ندوة سهيل بشروئي 10- 3 - 2016
كلمة مدير الندوة الأستاذ جورج أسطفان
كنت أفلفش اوراقي تحضيراً لهذه الندوة، ومن دون سابق إنذار، انتقلتُ في ما يشبهُ السفرَ في الزمن، الى حقبةٍ رسَمَت الخطوطَ العريضة لعلاقتي غير الماديةِ بالعالم، وربما المادية في بعض نواحيها. حطّت بي الذاكرة في فضاءِ روحي بَنَيْت فيه عوالم فاضت بها مخيلتي الفتية (آنذاك)، في اللحظة ذاتها التي طَويتُ فيها الصفحة الأخيرة من كتاب "النبي"، على الكلمات الأخيرة لـ"المصطفى": قليلاً ترَونني، وقليلاً ولا ترونني، لأن امرأة أخرى ستلدني. وما زلت أؤمن حتى اليوم، بل ترسّخَ إيماني أكثر بأن ما أراده جبران من هذه "النبوءة" - الوعد، بعيدٌ كل البعد عن التفسيرات المادية السهلة، وأقربُ الى صوفية، بل هو صوفيةٌ لا لبس فيها، عوالمُ تنتهي وتبدأ من جديد، ملتصقةٌ بـ"الحقيقة الأزلية" التي رأى فيها سهيل بشروئي، في كلمةٍ عن كتاب الشاعر هنري زغيب: "جبران خليل جبران – شواهدُ الناس والأمكنة"، رأى فيها "وحدةً متكاملة تتآلفُ فيها الأضدادُ وتنصهرُ كلها في جوهرِ الواحدِ الجامعٍ الكل"، ولن أسترسل.
الدكتور سهيل بشروئي، الذي تتذكره حركتنا الثقافية اليوم، كان في خضمّ هذا الفكر: "منارةً جبرانية"، هي عنوانُ هذه الندوة. نشْرُ الفكرِ الجبراني في العالم كان في طليعة همومه حتى الرمق الأخير، في زمنٍ يبتعد شيئاً فشيئاً عن الروحانيات. وفي الوقت ذاته لم يكن اهتمامه برواد الأدب المهجري، أقلّ عمقاً. جبرانيٌ في الصميم، معجبُ بأدب صاحب "النبي" وفلسفته التي ساهم بقوة في نشرها رسالةً روحية، لكن أيضاً مكملٌ لها على امتداد أعماله ومؤمنٌ بها حتى التماهي. في هذه الشُعلة التي حملها وحمل هموم نشرها الأوسع، كان المقربون منه يعرفون ان لبنان نقطةُ ارتكاز أساسيةٌ فيها.
حوار الأديان محطة محورية في أدبه. وثّقها في كتاب أخير بالتعاون مع الباحث مرداد مسعودي، عنوانه :"تراثنا الروحي: من بدايات التاريخ الى الأديان المعاصرة"، وهو ما أشار اليه الصحافيان محمد علي فرحات وعبده وازن في مقالين في جريدة "الحياة".
ما يُلفتُني شخصياً في تعامل الراحل مع النصّ الجبراني، هو هذه المقاربة العميقة للإحاطة بـ"شعريته"، وانا افضل هنا الكلمة الفرنسيةPoetique La، اليونانية الأصل نقلاً عن أرسطو، والتي الهمت، وأتعبت، الكثير من البنيويين، الروس ثم الفرنسيين. هذه "الشعرية" التي هي، مع بعض التبسيط، ما يتبقى بعد استهلاكِ كل التفسيرات "المدرسية" للنص.
كان الراحل الرئيسَ المؤسسَ للاتحاد العالمي للدراسات الجبرانية، وأستاذَ منبر جبران خليل جبران في مركز بحوث التُراث في جامعة ميريلاند الأميركية. ألقى دروساً في جامعات بريطانية وكندية وبلجيكية عدة، وكان عضواً في "نادي بودابست". كما استضافه مجلس اللوردات البريطاني في نقاش حول حوار الحضارات... وتطول اللائحة. لكن لا بد من الإشارة الى انه كان أول عربي يُعيَّن رئيساً لقسم اللغة الإنكليزية في جامعة بيروت الأميركية (1968-)1986.
أما مؤلفاته بالعربية والإنكليزية فصعبة الإحصاء، أعرض بعضاً منها:
-الأدب اللبناني بالإنكليزية، جبران الخالد، دين الله واحد، الحكمة عند العرب، جبران الإنسان والشاعر، أبرز رسائل الحب العالمية، الحكمة الإيرلندية، جورج برنارد شو، خليل جبران: الكنز الروحي، أشعار ييتس، رسائل الحب لجبران، النبي- دراسة في أدب جبران.
سهيل بشروئي المتعدد، الحاملُ جبرانَ ولبنانهَ في قلبه وفكره، والذي وجد مكاناً له في قلبِ الله، العابر للأمكنةِ والشامل، هو بيننا اليوم، في هذا الحضور الرائع، في أصدقائه وعائلته، وكل ما تركه من إرث، وتشدُّدٍ في تعميق التسامح لردم المسافات بين الاختلافات.
لن يُذكرَ جبران في اي مناسبة، او الريحاني او نعيمي، الا ولِسهيل بشروئي منزلٌ بين الكلمات.
_______________________________________
كلمة هنري زغيب في ندوة "سهيل بشروئي منارة جبرانية"(الحركة الثقافية -أنطلياس: الخميس 10 آذار 2016)
كان ذلك في إِحدى أُمسيات "المؤتمر الثاني للدراسات الجبرانية" (أَيار 2012)، وكُنّا نتمشى معًا بين مواكب الشَجَر في مسالك جامعة ميريلِند، حين بادَرني بفكرةِ أَن نعملَ معًا على نَـصٍّ موثَّق نُطلقُهُ عن "الاتحاد العالَـمي للدراسات الجبرانية" (كان أَسسَه في جامعة ميريلند إِبان المؤتمر الجبراني الأَوّل سنة 1999، وخصَّني يومها بشَرَف التزامُل معه في رئاسته والعمل على تطويره).
كنا نمشي، تلك الأُمسية، وبصوتِه المتهدِّج إِيمانًا بلُبنان، راح يُشدِّد أَن لم يبلُغ جوهرَ لبنان، قوّةً توحيديةً في مجتمع عالمي متنوِّع، مثلما بلغَها جماليةً وبلاغةً ثلاثةٌ من أَبنائه، لَهُم كما لِلُبنان مكانةٌ فريدةٌ في الثقافتَين الشرقية والغربية: أَمين الريحاني، جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة. كانوا أَصدقاء، روّادَ أَدبٍ بالإِنكليزية في فجر القرن العشرين، وكُلٌّ منهم بَرَعَ في إِطْلاع الغرب والشرق على قيمة لبنان في مرحلةٍ من العصر الصناعي شهدَت قَلَقًا وَسَم العصر الجديد.
وراح، ونحن نتمشّى، يتبسّط بقناعته أَنّ ما قدّمه الريحاني ونعيمة وجبران إِلى العالم يعود إِلى وطنهم الفريد موقِعاً جغرافياً وتمازُجَ ما فيه من أَعراق ولغات. ثلاثتُهم كانوا مَدينين لِلُبنانَ النِعَم الثمينةِ النابعةِ من العيش المتناغِم بين الشُعوب والأَديان، ومن وَعيِ كوارثَ قد تنجُم عن انهيار هذا العيش. فالريحاني مفكِّرًا ناثرًا، ونعيمة فيلسوفًا صوفيًّا، وجبران فنانًا شاعرًا، أَدركوا حقيقةَ الوَحدة في التنوُّع فسطعَت في "كتاب خالد" الريحاني، و"مرداد" نعيمة و"نبيّ" جبران، وأَكدوا فيها صفحةً صفحةً إِيمانهم بــوَحدة الوجود من اجتماع الشرق والغرب، الوثنية والمسيحية، القديم والحديث، الماضي والحاضر، وأَدركوا التركيبة المسيحية الإِسلامية، وشدَّدوا على المصالحة التامة بين المسيحية والإِسلام. وحين اجتمع جبران والريحاني بزميلهِما يوسف الحويّك في لندن (1910)، رسموا لنهضةٍ ثقافية في العالم العربي مسوَّدةَ تصاميمَ بينها تأْسيس دارٍ للأُوﭘــرا في بيروت ذاتِ قُــبَّــتين تُـمثّلان اللقاءَ المسيحي الإِسلامي.
هذا جوهرُ رسالة لبنان في العالم: فهمَه الريحاني وجبران ونعيمة نموذجَ مجتمعٍ متعدِّد الأَديان والمعتقدات ويحترم فيه الجميع اختلافَ الطوائف. ثلاثتُهم وضَعوا نظامًا فكريًا مبنيَّا على أَنْ لا دين واحداً يمثِّل نهائية الوحي الإِلهي للإِنسان. فالحقيقة الدينية نسبيةٌ، والوحيُ الإِلهي متواصلٌ، والتجربةُ الدينيةُ متناميةٌ، وتالياً: جوهرُ جميع الأَديان واحد. وثلاثتُهم آمنوا بأَنّ لخلاص الإنسان رؤيةً واحدة: الإِيمانُ بوَحدةٍ روحية، وفهْمُ حقيقةٍ دينيةٍ شمولية عكسَتْها عبارةُ جبران: "لو كان لنا أَن نلغي غيرَ الجوهري من الديانات المختلفة، لَوَجَدنا أَننا متَّحدون بإِيمانٍ واحدٍ ودينٍ واحدٍ غنيِّ بالأُخُـوَّة"، وعبارةُ نعيمة: "لو فهم المؤْمنون بالدين جوهرَ دينهم وغايتَه العليا، لتوحَّد العالم كلُّه بدينٍ واحد"، وعبارةُ الريحاني في وصيّـته: "أُوصيكم بتَعَهُّدِ كلِّ نورٍ جديد. واعلَموا أَنّ قلباً كثير الأَنوار خيرٌ من عقلٍ كثيرِ العرفان. في كلِّ دينٍ من أَديان العالم نورٌ يُضيءُ إِلى حين. قد يبلغ هذا الـ"حين" ثلاثة آلاف سنة أَو أَربعةً أَو خمسةً، إِنما لا ينطفئُ نـورٌ قبل أَن يسطعَ مكانَه نُـورٌ آخر".
هنا استوقفني لحظاتٍ لمحتُ فيها على وجهه انفعالًا بالحقيقة وهو يقول لي بانشراح: إِسمعني جيِّدًا. ثلاثتُهم كانوا مسيحيين: اثنان مارونيان وثالثهم أُرثوذكسي، إِنما ثلاثتُهم كانوا يعتبرون أَنّهم ورَثَةُ تراثٍ ثقافي عربي إِسلامي، وثلاثتُهم - ضمْن إِيمانهم بالوَحدة في التنوُّع - آمنوا بعظَمة الديانة الإِسلامية، واعترفوا بالإِسلام ديناً عظيماً، وبالقرآن وحْياً من الله، وبأَنَّ الإِنسان قد يكون مسيحيًا ويرتبطُ بالإِسلام لغةً وثقافةً. كانوا أَوّل من لفَت الشرق والغرب إِلى أَهمّية حقوقِ الإِنسان وحقوقِ المرأَة والبيئة المستدامة والتناغم بين الأَعراق ونشْر ثقافة السلام. ولم يُقِم هذا الحوارَ أَحدٌ أَفضلَ من الريحاني الذي حرص في كتاباته على نشْر السلام وتشجيع التفاهُم بين الشرق والغرب، بين المسيحية والإِسلام، ومصالحةِ التقليدي والحديث. لذا يجدُر التعمُّق في سيرة الريحاني وأَعماله. فمُعظم مؤَسسات الحوكمة العالمية، بعد طول استمهالٍ، تعترف بمقاربات الريحاني وزميلَيه ونهجِهم الرؤْيويّ منذ مطلع القرن العشرين.
هكذا كان لبنان ولا يزال: مجتمعاً تَعدُّدياً، نقطةَ التقاءٍ بين الشرق والغرب، جسرًا يربط العالم القديم بالحديث، موطنُ مجموعاتٍ عِرقية ودينية مختلفة، ومجتمعًا تعدُّديًا. آمن الريحاني ونعيمة وجبران أَنَّ لِلُبنان دروسًا عدَّة يتبادلُها مع الغرب: يتعلَّمُ منه الديمقراطية وحقوقَ الإنسان، ويعلِّمه قيَم الشرف والكرَم والضيافة والأَخلاقيات الروحية. ومع تقدُّم القرن العشرين أَمَلُوا أَن يتقدَّم الجانبان أَكثر نحو التسامُح والنضج ليبْلُغا معًا عهدًا جديدًا من التعاون والتفاهم على الوَحدة في التنوُّع، وعلى إِرساء حوارٍ دائمٍ بين الثقافات والديانات والحضارات. وانطلاقاً من هذا المفهوم حاوَروا الغرب بالإِنكليزية وأَشقّاءَهم العرب بالعربية، فخاطبوا الشرقيين باسم التقاليد الديمقراطية الغربية.
وثلاثتُهم تحمّسوا لنشر مفهوم الأَخلاقيات الشاملة والحديثة. وفي مسيرتهم وآثارهم مثالٌ حيٌّ لالتقاء الثقافات: كانوا عربًا حاوروا الغرب، وفي جذور رسالتهم الحضارية ملامحُ من مفاهيم الهند الروحية. ثلاثتُهم كانوا من أَنصار تقليدٍ مستدام يشكّل أَساس الحكمة الدائمة. وفي خطاب "التساهُل الديني"، أَشار الريحاني إِلى أَهمية أَن "يتعلَّم الغربيون والشرقيون واحدُهم من الآخَر ما في دينِهم من صَلاح، ما في تقاليدهم من فائدة، ما في فنونهم من سُموّ، ما في قوانينهم من عدالة، وما في سلوكهم من حسنات. ففي جوهر ذلك من خميرة الشرق والغرب موحَّدَين متناغمَين ما يَشفي الآفاتِ الدينيةَ والاجتماعيةَ والسياسيةَ في عصرنا، ليعودَ الغربيُّ إِلى ربه، ويخفِّفَ الشرقيُّ من حـمْل الرب وحده".
في تلك الأجواء ظهر الريحاني كأَنه سفيرُ العرب في الغرب، فكان في حياته وفكْره مثالَ الإِنسان العربي الحديث الواعي مكانتَه في التاريخ وثروةَ شعبِه الثقافيةَ الهائلة. ومع أَنّه لبنانيٌّ جداً، كان الريحاني ممثلَ الحضارة العربية، شُمولياً، كونياً، آمَن بوحدانية أَديان العالم وأُخُوَّة جميع الأُمم. كان يحمل الجنسيةَ المزدوجة من لبنان والولايات المتحدة فدعا إِلى دمْج ثقافتَين مختلفتَين جداً وهو ما لم يَتمَّ تحقيقُه قبلاً. ومع عمْق إِدراكه الغربَ الحديث، لم يفقِد نِظرتَه إِلى تراث ثقافي غنيّ ولِدَ فيه وأَورثَتْه العالَـمَ الحضارةُ العربية. سياسياً كان ليبراليًا مكرَّسًا يدعو إِلى مجتمع منظّم ومنضبط. عارض التعصُّب والتطرُّف والتزمُّت، وحافظ على احترام التقاليد. كان أّول رحّالة عربي حديث جالَ في قلب الجزيرة العربية على أَنها "المنطقةُ الأَكثرُ خصوبةً في التاريخ". ومن قلب إِيمانه القوي بلُبنان نظر إِليه في سياق الإِرث العربي الكبير، ورأَى العالم العربي في السياق الأَوسع لعائلة الأُمم. لذا حذّر الريحاني شعبَه وأَشقاءَه العرب من مخاطرَ متعددةٍ تهدّدهم، وطموحاتِ السلطات الخارجية بأَراضيهم. حذّرهم من التفرقة، وحثَّهم على الاتحاد لتعزيز روحِهم الخيِّرة في إِصلاح مجتمعاتهم وتحديثِها كي يتمكّن الشعب العربي من تأْدية دورٍ مهمّ في العالم الحديث دون التضحية بتراثِه الأَخلاقي والروحي، دعامتِه الأَساسية منذ فجر التاريخ. لم يتعَب من شرح مساهمات الشعب العربي في التاريخ، وأَعلن عن رغبة شعبه بالوصول إِلى تفاهمٍ مع العالم الغربيّ لبناء مجتمعٍ شامل. ودعا الغربيين إِلى استكشاف روحانية الشرق تقليدًا عظيمًا متجذِّرًا في الحضارات الشرقية. وكان الريحاني أَولَ عربيٍّ وضعَ رواية بالإِنكليزية، وأَوّلَ عربيٍّ كَتَب الشِعر بالإِنكليزية. ومن أَهمّ كتاباته فيها "كتاب خالد" رواية فلسفيّة وسيرة ذاتية افتراضية تمثّل التماسًا شغوفًا للمصالحة بين المادّي والروحيّ، بين الشرق والغرب، بين المسيحية والإسلام. وأَثَّر هذا الكتاب في كُتّابٍ عربٍ بمن فيهم نعيمة وجبران نفسه الذي وضَع رُسومَ ذاك الكتاب فكان رائدًا لصدور رائعته "النبي".
قبل وفاته بتسع سنوات كتب الريحاني وصيتَه ووقَّعها "الفريكة في 7 أَيلول 1931"، مُعلنًا فيها إِيمانه بوَحدة جميع الأَديان، وجاء فيها:"أَنا من الموحِّدين، وفي مرآة توحيدي تنعكسُ وجوهُ الأَنبياء والرسُل أَجمعين: كونفوشيوس وبوذا وزَرَدَشْت وسقراط وموسى ويَسوع ومحمّد وبهاءالله. جميعُهم مِن ينبوعٍ واحد، تتآلف وجوهُهم وتتمازَج وتنعكسُ وجهاً واحدًا هو الرمزُ الأَقدسُ لوجه الله. أُوصيكم بالتوحيد. فالدين نظريّاً: هو الصلةُ الحيّةُ النيّرةُ بين الإِنسان وربّه الأَوحد. والدين عمليًّا: هو إِدراك الحقيقة الإِلهية في كلِّ من علَّم الناس حرفًا في كتاب الحُب والبِر والتقوى، والاقتداءُ بهم فكرًا وقولاً وعملاً، كلٌّ على قدْر طاقته، فما يحمِّل اللهُ نفسًا فوق طاقتها".
وأَيًّا تكن الاتجاهاتُ الفلسفية أَو الدينية، يبقى أَن الريحاني كاتبٌ مميَّزٌ ناضلَ من أَجل مفهوم عالمي كشفتْه أَفكاره عنِ الله والدين وخلاص الإِنسان بثَبات الهدف ووَحدته. وهذا ما يجعل أَفكاره راهنةً حتى اليوم بإِسهامه في تطوير الروابط الثقافية بين العالم العربي والغرب. ويُظهر التاريخُ أَن التأْثير العربي على الحضارة الغربية كان مهمًّا جدًّا، ما ظهر في حيويةِ تقدُّمٍ وتطوُّرٍ ساهما في خلْق العالم الحديث. لذا يجِب الحفاظُ على النهج الإِنساني الفريد لدى الريحاني للمصالحة بين الشرق والغرب، والحرصِ على تفعيلها والعمل بها.
في نهاية مِشيتنا معًا وقَف، هزّ بعصاه التقليدية متفرِّسًا في وجهي وفي الأُفق البعيد، قائلًا: "إِسمع:النهضةُ العربيةُ قبْل أَكثرَ من قرنٍ انطلقت من لبنان وحرَّكت جموداً فكرياً طويلاً تاركةً إِرثًا هامًا للبنان والعرب والعالم. علينا أَن نعمل دومًا لإِبراز دور لبنان الرائد".
غداةَ تلك الأُمسية عُدتُ إِلى لبنان وبَقينا على اتصال. ورُحنا، مهاتفةً بعد مُراسلةٍ بعد مناقشة، نُطوّر فكرةَ هذا النص على أَنْ نُطلقه بالإِنكليزية والعربية معًا كُتيِّـبًا يحمل عنوان "دوامُ لبنان: حوارُهُ مع الغرب". وقبل أَقلّ من عام هاتفَني بصوتٍ بين التهدُّج والإِيمان، مُشْرقٍ بفرحِ أَن يكون النص انتهى، واتفقْنا أَن نُطلقَه إبّانَ مؤتمرٍ ثالث عن جبران كنا بدأْنا نُعدُّه لأَواخر هذا العام 2016، ونطلقُ فيه النص بعنوانِه الفَخور: "دوامُ لبنان: حوارُهُ مع الغرب".
لم أُفكِّر يومها أَن يكون ذاك آخرَ نصٍّ له، هو الذي كرَّس نصوصَه لرسالة لبنان في الشرق والغرب خصوصًا مع جبران والريحاني.
النصُّ اليوم جاهز، وسوف أُطلقه قريبًا في ذكراه، هو مَن حَمَل في قلْبه وقلَمه لبنانَ الرائد، فكان هو ذاتُه رائدًا في حُب لبنان ووعْي رسالة لبنان.
بعدَ اليوم ليس مَن يدخُل حرَم لبنان الرسالة إِلّا بإِلقاء تحية الوفاء على منارةٍ بحجْم لبنانَ الفكر يُضيئُها رائدٌ متكِّئٍ على عصاه وثمانينِه وطموحِه اللبناني.
رائدٌ اسمه الـمُضيْء: سهيل بُشروئي.
_______________________________________
كلمة محمد علي فرحات
في ندوة "الحركة الثقافية" – انطلياس
"سهيل بشروئي منارة جبرانية"
الخميس 10 آذار (مارس) 2016
عندما اشتعلت حرب لبنان عام 1975 كان سهيل بشروئي يعلّم الأدب الإنكليزي في الجامعة الأميركية في بيروت وما لبث أن تولى رئاسة دائرة تدريس هذا الأدب حتى العام 1986. الحرب في وطن جبران خليل جبران لامست وجدان بشروئي الشاعر والناقد والباحث والمترجم والأكاديمي، هو الذي اعتبر لبنان تجسيداً لما ينبغي أن تكون عليه أوطان الشرقيين: الحرية وقبول الآخر وتعدُّد الأديان وحقوق الإنسان.
كانت الحرب تُهدد العينة أو النموذج، وتُذكّر بشروئي بتاريخ أسلافه الذين اضطُّهِدوا في إيران أواسط القرن التاسع عشر ودُفعوا إلى المنافي، من بغداد إلى اسطنبول إلى عكا حيث سُجن بهاء الله منشئ الديانة البهائية ثم دُفن قرب حيفا. وأسلاف بشروئي، ولنقل الجماعة الدينية التي ينتمي إليها، يعتبرون أنفسهم حاملي نهج الخروج من دائرة العنف التي ولّدتها عصبيات التاريخ الديني، نحو الإيمان المستعلي على وقائع التاريخ والقائم على الاعتراف بالآخر، أي ما يدعونه وحدة الأديان أو أن دين الله واحد.
لا بد من هذه الإشارة، من أجل معرفة أعمق بشخصية بشروئي الثقافية، على رغم انه لم يُشر إلى ذلك في أي علاقة اجتماعية أو أكاديمية أو ثقافية مع أشخاص أو مؤسسات، إذ كان يكفيه حضوره الثقافي وعطاؤه بلا حدود ولا شروط. وكان يردّد أمام أصدقائه دائماً هذا البيت من الشعر لعبيد بن الأبرص:
ساعدْ إذا نزلتَ بأرض ولا تقُل إنّي غريب
وهذا المقطع لمحيي الدين ابن عربي
لقد كنتُ قبل اليوم أُنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة
فمرعى لغزلان وديرٌ لرهبان
وبيتٌ لأوثان وكعبةُ طائف
وألواحُ توراة ومُصحف قرآنِ
أدين بدين الحبّ أنّى توجَّهَتْ
ركائبُهُ، فالحب ديني وإيماني
ومن العصر الحديث هذه الأبيات لأحمد شوقي:
الدين لله مَن شاء الإلهُ هدى
لكلّ نفسٍ هوىً في الدين داعيها
ما كان مختَلَفُ الأديان داعية
إلى اختلاف البرايا أو تعاديها
الكتبُ والرسل والأديان قاطبةً
خزائن الحكمة الكبرى لواعيها
محبةُ الله أصلٌ في مراشدها
وخشيةُ الله أسٌّ في مبانيها
وإذا كانت الصداقة تدفعني للكلام على بشروئي، فوفائي له كلبناني هو الدافع الأكبر، لأن هذا المثقف العالمي الكبير آثر الانتماء الى لبنان، منذ ولادته في الناصرة لأب، هو بديع بشروئي الذي تخرّج في الجامعة الأميركية في بيروت مطلع القرن الماضي وعمل في التعليم ثم في الإدارة المدنية للانتداب البريطاني. يقول عنه المؤرخ نقولا زيادة أنه كان قائم مقام جنين ويعود إليه الفضل في بناء مدارس كثيرة في فلسطين. وقد بث هذا الأب في أبنائه حب لبنان الذي جسّده سهيل لاحقاً في انتمائه الى هذا الوطن، وفي غير لفتة الى جبران عزّزت عالمية صاحب "النبي" وأوجدت لتراثه مركز دراسات في جامعة ميريلاند الأميركية، اكتسب ديمومته لاحقاً تحت اسم "كرسي جورج وليزا زاخم للدراسات الجبرانية". والتفت بشروئي للعرب الذين أحب الجانب المضيء من تراثهم، فكتب بالإنكليزية ونشر كتاباً عن التراث الأدبي العربي، وآخر في عنوان "تراث العرب" حظي باهتمام نُخب أميركية وأوروبية أعربت عن دهشتها من نسبة مادة الكتاب إلى أمة تبدو صورتها سلبية جداً مع صعود عصبيات مسلحة تهدّم بحماسة منجزات الدولة العربية الحديثة، آخذة في طريق الخراب أيضاً آثار الأمم القديمة: صُوَرتفجير تدمر لا تغيب عن خيال المثقفين الإنسانيين، والكتاب الثالث عن العرب صدر بالإنكليزية ايضاً قبل وفاة بشروئي بأسابيع في عنوان "1500 سنة من الأدب العربي".
عاش بشروئي طفولته في فلسطين وشبابه في مصر حيث تتلمذ في جامعة القاهرة على طه حسين، وتخرّج في أكسفورد، وعلّم قليلاً في الخرطوم، ثم في بيروت حوالى عشرين عاماً وجد خلالها تجسيداً لهويته المتعدّدة فانتمى إلى لبنان مرآةً لشخصه ومنارةً للعرب والعالم. وأمضى بشروئي باقي عمره في الولايات المتحدة أستاذاً وباحثاً في جامعة ميريلاند، وخلال ذلك مارس التعليم زائراً في جامعات أميركية وأوروبية وآسيوية وإفريقية، كما تواصل مع مراكز أبحاث وشخصيات قيادية في العالم، مثال ذلك صداقته للأمير تشارلز ولي العهد البريطاني الذي جمع بشروئي خطبه وقدّمها في كتاب نُقِل لاحقاً إلى العربية.
هل يستعيد العالم اليوم سيرته الدموية في أواسط القرن التاسع عشر الممتدة أوروبياً إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية؟ سؤال حَضَر في بال بشروئي، ربما منذ حرب لبنان في سبعينات القرن الماضي، وصولاً إلى الحروب الحالية المستندة الى أيديولوجيات مغلقة.
كتب بشروئي كثيراً عن السلام الإنساني الطالع من التجارب الخاسرة، وعن عناصر الوحدة الغالبة على عناصر الفرقة لدى الأفراد والجماعات والأمم. ولاحظ في إشاراته النقدية إلى وليم بليك وجيمس جويس، ودراساته عن وليم بتلر ييتس وصولاً إلى عزرا باوند وتوماس ستيرنز إليوت، شعوراً مشتركاً لدى هؤلاء بأنهم في عصر المأزق الإنساني، إذ تتقدّم على غيرها ملامحُ الإحباط والخيبة والحيرة بل الانحلال أحياناً، لأن الإنسان أكثر تعرضاً للقسوة والعنف والقمع، ما يؤدي إلى شعور بوجود خطيئة ما وأسباب للمذلّة واليأس. اما الأمل والإيمان والمحبة، يقول بشروئي، فإن هؤلاء الشعراء لم يحسّوا بوجودها إلاّ في القواميس.
ولأن الحياة أقوى من الموت والروح باقية بعد الجسد، يطفُرُ الأمل من قاع الآلام وينير الطريق لأجيال لاحقة. هكذا يخرج الإيمان من القاموس مالئاً الأرواح الحائرة باليقين.
إن عزيمة البناء لصيقة بالإنسان من حيث هو إنسان، فمن قال إن دمشق القديمة التي رأينا صورها حطاماً في أرشيف فتنة 1860 ستعود عامرة بأهلها وزائريها؟ لقد عادت لما يزيد عن مئة سنة، وها هي اليوم مجدداً في فم التنين.
الإنسانية في دورات عنف، والإنسانية أيضاً في دورات سلام، فما هي القوانين التي تحكم الأمرين؟ نجيب بأنها كامنة في الإنسان الذي عمل بشروئي، ويعمل المفكّرون الإنسانيون أمثاله، على تأصيله وفق العدالة والمحبة والحقوق الأساسية.
الكلام على بشروئي يستحق أكثر، لكنني أختم بنقطتين:
الأولى: ضرورة تأليف لجنة تُعنى بجمع آثار بشروئي المطبوعة والمخطوطة والموجودة في وسائل سمعية وبصرية. فقد أعياني في بيروت، عاصمة الكتاب العربي، الحصول على أعماله المطبوعة فيها، لذلك أقدّم الاقتراح.
النقطة الثانية هي رسالة مفترضة من بشروئي تعبّر عن رؤيته للإنسان في وجهي الدم والدمع، وردت في نص نشره في مجلة "الأديب" اللبنانية في كانون الثاني 1978. وهنا مقطع منه:
"يسيل الدم من كل جزء من الإنسان
بإحساس أو بدون إحساس.
يسيل الدمع من العين فقط
تدفعه أحاسيسُ عدة ومشاهدُ جمة.
الدماء تُلطّخ.
الدموع تغسل.
سفكُ الدماء جريمة.
ذرف الدموع عبادة.
الدم مياه اختُلطت فيها الأشياء.
الدموع ينبوع قدسيّ طُهّرت مياهه
واكتسب نقاوة لا يشوبها شائب.
بالدم يُشيّد الطغاة صروحاً
للاستعباد والطغيان.
بالدموع يقيم الرسلُ والأنبياء
معابدَ المحبة والسلام.
إذا تحولت الدموع إلى دماء
يولد الجسد،
لكن الروح لا يولد
إلاّ إذا تحوّلت الدماء الى دموع".
_______________________________________
سهيل بشروئي: منارة جبرانيّة.
د. طارق شدياق. (رئيس لجنة جبران الوطنيّة).
الحركة الثقافيّة أنطلياس. مهرجان الكتاب الخامس والثلاثين. 10 آذار 2016.
الحضور ...
أمّا كلمتي فستتناول العلاقة التي كانت تربطنا بسهيل بشروئي، والتي محورها جبران نفسه من ناحية، وأهداف أخرى تلاقت لتكتمل أهمّها، نشر فكر مبدعنا العالمي في لبنان وفي البلاد العربيّة وفي العالم. تدركون إذاً، ولا شك، أنّ المسيرة الإنسانيّة الواحدة المتّجهة حكماً الى النور والإخاء البشري والسلام العالمي، هو ثالوث خطّه جبران ونسير عليه منذ أكثر من إثنتين وثمانين سنة، ومشى أيضاً عليه البشروئي بخطى ثابتة واثقة. إنّ هذا الثالوث هو ما جمعنا والراحل الكبير وما زال الى الآن، وحتى بعد رحيله. سأتناول إذاً تاريخ هذه العلاقة بإيجاز. وسأؤكّد ما هو معلوم منها، وقد أكشف ما هو مخفي. همّي من كلّ هذا أن أضيء على بعض مزايا الراحل الكبير، متوقّفاً عند بعض مراحل هذه العلاقة أو بعض محطّاتها، مؤكّداً أن ميزّات قمم الفكر في العالم كانت مكتملة عنده كما سيأتي لاحقاً.
علاقتنا بالأديب والمفكّر سهيل بشروئي تعود الى حوالي الربع قرن. وقد كان، منذ ذلك الوقت، قد احتلّ مكانة المرجع الكبير في الدراسات الجبرانيّة. قبل ذلك، كنت أغرق في ما سمّي بــِ "الحمّى الجبرانيّة"، وهو تعبير ابتكره بشروئي نفسه، للدلالة على فورة الكتب والأبحاث والدراسات التي تظهر كما الفطر عن جبران. كنت إذاً انتقل من مرجع الى آخر، لأستزيد معرفة بجبران وبفكره وباهتماماته المختلفة من ناحية، ومعرفةً أيضاً بأدب المهجر فأقارن ما بين الأدباء أنفسهم وأدخل من هذا الباب الى أتون الثقافة العامّة المتصدّية، هكذا في المفهوم الثقافي العام، لكل ما يقف حاجزاً أمام الرقيّ الإنساني. وكان اسم سهيل بشروئي يتصدّر أعلام المراجع القيّمة عن جبران تحديداً. أقول المراجع القيّمة لأنّه، بالرغم من هذه الطفرة، من هذا العديد من الكتب المتعلّقة بجبران، كان القيّم منها قليل وما زال. وكان مجرّد ذكر اسم البشروئي في ثبت المراجع لكتاب ما، كفيل وحده بإضفاء صفة القيمة على هذا الكتاب. وهذه هي الميزة الأولى للرجل في عجالتي هذه.
وإذ ندرت المراجع القيّمة التي كنت أبحث عنها رحت أتابع كلّ أعمال سهيل البشروئي في ذلك الوقت. ووقع بين يديّ كتابان أخضران مختصّان بجبران تصدّرهما إسمه. واحد يتضمّن مختارات من أدب جبران في العربيّة والإنكليزيّة، صدر في العام 1970 في مهرجان جبران العالمي، عن دار المشرق، وآخر يتضمّن أبحاث المؤتمر الأوّل للدراسات الجبرانيّة والذي أقيم في الجامعة الأميريكيّة في بيروت، والذي صدر عن مكتبة لبنان في العام 1981. لم يأتِ الكتابان بجديد في ما خصّ المعرفة الجبرانيّة، ولكن كان أهمّ ما فيهما ذاك الثبت من المراجع الهائلة عن جبران: كتبه، رسائله، الكتب الصادرة عنه، والكتب التي تناولته بالبحث، المقالات المتعدّدة في الصحف والمجلاّت اللبنانيّة والعربيّة والعالميّة. لقد فاقت هذه المراجع عدد الخمسمئة مرجع ثابت أصيل. اليوم، فَقد الكتابان من المكتبات، ولكنّهما كانا إشارة دامغة على عمل البشروئي الدؤوب، المتواصل فيما خصّ جبران. لقد شكّلا دلالة على عشقه لصاحب النبيّ وعلى التماهي معه على الأقلّ في كونهما معاً لم يكونا ليضيّعان وقتاً فيما أرادا الوصول إليه، وهو في النهاية، السلام العالميّ المفقود حتى هذه اللحظة. عمل دؤوبٌ إذاً، متواصل لا يعرف الكلل أو الملل، ميزة من ميّزات قمم الفكر، من ميّزات سهيل. ورحت بعد ذلك أمنّي النفس بمقابلته لا لأستفيد منه معرفة فيما يَعرف بل لأسأله لماذا جبران من بين كلّ أدباء العالم قاطبةً وهو المتخصّص بالأدب العالمي من جامعات بريطانيا؟
في العام 1998، وكنت قد انتخبت عضواً في لجنة جبران الوطنيّة من قبل سنة، وعُرفت من بين زملائي في اللجنة بنشاطي الثقافي العام والجبراني تحديداً بحيث كنت مسؤولاً عن قرارات اللجنة الثقافيّة، تلقّيت اتّصالاً من رئيس اللجنة للحضور الى مكاتبها في بيروت، فالأمر هام على ما ذكر وإنّ قراراً لا بدّ سيتّخذ، إذ سنجتمع معاً مع سهيل بشروئي القادم خصّيصاً ليقابلنا من الولايات المتّحدة الأميريكيّة. ورأيته للمرّة الأولى. كان سؤاله الأوّل لنا عن حال الإرث الجبراني، الأدبي والفنّي، الذي نملك. وبدا أنّه شعر بالراحة إذ علم أن صيانتنا لهذا الإرث دائمة مستمرّة لا تتوقف، كما هي الحال اليوم، راح يحدّثنا عن أعماله ومشاريعه الجبرانيّة العديدة. وطال اجتماعنا، وسمعته يتكلّم بهدوء العالم، وبعذوبة المتمكّن من الألفاظ والمفردات، وببصيرة العارف بما يريد. حدّثنا إذاً، عن أعماله الجبرانيّة فإذا به يعمل على ثلاثة كتب دفعة واحدة: دراسة نقديّة عن كتاب النبي لجبران، وآخر عن حياة جبران مفصّلة وموثّقة، وثالث عن الأدباء اللبنانيّين الثلاثة الذين أبدعوا في اللغة الإنكليزيّة، الريحاني وجبران ونعيمة. وقد صدر على ما أعتقد الكتابان الأوّلان، أمّا الثالث فلم يصدر مع اعتقادنا الراسخ بأنّه كان قد انتهى منه مخطوطاً على الأقلّ. بعد ذلك، نظر البشروئي إلينا وأسرّ لنا بأنّه بصدد تأسيس كرسي جبران في جامعة ماريلاند في ولاية ماريلاند الأميريكيّة. وراح يحدّثنا عن أهدافها التي تتلخّص في الدعوة الى السلام العالمي عبر جبران وما دعا إليه. وسألنا أن نشارك بتأسيسها. فنحن، والكلام له، ورثة جبران، نملك ضعفَيّ ما يملكه العالم من إرث هذا المفكّر الكبير. والحال، لا يجوز إلاّ أن نكون معاً لنحمل هذا المشروع الضخم. وسكت ليسمع جوابنا. أهمّ ما كان في الرجل هدوئه الفكري، رصانته وثقته بنفسه. كنّا نراه للمرّة الأولى، ولكنّها كانت كافية لكي نعرف أن هدوء أهل القمم، ميزة يتحلّى بها هي الأخرى. والهامّ أيضاً كان حبّه الكبير للبنان، لقد فاق حبّه لهذا البلد الصغير حبّ أولائك الذين صوّروه جبلاً وساحلاً واخضراراً وهواءً وفصولاً وقمم بيضاء. لقد طبّق بالفعل مقولة جبران "إن لم يكن لبنان وطني لاتّخذت لبنان وطني". لقد كان حقّاً مثيراً للإعجاب. لذلك عندما نظر إلينا يريد جواباً لسؤاله، قابلناه بابتسامات الرضى والقبول إذ كان القرار، في سريرتنا، قد اتُّخذ.
وجرى افتتاح كرسي جبران في جامعة ماريلاند في العام 1999، بحضور اللجنة ومشاركتها في المؤتمر العالمي الأوّل للدراسات الجبرانيّة، حيث كان السلام العالمي عنوانها. وبقينا على علاقة مع سهيل بشروئي ومحورها كما دائماً كان جبران. وراح هو يوسّع من اتّصالاته في كلّ الإتجاهات من بلاد الأرض ليجمع حول كرسي جبران أكبر عدد من دارسي جبران وباحثي شؤونه وشجونه. وكان يطلعنا على كلّ كتاب جديد عن جبران، أو تقريباً على كلّ كتاب جديد، يصدر في العالم ولا يبخل علينا برأيه فيه.
في منتصف العام 2010، انتخبت رئيساً للجنة جبران الوطنيّة. وكان أوّل ما كنت أريد تحقيقه هو إقامة معرضٍ لرسومات جبران في سيدني في أوستراليا معتمداً، أو الأصحّ، متّكلاً على الجالية اللبنانيّة الكبيرة هناك. وأقمته في بداية العام 2011 وحقّق نجاحاً عالميّاً كبيراً. وكان أوّل اتّصال بشأنه تلقّيته من سهيل بشروئي نفسه. لقد تابعه بحرص الأمين على جبران. وأطلعني على الأصداء الإيجابيّة عنه في ماريلاند، وعلى ما ذكرته المجلاّت الأميريكيّة عنه. كان يخاف على جبران ويخاف علينا ولذلك تابعنا عن كثب. ثمّ أسرّ لي عن مشروع جبراني يعدّه على أن يطلعني عليه في القريب العاجل.وراح كلّ منّا يتابع عمله في الشأن الجبراني حتى أتى ذلك "القريب العاجل"، وإذا بالرجل قد أعدّ العدّة للمؤتمر العالمي الثاني للدراسات الجبرانيّة في أيّار العام 2012، والذي سيكون بعنوان: قراءة جبران في زمن العولمة والصراعات. وبدا أنّ أهمّ ما في المؤتمر هو الإعلان عن قيام الجمعيّة العالميّة للدراسات الجبرانيّة، والتي أرسل لنا نظامها الأساسي والداخلي للموافقة عليه. وبدا أيضاً أن تشكيل مجلس إدارة هذه الجمعيّة سيتمّ انتخاباً من قبل خمس وثلاثين دولة في العالم، وذلك في آخر يوم من المؤتمر. من وقتها كادت الاتصالات فيما بيننا أن تكون يوميّة، أو ليليّة على الأصح. وكان يشدّد فيها على حضورنا إذ في غيابنا، هكذا كان يقول، لن يكتمل المؤتمر. وكان في كلّ اتّصال يجدّد أهميّة دور اللجنة في كلّ مكان يكون فيه جبران. وكنت بدوري أؤكّد له عن دعمنا المطلق لكلّ ما يطلبه المؤتمر، أمّا مسألة حضورنا فأمر لم يتّخذ به القرار بعد، ولكنّي سأعمل جاهداً لأن أكون هناك. في آخر اتّصال معي أعلمنّي أنّه يشعر بأنني أتوجّس من أمر ما في مسألة المؤتمر والجمعية المفترضة، ومن دون أن يسألني أكثر قال لي: تعال وسأبدّد لك كلّ هاجس.
وكان المؤتمر في بداية شهر أيّار من العام 2012، وكنّا هناك مع خمس وثلاثين دولة يجمعنا جبران ذلك القادم من أصغر دولة من بينها. وكان الفرح والزهو يجمعنا نحن والبشروئي. وكان أهمّ ما في المؤتمر بالنسبة لنا هو حضور رئيس كرسي جبران في كلّ المداخلات والدراسات القيّمة التي قدّمت خلال المؤتمر، وحضوره أيضاً ما بعد المؤتمر في اللقاءات الجانبيّة الليلية معه. وسألني وكنّا نسير معاً في حديقة الجامعة في تلك الليلة، ما كان ذلك الشيء الذي أقلقك قبل مجيئك؟ ورددت بالصراحة التي يحبّها. قلت له: أنت تعلم أن لجنة جبران هي وريثة إرثه حقوقيّاً على الأقلّ، وأنت تردّد الحقّ في أنّنا نملك وحدنا ثلثي الإرث الجبراني في العالم. وتعلم أنّنا نضع كل هذا الإرث في تصرّف الباحثين ودارسي جبران في أيّ وقت يطلبون منّا ذلك. فكيف تريدني وأنا المؤتمن عليها أن أضعها في بازار انتخابات مجلس إدارة الجمعية الناشئة. أليس من الأفضل أن نبقى خارجها وأن نتعهّد بدعم الجمعية الكامل بكل ما نملك، بدلاً من نكون داخلها عرضةً لتجاذبات وأهواء لا نقبلها لأنفسنا؟ وابتسم قائلاً لو عرفت مخاوفك تلك لأرحتك منذ اللحظة الأولى. اللجنة لن تدخل مسألة الانتخابات أبداً. اللجنة ستكون العضو الوحيد الدائم في الجمعيّة، وكلّ ما عداها سيتمّ انتخابه. وسنعلن عن ذلك صراحةً وسندخل هذا الأمر في نظام الجمعيّة الداخلي. وأدركت أنّ ميزة بعذ من ميّزات أهل القمم يقبض عليها الرجل وهي ميزة التواضع.
وانتهى المؤتمر كما رسمه البشروئي. وبقينا على اتّصال كان آخرها رغبته بتقديم جائزة الكرسي لي لسنة ال 2015. كان ذلك قبل وفاته بستّة أشهر تقريباً.
رحل البشروئي كما رحل جبران. وكما بقي جبران خالداً حتى اليوم سيبقى هو في قلوب محبّيه الكثر وفي أفكارهم. أنهي كلمتي عند هذا الحدّ علّني قدّمت للراحل وفاءً من القلب.
وشكراً.
_______________________________________
كلمة السيدة ماري بشروئي
إلى احتفال تكريم زوجها الراحل سهيل بشروئي في الحركة الثقافية - انطلياس
الأَصدقاء المجتمعون اليوم في الحركة الثقافية - أنطلياس
أود أن أعبّر لكم عن عميق تقديري لجهودكم وبادرتكم بتكريم ذكرى زوجي الغالي سهيل، وما أنجزَه من إسهامات، خُصوصًا في سيرة وأعمال جبران خليل جبران. فجبران في كتاباته الرائعة نشَر قِــيَم الحب والوحدة والحرية والعدالة. وكان زوجي يؤْمن بأن إحقاق السلام في العالم يكون بدوام إحياء إرث جبران، وبنشر مؤلفاته ورسالته الكونية في لغات العالم.
كان زوجي يحب لبنان بثقةٍ وعمق، وقد أمضينا فيه معًا سنواتٍ سعيدةً محاطَين بدفء الأصدقاء وبجمال لبنان.
تمنيتُ لو كنتُ معكم اليوم في هذا الاحتفال، كي أُعبِّر لكم شخصيًا عن تقديري وامتناني، وكي أُصغي إلى ما سيقوله السادة الخطباء عن الغالي سهيل.
وإذ يؤسفني ألَّا أكون تمكّنتُ من السفر إلى لبنان، أرجو أن تقبلوا مني محبّتي الصادقة وتقديري العميق لتكريمكم سهيل بهذا الاحتفال اللائق، ومن خلاله تكريم ما فعله من أَجل لبنان.
ماري بشروئي
_______________________________________