تكريم أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي
تكريم الأباتي أنطوان ضو
الأباتي أنطوان ضو كما عرفته
قراءة في جوانب من شخصه وفكره
ساسين عساف
التكريم الذي أرادت الحركة الثقافية في إنطلياس أن تخصّ به الأباتي أنطوان ضو عبارة عن شهادة ذات قيمة عالية تتعلق بالدور الرئيس لشخصه في بلورة نهج ثقافي فكري إيماني وعملي قائم على ترجمة النصّ الإنجيلي إلى واقع حيّ.
أمّا أن يختارني الأباتي للحديث عنه أمام هذه الوجوه الكريمة فثقة منه بي وافية تحرّضني على التزام الموضوعية في الكلام..أرجو أن أكون في مستوى هذه الثقة الغالية والثابتة في الضمير والعقل والوجدان.
إسمحوا لي ألاّ أتوقّف عند سيرته الذاتية الثرية بالعطاءات جهداً وبناء وتأليفاً وتكريساً لخدمة ربّه وأخيه بروح المحبة الإنجيلية. فسيرته مدوّنة في كتيّب الأعلام المكرّمين.
الأباتي ضو مختصر عندي بعنوان واحد: عقلانية متوجّهة صوب الآخر للحوار معه بمحبة وانفتاح وتفهم وقبول.
قصد الناس محاوراً لبقاً صريحاً وشجاعاً. وحكمه في ذلك حاجة الناس إلى معرفة بعضهم البعض ومحبة بعضهم البعض.
المعرفة والمحبة هما الطريق إلى الآخر، وهما دليل عافية الأباتي وقوته ورغبته في تجديد ميثاقية الحياة معاً.
النص الإنجيلي في محبة الانسان لأخيه رتّب عليه مسؤولية تاريخية غير قابلة عنده للمراجعة أو التقصير. إنّها مسؤولية التواصل والإنفتاح في الذهن وفي الحركة. هذه المسؤولية هي امتياز خاص نهض بأعبائها الأباتي ضو بصدق وتواضع، وشاءها واحدة من علامات الأزمنة.. هيبته مستمدة من قدرته على التواصل.
المنفتح والمتواضع يأبى التجمّد في الفكر وفي الحركة. وهو إن تحرّك في اتجاه الآخر بحثاً عن وفاق أو تثبيتاً لوحدة أو تصحيحاً لموقف فذلك من موجبات تلك المسؤولية.. بهذا المعنى النص الإنجيلي مرشد له وموجّه إيماني وأخلاقي ووطني ورسولي وإنساني.حمل صليبه واتّبع كلام ربّه.. إنه وفيّ لصليبه، لذاته الكهنوتية لحيويّة مرجعيتها، فالهويه وفاء للذات لا تحول عنها أو دخول في هويات مصطنعة. والهوية ليست انغلاقاً أو انطواء على الذات بل هي انفتاح وتواصل وفاعلية. تواصل الإنسان مع ذاته ومع الآخر يبقى العنصر المركزي في هويته. الآخر هو العنصر المؤسس للأنا كما يقول بول ريكور في كلامه على أنطولوجيا الانفتاح.
علاقته بالآخر كما عاينت وخبرت وقرأت ليست علاقة تخارجية بل انخراطية. ليست سطحية أو جامدة أو مظهرية أو تسالمية إملاقية بل عمقية ومتحرّكه وجوهرية واشتباكية وصادقة. هذا النوع من العلاقات يرسي هوية جامعة ومنفتحه ومجدية. بها يتم تعريف المواطنة ومجتمع المواطنين المتعدد الثقافات وفلسفة الحياة معاً. هنا الميثاقية التفاعلية الإبداعية التي تعلمناها من كبيرنا منح الصلح رحمات الله عليه تتجلى بأبهى مظاهرها وتداعياتها على مفهوم لبنان الوطن فتجعل منه مساحه حوار وانفتاح.
أنا شاهد حيّ على حضوره المميّز والفعّال، وكلمته المسموعة الراقية الناضحة بالمحبة والصدق، في المؤتمرات والمجالس والندوات والمنتديات واللقاءات الجامعة.. يبني حضوره وكلامه على ما هو مشترك من دون التخلّي عن الثوب والعباية.. الثوب رمز الوفاء لكهنوته والعباية رمز الاتساع للآخر واحتضانه.
لا طموحات خاصة لديه.. لا يعنيه أن يكون رجلاً مهماً بل نافعاً.. فكأنّي به ولسان حاله يقول:
حولت إيماني الإنجيلي إلى خدمة ومحبة وحوار.. فعلاً إنّه مؤسسة حوار في ذاته..
عرفت فيه الأباتي المسيحي، اللبناني، العربي، المسلم بالحوار والمحبة والفهم الديني والسياسي والتاريخي والحضاري.إنّه هذه الهويات المجتمعة بتكاملية تنقض أيّ تعارض أو تناقص أو تقاطع ماسخ لواحدة منها.
أوّلاً: الأباتي المسيحي، مسيحيته مختصرة في أربعة عناوين
"... تقديراً لحياته الكهنوتية الزاخرة بعيش الفضائل وتجسيدها، وللدور الثقافي والروحي الذي اضطلع به في مجالات متعددة كالحوار المسيحي الاسلامي والتعليم الجامعي والتأليف التاريخي..."
بناء على هذا الكلام منحه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي رتبة الأباتية.. وعلى كلام المسيحي الأوّل لا مزيد..
· مسيحيّته مسيحية التَّجديد الدِّيني والفكري، من مقولاتها ما يسمّيه"لاهوت اللحظة." يقول في رسالة إلى البطريرك لحام بمناسبة عيد الفصح:
"هذا هو لاهوت اللحظة. لاهوت المقاومة. لاهوت الحرّية والتحرير. لاهوت الشهداء والأبرياء من الأطفال والنساء والرجال والشيوخ، لاهوت المهجّرين الذين فقدوا منازلهم، وأصيبت ممتلكاتهم، وتركوا أرضهم الى الداخل والخارج."
· مسيحيته مسيحية النهوض والرجاء ففي زمن ما عرف ب "الربيع العربي" المنقلب لصالح حركات الإسلام السياسي بشقيه الجهادي والتكفيري يدعو المسيحيين الى " ترسيخ الرجاء في قلوبهم، وتعزيز مشاعر الأمل بالمستقبل بالرغم من كلّ النكبات التي حلّت بهم في العراق وسوريا، وإلى عدم الخوف من أي نهضة إسلامية حقيقية بعيدة عن الغلو والتكفير".
المسيحيون، وفق ما جاء في رسالته إلى البطريرك لحام، يحملون صليب الرجاء على أرض مصر وفلسطين والعراق ولبنان وسوريا.
· مسيحيته مسيحية الإنتماء إلى الدائرة الحضارية الإسلامية العربية
في رسالته إلى البطريرك لحام بمناسبة عيد الفصح يحدّد هويّة الكنيسة وانتماءها بقوله:
" الكنيسة هي كنيسة المسيحيين والمسلمين معاً. الكنيسة المسيحية الإسلامية حاملة الصليب، كنيسة القيامة والمحبّة والسلام والقيم والأخلاق والصبر والحكمة في هذا العالم العربي".
إنّها كنيسة العرب التي تحدثت عنها في كتاب لي بعنوان مشروع النهوض العربي تحت فصل بعنوان: المسيحيون العرب في مواجهة الحرب على العروبة والإسلام، والتي وضع فيها الراحل الكبير البطريرك هزيم كتاباً بعنوان: كنيسة العرب..
التجدّد الحضاري في هذه الدائرة لن يحصل من دون المشاركة المسيحية ـ الإسلامية، ومن دون وضع رؤية مسيحية ـ إسلامية مشتركة للحاضر والمستقبل.
أمّا المسيحيون فهويتهم هوية كنيستهم، إنّهم جزء لا يتجزأ من هذا العالم العربي. ولهم دور رئيس في الدفاع عن الاسلام في مرحلة قيل بانها مرحلة صراع الحضارات..هنالك هجمة علىالاسلام وعلى المسلمين نحن علينا أن نتصدى لها من منظور مسيحي أوّلاً، لأنالمسيحية لاتريد الصراع، ومن منظور حضاري أيضاً لأننا من هذه الدائرةالحضارية الإسلامية- العربية... خيارنا هو موضوع حضاري أكثرمما هو موضوع سياسي نحن ننتمي إلى هذه الدائرة الحضارية الإسلامية العربية.. وعلى المسيحيين أن يحرّروا العروبة من مشاكلها..(من حديث له على هامش انعقاد المؤتمر القومي العربي في صنعاء)
· مسيحيته مسيحية المواجهةللخطر الصهيوني العنصري والرافضة لإسرائيل الدولة اليهودية، لأنها قائمة على الاحتلال والعنصرية. (من ندوة بعنوان: مسيحيو المشرق..تاريخ وآفاق)
ثانياً: الأباتي اللبناني، لبنانيته مختصرة في ثلاثة عناوين:
· المواطن المدني
في كلامه على الأب سليم غزال في ندوة خاصة نقرأ تطابقاً بين الرجلين لجهة الإيمان بالمواطنة والعمل بالروح المدنية والانصراف كلّياً إلى بناء ثقافة المحبّة بلا حدود، من أجل تحقيق الأخوّة والمواطنة في لبنان الواحد.
الأوطان لا تبنى بالإلغاء بل بحماية التنوّع، والفشل في حماية التنوع يقدّم أكبر خدمة لأعدائنا.
· الحواري المحبّ
وفي كلامه على السيّد المرجع العلاّمة محمد حسين فضالله نقرأ تطابقاً بين الرجلين لجهة النظرة إلى الحوار والمحبّة، فالحوار يرفع "القضيّة الوطنيّة إلى أعلى مستوى» «إذا استطاع المسلمون في لبنان أن يكونوا مسلمين من خلال ما هو معنى الإسلام وعمقه، وإذا استطاع المسيحيّون أن يكونوا مسيحيّين في ما هو معنى المسيحيّة وعمقها، فإنهم يعطون السّياسة معنى في الرّوح وعمقاً في الإنسانيّة." (السيّد محمّد حسين فضالله)
كذلك المحبّة هي التي تبدع وتؤصّل وتنتج. "تعالوا إلى المحبّة بعيداً من الشخصانيّة والمناطقيّة والحزبيّة والطائفيّة. تعالوا كي نلتقي على الله بدلاً من أن نختلف باسم الله." (السيّد فضالله)
· الأباتي المقاوم،
- الموقف من حزب الله
سئل في صنعاء عمّا إذا كان حزب الله إرهابياً فأجاب بما مفاده مختصراً:
حزب الله ليس منظمة إرهابية.. حزب لبناني دافع عن ارض لبنان،ثمّة وحدة لبنانية كاملة في دعمه ضد إسرائيل.. ماقام به حزب الله قامبه باسم كل اللبنانيين.. قوّته من قوّة إخوانه في الوطن كله.. من يدافع عن أرضه وعننفسه ليس ارهابياً..
- المقاومة حق وواجب
سئل عمّا يقاوم العرب فأجاب:
نحن العرب نقاوم العنصرية والاستيطان والاستعمار، ونقاوم القتل والارهاب.. هذاالذي نقاومه.. لذلك مايقوم به حزب الله وماقام به لبنان، ومايقوم به العربهو حق وواجب ديني وإنساني ووطني وعربي وعالمي.
ثالثاً: الأباتي العربي،عروبته مختصرة في أربعة عناوين
· المسيحيون قلب العروبة:
ليس المسيحيون قلعة محصّنة مستقلة في هذا العالم العربي، بل إنهم قلب العروبة، وجزء لا يتجزّأ من نسيج الأمة العربية الواحدة.. (من محاضرة له بعنوان: "مسيحيو المشرق.. تاريخ وآفاق")
· مسيحي عربي، في خطّ الدفاع الأوّل عن فلسطين القضية:
لدى الأباتي ضو إيمان مطلق بأن قضيّة فلسطين هي قضية وطنية وقومية وإنسانية ثابتة في مركزية الفكر والفعل.. كلّ المتغيّرات الدولية والإقليمية لن تستطيع تغيير القناعة الراسخة بأن فلسطين هي قضية كل أحرار العرب والعالم، وهي للمسلمين والمسيحيين معاً.
لا إنسانية الدولة اليهودية لا بدّ لنا من مواجهتها في رأيه بشتى الوسائل، ومنها المقاومة بكلّ أشكالها، وبتضامن المسلمين والمسيحيين لإسقاط هذا المشروع العنصري الاستيطاني.(من محاضرة له في ضبيه بعنوان: "مسيحيو المشرق.. تاريخ وآفاق")
أمّا الحلّ السلمي مع الصهاينة فهو مرفوض. ما يريده الصهاينة هو طرد الفلسطينيين.. "ولا يريدون أن يعترفوا بدولة ولا بدويلة ولاحتى بحكم ذاتي، ولا بحكم بلدي، لانهم يخافون الديمغرافية.." ثمّ يضيف:"المشروع الصهيونيلا يمكن أن يعيش على هذه الأرض العربية.. وهذه الأرض لا يمكنها أن تهضممشروعاً من هذا النوع.. ولا يمكنها أن تنبت شجرة تمييز عنصري (من حديث صنعاء)
معركة الأباتي ضو ليست مع اليهودية كدين.. إنّها مع هذا المشروع الصهيونيالاستعماري والاستيطاني والعنصري التهويدي..
· في الموقف من حصار غزّة
حلّ ضيفاً على منتدى البلاد، الجزائر، وكان له حديث جاء فيه:
إدانة واضحة لقرار نظام مبارك ببناء جدار على الحدود مع غزّة: ''هذا لا يجوز إطلاقا ولا نقبل به وندعو مصر مراجعة ما تقوم به''....''أوروبا تزيل الحدود بين بلدانها وشعوبها في الوقت الذي نحن نضع غزةفي حصار داخل حصار؟''... " كان من الأحرى على العرب أن ينتفضوا ويقيموا حصاراً اقتصادياً على اليهود وحلفائهم لا على إخوانهم في غزة."...'إن الحصار على غزةلايزال مستمراً وإنّ إعمار غزةلايزال مجرد وعود بسبب ثقافة النسيان التي أصابت العقل العربي.."
· في الموقف من الحرب على العراق
من حديث له على هامش انعقاد المؤتمر القومي العربي في صنعاء نتبيّن فهمه للقضية العراقية:
- العراق هو قوة علمية هائلة منافسة لإسرائيل
- اسرائيل تخاف منعلماء العراق (علماء العراق هم القضية في كلمة ألقيتها في لقاء دعم العراق ونصرته)
- احتلال العراق مسألة عدوانية خطيرة على الأمة العربية بكاملها، رأى فيهمحاولة لتفتيت العراق وتجزئته ممّا ستكون له انعكاسات هائلة على المجتمعات العربية..
هذا الفهم للقضية العراقية يلقى ترجمته اليوم.. وصحّ كلام كثير قلناه وقاله سوانا في أنّ مستقبل المنطقة يصنع في العراق منذ احتلاله.
رابعاً: الأباتي المسلم بالحوار والمحبة، إسلامه مختصر في أربعة عناوين
· إسلامه إسلام وحدة الأصل الإيماني والتعليمي
“إنّ أصل المسيحيين والمسلمين واحد، فالاسلام يدعو إلى الإيمان بجميع الرسل”.
يقول في حديث له في جريدة السفير تعليقاً على زيارة "اللقاء السلفي" لديره في عجلتون: «نحن نعيش الإسلام، والمسلمون يعيشون المسيحية في بيئة مشتركة، فكلنا أهل كتاب، وكلنا عيال الله، ولا يجوز أن نفرق بين بعضنا."
في كلّ ما كتب وقال وعلّم يبدو شديد الحرص على هذه الوحدة، " وحدة المسيحيين والمسلمين التي تحققت في الشرق بجهاد الأباء والاجداد وصلواتهم. نريد أن نحافظ عليها ونطورها لنظل علامة الوحدة في العالم."
· إسلامه إسلام المحبّة والرحمة والتسامح
غاص الأباتي ضو في النصوص الإسلامية والمسيحية التي تعلّم المحبة والرحمة..
في كلمة له في غياب المرجع العلاّمة السيّد محمد حسين فضل الله أرى تماثلاً بين الرجلين فكأني به يفصح عن حقيقة ذاته: سيّد المحبّة المسيحيّة الإسلاميّة
" الإسلام هو دين التسامح، وهو لا يعترف بالعنف والقتل والخطف، ونحن كمسيحيين جزء أساس من الحضارة الإسلامية، والمسيحيون والمسلمون اليوم في خندق واحد في مواجهة الارهاب الذي يضرب سماحة الأديان.." (من حوار مع السفير بشأن صعوده إلى جرود عرسال)
وفي ندوة حوارية حول كتاب "العقل التكفيري: قراءة في المنهج الإقصائي" لسماحة العلّامة الشّيخ حسين الخشن دعا إلى التحرر من كل فكر إقصائي ونبّه إلى خطورة الحركات التّكفيرية التي تشوّه الإسلام.
· إسلامه إسلام القيم والحريات الدينية والتفاعل مع الآخر
كرّس الأباتي ضو حياته وفكره للدّفاع عن حرية الفكر والحوار مع الآخر واحترامه وقبوله والتّفاعل معه.
في ضيافة منتدى البلاد (الجزائر)مشاركاً فيفعاليات فرع مؤسسة القدسالعالميةنشر له حديث في البلاد أون لاينيوم 20 - 12 - 2009 استنكر فيه التصويت على منع بناء المآذن في سويسرا، ووصف القرار بأنه عنصري ينافي قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما اعتبره تعدياً صارخاً على الحريات الدينية، وندّد بالغرب الذي لا يريد من المسلمين إلا الاندماج ولو كان ذلك على حساب خصوصياتهم الثقافية والدينية والحضارية، وأدانجرائم الإدارة الأميركية في العراق وفلسطينالتي لا تؤهلها لإصدار قيمها للآخرين.
· إسلامه إسلام الإجتهاد والتأويل وتجديد الخطاب الديني
على مثال فهمه للاهوت اللحظة يأتي فهمه لفقه اللحظة الذي هو، وفق تعبيره، الطريق الحضاري لتجديد العالم الإسلامي، واسترجاع وحدة المسلمين، والمشاركة في الإبداع..
هذا الإسلام المجتهد والمجدّد لا ينقطع عن تاريخه وسلفه الصالح وتراثه الأصيل بل ينهل منه ومن الكتب المنزّلة " بالاجتهاد والتفسير العلمي والتأويل من أجل أن يصنع التاريخ". (من مقال له في شهر رمضان)
فقه اللحظة هو فقه المستجدات لمواجهة التحديات الطارئة على اختلافها، ولتوسيع المساحات المشتركة بين الأديان. إنّه فقه الإنفتاح في العقل والإيمان والعلم والحوار والتسامح ومكارم الأخلاق في سبيل مجتمعٍ إسلاميّ نهضويّ منفتح وعقلاني يرفض التطرّف والغلوّ والتزمّت والتديّن الشّكليّ والتكفير. ما نعانيه من مشاكل، يقول، ليس له علاقة بالدين إنّه من صىع التخلف والجهل…
خامساً:الأباتي المحاور (أعتقد أنّ هذا التوصيف هو الأقرب إلى عقله وقلبه)
رفع الحوار إلى مستوى الرّسالة كما يقول هو نفسه في المرجع العلامة محمد حسين فضالله.
الراعي الصالح حاول الصعود الى جرد عرسال لمعايدة العسكريين المخطوفين في عيد الميلاد وراس السنة والمولد النبوي ولإجراء حوار مع الخاطفين تحت عنوان محاورة جميع الناس لإحلال روح المحبة والسلام بين الجميع. تلك هي رسالته: حوار ومحبة وسلام بين الجميع.
قرأت له مقالاً بعنوان:ثقافة حوار الحضارات ففهمت أنّه يقيم للحوار ثقافة خاصة لا بل أكثر من ثقافة: إنه لاهوت جديد وجزء مهم من علم اللاهوت عند المسيحيين.. إنّه علم كلام جديد وجزء مهم من علم الكلام عند المسلمين.
لقد ارتقى الأباتي ضو بالحوار إلى مستوى الروحانيات التي منها كرامة الإنسان وحقوقه وحرّياته وسلامه، وعدّه جوهر الحضارة والثقافة والدين ومصدر الإبداع والتجدّد والتغيير.. إنّه باختصار الأساس لبناء ما يسمّيه "حضارة المحبّة"، حضارة الحياة.. "إنّ الحياة لا تتحمّل الحقد، فالحقد موت والمحبّة حياة".هذا هو فصل الخطاب لدى الأباتي أنطوان ضو.
________________________________
كلمة االأباتي أنطوان ضوّ في الحركة الثقافية – أنطلياس بمناسبة تكريمه بين
أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي، الأربعاء 16 آذار سنة 2016
أشكرُ الحركة الثقافية- انطلياس، التي أنا منها، وخادمها بمحبّة، ورسولها بأمانة التي اختارتني أن أكون أحد المكرمين من أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي. باعتبار هذا التكريم، هو تكريم للرهبنة الأنطونية المارونية، أمِّنا جميعًا، المكرسةِ لخدمةِ ثقافةِ حوار المحبّة المسيحي الإسلامي الوطني العربي المشرقِي والمسكوني.
نحنُ نعتبر دير مار الياس-انطلياس عامّيةً دائمة ومتجدّدة، ومنارةَ حوار ومحبّة. والحركة الثقافية فيه، هي حركةُ ثقافة الحوار الديمقراطي بامتياز في لبنان والعالم العربي، كما هي جزءٌ من ثقافة العولمةِ ورائدةُ الحوار فيها.
وتؤمنُ الحركة الثقافية بأن الثقافة هي الطريقُ الرحب إلى التغيير السلمي. وإنه لا تغيير إلا بثقافة التغيير العقلاني الديمقراطي، من خلال احترام القيم الإنسانية والحضارية والثقافية والعلمية والمسيحية والإسلامية، والعمل من أجل وقف العنف المميت في شرقنا، وتحقيق التنمية الإنسانية الشاملة.
1.الحوار هو الاسم الجديد للمحبّة: محبّة الله ومحبّة الانسان، كل انسان، وصولاً الى محبّة الاعداء.أما المحبّة المتبادلة بين المسيحيين والمسلمين فهي أولوية وأسمى الفضائل والمقدسات.
الحوار هو ثقافة وعلم وأدب وفن ولاهوت وفقه وتربية وتواصل وإعلام. إنه لغة العالم، ومسعًى حسن ونبيل، للتعّرف على الآخر، الذي هو انسان مثلي، له كرامته وحقوقه وحرّياته وشخصيته وفكره ودينه، فما عليّ إلا ان احترمه وأعيش معه بأمان وسلام. علمًا انه ليس من شخص مرفوض من الحوار، ولا محرّماتٌ في الحوار إطلاقًا. إنّه دعوةٌ إلهيّة لجميع النّاس وحاجةٌ ضروريّةٌ للإنسان، ورسالة مهمّة صعبة وليست مستحيلة. إنّه خيار حرّ، وثقافة تتطلب معرفة الذات والآخرين معرفة حقيقيّة، وأيضًا هو تفكّر وبحث ونقد ومقاربات لتسوية الأمور الافتراقية. إنّه مسؤولية يجب تحمّلها، بشجاعة ووعي والتزام، من اجل ازالة سوء الفهم، وتنقية الذاكرة، ورفض القطيعة، ووأد الفتنة التي تدّمر البشر
2.المواطنة هي جزء من الحوار، ومفهوم جديد للعلاقة بين الناس، إذ تعترف بقدسية كرامة الإنسان وحقوقه وحرياته، وتدعو إلى الإنتماء للوطن والإلتزام بالخير العام. المواطنة هي التي تعتبر حقوق الإنسان كلَّها مقدسة، باعتبار الإنسان كاملا روحا وجسدا وفردا وجماعة، وخدمة الإنسان، كلِّ إنسان وكل المجتمع والتضامن معه والدفاع عنه.
المواطنة هي التي تعمل على تحرير الإنسان من كل تمييز عنصريّ وثقافي وديني وسياسي واجتماعي وجنسي وعرقي. كما أنها تسعى جاهدة من أجل المساواة الكاملة بين المواطنين في الحقوق والواجبات والولاء للوطن وخدمته ومحبته.
المواطنة تحرّرنا من الأنانية والإستغلال والوصولية والإنتهازية والفساد والتعصّب والجهل، وتعزّز الإنتماء والولاء والإخلاص لقيم المواطنة، وتناضل في سبيل إقامة الدولة المدنية الديموقراطية العربية المعاصرة،التي تحفظ حقوق الأفراد والأديان، وتحقّق النهضة العربية الجديدة والمرجوّة.
.3العيش المشترك المسيحي الاسلامي هو التشارك والمشاركة فعلٌ إراديّ وعهدٌ وميثاق وشرف والتزام بالمشاركة بين المكوّنات المختلفة واستيعاب قضاياها بالوعي. فالتنوّع الإثنيّ والثقافيّ والدينيّ والطائفي والمذهبي والفكري والسياسي والإجتماعي يجب الإعتراف به، وحُسن إدارة الإختلاف بالحوار الدائم.
إنّ العيش المشترك هو جزءٌ أساسيٌّ من تاريخنا الحضاريّ وحياتنا اليوميّة. إنّه موضوع اهتمامنا وتفكيرنا ورسالتنا. العيش المشترك هو صيغة إنسانيّة مسيحيّة إسلاميّة راقية لا يجوز التخلّي عنها إطلاقاً. إنّها صيغةٌ حضاريّة ديمقراطيّة توافقيّة تُنتجُ غنىً وليس تشنجاً. إنّها بحاجةٍ إلى حوار دائم وحسن إدارة من أجل استيعاب التنوّع القائم في المجتمع بهدف التفاعل والتكامل لأنّها من جوهر حضارتنا وحياتنا.
4. ألإرث الحضاري المشترك: إن إرثنا الحضاري هو مشترك وإننا" ننهل من تراث حضاري واحد نتقاسمه. وقد أسهم كل منا في صياغته، انطلاقًا من عبقريته الخاصة. إن قرابتنا الحضارية هي إرثنا التاريخي الذي نصرّ على المحافظة عليه وتطويره وتجذيره وتفعيله كي يكون أساس عيشنا المشترك وتعاوننا الأخوي. إن المسيحيين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهويّة الحضارية للمسلمين، كما أن المسلمين في الشرق، هم جزء لا ينفصل عن الهويّة الحضارية للمسيحيين. ومن هذا المنطلق، فنحن مسؤولون، بعضنا عن بعض، أمام الله والتاريخ ".
.5رسالة المسيحيين العرب الى العالم: للمسيحيون دور في التقريب بين الشرق والغرب وبين المسيحية والإسلام، لأنها من جوهر رسالتهم : "وفي مجال التلاقي الاسلامي المسيحي، على الصعيد العالمي، يحدّد المسيحيون موقفهم بكل وضوح. فهم مع العرب المسلمين أبناء أوفياء لاوطانهم وأبناء حضارة عربية، واحدة بجميع مقوماتها، في ما يحقّق خير الانسانية جمعاء. وهم، في الوقت نفسه، مسيحيّون، ومع جميع المسيحيّين في العالم، مؤمنون بالسيّد المسيح، كلمة الله الازلي. ومن هذا المنطلق، يرون ان لهم دورًا في تقريب المواقف بين العالم المسيحي والعالم الاسلامي، وفي تحويل الصراع الى تعاون ايجابيّ مبنيّ على الاحترام المتبادل.
وهم يقولون للعالم الغربي إن الإسلام ليس العدّو، بل هو أحد أطراف الحوار الذي لا يمكن الاستغناء عنه في بناء الحضارة الانسانية الجديدة.
ويقولون القول نفسه للشرق المسلم : ان المسيحية في الغرب ليست عدوًّا بل هي طرف أساسي في حوار لا بدّ منه لبناء عالم جديد.
إنّ المسيحيّين في العالم العربي يتطلعون الى ان يكونوا جسور حوار وتفاهم بين هذين العالمين المتقابلين. فالقرابة الحضارية التي تجمعهم بالمسلمين في الشرق، والشركة الايمانية التي تجمعهم بالمسيحية في كل مكان، تؤهلّهم احسن تأهيل ليقوموا بهذا الدور الحضاري" (العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين في العالم العربي، رقم 40).
. 6 المسألة الإسلامية هي من كبريات مسائل العالم المعاصر. وهي تنطلق من حقيقة احترام مكانة الإسلام في المجتمع والدولة والعالم، والمحافظة على قيمه العليا، والتعاون مع المسلمين باحترام وصدق واخلاص، والمشاركة في نهوض العالم وتقدمه وسلامه.
الإسلام الذي يعرفه المسلمون، وكما يجب أن يعرفه الآخرون، هو إسلامٌ مكونٌ من عدةِ مذاهب. ونحن نعتبر المذاهب الإسلامية، هي حركات فكرية، وتنوعٌ في الإجتهاد، وغنى حضاري. أما استغلالُ هذا التنوع سياسيًا كما هو حاصلٌ اليوم، فهو تشويهٌ للإسلام ولسمعة المسلمين.
إن الانفتاح على المسلمين بكل اتجاهاتهم وحركاتهم هو حقٌ وواجب. ولأن المسيحيين يلتقون مع المسلمين على احترام القيم الإنسانية والحضارية والثقافية والدينية بعامةٍ، لأنها مشتركة بينهم، فالخلافُ فيما بينهم مرفوضٌ.
المسيحيون المشرقيون لا مشكلة لديهم لا مع الإسلام ولا مع المسلمين حتى ولا مع الإسلاميين، لأنهم يعتبرون الجميع إخوةً أعزاء، ومواطنون متساوون، يستحقون الإحترام والمودّة إن مالوا إلى السلم. وهم على حقٍّ في سعيهم الحثيث إلى النهوض وبناء مستقبلٍ أفضل.
ولكن لابد من الإشارةِ إلى أن هناك إجماعٌ شعبي مسيحي وإسلامي لرفض كلِ فكرٍ عنصري متطرف إلغائي عدواني أو إرهابي. كما يرفضون في الوقت ذاته كل الحركات السياسية والثقافية والدينية المتشددة، لأنهم يعتبرونها تشكّل خطرًا على الإنسان والمجتمعِ والدين معًا. لذلك علينا رفض الدولة العنصرية بشكلها الديني والطائفي والمذهبي والإتني، الإبنة المدلّلة للمشروع الصهيوني العنصري الإستيطاني العدواني.
ثقافة الحوار هي ثقافة العقل والحرّية والتواصل والتفاهم والمصالحة والمعيّة. إنها الصدقُ في القول، ومعرفة الآخر معرفةً علمية، واحترام حق الاختلاف، ورفض التسميات الخاطئة والتهم الباطلة، التي تطلقها الحركات السياسية والثقافية والدينية المتطرفة، لأجل نشرِ ما يُسمى فكر التكفير والإرهاب الذي هو من بلايا العصرِ علينا. وفي الوقت عينه نرفض كلّ فكرٍ يؤدي إلى الانقسام والتقسيم والفتن كما هو حاصلٌ في منطقتنا.
في هذه الأزمنة الصعبة، وأمام التحدّيات الكبرى، على المسيحيين والمسلمين معًا أن يثبتوا في محبة الله والإنسان، لأنهم إخوةٌ وعيال الله. ربهم واحد، وأصلهم واحد، ومصيرهم مشترك، وحضارتهم واحدة، لذلك لا يجوز التفريق بينهم، لأنهم أقرب الناس مودةً لبعضهم " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا، وأنهم لا يستكبرون " (المائدة ٨٢)، وأنا واحدٌ منهم.
في النهاية، ثقافة الحوار هي التأكيد على أن لا لبنان بدون عروبةٍ حضارية، ولا عروبة بدون مشرقية، ولا مشرقية بدون عولمة، ولا عالم عربي إسلامي بدون مسيحيين، ولا غرب بدون إسلام ومسلمين، ولا عيش مشترك بدون حريات وعدالة ومساواة في الحقوق والواجبات.
المسيحيون القياميون النهضويون لا خوف عليهم، لأنهم ابناء الرجاء الذي لا يُخيب صاحبه. كما إنهم رسلَ حضارة المحبّة العربية، ثابتون في جهاد الخير والخلقِ والتجديد والإبداع حتى في عصر العولمة.
أمر المجمع اللبناني الذي عُقد سنة ١٧٣٦ الموارنة بفتح المدارس في المطرانيات والأديار لتعليم الأولاد مجانًا، كما طلبَ إليهم أن يعنوا بتدريس أصول اللغة العربية ليتشربوا في قلوبهم حبّ التقى مع العلم وصفوة اللغة العربية.
أن تحبَّ " صفوة اللغة العربية"، هي أن تحبّ العرب والعروبة، وأن تحب المسلمين والمسيحيين محبّة صافية كما أحبّنا الله تعالى.
الأباتي أنطوان ضوّ
الأنطوني