تكريم الدكتور ربيعة أبي فاضل
برنامج تكريم الدكتور ربيعة أبي فاضل
ـ النشيد الوطني اللبناني
ـ كلمة إدارة الجلسة: اسمهان عيد الياس
ـ تقديم د. ربيعة أبي فاضل: الدكتور جورج شبلي والاستاذ سليمان بختي
ـ شهادات:
ـ د. ليلي داغر
ـ د. هدى رزق حنّا
ـ د. نجم أبي فاضل
ـ د. ربى سابا حبيب
ـ الشاعر أدهم دمشقي
ـ كلمة المكرّم: الدكتور ربيعة أبي فاضل
ـ الدرع التكريميّ
ـ الختام
ـ نبدأ بالنشيد الوطنيّ اللبنانيّ
ـ أهلاً وسهلاً بكم أكاديمييِّن وأصدقاء
قد يكونُ التكريمُ في هذهِ الظروفِ الصعبةِ ضربًا من المُحالِ، لكنّ المُحالَ يصبحُ واقعاً عندما نكرّمُ شخصيّةً مبدعةً، تألقَتْ في الأدبِ والشعرِ والنقدِ والصِحافةِ، وانصهرَتْ بالنورِ والنارِ، وتاقَتْ الى الذّاتِ الإلهيّةِ كما النسّاكُ والمتصوفون، قالَ: "أنتَ الأنا، أنت الهُوَ، نحنُ الكيان"... ربّي، تَعبتُ منِ انتظارْ، لا اللّيلُ يُشعلُني ولا وَهْجُ النهارْ، صَمْتي يَتوقُ الى حِوارْ، وصقيعُ روحي ناهدٌ نحو المزارْ، فمتى يُواكِبُني، مَدى الأسفارِ، جارْ؟.
أستاذٌ جامعيٌّ، في رصيدِهِ سِتونَ كتاباً في القصّةِ والنقدِ الأدبيِّ والشِعرِ الصوفيِّ، عدا المخطوطات. قلقُ الكتابةِ أوجَعَهُ، أَقضَّ مضجَعَهُ، فشَنَّ حرباً شعواءَ على الحضارةِ الماديّةِ التي لا تعرفُ الإنسانيةَ، ولا القيمَ الأخلاقيةَ ولا الحبَ. قالَ: "الحضارةُ لا ترحَمُ! فقد أعمَتْ قلوبًا، وأبعدتِ الأرواحَ عن طُمأنينتِها، وجعلَتِ الناسَ يلهثونَ وراءَ القروشِ، يُصارعونَ ويكُدُّونَ ولا يَصِلون!...".
واجَهالمادةَ بالروحِ، فألتجأ الى التراثِ يُحييّهِ فيحيّا بهِ ويُوقِظُ مُعاصريه بعدَ تَغَرُّبٍ، فالتراثُ ليسَ خبراً بل وجودٌ ومستقبلٌ. أَوَلَمْ يَقُلْ رئيف خوري: "إنَّ النّظَرَ إلى الوراءِ هو جزءٌ مِنَ النَّظرِالى الأمام"؟
تغنَّى بالحريّةِ، فوصَفَهَا بالحلوةِ والمعلمةِ التي تنوعُ المواهبَ، وتخلقُ الألهةَ.
قَدَّسَ الأرضِ، إذ قالَ: "يا أرضَ أهلي، ليتقدَّسِ اسمُكِ!. كأنَّكِ المَدخلُ الى جنةِ اللهِ... كأنَّك الحُبُّ الذي لا يَعرِفُ الفَقرَ، والدّربُ التي لا تنحني".
أوَليسَ هو مَنْ قال: "مَنْ ليسَ تحتَ قدميّهِ أرضٌ، ليسَ فوقَ رأسِهِ سماءٌ؟
نبَّهَ الى خطرِ زوالِ حضارةِ القريةِ والتراثِ، شأنُه شأنُ أنيس فريحة، في كتابِه القَيِّم: "حضارةٌ في طريقِ الزَّوال"، قالَ:"كلّ شعبٍ تخلّى عن تراثِهِ: دينًا، وثقافةً، وحضارَةً، وحياةً، انقرضَ وزالَ".
تألّمَ لِما صارَ عليه واقعُ لبنانَ، لكنّه مؤمنٌ، بأنَّ هناك خلاصًا! كيف؟ "يجبُ أنْ نواجهَ العالمَ، بتاريخِنا، وحضارتِنا، وتراثِنا، بتماسكِنا وتعاونِنا".
إنّهُ "التراثُ الحيُّ المُحيِيُّ، تراثُ الرُّوحِ والأخلاقِ والمحبةِ، هو المنقذُ، لأنَّهُ مدرسةٌ للوفاءِ، والإخلاصِ، واحتضانِ الأرضِ والإيمانِ بالله. فهلْ نحنُ أوفياءٌ؟.
القارئُ مع ربيعة ابي فاضل: حالمٌ، فرحٌ، مسالمٌ، لكنّه ثائرٌ. يتنزَهُ في الطبيعةِ ـ الأمِ، يتنشقُ عِطرَها، يعيشُ الأصالةَ والرجاءَ، ويشكرُ اللهَ، ولكنّهُ ينتفضُ على الواقعِ المريرِ. فهل نعودُ الى الجذورِ لنحيّا في النور؟
قالَ عنه الشَّاعرُ "رياض المعلوف": شاعرُنا الجديدُ القديرُ... المبدعُ ربيعة أبي فاضل ... غمسَ قلمَهُ بمحبرةِ البحرِ الأزرقِ!. فكانَ جديدًا وبعيدًا.. في تخيلاتِه!.. الروحانيةِ المتصوِّفةِ!.
وقد صدَقَتْ الشَّاعرةُ "ربى سابا حبيب"،عندما قالتْ: إنّ ربيعة أبي فاضل، "شاعرُ اللهِ"... "فارسُ المكاشفةِ".
أما الدكتور رميلي رميلي فقال:"الدكتور ربيعة أبي فاضل شاعرٌ وأكاديميٌّ تحدوهُ الروحُ على آفاقٍ واسعةٍ... هو أحدُ أكثرِ الشعراءِ صوفيّةً وهُيامًا بالربِّ. وهذه ظاهرةٌ تستحقُ التوقفَ عندَها.
نشاطُهُ ليسَ كتابيًّا فحسب بل هو حقلُ حوارٍ مُباشرٍ وغيرِ مُباشرٍ مع طلابِ لبنانَ، لأنَّ كتُبَهُ تُدرّسُ في المدارسِ والجامعاتِ، صَاحِبُ رِسالةٍ، نالَ دروعًا تكريميةً تجَاوزَتِ الأثنتَي عشرةَ درعًا، من معاهدَ لبنانَ وكلياتِه.
ربيعة أبي فاضل نتكرّمُ بتكريمِكَ، ونَعرفُ أنّكَ مُستحقٌ جائزةَ "الأديبِ جان سالمة للمُبدعينَ، عَنْ العامِ 2023، في جامعةِ الشرقِ الأوسطِ، والتَّكريمَ في منتدى الكورة الثقافي، في البيال. وتكريمُكَ، اليومَ، في الحركةِ الثقافيّةِ ـ أنطلياس، علمًا من أعلامِ الثقافةِ في لبنانَ، هو ثمرةُ سَهَرِكَ وإبداعِكَ. دمْتَ في التألقِ الأدبيِّ والإبداعِ الفكريِّ.
والآنَ، أتركُ الكلامَ للدكتور جورج شبلي، في جولةٍ حولَ نتاجِ المُكرَّمِ الأدبيِّ، ومع الأستاذ سليمان بختي، في قراءةٍ مَوضُوعُها، "ربيعة أبي فاضل ناقداً".
ـ نبداُ مع الدُّكتور جورج شبلي:
الدكتور جورج شبلي: حائزٌ على دكتوراه في اللغةِ العربيَّةِ وآدابِها، مديرٌ سابقٌ لثانويةِ الحدثِ الرسميّةِ، مشاركٌ في مؤتمراتٍ دوليّةٍ في التربيّةِ والفكرِ الاستراتيجي، عضوٌ في رابطةِ الكتّابِ حولَ العالمِ، حائزٌ على جوائزَ دوليّةٍ، له دراساتٌ وأبحاثٌ ومؤلفاتٌ، منها: "مبدعون من لبنان" و"الوطن في الحقيقة". لَهُ الكلمةُ...
الاستاذ سليمان بختي:
كاتبٌ، وناشرٌ، ومترجمٌ، وصحافيٌّ. حائزٌ على إجازةٍ في العلومِ السيَّاسيَّةِ والإداريَّةِ. مديرُ دارِ نلسن للنشرِ، مشاركٌ في مؤتمراتٍ علميّةٍ في لبنانَ والخارجِ، لَهُ مؤلفاتٌ، منها: إشاراتُ النَّصِّ والإبداع". لَهُ الكلمة.
ـ شهادات في المكرّم:
ـ د. ليلي داغر: أستاذةُ الألسنيّةِ، في الجامعةِ اللبنانيّةِ، سابقاً. لها عدد من المقالات في مجال إختصاصها، كما في نقد الأعمال الأدبيّة في اللغتين الفرنسيّة والعربيّة.
ـ الدكتورة هدى رزق حنّا: أستاذةُ الأدبِ الفرنسيِّ والمقارنِ في الجامعةِ اللبنانيّةِ، سابقا. لها كتابان: “Petites clefs pour grandes oeuvres en 2010” et “des romans et des causes en 2021”.
ـ د. نجم أبي فاضل: أستاذُ الفلسفةِ في الجامعةِ اللبنانيّةِ. متخصص في فلسفة اللغة والتأويل، صدر له حديثاً "ما التأويل".
ـ الشَّاعرة، رُبى سابا حبيب، دكتورة في الأدب المقارن، والشعر الحديث، في الجامعة اللبنانيّة، وفي جامعة ليون ـ فرنسا، شاعرة الغربة والمنفى ثم العودة. أهمُ ألقابِها "شاعرةُ الضفتين". تفضلي.
ـ الشَّاعر أدهم الدمشقي: شاعرٌ، مسرحيٌّ، وفنان تشكيليٌّ. له خمسة كتب شعريّة وسرديّة مترجمة الى الألمانيّة والأرمنيّة والإنكليزيّة والفرنسيّة.
إنَّ مُحبي الدكتور ربيعة أبي فاضل، كثرٌ، فقد وصلتني رسالةً موجزةً، من أميركا، بتوقيع ميشال حنا مخول، قال فيها: "إنَّه تتلمذَ على يدِ د. ربيعة، وهو فخورٌ بذلك. وتوجَه بالشكر الى الحركة الثقافية، لكونها ساهَمَت في تكريمِ استاذه، وهو مُستحقٌ، لأنَّ أدَبَهُ يُمَثلُ قيَّمًا وطنيّةً مشرقيّةً، وأبعادًا إنسانيّةً عالميَّةً...
ـ من قصيدة "الغناء" للدكتور ربيعة أبي فاضل، أقتطف:
ـ "إقبلني حارسًا على بابِ فردوسِك، أحملُ الشّموعَ للآتينَ من غاباتِ الأرضِ، أغمرُهم بالبَخورِ العاشقِ، وأرسمُ على نبضاتِ قلوبِهم إشاراتِ الغبطة!".
مِسكُ الختام:
ـ كلمة المكرّم: د. ربيعة أبي فاضل، المنبرُ لك، تفضل.
ـ الدرعُ التكريميُّ: ندعوا حضرةَ الأمينِ العامِ الأستاذ جورج أبي صالح لتسليمِ الدرعِ للمكرّم...
ـ في الختامِ، نهنئُ الدكتور ربيعة أبي فاضل على هذا التكريمِ، ونتمنَى لَهُ دوامَ الصحةِ والإبداعِ الفكري، ونشكرُ كلَ الذين ساهموا في انجاحِ هذا الحفلِ، ونشكرُ حضورَكم.
عُشتُم، وعاشَتِ الحركةُ الثقافيّة ـ أنطلياس، وعاشَ لبنان.
د. اسمهان عيد الياس
في 5 ـ أذار ـ 2024
______________________________________________________
كلمة د. جورج شبلي في تكريم د. ربيعة أبي فاضل
ربيعة أبي فاضل عُضوُ مَجامعِ الاستحقاق بدون بطاقة.
بقلم : الدكتور جورج شبلي
ربيعة أبي فاضل هو ابنُ الحضارتَين، حضارةِ الصَّفوةِ التي كَشَفَها الضّميرُ البشريُّ، وقد نَمَت علاقةٌ بين الرَّجلِ وبينَها، فكان سلوكُهُ النّاهِضُ على المحبّةِ والتّلاقي أَدَلَّ من أيِّ ثَراء، وحضارةِ الكتابةِ في أحضانِ المعرفة، هذه التي اعتنقَها، واغتذى من لِبانِها، فرشحَتْ عنه كلماتٌ أَسعَدَها الحظُّ باستحقاقِ اسمِه.
مع ربيعة المُكَرَّمِ من الحركة الثقافية في أنطلياس، منارةِ الرقيِّ والكاشفةِ بحميّة أنّ في لبنان بعدُ قيمةً للفكر، لم يخطرْ ببالِنا أنّ الأدبَ سيعاني، بعدَ الكِبار، ضحالةَ تألّق، فأُخوّةُ الأدبِ التي عُرِفَت قبلَ ربيعة، في نادي الكِبار، مع توفيق يوسف عواد، وخليل حاوي، ومارون عبّود، ويوسف حبشي الأشقر، وفؤاد سليمان، وأدونيس، وميشال طراد، وسواهم، هذه الأخوّةُ صانَها ربيعة في صَوغِ اللفظِ والمعنى، ووصلَ الى مدارِ المؤثِّرينَ في الكتابةِ، من دونِ كتابِ توصية، وما صانَه عُدَّ من أنفسِ ما كُتِبَ بالعربيّة، لِذا، قد تمضي عقودٌ ولا يَحظى الأدبُ بربيعة آخر.
السرُّ في كَونِ ربيعة حالةً مؤثِّرة، أو قيمةً مضافة، أو كاتباً مُجيداً، يرجعُ الى حظِّ الموهبةِ في تحديدِ محطّتِها، في رَجلٍ يكادُ الهواءُ يسرقُهُ لُطفاً لاستقامتِهِ، كلامُهُ أَنِيقُ الجواهر، يستنبطُهُ من ينابيعِ صدرِهِ، ومعادنِ فِكرِه، فيقطرُ حُسناً تَرفعُ له الأسماعُ حُجُبَها. إنّ سرَّ امتطاءِ ربيعة شعاعَ القيمة، يكمنُ في أنّ الفكرَ يأتي أولاً، وبعدَه يأتي الورق، لذلك لم يرمِ باسمِ الفكرِ إلّا صائباً. إنّ التنوّعَ في تنظيمِ الثقافةِ الأدبيةِ والفكرية، في نتاجِ ربيعة، مُجيداً في الجَمعِ والتّصنيفِ، يَصلحُ لأن نُطلِقَ عليهِ عنواناً هو تلقيحُ العقول. فالسرُّ في إبداعاتِ ربيعة، يرجعُ الى قوّةِ شغفِهِ بمعالمِ الجَمال، والى تَعقّبِ البراعةِ مهنةً تليقُ به، والى الثّقةِ بالموهبةِ ابتغاءَ مَرضاةِ الأدبِ الزُّلال. لقد سلكَ ربيعة شِعابَ التّعبيرِ فتغلغل، وجالَ في ميادينِ التّصاويرِ فسَبَق، وأودعَ الشِّعرَ والفكرَ هيئاتِ الابتكار، فانتقلا، معه، من جنّةٍ الى جنّة.
لم يكنْ ربيعة من زمرةِ الأَتباع، ومن طلّابِ المغانمِ، ومن أربابِ الغايات، فما خطا لتحصيلِ مجد، ولا سعى الى مقامِ فخر، ولا حَرَصَ على علوِّ ذِكر. الموهبةُ التي لم يَعدْ ماؤُها، معه، طيناً، كانت بسطةَ رزقِهِ، وكذلك، جهازُهُ الفكريُّ المنتفِضُ من سكونٍ عظيمٍ الى دَويٍّ أعظم، لِذا، يجبُ تَوخّي الحذر، معه، عندما تقرأُهُ، لأنّكَ لا تَعلمُ من أيِّ جهةٍ تأتيكَ الدّهشة، أَمِن ضِفافِ المضامينِ الشيّقة، أم من التّعابيرِ القرميديّةِ الألوان، أم من رقيقِ الإحساسِ الذي يفيضُ بأرقِّ أنفاسِ الوجدان، أم من التّحليقِ في عوالمِ النُسكِ والتصوّراتِ الرّاقية، وبالنتيجة، لن تشعرَ، معه، إلّا بأنّكَ مخطوف.
في الشِّعر، قالَ ربيعة : الشِّعرُ إذا مالَ عن الجَمالِ أصابَه عَوَج، فالصّورةُ هي أصلُ القيمةِ فيه. وربيعة ملّاحٌ ذوّاقة، ينتقي من تَلاطمِ موجِ التّصاوير زَبَداً يَلفِتُ نظرَ الشّاطئ. والشِّعرُ كالمرآة، تنعكسُ فوقَ صفحتِها دنيواتُ النّفس، فلا تُقرَأُ أبداً بالعيون، بل بالعَدوى، فبقَدرِ ما يُشغَلُ الشِّعرُ بصيانةِ الصّدق، يُسرعُ لُصوقُه بالقلوب. والسرُّ أنّ ربيعة لم يكنْ في الشِّعرِ نحّاتاً، بقَدرِ ما كان شاعراً.
في مذاهبِ القَول، الفكرُ الخلّاقُ هو بيئةُ ربيعة الطبيعيّة، بحيثُ شكّلَ الفكرُ، عندَه، القاطرةَ التي عبَّدَت دربَ نتاجِهِ الى النّجاح. والفكرُ ثقافة، ففي الثقافة، لم يكن ربيعة مجرَّدَ قاطِنٍ في هيكلِها، أو مُستَلقٍ متفرِّجٍ على ضفّةِ بِركتِها، إنّما دَرَجَ فيها بمسيرةٍ متصاعدةٍ لم تُقِمْ وزناً لتأثيرِ الجاذبيّة.
ربيعة أبي فاضل، صاحبُ القلبِ الصّادق، ربَّتهُ أرضُ " نابيه " في حُجورِ الحروف، وأطلعَتهُ من أجلِ أن يكونَ جنسَ الأدباء، مُثبِتاً، في زمانِ الحداثة، أنّه ابنُ الجذورِ العميقة، العريقة، وابنُ النّور، ثمَّ تَحَوَّلَ، الآن، وهو الكائنُ النَّهريُّ عالي التطوّر، الى أبٍ من آباءِ الكلمةِ المعمَّدةِ بميرونِ الرّوحِ، والماءِ، والرّجاء. لِذا، لن يستطيعَ الزَّمنُ أن يُسقِطَهُ من حسابِ الزّمن.
_______________________________________
كلمة شكر من د. ربيعة أبي فاضل
الحركةُ الثّقافيَّة: مصابيحُ لا تُطفأ !
(كلمة شكر)
- أَنطلياس : مُعلِّمةُ الفنّ والكرامة:
- كثيرونَ تَغنّوا بأَنطلياس وحضورها في التَّاريخ، وبدورها الثَّقافي على شاطئ المتوسِّط. ففي كتابه: "أَوراقٌ مِنْ تاريخنا" (1988، ص 312-131)، تَحدَّث يوسف خطَّار الحلو عن: "عيد اللَّيمون"، عام 1945، قال: "مِنْ نُبلِ مُثقَّفي أَنطلياس غرَفنا، ومِن طيبِ أَرْيحيَّتِهم رشَفنا... ترفعُ أَنطلياسُ الحبيبةُ التُّراثَ عالياً، وتَحرِصُ على الأَصالةِ اللُّبنانيَّةِ العربيَّةِ الرّاسخةِ رسوخَ فَوَّارها، والسَّاميةِ سُموَّ أَشجارها".
- وفي مهرجان اللَّيمون نفسِه، تَكلَّمَ فريد أَبوفاضل، باسم "نادي أَنطلياس"، عام 1949، قال: "إنَّ أَنطلياس هي مَهدُ الحضارةِ والإِنسانيَّة، ومُعلِّمةُ الثّوراتِ مِن أَجل الكرامةِ والحرّيّة، ومُوحِّدةُ الكلمة ضدَّ الجَور والعبوديَّة... إنَّ عيدَ اللَّيمون هو عيدُ الأَديبِ والفنَّانِ، والموسيقيّ، والعامِل، وعيدُ لبنانَ، ومَواهبه، ومَهاراتِه" (راجع كتاب "أُراقب وأَكتب، 2021، ص 62).
- وحولَ جِواءِ أَنطلياسَ الثّقافيَّةِ، والإِبداعيَّةِ، تَضمَّنَ كتابُ الأَباتي أَنطوان راجح: "دير مار الياس – أَنطلياس" (2018، ص 233-234) شهادةً لعاصي الرّحباني حولَ معلّمه الموسيقيّ العبقريّ، الرّاهب الأَنطوني بولس الأَشقر، ومنها: "يومَ مَرَّ بونا بولس في ضَيعتنا أَنطِلياس، نَدَهَنا مِنْ طفولتنا التّائهة، وعلَّمنا الموسيقى، وكُنّا، يومذاكَ، نجهلُ ما الموسيقى. أَخبرنا عَنِ الفَنّ، ما كُنَّا نجهلُه، وَلَقّننا الدّخولَ إِلى أَوديةِ النّفس، والأَماكنِ العميقةِ في الضَّمير. عَلَّمنا النُّوطةَ، والنَّظريّاتِ الموسيقيَّةَ، والأَلحانَ الشرقيَّةَ، ومع هذه جميعها، علَّمنا السَّهرَ على الكلمة، واللَّحنِ، وأَشارَ إِلى أَنّنا أَمامَ أَبوابِ الفنّ نبقى تلاميذ، وأنّ الفرحة الكُبرى هي فرحةُ الإِنسان بولادةِ الجمال".
- نَفَحاتٌ عَقلانيَّة:
وأَنتُم، في الحركةِ الثَّقافيَّة، مع المؤَسِّسِينَ، الأُصلاءِ، والنَّاشطين السَّابقين، تُجدِّدونَ قيمَ التَّواصلِ، معَ الكثيرِ مِنَ الإصرارِ، والعزيمةِ، والتّحرُّر بصلابةٍ، من كلّ هوىً أَو هوسٍ أَو خِطابٍ لا يخدم وحدةَ الوطن، وسعادةَ شعبِهِ. إِنَّكم تَتَحدَّون بقوَّةِ الكلمةِ، مُتَّحدينَ، كلَّ ظاهرةٍ طائفيَّة، أَو كلَّ حركةٍ تُعرِّضُ البلادَ، والعبادَ، لهَزَّاتِ التَّزمُّتِ، والتَّفتُّت، والتّغرُّب. لذلكَ، لن يُشوَّهَ وَجْهُ القمر، مَهما تكثَّفتِ الغيومُ السُّودُ، من حَولِهِ!
أَقولُ هذا، وأَنظرُ نظرةَ قَدْرٍ، واحترام، إِلى بادرتكم الطَّيبة، وحِسباني من رموز الثَّقافة، في لبنان. ولا أُبالغُ في حالِ كشَفتُ أَنَّ بَينَكُم نَماذجَ من مثقَّفينَ، وَمُثقَّفاتٍ، عايشتُهم في كلّيَّةِ التَّربية، وفي الجامعة اللُّبنانيَّة، وفي بَساتينِ الصِّحافة، وفضاءاتِ الكتابة، ومِن بَينهم مِثالٌ لي، في الفكرِ، ومَيدانِ النّضال، وعشقِ الأَرضِ، والدَّأب على الكتابة، وخدمةِ الحقيقةِ، والعدالة. صديقي الذي لم يَتركْ نابيه، وهي تُكرِّمُ ابنَها، بعدَ مئة عامٍ على ولادته، الأَديب رئيف خوري. د. عصام خليفة. قبلَ المؤرّخ أَنتَ هو الإِنسان المُرتجى، في أَشواقِ الأَرض، وما فوقَها من طبقات، عِصاميٌّ لا يتعبُ، وأَبيٌّ لا يَنحني، ومؤمنٌ لا يَعرفُه يَأْسٌ، ووَفيٌّ، نَقيٌّ، عندما يقتنعُ بصفاءِ مياهِ النَّبع، وعُمقه!
أَنتمْ جميعُكُم، في الحركة، مَصابيحُ لا تُطفَأ، كُلَّما أَشرقتْ شَمسٌ يَتجدَّدُ زَيتُكم، لأَنَّ الحياةَ في لبنانَ والمُحيط، تحتاجُ إِلى أَمثالِكُم، كي يَحولَ وَعيُكُم دونَ هَيمنةِ الجهلِ، والأَساطيرِ، والكِبْرِ الفارغِ الموروث، على مُستَقبلِ أَجيالٍ لم يبقَ منها في حِضن الأَرض الأُمّ سوى عددٍ قليل، والباقون رحلوا بَحثاً عن سَلام، وأَمانٍ، وسَنابلِ قَمحٍ لم يُشوِّهْ طُهرَها تُجَّارٌ فاسدونَ، أَو فُجَّارٌ ناهبون!
لَكُمْ، منَ الأَمينِ العام المُحترَم، إِلى كلِّ فِكرٍ فيكم، مُنتهى مَودَّتي، وعرفاني.
- ندىً على الزَّهر!
والقلبُ يشكرُ لجميع المُشاركينَ في النَّدوة، حولَ كُتبي، لُطفَهم، وكَرمَهُم، وَمحبَّتَهم، ولجميعِ المُشاركاتِ شغَفهُنّ بالمعرفةِ، وحِرصَهُنَّ على إِنجاح اللِّقاء، وإِتقانِ الْعَملِ بروحِ المسؤوليَّةِ الرَّاقية. شكراً د. أَسمهان عيد، د. ليلي داغر، د. هدى رزق (وهي شاركت في تكريمي سابقاً، في جامعة الشَّرق الأَوسط – السَّبتيّة، لاحظوا أنّ صبرَها عميق)، شكراً د. عصام خليفة، د. جورج شبلي، صديقي منذ 1960، في المعهد الأَنطوني، الفنَّان أَدهم الدِّمشقي، الشّاعر المختلف عَمَّن سبَقَه أَو عَنِ الآتين بَعدَه. واسمحوا لي، في هذا السِّياق، أَن أَشكرَ لَجنةَ الكاتب جان سالمه، وقد خصَّتني بجائزتها عام 2023، والشُّكرُ العميق للمُهندسة ميراي شحاده، رئيسةِ مُنتَدى الكورة الثَّقافي، وقد أَسَّسَهُ والدُها الأَديب عبدالله شحاده. فهي أَقامتْ نَدوةً حولَ أَدبي، في "البيال"، وقدَّمتْ لي دِرعاً عزيزةً، وشاءَت أَن تطبعَ سيرةً لراهبةٍ، تَرجمتُها عن الفرنسيَّة. ولا بُدَّ من شكر د. جورج شبلي، والصِّحافي الرّاقي جورج طرابلسي، والدّكتورة نورا مرعي التي أَتَت من صيدا خِصِّيصاً. وأَتوقَّفُ شاكراً الصَّديق سليمان بختي، مُديرَ دار نلسن، من أَعماق الرُّوح، فهو، سَواءٌ في حقل "المورال" أَو "الإِتيك"، إنسانٌ ابنُ الله، لا يَصنعُ إِلَّا الجميلَ، ولا يَشغَلُه إِلَّا الخير. كان في "البيال"، وكُنَّا معاً، في "النَّهار"، والبارحةَ في تكريم نعيمه، وهو قدَّمَ لي طباعةَ سيرتي الرّوائيَّة: "طائرُ الرّفراف"، من دونِ مُقابل. والشّكرُ للصَّديق عبده لبكي الذي شاركَ في تكريمي، وَسْطَ لجنةِ جان سالمه، وَقَدَّمَ أَيضاً، طباعة: "انظر يا سمير"، وهو آخرُ مَخطوطٍ كتبتُه إِلى حَفيدي.
- كي تدومَ النِّعَم
والشُّكرُ يُسعدني، للصَّديق خليل مفرِّج الذي قدَّمَ لي لوحةً بهيَّةً، مُباركةً، مُعمَّدةً بلونِ عينَيه، وَروحِه، وللعزيز الطَّبيب الفنَّان جوزف أَبو جودة، الذي اتَّصلَ من أُوروبا (يُمارسُ مهنةً الطّبّ بين بلجيكا، وفرنسا، وإِيطاليا)، وكان رفيقي في إِحدى المدارس عام 1964، وأَبدى رغبةً في تقديم لوحة نَسجتْها أَصابعُهُ العاشقةُ، وإِلهاماتُهُ الخِصبة. ولا بُدَّ من شكرٍ عميقٍ للعزيزة المديرة ڤيرناليزا فريحه التي حَضرتِ التَّكريمَين في السَّبتيِّة، وأَنطلياس، وأَدَّت لي، بحضورها، خَدماتٍ لا تُنسى! ولا بُدَّ من شكر أَهلي في نابيه، والمختار فؤاد راجح، وعائلة الأَديب الحَي رئيف خوري، والرِّجالِ الأَحبَّاء النّابويّين، الذين أَحاطوني بحماستهم، وبنُبلهم. وإِنّي أَخُصُّ بالتَّعاطف، والوَفاء، كلَّ الذين اتّصلوا، من خارج لبنانَ، ومن داخل، وعَبَّروا عن إِعجابهم بالفنون، وتَذوّقها، في عصر الذَّكاء الاصطناعي، وتَشويه القيم الإِنسانيَّة، والرّوحيَّة. كما تركتْ في نفسي، أَثراً لا يُمحى، النّصوصُ المكتوبةُ بحِبر القلب، بخاصَّةٍ من قِبَل زُملاء لي، بَينهم د. رميلي، ود. جوزف الجميل وآخرون.
- مِنْ صربا إِلى حدتون!
وإِنّي أَقفُ مع شعورٍ بالامتنان أَمامَ العزيز الفنَّان أَسعد خوري، الذي رافقَنا ثلاثَ سنوات خلالَ تكريمنا رئيف خوري، وكانَ طليعةَ المشاركينَ العزيز الأُستاذ رياض خوري، رحمه الله، وكانت عينا أَسعد تلتقطان الجمال، في كلّ الأَحوال، منَ الصّخور التي تَلينُ تحتَ يَدَي الفنّان شربل فارس، في صربا – الجنوب، إِلى الأَشجار التي تَفرحُ بظلالها حولَ بيت د. عصام خليفة، في حدتون، إلى مجلس الجنوب للثّقافة، حيثُ الحبيب، حبيب صادق، إِلى الأُونسكو، إِلى الحركة الثّقافيَّة – في أَنطلياس، إِلى نابيه، وحَديقةِ رئيف خوري، وتمثالِه النِّصفي، السَّاهر فوقَ قِمَّة تشرفُ على بيروتَ، والمتوسِّط، إِلى جامعة الشَّرق الأَوسط، وكلُّ هذا الجُهد من دون قرشٍ واحد!
- تَرَقٍّ لا يتعب
ولن أَنسى، حتماً، أَديب سيف الذي أَصدَرَ كُتيّباً نقديّاً فريداً حولَ المكانِ وأَبعادِه، في ديواني: "عطشان يحنو على اليَنبوع"، والد. نتالي خوري التي لم تكتفِ بإِصدار كتاب عن المقامات الصُّوفيَّة، في شعري، بل قدَّمت لي، في ظلّ التّكريمات المُتلاحقة، أَعداداً مُذهلةً منَ الكتاب، لإِهدائها، وهذا ما فَعَلَه سليمان بختي، بشأن كتابي: "وحدها الحكمة". والدكتورة نتالي، كما عرفتها تُسَخّرُ كلَّ طاقاتِ العالمِ المادِّيَّة لخدمة الكلمة، في حقلِها الأَكاديمي، وفي فضائِها الإِبداعيّ، وفي هذا التَّرقّي الفكريّ اليوميّ، يَتمُّ في ظلّهِ، تَراسلٌ حميم بين البيانِ، والأَلوانِ، والأَلحانِ، والتّخييل، والتفلسف، وتكادُ تظنّ أَنّ شيئاً غريباً يَحدث، وَمُغامرةً وجوديَّةً تَتَنامى... لكنّ الذي يُطلقُه الفنّ تضبطُه الفلسفة، في عمليَّة توازن مدهشة.
وفي ما يَكتبُ النَّسيبُ العزيز د. نجم أبو فاضل، في مَقام الفلسفة، أَو الفكر السّياسي، وفي ما يُترجمُ من كتب غربيَّة حديثة وصعبة، وفي طاقته الغزيرة على التّأويل، أَرى عقلاً متنوّراً يَبني شاهقَتَه حجراً حجراً، بعد أَن عمّق أَساساتها، ولا غرابةَ فناصيف نصَّار ينتظرُ مَن يُكملُ مَسيرتَه، وهو الأَقربُ إِليه نسباً، وحسباً، ورؤية!
وَيَسرُّني أَن تكونَ العزيزة د. ربى سابا بادرت إِلى المُشاركة في كلمةٍ طَيّبة، مُخلصة، وأَفرَحني صديقي جاد شدياق الوفيّ النّقي، الذي قدّم قامَته، والكاميرا، لكي لا تَنطَوي هذهِ اللَّحظاتُ النَّاردة.
ولن أَنسى الصّحافية الرَّزينة، الرَّاقية، كلود أبي شقرا، التي تواكب ثقافة البلاد، وتطوّرها، في الحرب والسّلم. علماً انّ جيلنا لم يستمتع بما يُسمَّى السّلام الحَقّ.
ربيعة أَبي فاضل – الحركة الثّقافيَّة – أَنطلياس
(5 آذار 2024)
________________________
تجربتي بينَ المُغلَق والمُطلَق!
خرَجتُ، عام 1975، من كليَّة التَّربية، بعدَ سنواتٍ خمسٍ، مُثقَلاً بالثُّنائيَّات: هل أَذهبُ إِلى التَّعليم أَو إِلى الصِّحافة، هَلْ أَنخرطُ في حروب المَجانين أَو أَنعزلُ لأَبنيَ عالمي المختلف، هل أَنجرفُ في تيَّار السِّياسة أَو أَكتفي بحرّيّتي وحياتي الفرديَّة؟ هل أُسافرُ إِلى باريس مع فؤاد، لإِتمام دكتوراه، أَو أَقبعُ كالدَّرويش مُتحاشياً القذائف، وشظايا التَّناقضات!؟ لم يكن لديَّ وَفْرٌ منَ المال فاضطُررت إِلى مُراعاة الحال، وَدَخلتُ في غُمار المُعلّمين، عَينٌ على جريدة "النّهار"، وأُخرى على الجامعة اليسوعيَّة. إِلى أَن شرعتُ، عام 1979، أَكتبُ مقالاتي الثّقافيَّة، وأَنجزتُ عام 1982، الدّكتوراه – الحلقة الثَّالثة، في الآداب، بعدَ مُعاناةٍ، وسْط المَعارك، وجنون المرحلة.
وفي المحطَّة اللَّاحقة، كانتِ الجامعةُ اللُّبنانيَّة – كليَّة الآداب هي الهدفَ المَنشود، للحصول على دكتوراه دولة، وللتَّعليم في فضاءٍ أَكاديمي، يُنقذني من تَكرير: "قفا نبكِ.."، وَ"دَعْ عنك لَومي.."، وَ"فَتح عموريّة"... وبقي الاستعدادُ، لَديّ، مُستيقظاً أَبداً، لتحدّي الذَّات، وتخطّي الصّعوبات. جمعتُ ما تيسَّر من مصادرَ، ومراجعَ، وكرَّرتُ زياراتي للمَكتبات، في العاصمة، برَغم الحواجز، واسْتِعارِ نار التّزمُّت، والجهل، والعنف، وغَبَّ انتهاءِ الأُطروحة الثَّانية، في ضوء الشَّمعةِ حولَ: "الفكر الدِّينيُّ في الأَدب المهجريّ"، انطلقتُ أُعلِّمُ في الفرع الثَّاني، وأَكتبُ في "النّهار"، وأَنشُرُ القِصَصَ في المدارس. وجديرٌ بالذّكر أَنَّ الأَدبَ المهجريّ هو بروحيّته، وأَبعاده، الأَقربُ إِلى مِزاجي الدَّيريّ، لكونِه ذا عمقٍ روحيّ، وصاحبَ ثَورةٍ فنيَّةٍ، وفكريَّة، لا تسعى لهَدم القديم، لكنَّها تعملُ على حماية الإِنسان، والحياة، منَ التّقليد، والجمود، وتسلُّطِ الماضي على المستقبل!
ومعَ التَّصعيدِ المُمَنْهَج في مَشروعات الميليشيات، قرَّرتُ أَن أَكونَ مُختلفاً، وسلاحي اثنان: المعرفةُ، والشَّغفُ بالجمال. وفي ظلِّ تَفاقُم ظاهرةِ أَضداد الخارج، عالجتُ ما ترسَّبَ في الدّاخل، من مشادَّات، بنِعَم التَّخييل، والموسيقى الكلاسيكيَّة، والصَّداقةِ مع الأَرض، وإِحياءِ عَلاقتي الدَّيريَّة، العِرفانيَّة، بالأَسيزي، وأُوغسطينوس، والحلّاج، والغزالي، وعنترةَ والسّندباد، وَتركتُ لاهوتَ الكتابةِ، والحضورِ والغيابِ معاً، يَنمو في لاوعيِي، ورأَيتُني تَلقائيّاً، أَنأى عَنِ السِّياسةِ، وأَفهمُ حقيقةَ ما يَحدثُ، وأَزدادُ يقيناً بأَنَّ خلاصَ المرء لا يأتي منَ الخارجِ وَتجاذباته الدَّامية، بل يُنسَجُ من داخلٍ فيهِ كَواكبُ، وَفَضاءاتٌ، ودفءٌ، وطاقاتٌ، وأَشواقٌ، وتجلّياتٌ، كما في الكون الواسِعِ، الرَّائع!
وكأَنّي في لحظاتِ صَمتي، والعالمُ من حولي صَخَّابٌ، غَدوتُ ذلكَ الشَّاعرَ الذي قال عنه أَفلاطون:
« Il n’est pas en état de créer avant d’être inspiré par un dieu. »
فاستمدَّتْ تجربتي الشّعريَّةُ روحَها منَ الإِلهام، والخيال، وسِحرِ المعرفة، إِلى جانب آلامِ أَبناء آدمَ، من حولي، وَغرابةِ السُّلوكيَّات المدمِّرة، والأَفكار المُرمِّدة. والحَالُ التي تُشبهُ التصوّفَ، عندي، حالت دونَ هُبوطي في مُستنقع الهَذيانِ، ودُخانِ السَّجائر، وَتَكسيرِ الحياة، واللُّغة، والقيم، واللُّجوء إِلى طقوسٍ منَ النَّمط السُّوريالي، قيلَ عن أَبطالها:
«Ils sont âpotres d’une nouvelle religion qui se célèbre dans les cafés ».
ولم يَحرمْني بُعدي عن انتحالِ هذه الأَقنعة، الانفتاحَ على هِرمس، وأُروفيوس، ومينرڤا، وكاليوبي، وتكثيف لقاءاتي بأَفلاطون وأَفلوطين، ويونغ ونيتشه، وأبي تمّام وبودلير، الأَمرُ الذي قادني في اتّجاه آخرَ، مقارَنةً بشعراء جيلي، وقد آثرَ معظمهُم الطَّربَ، والرَّنين، والصُّراخَ والعَنين، والانضواءَ كالطّيور إِلى أَسرابِ وفضاءاتٍ مُتشابهة، واستعارةَ أَجنحةٍ، و شعاراتٍ، لا تُروي عَطَشي، و لا تُشبعُ جوعي.
قال باشلار، في هذا المقام:
«La racine… on la rêve plus qu’on ne la voit, elle étonne quand on la découvre».
وحَسَبَ أَنَّ كلَّ ما هو عميقٌ في التُّربة، يُغني حالَ التَّخييل النَّبيل، ويُشعلُ الاستعاراتِ اللّطيفةَ... وَذهبَ إِلى حَدّ القول: “L’imagination est un arbre”، مركّزاً في ديناميَّة العَلاقة بينَ المُبدع، والأَرضِ وعناصرها. وهذا ما قرأتُه، منذُ طفولتي، قبلَ أَن أَقرعَ بابَ باشلار. فمجموعاتي القصصيَّةُ متّحدةٌ بالتّراب، والضَّباب، كما نُصوصي الشِّعريَّةُ تَذوبُ في صوفيَّة الفجر، والسُّحب، والزّمان الآتي. وارتمائي في عتمةِ الجذور ليس سوى يقظةٍ مع الدَّهشة الخلَّاقة تلتقطُها البصيرةُ المحوطةُ بالنُّور. وقد عبَّر باشلار عن هذه الحالة، قال:
« Toutes les formes du passé, pour donner des pensées vraiment sociales, doivent être traduites dans le langage de l’avenir humain ».
وكتابي: "النَّزعة الصُّوفيَّة في الأَدب المهجري"، غرفَ طريقتَه من نَبع هذا النَّاقد، بخاصَّةٍ ما ذَكَرَ حول القراءَة الكوسميَّة، وهي تُشرِكُ الكيانَ كلَّه في الفهم، والتذوُّق، والانفتاحِ الحارِّ على أَخينا الكون. وقد قيلَ، في هذا المجال:
« La poésie ne peut plus être que métaphysique et cosmique ».
ولعلَّ هذا الواقعَ في نتاجي الشّعريّ، والنَّقدي، والقَصصيِّ، حَدا فؤاد رفقه، وبول شاوول، على القول إِنّ تجربتي مَصيريَّة، وُجوديَّة، لها عالمُها، هيَ كالفضاءِ بلا حدود، وهي قصيدةٌ من حرِّيَّة. (أَلحانُ السَّكينة، ص 113 – 114). نعَم، حُرمنا الحريَّة، في الواقع، فأَحييناها، وأَحيتنا في الشِّعر، وحرَّرتْنا من أَعباءِ الأضدادِ، ومن صراعاتِ الطّوائف، والأيديولوجيَّات.
هكذا بَدا زمانُ الحرب المُظلم، والظَّالم، عاجزاً عن زَعزعة النُّورانيَّة الدَّيريّة، في ذاتي، فَهْيَ ساعدتني في صَهر الأَضداد، وَتحويلِ الصِّراعات إِلى فُرصٍ لفهم الغاية منَ الوجود. وليس سهلاً أن تتأمَّل مع الرِّواقيّين في السُّؤال:
« Comment expliquer la présence du désordre et du mal dans le monde ? »
ويأتي الجواب من قِبل Chrysippe:
« Il est impossible de poser le bien sans poser en même temps le mal… leur coprésence est inévitable » (Christelle Veillard, les stoïciens, p. 34)
والسّؤال نفسُه كان طرَحَهُ أَيُّوب، وهو الذي قال عنه أُوغسطينوس، في الجزء الثَّالث من "مدينة الله"، إِنّه ليس يهوديّاً، أَو غريباً عن أُورشليم، بل هوَ مِنَ الأَدوميِّين (Iduméenne). قال أَيُّوب: "لِمَ يُعطى للشقِّي نورٌ، وحياةٌ لذوي الأَنفُسِ المُرَّة؟" (ف 3: 20) وجاءَ جوابُه هو لامرأَته: "أَنَقبلُ الخيرَ منَ الله ولا نَقبلُ منهُ الشّرَّ" (ف 2: 10). وبناءً عليه، جعلتُ المآسي عواملَ خِصبةً، وتفكَّرتُ، دائماً، في إِصرار بولس الرَّسول على إِنسانيَّة الله، عبرَ التَّجسّد (Humanité de Dieu). أَمّا مَسألةُ صدور الشّرِّ عن الله، كما أَوحى أَيّوب، فَمَسألةٌ تَتخطَّاني. لكنّ الذي لم أَنسَهُ، وآلمني، كيفَ أَنّ النّاس يَتعلَّمون: "لا إِكراهَ في الدِّين"، "وأَحِبّوا أَعداءَكم"، وَيُمارسون الكراهيَّةَ، والعُنفَ اللَّعين (المشؤوم، والشَّيطانيّ).
وَبَعْدُ، يَستحيلُ سَلْخُ الجماليَّات عن فلسفة الحياة، وذلك ما اكتشَفَهُ، إِلى حَدّ ما، الرّمزيّون، من خلال الحدس الصُّوفي، الرّائي أَن ناموسَ الوجود مؤَسَّسٌ على الحبّ. والشّعرُ الصَّافي عندما يَتناغمُ مع صفاءِ الحياة، يَغدو مدىً للخلود، وَفقَ تعبير ڤاليري “La poésie est une survivance”. وعندما أَصدرتُ كتابي: "أَديب مظهر رائد الرمزيّة في الشّعر العربي"، كنتُ مُدركاً ما يُميّزُ صوفيَّةَ الشِّعر الرَّمزيّ من تصوّف تريز داڤيلا (T. d’Avila)، وقد وَصفَ جاد حاتم حالَ عِشقِها اللهَ بالجنون العَذب، (la folie d’aimer l’invisible)، أَيضاً، أَدركتُ ما يُميّزُ رموزَ سان جان دي لاكروا من رمزيَّة الشُّعراء، فَهم ينتهونَ في أُفق مُغلَق، وهو يَنفتحُ كُلّيّاً على المُطلق، ويمكن توضيحُ ذلك، بالقول:
« Son expérience esthétique vient servir son expérience mystique et tout le sensible sert de masque et de signe à ce qui transcende »
ولكي نفهمَ كيفَ مَثَّلتُ، في ظلِّ الحداثة الشِّعريَّة المتنوِّعة، هذا المنحى الصّوفيَّ الجديد، لا بُدّ من العودة إِلى "نشيد مَشرقي"، و"شيخ العزلة"، و"أَلحان السَّكينة"، وخصوصاً: "عطشان يحنو على الينبوع"، و"وحدَها الحكمة"، و"عودة الحلّاج"، و"chanson douce"، و"الطّريق إلى الميم"، وغير ذلك، كي يُدرِكَ القارئُ الباحثُ أَنّ الزَّهرةَ قد تَنبتُ في مُستَنقع من وُحول، وأَن الجريحَ يمكن أَن يَسْحَرَ بأَلحانه، من دون طبول!
وإِذا كانتِ الصُّوفيَّةُ الأَفلاطونيَّة أَبقت لذاتها طابَعاً فكريّاً خيّراً
(un mysticisme qui veut rester et reste vigoureusement intellectuel)
فأَكثرُ ما ميَّزَ تجربتي هو معاناة إِعادة الحياة إِلى براءَتها. وقد تكونُ المُعاناة نتيجةَ عدم تَصفيتي الذّاتيَّة بشكل عميق يُبهجُ الرُّوح الكلّي، لأَنّ الذي أَرى يوحنا نهرَ ماءٍ صافياً، وشجرةَ الحياة (الرؤيا 22)، لم يَرني نَضَجتُ لذلك، فلم أَتذوق ما عَدَّه دانتي (La parfaite vision). أَو ما حاول رامبو استعادةَ نقائه الأَوَّل من خلال، التّمادي في البؤس، والتَّجحُّم! و ما لَمْ نَستطعْهُ في أَزمنةِ الإِلهام، والتَّصفّي بالآلام، قد لا نَستطيعُه، حَتماً، في ظِلِّ آلاتِ الذَّكاءِ الاصطناعيّ، وأَرقامِه، وَهَيمنةِ قِلّةٍ من مُهندسي الرُّوبوات على بضعةِ ملياراتٍ مِنَ البَشر، ضحايا الدَّور الأَخطر، في تاريخ الإِنسانيَّة... وها هو قدِ انطلقَ، يَحرُسُه أَشباحٌ أُفرِغَتْ من قلوبها!
تكريم د. ربيعة أبي فاضل
(الحركة الثّقافيَّة – أَنطلياس – 5 آذار 2024)