرمن والاشوريين والسريان والأكراد وغيرهم.
- في مسألة الهوية اللبنانية يقول المؤلف في توطئة الكتاب إن سكان الاطراف لم يشعروا بإنهم ينتمون إلى لبنان , إنما يشكلون إمتداداً للمناطق الحدودية المجاورة . ومع قيام دوتة لبنان الكبير يقول المؤلف " أن هؤلاء السكان يطالبون بالهوية اللبنانية , فهم لبنانيون منذ مئات السنين ."
أيها الاصدقاء ,
يشددالمؤرخون , في الكتابة التاريخية على الإبتعاد عن إسقاطات الحاضر على الماضي والعكس صحيح أيضا ً.بل يجب الأخذ بعين الاعتبار الظروف التاريخية وموازين القوى الدولية والإقليمية والتشكيلات العرقية والطائفية والمذهبية للسكان ومدى نجاح الدول التي تشكلت في صهر سكانها في إطار المواطنية والدولة والقانون وحقوق الإنسان ...
- ففي مسألة بروز دول المنطقة التي أفرزتها مصالح الدول العظمى آنذاك في إتفاقية سايكس – بيكو وتعديلاتها فيما بعد , وقيام الجمهوري التركية مع مصطفى كمال , ظهر موضوع إنضمام بعض سكان المدن والمناطق الى هذه الدولة أو تلك , والتي كانت نتيجة تفكيك وإعادة تشكيل الولايات و ألاقضية والسناجق والألوية والمتصرفية والتي كانت تشكل التقسيم الاداري في عهد الدولة العثمانية. ومعظم هذه المطالبات كاتنت على أساس ديني وطائفي , ما خلا بعض المطالبات التي كانت على عقائدي وأبزها افكرة القومية العربية الحديثة سياسيا آنذاك.
ففي جنوب لبنان طالب أكثر من مئة قرية جنوبية إلى لبنان الكبير وليس الى فلسطين لأسباب إجتماعية وإقتصادية وأيضا مذهبية.
- في الكتابة إستخدم المؤلف أفعالاً وتعابير لا تعبر عن الحقيقة بمقدار ما تعكس تفكيراً محدداً متأثراً ببعض المراجع التي إستند إليها.فالموارنة لم يهاجروا من شمال جبل لبنان إلى جبل الشوف الدرزي إنما نزحوا جنوبا لسببين رئيسيين ألأول هو سياسة الأمراء المعنيين المتسامحة , والثاني للعمل الزراعي بخاصة وأنهم من المزارعين ألأكفاء مما ساهم بزيادة إعمار مناطق الجبل ولا ننسى المثل الدرزي الشهير " ألارض بلا نصارى خسارة".
- كما يعتبر المؤلف أن طائفتي المسلمين السنة والروم الأورثوذوكس هما الطائفتين الامبراطوريتين لقيمتهما الرفيعة لدى السلطنة العثمانية.
فإذا كان الإسلام هو دين الدولة العثمانية فمن الطبيعي أن تشعر الطائفة السنية بالفراغ بعد إنهيار الدولة العثمانية فراحت تفتش عن الإنضمام الى الغالبية السنية في المنطقة تحت شعار القومية العربية بخلفيته الدينية.
أما الطائفة الأورثوذكسية التي كانت تشكل الأكثرية الساحقة في بلاد الشام في العهد البيزطي, فقد تراجع عديدها وبخاصة في العهدين المملوكي والعثماني وتحولت قرى وأحياء مسيحية عديدة إلى الإسلام نتيجة الاضطهاد والتمييز الديني وللحفاظ على مصالحها الإقتصادية .
وليس صحيحا بالمطلق أنها" لم تعاني سيكولوجية الإضطهاد التي دفعت غيرها الى المرتفعات ."وهو يورد فيما بعد أن عدداً كبيراً من العائلات البيروتية (منها بسول وطراد وصباغ وفرعون وتابت وغيرها) وقعت عرائض قدمتها إلى الحكومة الفرنسية لمساعدة إنجاز هدف تكبير لبنان وضم بيروت اليه .
- في موضوع الموارنة:مطالبتهم بتوسيع المتصرفية وإقامة دولة لبنان الكبير ليست تهمة كما يراها البعض, ويتغير هذا البعض وفقا لتغير نفوذ الأنظمة في الإقليم على الصعد المذهبية والسياسية...
فالهم الاول واللأخير للموارنة هو العيش بحرية بعد قرونٍ من الأضطهاد , وممارسة حقوقهم الدينية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية, وهم في مطالبتهم لم يخدموا أنفسهم فقط بل كانت هذه الأفكار ملاذاً لكل المضطهدين في أنحاء السلطنة العثمانية وللمهمشين من الطوائف الإسلامية غير السنية.فمتى كان لهم هيكلية مذهبية خاصة بهم غيدولة بني عثمان. فعاشوا كما الموارنة في الجبال وتحملوا مثلهم المشقات للمحافظة على معتقداتم.ولا ننسى دور الأمراء الدروز في تعزيز فكرة الإستقلال وفي مقدمتهم الأمير فخر الدين الثاني.
إت تحميل الموارنة مسؤولية ما حصل في لبنان منذ الإستقلال وحتى يومنا هذا صحيح في جزء منه وهو المتعلق ببعض الزعامات الإقطاعية والمليشوية وتناحرها وتقاتلها في سبيل الوصول الى كرسي الرئاسة ولو على حساب الكرامة الشخصية والوطنية, وهم يستمرون في هذا للأسف مدعوم كل منها من الإقطاع القديم والجديد والفكر الميليشوي في المكونات الأخرى المتعددة الإرتباطات والولاءات.
هذا كله في الخاص من الملاحظات حول ما تضمنه الكتاب.
- أما في القسم الثاني من أحداث توالت منذ سنة 1975 وحتى سود الأيام التي نعيش والتي نشهد قيها تفكك الدولة اللبنانية وتحلل مؤسساتها والتدمير الممنهج لكل أسسها, ولقواعد إزدهارها وأسبابه على مختلف الصعدان فلن أدخل في التفاصيل تاركاً المجال للسياسي والمحلل والخبير الاستاذ كريم بقرادوني,ولكن حسبي أن أشير إلى جملة عناوين وردت في الكتاب في شرح المؤلف منذ إنلاع الحرب في لبنان سنة 1975:
- إنفجار الحرب بين الفلسطينيين وحلفائهم اللبنانيين من جهة وبخاصة الحركة الوطنية التي أعتبر زعماؤها أن الفلسطيين هم"رافعتهم الثورية",وبين الأحزاب المسيحيةالتي دافعت عن مناطقها .
- التمويل الخارجي للأطراف المتحاربة.
-التدمير والنهب المنظم للثروات الإقتصادية اللبنانية ( الأسواق التجارية –سرقة المصارف – نهب المرفأ ....الخ )
- التطهير الطائفي وتقليص الإختلاط وإقامة الكانتونات .
- دخول الجيش السوري الى لبنان سنة 1976 وتطورات الأحداث.
- الغزو الاسرائيلي للبنان سنة 1982 وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان ووضع اليد السورية على معظم لبنان وإقامة الشريط العازل في الجنوب.
التدهور المالي والأقتصادي في لبنان في عهد أمين الجميل (إنسحاب المال الفلسطيني مع منظمة التحرير – إنهيار الليرة اللبنانية – بنك الشرق "روجيه تمرز "- أزمة المصارف – وضع الاحتياطي في مصرف لبنان ...الخ )
- الانفلات الأمني وصراع بين الميليشيات وفي داخلها والدور السوري .
- نهاية عهد أمين الجميل وتسلم ميشال عون الحكومة الإنتقالية .حربا التحرير والإلغاء ونتائجهما الكارثية. وخروجه الى المنفى في فرنسا.
-إتفاق الطائف وأنتخاب رينيه معوض وأغتياله. ثم إنتخاب الياس الهراوي والتمديد له ثم أميل لحود والتمديد له.
- حقبة رفيق الحريري وما رافقها وتحول الموقف السني الى لبنان أولا.وإعادة الإعمار والإنفاق المسرف وتفشي الفساد وقونننته.
- إغتيال الرئيس رفيق الحريري وتداعياته وإنقسام اللبنانين بين 8 و 14 آذار والإنسحاب السوري.
- حرب تموز 2006 ونتائجها, وتاظم قوة حزب الله ودوره.
- غزو بيروت سنة 2008 وإنعكاساته السلبية على المجتمع اللبناني.
- إتفاق الدوحة وإنتخاب قائد الجيش ميشال سليمان رئيسا.
- الحرب في سوريا وتأثيرها على لبنان.
- الفراغ الرئاسي لإكثر من سنتين وإنتخاب الرئيس ميشال عون .
- الإنتفاضة 17 تشرين الأول 2019 والإنهيار الكبير.
أيها الأصدقاء ,
تجدون هذه العناوين وغيرها مفصلة في الكتاب, قد توافقون الكاتب رأيه في بعضها وتخالفونه في البعص الآخر.
ولكن مما لا شك فيه أن الكاتب صرف وقتا ثمينا وبذل جهدا كبيرا لجمع كل هذه المعلومات بين ضفتي هذا الكتاب , ومهما كانت االتعليقات أو الانتقادات التي يتعرض لها, أوأو النواقص أو التناقضات التي وردت في بعض الصفحات فإنها لا تنتقص أأبدا من قيمته الكبيرة.مع شكرنا وتقديرنا للدكتور كمال ديب على هذا الكتاب الذي يغني المكتبة اللبنانية والعربية.
أخيراً وليس آخراً أيها السادة,
منذ سنة 1975 يمّر لبنان في أزمة كيانية نشهد حاليا أخطر مراحها.فبعد ما يسمّى إنتهاء الحرب سنة 1990 إنضمّ زعماء الميليشيات والقادة الجدد إلى طبقة الحكام التقليديين وإلاقطاعيين إلى جانب أصحاب المصارف والثروات غير المعروفة مصادرها.وتعممّ الفساد وتقونن وراح زعماء القبائل الاسياسية والمذهبية يمعنون تهشاً في جسم الوطن ويقضون على ما تراكم من ثروات فيه منذ قرن ونيف, يحيميهم سلاح غير شرعي مهما تعددت التوصيفات.
ويزداد الشرخ والتباعد في المجتمعات اللبنانية ويزداد تفككك مؤسسات الدولة وتفتتها ومنها مؤسسات المحاسبة, وينهار القضاء بخاصة بعد تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020 وهو تفجير العصر, وقد وعدنا رئيس الجمهورية السابق بكشف الاسباب وعرفة الحقيقة بعد خمسة أيام فقط,وها نحن بعد سنتين وسبعة أشهر نجد أن التفتيش دخل في المجهول المعلوم جزئياً ولا أمل الآن في معرفة الحقيقة بسبب تدّخل ألأطراف الاكثر نفوذا وتهديدها للقضاء.
كما نسمع كثيرا عن الحوار لإيجاد حلولٍ, فكيف لهكذا حوارٍ أن يتمّ حين يقول أحدهم بأن الله كلّفه وفيما يعتبر آخر أن الآخر المختلف هو عدو.كما ينعت بالعمالة ويحلّل دمه كل من دافع عن لبنان المستقل والسيد والحيادي إلا عن القضايا العربية وفي طليعتها قضية فلسطين.
-كيف لوطنٍ أن يقوم وقسم كبير من مكوناته لا يؤمن به ويعمل لصالح الغير ويأتمر بأوامره.هذا الغير الذي يعيش أوهام الامبراطوريات البائدة,.
كيف لدولة أن تقوم ومجموعات لا تؤمن بمفهوم الدولة وسيادة القانون .وتعتبر أن إنتفاضة 17 أيار 2019 عملاً دبّرته أجندات خارجية.
كيف لدولةٍ أن تقوم والتعليم بمدارسه رسمية وخاصة , وجامعته الوطنية وجامعاته الخاصة و مهددٌ بالتوقف فإذا كان انتشار الجهت هدفهم فقد بدأوا ينجحون مما يسهّل عليهم عملية غسل الأدمغة.
لقد دمرّت مافيات السلطة كل القطاعات التي كانت مفخرةً للعرب وللشرق(مدارس وجامعات ومستسفيات ومصارف وصناعة باستثناء الكابتاغون , وسياحة ....
ولعل أخطر ما يخطط له هؤلاء الحكام هو مسح ودائع اللبنانيين في المصارف بشحطة قلم وهو تراكم جنى العمر والإزدهار.
سيداتي , سادتي,
أرعة شروطٍ تعيد بعضاً من الأمل بإمكانية عودة لبنان كوطنٍ ومساحة للحرية وواحة للإزدهار وهي :
- لا سلاح خارج المؤسسات العسكرية وألأمنية الرسمية
- محاسبة المسؤولين عن سرقة المال العام وأموال المودعين وإدخالهم إلى السجون ( كائناً من كان)وتطبيق قوانين الاثراء غير المشروع ومن أين لك هذا.
إحترام العقد الاجتماعي وتطوير النظام القائم بإتجاه العلمنة الشاملة للدولة وفرض سيادة القانون.
- تعزيز الديمقراطية والمواطنة عبر نظام إنتخابي يوصل أصحاب الكفاءة والوطنية.
وآخراً جميل أن نحلم هروباً من اليأس وألاحباط. وتكن أخاف أن يكون ما قاله الشاعر محمد الماغوط صحيحاً وهو كذلك. يقول " إن تحرير العقل العربي أصعب من تحرير فلسطين, فأنا مثل السجين الذي ظلّ عشرين عاماَ يحفر نفقاً في زنزانته , ثم أكتشف أن النفق الذي حفره يؤدي إلى زنزانة أخرى."
+++ قبل أن أعطي الكلام لسيدٍ من سادته , فلنستمع معاً إلى تحية ٍ من أحد كبار الإعلاميين المصريين عادل النادي غلى دولة لبنان .