ندوة حول كتاب الدكتور أنطوان حدّاد: "مسيرة الانخراط في الحرب السورية"
كلمة الإعلاميّة ماجدة داغر
أشارت الإعلاميّة ماجدة داغر، مديرة الندوة، في بداية كلمتها إلى أنّ من أكثر المواضيع دقّةً وصعوبة هي تلك الّتي تدرس مسبّبات حدثٍ ما وخلفياته ونتائجه. ثمّ أضافت أنّ الدكتور أنطوان حداد استطاع في كتابه "أن يتجلّى في التحديق في ما بعد الرّؤية المتأتيّة من سراب الوضوح"، مشيرةً إلى أنّ نصوصه موضوعيّة في أغلب الأحيان. وأشارت إلى أنّ الكاتب روى مسيرة الإنخراط في الحرب السوريّة منذ معركة القصير في أيار 2013 حتى اختتامها في أيار 2014. وفي الختام، شدّدت الإعلاميّة داغر على أنّ هذه النصوص هي محاولة "للإرتقاء بالنص الميداني الى كتاب لغة مشتركة" تُستخدم في أبجدية حقوق الإنسان والحريّة والإنفتاح.
_________________________________
مسيرة الانخراط في الحرب السورية
مداخلة عن كتاب أنطوان حداد ، في معرض الكتاب، في الحركة الثقافية- انطلياس
محمد علي مقلد 17-3-2015
بين يدي كتاب متقن محكم البنيان وضعه أنطوان حداد مصبوبا بقوالب من منهج الرياضيات الصارم ، ومجبولا بروح نسيب لحود ونبله السياسي الذي لم يعرفه لبنان إلا مع قلة قليلة من سياسييه، ولذلك تصدر اسمه صفحة الاهداء ، فضلا عن أن الكتاب حمل بركة طارق متري في مقدمة موجزة.
يضم الكتاب، فضلا عن مقدمة ومدخل، خمسة وثلاثين نصا تتراوح أحجام كل منها بين الصفحتين والخمس صفحات، وفي كل نص تحليل لحدث أو لظاهرة سياسية ولمآلاتها المحتملة، يمكن جمعها لتشكل تحليلا سياسيا لأحداث عام كامل من عمر الأزمة اللبنانية، هو السنة الأخيرة من عهد الرئيس ميشال سليمان، والسنة الثالثة من عمر الربيع السوري، والثانية من تورط حزب الله في الدفاع عن نظام الاستبداد البعثي.
سأختار من الكتاب ثلاث عينات لعلها تكون مدخلا لقراءة الكتاب.
العينة الأولى فقرة للتعريف بالكتاب، وهي تحيلنا إلى منهجه. يقول الكاتب في الصفحة 108من كتابه :نظريا، ولدواعي التحليل ، فإن السيناريوهات المحتملة من الآن (15-11-2013) حتى 24 أيار 2014، (أي موعد الاستحقاق الدستوري) هي التالية:
"1-التوصل إلى انتخاب رئيس جمهورية جديد قبل 25-5-2014
2-عدم التمكن من انتخاب رئيس جديد، وعدم التمكن إلى حينه من تشكيل حكومة جديدة
3-عدم التمكن من انتخاب رئيس جديد، لكن مع تشكيل حكومة توافقية ترضي فريقي النزاع
4-عدم التمكن من انتخاب رئيس جديد، لكن مع دفع الرئيس سلام إلى الاعتذار ثم الضغط لتكليف شخصية أخرى أقرب إلى حزب الله تشكيل الحكومة
5-عدم التمكن من انتخاب رئيس ، لكن إقدام سليمان وسلام على تشكيل حكومة من دون الرجوع مسبقاً إلى أخذ موافقة حزب الله
6-تمديد أو تجديد ولاية الرئيس ميشال سليمان."
نحن هنا أمام منهج ديكارتي، يجزئ القضية إلى أبسط عناصرها ليعيد تركيبها، وأمام منهج جدلي يستعرض كل الاحتمالات الممكنة، ثم يدخلها في معادلات علمية رياضية نظرية بحتة، ويرسم لكل احتمال خطة وبرنامجا.
بحسب طارق متري،الكتاب هو "تفكر من نوع جديد نسبيا". وبمقياس علم الرياضيات والاحصاء، العزيز على قلب أنطوان وفكره، هو تمرين نظري يحلل مختلف الأحداث السياسية الممتدة بين معركة القصير، مطلع أيار 2013، وشغور مركز رئاسة الجمهورية في نهاية أيار 2014.
وهو كتاب يتفادى جفاف الرياضيات، إذ يعمد أنطوان إلى تلقيحه "بمنظومة قيم سياسية واضحة في انحيازها إلى حقوق الانسان والثقافة الديمقراطية وأولية الحرية وصيانة التعددية وابتعادها عن الايديولوجيا المغلقة وعن إقحام المقدس في السياسة".
غير أنه تمرين نظري من دون تطبيق(براكسيس باللغة الماركسية) لأن انطوان وحزبه لا يشاركان في صنع الحدث اللبناني، ولا يسمح لهما بغير تحليله تحليلا نظرياً، وذلك لا تعففاً ولا تكاسلاً، بل لأن آلة صنع الأحداث في لبنان لم تتحمل وجود شخص أو حزب بقامة نسيب لحود أو حزبه في صفوفها، ولأن القوى السياسية اللبنانية جعلت التخلي عن سيادة قرارها جزءا من التقاليد الرديئة والمعيبة في إدارة شؤون البلاد والعباد.
والكتاب يشبه أمر اليوم العسكري، أو هو بلغة يسارنا القديم،تحليل سياسي للأحداث، كانت المكاتب السياسية في أحزابنا تعممه على المنظمات في القواعد لتزويدها، من خلاله، بالمعرفة وتدريبها على التحليل، ولشد عزيمتها وتوضيح الرؤيا أمامها وتقوية موقفها أمام جمهور المحازبين والمؤيدين والأتباع، فيما كان يكتفي أنطوان بتعميمه، بحسب قوله، على قيادة حركة التجدد الديمقراطي وتجمع لبنان المدني الذي فتحت له الحركة أبواب مقرها ، مشكورة، لعقد اجتماعاته.
الفقرة الثانية اخترتها مدخلا لنقد المنهج . يقول أنطوان في الصفحة 152: " إن المساكنة القسرية داخل حكومة واحدة لا تلغي التناقض الجذري بين نظرتين للبنان. حزب الله يرى نفسه جزءا عضويا من الاستراتيجية الاقليمية لا بل الدولية لإيران، وهو يريد الاحتفاظ بالمنظومة العسكرية الخاصة التي يملكها وبحرية استخدامها في لبنان وخارجه ، وخصوصا في سوريا. في المقابل قوى 14آذار، تيار المستقبل وحلفاؤه، فضلا عن أطراف وقوى سياسية أخرى غير منضوية داخل التحالف ، يتطلعون إلى تقوية الدولة المركزية وتقوية الانفتاح والتعاون مع السعودية، وما يعرف بمحور الاعتدال العربي"
المصطلحات اللغوية كافية للدلالة على حضور حزب الله في المعادلات التي يتكرر اسمه فيها مئات المرات. ما يشير بوضوح إلى مسؤوليته الكبرى عن توريط لبنان في الحرب السورية، وهذا صحيح من دون شك. غير أنه لا التورط عموما في حروب خارجية ولا المساكنة القسرية بين متخاصمين متشابهين، هما من الأمورالمستجدة على الطبقة الحاكمة في لبنان. ولا نعني بذلك ما قبل إعلان لبنان الكبير في عام 1920 والدستور عام 1926 بل ما بعدهما . قبلهما هو شأن يتعلق بمقاطعات تابعة للسلطنة العثمانية. وبعدهما يبدأ التاريخ الحقيقي لوطن اسمه لبنان بجمهورية أولى انطمس الانقسام فيها بقوة القانون وعمل المؤسسات . وكان يطل برأسه كلما سنحت له الظروف الاقليمية، على غرار ما حصل يوم توزع اللبنانيون بين العروبة الناصرية وحلف بغداد الموالي للأنكليز، أو عند انفجار الحرب الأهلية عام 75، ودخول اللبنانيين في متاهة أكثر تعقيدا من الولاءات، إلى عروبات متنوعة، فلسطينية وسورية وعراقية ومصرية وليبية وخليجية، وإلى غرب لا يختصره المشروع الصهيوني المستند أصلا إلى دعم أميركي وأوروبي. إلى أن تمددت المتاهة واستنبتت ولاء جديداً لحكم ولاية الفقيه الإيراني.
الأزمة اللبنانية لها منبت واحد: أولوية الولاء للخارج على الولاء الوطني عند القوى الحاكمة . وهي مستعصية لأن الصراع على السلطة كان يتم بين ولاءات من الطبيعة ذاتها، كلها ذات ارتباط بالخارج. ولئن تمايزت القوى الخارجية وتصنفت بين الصداقة على اختلاف درجاتها والخصومة على اختلاف درجاتها، فإن الولاء لأيّ منها على حساب السيادة الوطنية ووحدة الدولة يجسد عجزها عن بناء السيادة، إن لم نقل خيانتها، وهذا ينطبق على حزب الله كما على خصومه.
إخراج الوطن من أزمته، وإخراج حزب الله وسواه من الانخراط في الحرب السورية، يلزمهما معارضة من طراز جديد ، معارضة لا يكون ولاؤها لغير الوطن.
قد يندفع هذا التحليل، بسوء نية ليساوي بين ثنائي السلطة من ممانعين وسياديين. لكن علينا، ونحن نقر بالفوارق القائمة بينهما، أن نقر أيضا بأن أول ثورة عربية ضد الاستبداد، هي تلك التي اندلعت مع بداية الحرب الأهلية، لكن ولاءها للخارج حرمها شرف المتابعة وحول نضالها إلى عنف عبثي يتشابه فيه العروبي والانعزالي في استجداء المساعدة من مستبد خارجي والاستعانة به على أبناء الوطن.
ثم جاءت النسخة الثانية من ربيعنا اللبناني في انتفاضة الاستقلال أو ثورة الأرز، لكن صورتها سرعان ما تشوهت بتحالف المتخاصمين وتعاونهم لتأبيد نظام الاستبداد اللبناني القائم، هو الآخر، على وراثة السلطة في الحكم وفي الأحزاب، بدل أن يوظفوا خروج الجيش السوري في سبيل إعادة بناء الوطن والدولة على أسس الديمقراطية وسيادة القانون وتداول السلطة.
المجتمع المدني اللبناني اليوم يحاول عبثا أن يخرج من هذه الدائرة المغلقة، وستظل نضالاته تذهب سدى ما دام الاستبداد المتجسد بأنظمته السياسية ومشاريعه وخططه وإيديولوجياته هو المتحكم بعقلية اللبنانيين على الجانبين أو في"الفسطاطين"، بلغة واحد من بيانات 14 آذار. السهولة الدائمة في قسمة اللبنانيين إلى اثنين تشبه السهولة ذاتها في تضافر جهود القوى السياسية في السلطة وخارجها وتضامنها حفاظا على ديمومة ولائها للخارج وخضوعها لاستبداده ، ثم ممارستها الاستبداد على جمهورها.
تأكيدا لوجهة النظر هذه، أورد نصا آخر من كتاب أنطوان حداد، حيث يقول في الصفحة 98 ، " نصرالله تحدث ليومين متتاليين ، الاربعاء والخميس ، وشارك شخصيا ، شحنا للهمم وحضا على المشاركة في تجمعات شعبية في ذكرى عاشوراء ، مستخدماً نبرة عنيفة واستعلائية حيال قوى 14 آذار ، ومهاجما الدول العربية وتحديداً السعودية ، متهما إياها بعرقلة تشكيل الحكومة في لبنان، ومؤكداً أن محور إيران- النظام السوري - حزب الله سوف يخرج رابحاً ".
تذكرني عملية شحن الهمم التي يقوم بها حزب الله اليوم، بشحنها في الأمس بخطابات مماثلة كان يقوم بها جورج حاوي ومحسن ابراهيم أو بشير الجميل على جانبي الجبهة، في مناسبات تحيي ذكرى الشهداء. وإذا كان الحسين هو شهيد الشيعة الأول، فإن لكل حزب شهداءه ، ومن بينهم لائحة طويلة من شهداء 14 آذار. وفي تلك الخطابات القديمة، كما في الجديدة الكلام عن الولاء للخارج يحتل مرتبة القداسة. ولاء اليسار، في حينه، لقوى التقدم وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي في مواجهة الانعزالية المحلية والرجعية، أو ولاء اليمين لقوى العالم الحر في مواجهة اليسارالدولي.
هل يعني ذلك دعوة مستحيلة لفك الارتباط مع الخارج. طبعا لا . بل هي دعوة مزدوجة، ملحة لحزب الله وأقل إلحاحاً لسواه، لتغليب الجانب الوطني على سائر الجوانب الأخرى، ولبناء العلاقة مع الخارج على معيار جديد هو المصلحة المطلقة في الانتقال من أنظمة الاستبداد إلى أنظمة ديمقراطية تحترم التنوع وتحميه.
المدخل إلى ذلك ليس إسقاط النظام اللبناني وتعطيل الدولة ، وهو ما يمارسه فريق الثامن من آذار من غير أقنعة ، في حين أن قوى 14 آذار تمارسه من غير أن تدري. بل المدخل هو احترام الدستور وتطبيق القوانين القائمة ، باستثناء قانون الانتخاب الذي ينبغي تعديله ليكون الناخب مواطناً بدل أن يكون من رعايا الطائفة، والنائب ممثلا للأمة لا ممثلا لمذهبه ولا ممثلا شخصيا لسيده.
إننا نبحث مع أنطوان عن كيفية إخراج الوطن من محنته، لكننا كمن يبحث عن الإبرة في كومة قش. فضيلة الكتاب ومنهج أنطوان في التفكير العلمي الرياضي الإحصائي الجدلي هو أنه يلغي احتمال اليأس من قاموس أحلامنا الوطنية، ويمنحنا شحنة جديدة من الأمل بغد أفضل ولو بعد حين.
___________________________