ندوة وحوار حول الديــن والعنــف
أيها الأصدقاء،
الدين والعنف، عنوان مخاتل يوهم بالبراءة وهي منه براء، يقبع فوق منسوب عال من الصمت المسكون بالقلق والرهبة، قل فوق المسكوت عنه، يحكي في غيبته حكاية المودة بين العنف والمقدَّس يتعانقان عاريين في كل الساحات، بالقبضة يتعانقان، بالبندقية يتعانقان، بالشعارات يتعانقان، يتغاويان في وجدان يغلي على حرارة الوصل بين الديني والسياسي.
لعلَّ شيئاً من أصول هذه المودة يتكفّل به وضع الدين والعنف في اللغة.
جاء في اللسان،
العنف الأخذ بالشدّة، والتعنيف اللوم والتوبيخ والتعيير والتقريع، ما يعني:
ان العنف يجري في القول كما يجري في الفعل كلاهما يعبران عن قهر الآخر وتقييد حريته وسفك كرامته واستباحة دمه.
واللسان اياه، لسان العرب لا يتعب ولا يرتاح ولا يبارح لعبته في البيان والتبيين يقول في الدين: الديَّان من اسماء الله، معناه الحَكَم والقاضي انه القهار فعّال من دان الناس أي قهرهم على الطاعة يقال: دنتهم فدانوا أي قهرتهم فطاعوا، والدين الجزاء قوله تعالى "انا لمدينون" أي "مجزيون" والدين: الحساب قوله تعالى "مالك يوم الدين"
في العلاقة بين الدين والعنف من جهة الوضع يتلازم القهر والطاعة وانجاز واجب الطاعة في القراءة الدنيوية للنصوص الدينية وفي تصور الله حاكماً والانسان محكوماً يدفع باتجاه تفعيل وسائل الضبط والمنع والمحاسبة فتتولى المؤسسة وربما الدولة الدينية تطبيق حدود الله واحكامه" ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون" م 44 فالمؤمن يثاب والكافر اذا أصر على كفره واعرض عن التوبة يكون عقابه عسيراً (سورة التوبة).
لكن نوعاً آخر من الايمان يتعالى عن شوائب الوصل بين الدين والسياسة وينأى بالدين عن معنى القهر وبالله عن معنى الحاكمية وبالإنسان عن معنى المحكومية هو ثمرة اختبار المحبة بين محب ومحبوب جوهره شوق قهار ووجد عنيف تسقط معه كل الحجب لأن المحبة في القلب تقتل كل دنس.
"لأن مملكتي ليست من هذا العالم" ولأن "ما لقيصر لقيصر وما لله لله" ولأن من ضربك على الأيمن أدر له الأيسر" ولأن من مشى معك ميلاً امش معه ميلين" لأن كل ذلك فالدين في العهد الجديد، في الكتاب الذي يتلى على المذابح ويقرؤه كل الناس يقطع قطعاً مع الحقل الدلالي للعنف ومرادفاته ومشتقاته ويفيض بمعاني المحبة، محبة الله في الآخر.
أقول هذا وعيني على تجارب العرفانيين المحبين في تراثنا العربي والاسلامي لعل تجربة ابن عربي واحدة من هذه التجارب التي تحمل ثراءَ أُفهوم المحبة وشموليته.
يقول:
لقد كنت قبل اليوم انكر صاحبي
اذا لم يكن ديني الى دينه داني
وقد صار قلبي قابلاً كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائفٍ
والواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنّ توجهت
ركائبه، فالحب ديني وايماني
أيها الأصدقاء،
عود على بدء، العنوان مخاتل، لأنه تردد في الافصاح عن حقيقة ما يخفي واحجم عن القول أن:
- تأصيل الدولة على الدين هو خطر عليهما معاً، والخطر الأعظم على حرية الانسان وحقه في التشريع لنفسه من خلال نظام ديمقراطي.
- هو خطر على مجتمع متنوع يجهد عقلاؤه كل يوم من أجل بناء مساحة مشتركة يقف عليها الجميع وتقي الجميع أفات الخطاب الديني المغالي في عنفه والمنخرط بكل عدته المادية والمعنوية في معركة الصراع على السلطة.
- هو خطر على العقل، يصادره لحساب قراءة موجهه للدين، تسلبه حرية افتكار الحياة وبناء الاحكام وتملي عليه شروط الإحداث والإبداع لأن "كل محدثة بدعمه، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" (ح-ش)
ثبَّت الله فينا نعمة الافتقار الى المحبة
أوليات في فقه الجهاد
مقدِّمة:
هذه الورقة أعددتها لهذه الندوة المهمومة بالسلام وما يهدِّده باسم الدين من دون مسماه، أو مع مسماه لدى من يقرأون النص الديني على حرف واحد، ويستعيدون من تاريخ الأديان ما هو ملتبس بتاريخ أهلها الذين لطالما استبعدوا واتخذ القرار نيابة عنهم من أجل قتلهم وقتل غيرهم بهم، حتى كانت الحروب المدمِّرة للإنسان والعمران، للدنيا والآخرة، للدين والمتدين، في معظمها حروباً دينية، ما دفع ويدفع، وسوف يدفع أكثر، أجيالنا إلى إطراح الدين والبحث عن سلامهم بعيداً عنه، أو اختراع أديان ضدَّ الدين، على أساس أنَّ الغيب من ضرورات الشهود، ولكن أيُّ غيبٍ ربَّما كان غيباً من دون شروط حتى لو كان إلغاء للغيب.. أعود إلى الورقة التي أعددتها لهذا الموسم، الواحة، التي أسَّستها الرابطة الثقافية في إنطلياس في الزمن الصعب، واستمرت بعد الطائف واحتمال عودة الدولة والاجتماع اللبناني، إلى سياقهما، وها هي تستمر في نشاطها أمام علامات الزمن الأصعب، والذي تخطى فيه الانقسام المجال السياسي إلى المجال الاجتماعي والعنف الاجتماعي اليومي والتفصيلي، ليقول لنا بأنَّ استحقاق السوء قد أنجز وأنَّنا على انتظار للأسوأ، إلاَّ أن يستعيد هذا البلد عقله ويعود إلى معناه الرسالي، الذي تستقيل منه الطبقة السياسية وقطائعها المذهبية، وتنتقل من إرسال الرسائل إلى استقبالها..
في هذه الورقة، آثرت أن أقدِّم رؤية منهجية فقهية غير ذاتية، لمسألة الجهاد في الفقه الشيعي، باعتبار أنَّ المذاهب هي المجال الحقيقي لتموضع الأديان، ما كان مكاناً لاحتمال الحيوية كما كان مكاناً لاحتمال التقابل الحاد والصراعي الغالب على مشهدنا الإقليمي والدولي واللبناني الآن.. وباعتبار أنَّ العنف المنقلب إلى إرهاب في أكثر صوره الحاضرة وما يأتي من أشكاله، يستند إلى مسألة الجهاد أو فقه الجهاد، على قراءة ما، حاولت أن أثبت أنَّ القراءة المغايرة لها هي الأصل أو هي الغالب على المسلك الفقهي الشيعي الاثنا عشري، في حين أنَّ العنف أو الإرهاب الذي نشهده أو شهدناه، صادر عن خلفية غير فقهية، أو عن فقه معاكس، من دون أن يعني ذلك أنَّنا لا نقرأ إشكالية العنف في المنظومة الدينية، وأنَّنا إذا ما كنَّا نريد أن نتخلص من هذا العنف، فإنَّ علينا أن نتوقف ملياً عند العنف المضاد للعنف، أي العنف الدفاعي الذي لا يحتاج إلى فقه يكيفه بل هو حقٌّ من حقوق الإنسان في كلِّ الأدبيات وكلّ التاريخ، كما علينا أن نحذر من التنصل من نصوصنا الظاهرة في ترجيح العنف، لأنَّ ذلك يجعلنا خارج نظامنا الديني في الثقافة المجتمعية التي تتعرَّض إلى تحدِّيات ومحفزات مذهبية عنيفة أو عنفية، ما يعني أنَّنا ملزمون من أجل الجدوى، أن نقرأ ما ظاهره العنف، قراءة نسبية، لأنَّها هي وحدها التي تتيح تعطيل الحكم من دون تعطيل الدين، على أساس من تبدل أو تغير في الموضوع، الذي يسلم الجميع بأنَّه هو الذي يتبعه الحكم ولا يتبع الحكم، أي أنَّ المطلوب هو إعادة تنزيل الواقع على النص، لا النص على الواقع، على أساس أنَّ أنظمة المصالح المتبدلة، بين الكيانات والاجتماعات والدول وأهل الأديان والمذاهب، قد تشابكت إلى حدٍّ أنَّه أصبح أمامنا واقع جديد لا يسمح بإلغاء الآخر تحت أي ذريعة، بل لا بُدَّ من الشراكة التي يتسع النص الديني لتكييفها وتشريعها والحضِّ على أولوية تحقيقها، تحقيقاً للمقاصد الشرعية والغائية الإلهية إذا أردنا.
طبعاً، لا بُدَّ من التساؤل هنا عمَّا إذا كان حلمنا المشروع بالسلام الدائم والهانئ بين الجميع ومن دون استثناء، عمَّا إذا كان هذا الحلم ممكن التحقيق؟ وقد يكون ممكناً إذا أصبح النَّاس كلّ النَّاس غير النَّاس في صورتهم الظاهرة الراهنة، أو أصبح البشر كلّهم أناساً.
وطالما أنَّ البشرية بخيرها وشرّها، وأخيارها وأشرارها، موجودة ومستمرة، وضرورية بكلِّ تعقيداتها، فإنَّ هذا الحلم بعيد المنال.. وهذا لا يعني أن نكف عن طلب السلام والسعي إليه، ولكن من دون أوهام.. بل ومن أجل تحقيق سلامات هنا أو هناك، لهذا الزمن أو لذاك الزمن.. ومن هنا أقرأ المقولة الواقعية والقاسية التي قالت: إنَّ الحروب قاطرات الحضارات وأتخيل سلاماً دائماً وعاماً وشاملاً وأرى فيه حرباً أو حروباً أشد قسوة وتدميراً أو تعطيلاً مما نرى..
وأجدني هنا مضطراً إلى شيء من المصارحة.. فأنا أقرأ القرآن والسنَّة وأجد منابع للعنف، ربَّما يقرأ فيها آخرون منابع للإرهاب، ولا أستطيع أن أشجب رأيهم وإن خالفتهم، ولكني أؤكِّد على تعدُّد المعرفة بالإسلام وعدم إلزامية أي معرفة، وهذا يعني أنَّه حتى قراءتي السلمية للإسلام ليست ملزمة لمن لا يرى رأيي.. ورأيي أنَّ الحل النسبي هو ما نشتغل عليه معاً، مسلمين مسلمين، ومسيحيين مسلمين، أعني على ترجيح اللاعنف على مقتضى مرجعية نظرية مدققة وأنا أقرأ الإنجيل أيضاً، ولا أرى فيه مكاناً للعنف.. غير أنِّي أتساءل عمَّا إذا كان الإنجيل الذي هو المكوّن الأوَّل للوجدان المسيحي وللخطاب المسيحي في الطقس المسيحي داخل الكنيسة، ما عدا بعض الكنائس التي تجنح إلى القراءة العنفية مستندة إلى نص وسياق غير إنجيلي.
أتساءل، عمَّا إذا كان الإنجيل هو المكون الفعلي لسلوك وخطاب ولغة الحساسيات المسيحية التي مالت إلى العنف أو هي الآن تميل إلى العنف، أم أنَّها تجد مرجعيتها في بعض أسفار التورات، إذا ما أعفينا بعض الأسفار من اشتمالها على الإيقاع العنفي؟ لسنا نحن ولا أنتم من أطلق على نفسه نعت المسيحية الصهيونية أو الصهيونية المسيحية بما ينطوي عليه وتعد به من عنف في هرمجدو.. هذا تحدٍّ آخر ودعوة أخرى إلى استعادة الروح والمسلك التصحيحي المسيحي لليهودية. وقراءة التوراة قراءة مسيحانية خلاصية حبية وإنسانية، ما دفع ثمنه السيِّد المسيح ولا بُدَّ من اتباعه على طريق الجلجلة، حذراً من أن تصبح جلجلتنا جميعاً وإلى الأبد.. وبالتالي أرانا مدعوين أكثر من أي وقتٍ مضى إلى المضي قدماً في اكتشاف وكشف وتعميم الوعي بالبعد أو المستوى الإنساني في أدياننا حتى لا يبقى الدم الكثير المهدور عالقاً بأطراف جبتنا ومذيباً لإكسير الحياة والمحبة والحوار والرحمة والعدالة والشراكة في أدبياتنا الدينية.
* * *
في القرآن، وفي الآيات المكية، أمر اللَّه رسوله (ص) بالصبر على قومه الرافضين لدعوته لما فيها من مخاطر على امتيازاتهم، والذين تمثَّل رفضهم في ثلاث صور، كان النص القرآني يتصاعد خلالها، وحسب مقدار الأذى الذي يلحق بالرسول (ص) وجماعته الأولى.. ففي مكَّة كان الالتزام بالحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة والتأسيس، وكان أمر اللَّه تعالى بالعفو «واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا»، ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ (سورة الزخرف:89)، ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾ (سورة الجاثية:14) أمَّا الأذى والإساءة ومحاربة الدعوة والدعاة والتضييق عليهم أو العمل على فتنة المؤمنين بالدين الجديد لردِّهم عنه، فلم يكن أمر ولا إذن من اللَّه بالردّ عليها بمثلها ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ﴾ (سورة المؤمنون:96) وفي الصورة الثانية، وفي مكَّة، تصاعدت السلوكيات المؤذية من أعداء الرسول والدعوة، حتى أنهم ائتمروا به لقتله، فهاجر إلى المدينة فاتحاً باب الهجرة أمام أصحابه.
﴿وإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَو يَقْتُلُوكَ أَو يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ﴾ (سورة الأنفَال:30) ﴿إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ (سورة التَّوبة:40)
وفي المدينة وبعد ما اتفق الرسول (ص) وأهلها على الشراكة في الدفاع عنها إذا ما تعرّضت لعدوان، من دون أن يكونوا ملزمين بالقتال خارجها، بدأ الأعداء بالتعرُّض للمدينة وأهلها من المهاجرين والأنصار، فكان لا بُدَّ من الدفاع عن النفس، فنزل الإذن بالقتال منحصراً في المهاجرين بداية، تاركاً للأنصار التزامهم بالمشاركة في الدفاع عن مدينتهم وأنفسهم وضيوفهم، ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ (سورة الحجّ:39ـ40). إذن فالشرط أو المناط في القتال أو الجهاد: أن يكون الإنسان مظلوماً ومطروداً من أرضه... وبعد سنة من تاريخ نزول هذا الإذن المحدود بالقتال، أي في السنة الثانية للهجرة، نزل التعميم ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وهُو كُرْهٌ لَكُمْ﴾ (سورة البَقَرة:216). وككلّ تعميم لا بُدَّ له من تخصيص وإلاَّ آل إلى الفوضى والعنت والظلم، فكان الجهاد في وعي المسلمين وسلوكهم فرض كفاية، ولو كان واجباً عينياً لتعطّلت أمور الحياة وأصبح الجهاد إرهاقاً.
ولا يتحول الجهاد إلى واجب عيني على كلِّ شخص بعينه، إلاَّ بشروط منها حضور الشخص المعني في المكان الذي فيه قتال ضدَّ العدو، وإذا حضر الأعداء إلى المكان الذي يقيم فيه المسلمون ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾ (سورة التَّوبَة:123).
هذا إلى شروط في المجاهد، أي من يجب عليه الجهاد كفاية، أو عيناً بشروط، منها، الذكورة، العقل، البلوغ، الصحة، الكفاية المالية له ولأهله إلى أن يفرغ، وفي جهاد التطوّع يجب الاستئذان من الوالدين، وإذن الدائن أو تكفّل كفيل مليء بالدين ووفاؤه عن المجاهد إذا لم يعد حياً.
يتحصل لدينا من كلِّ ذلك أنَّ ما اتفق عليه علماء المسلمين هو أنَّ القاعدة هي السلام وأنَّ الحرب هي الاستثناء، ولا مسوّغ لها إلاَّ في حالتين:
1 ـ الدِّفاع عن النفس والمال والوطن عند الاعتداء.
2 ـ الدِّفاع عن الدعوة إذا ما وقف أحد في سبيلها أو عذّب من آمن بها «أي عندما تصبح حرية الاعتقاد والتعبير في خطر شديد» إذن فالقتال المشروع هو ضدَّ المعتدين لردِّ العدوان ومن لا يبدأ بالعدوان لا يجوز قتاله ﴿ولا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (سورة البَقَرة:190) ويتفق المؤرخون والفقهاء على أنَّ حروب الرسول (ص) كانت كلّها دفاعية، وحتى حروب الردَّة بعده في زمن أبي بكر، وبعده في زمن علي (قتال البغاة) إنما كانت حروباً دفاعية ليس إلاَّ.
وجوهر الموقف كامن في أنَّ الإسلام لم يجعل الإكراه وسيلة من وسائل الدخول في الدين، بل دعا إلى استخدام العقل والفكر والنظر ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (سورة البَقَرة:256) ومن كان عنده ذوق لغوي أو أنس بلغة القرآن في مقام التشريع والتبليغ يدرك أنَّ الآية تتضمن حكماً شرعياً بعدم جواز الإكراه. وقد ثبت أنَّ رسول اللَّه (ص) لم يكره أحداً من الأسرى على الإسلام.. أمَّا النصارى فلم يقاتل الرسول أحداً منهم، إلاَّ بعد أن قتلوا المسلمين ومن أسلموا، في معركة مؤتة الشهيرة.
هذه مقدِّمات عامَّة في الجهاد تسالم عليها المسلمون، ولكن هناك أيضاً فروقاً وفروعاً فقهية مختلفة جزئياً، من دون أن يكون اختلافها تناقضاً، لدى مذاهب الفقه المختلفة، وبعض هذه الفروق الفقهية مبني على اختلاف في المنظومة العقائدية أو الكلامية.. هذا الأمر لسنا بصدده الآن.. ولكن لا مانع، بل هناك داع لاستعادته، حتى لا يخترع لنا المتطرفون، أحكاماً لا أصل لها ولا مصدر في شرعنا، علماً بأنه يمكن مناقشة كل شيء علمياً، غير أنَّ المقصود الآن هو إثبات أنَّ هناك مسائل فقهية وعملية في تاريخ المسلمين تعطي أولوية للسلام وتضع العراقيل المنهجية في طريق الحروب من خلال اشتراطاتها عليها، مانعة بذلك من الخلط بين وجوب الدعوة بما هي مسألة فكرية مطروحة دائماً، ولا يستطيع أحد مصادرتها، وبين التطرُّف والجنوح إلى القتال (العدوان على الآخرين) تحت يافطة الدعوة ونشر الإسلام وإنقاذ البشرية من الكفر بالإبادة!!! حيث تكون النتيجة غالباً، أو دائماً، هي مزيد من الدمار والإعاقة للمسلمين في دينهم وعقلهم ودنياهم، وحيث تتوارى عن الوعي والسلوك مقاصد الشريعة الأساسية، من خلال تغليب المقاصد المحدودة والحزبية، التي تحوّل الإسلام من دين إلى أيديولوجيا تقوم على إلغاء الآخر لتعود فتلغي ذاتها، لولا أنَّ الإسلام دين سماوي يحفظه الذي أرسل به رسوله (ص)، من دون أن يكون محصوراً تاريخياً وحضارياً ومصيراً ووجوداً وحضوراً وفاعلية وحواراً وتكاملاً، بالذين يماهونه بذاتهم ومنازعهم بدل أن يتماهوا به، أي ينتجوه على مقاساتهم بدل أن ينتجهم على مقاساته الإنسانية الرفيعة...
خصوصية اثنا عشرية في الموضوع:
في رسالته العملية «تحرير الوسيلة» يضع الإمام الخميني عنوان «الدفاع» في فصل متفرِّع من كتاب «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، أي أنه لا يقدِّمه مستقلاً، ومن دون أن يعنونه بالجهاد... وهو على جاري عادة فقهاء الشيعة الاثنا عشرية، إلاَّ ما قلَّ وندر جداً، يجعله على قسمين: أولهما الدفاع عن بيضة الإسلام وحوزته، وثانيهما الدفاع عن النفس. ويخصِّص أقل من صفحتين للقسم الأوَّل، وأربع صفحات للقسم الثاني، مع تطرقه لتفريعات في القسم الأوَّل لم يتطرَّق إلى أمثالها فقهاء سابقون له ولا حتى معاصرون، تتصل بالنمط المطلوب إقامته في علاقات التوافق والتعارض بين الدول الإسلامية والدول الأخرى، في عصر تداخلت فيه أمور السياسة بالاقتصاد والحرب والسلام كما تداخل الحوار والانفتاح بالممانعة والمعاندة وصولاً إلى أشكال مختلفة من المقاومة.
وهذا المسلك، وإن كان لافتاً في الإمام الخميني، قائد الثورة ومؤسِّس الجمهورية الإسلامية في إيران، على حجر زاويتها (ولاية الفقيه). إلاَّ أنه ليس بدعاً في الفقه الإسلامي العام، ولا في الفقه الشيعي الاثنا عشري، من دون أن يعني ذلك إنكار وجود الاختلاف أو عدم احترام الرأي الآخر.
لقد التزم المسلمون الشيعة الاثنا عشريون، أي الذين يقولون ويعتقدون باثني عشر إماماً منصوصاً عليهم بأسمائهم من ولد علي وفاطمة، ومعصومين، وآخرهم محمَّد بن الحسن المهدي المنتظر المغيّب (عج).. التزموا بنظرية الانتظار للمهدي ليقيم العدل في العالم، والتزموا بشرط الإمامة، أي أن يكون هناك إمام يقود الأمَّة ليصبح الجهاد واجباً شرعياً، على أن يكون هذا الإمام معصوماً وظاهراً، ولأنَّ الإمام غائب فقد أصبح الجهاد أمراً غير مشروع.
طبعاً مع التفريق الحاسم بين الجهاد الدفاعي والجهاد الابتدائي أو جهاد الدعوة، حيث أنَّ ما ذكرناه ينصبّ على القسم الثاني من الجهاد... والذين اشترطوا ظهور الإمام العادل أو نائبه الخاص الذي نصبه للجهاد، هم الأكثرية التي لا يُعلم لها معارض إلاَّ في حدود الشواذ، من فقهاء الشيعة. ومنهم الشيخ الطوسي ت (461ه) في كتابه «المبسوط» حيث قال بعدم وجوب مجاهدة العدو إذا لم يكن الإمام ظاهراً، وقال: «إنَّ الجهاد مع أئمة الجور أو من غير إمام خطأ يستحق فاعله الإثم وإن أصاب لم يؤجر وإن أصيب كان مأثوماً» واستثنى من ذلك، كما استثنى الجميع، حالة الدفاع عن النفس وعن حوزة الإسلام وعن المؤمنين أي الجهاد الدفاعي، إذا ما دهم المسلمين عدو يُخاف منه على بيضة الإسلام (البيضة هي الخوذة.. كناية عن رأس الإسلام).. واشترط عدم القصد في هذه الحالة، الجهاد مع الإمام الجائر. وإن لا يكون الجهاد لإدخالهم في الإسلام».
والفقيه الشيعي أبو الصلاح الجلي (447373هـ) علَّق الجهاد على وجود الإمام وقيادته.. وكذلك الفقيه الشيعي ابن البراج الطرابلسي (400 481هـ) وأبو الحسن الجلي، وأبو المكارم، ابن زهرة الحسيني (585511هـ) وابن إدريس الحلي والمحقِّق الحلي والعلامة الحلي الذي قسَّم الجهاد إلى قسمين، الأوَّل الدعوة إلى الإسلام، والثاني الدفاع عن المسلمين واشترط في الأوَّل إذن الإمام العادل أو من يأمره الإمام. واشترط أن يكون قائد الجهاد ومعصوماً، لأنَّ الجهاد فيه اتلاف للأحوال وسفك للدماء، فلا بُدَّ أن يكون المجاهد على يقين من صحة قوله وفعله... ورأى أنَّ القتال من دون رئيس محال، ولا بُدَّ أن يكون الرئيس منصوباً من اللَّه تعالى، وإلاَّ لزم الخلاف والهرج والمرج.
وكذلك قال المقداد السيوري، والشهيد الأوَّل، والمحقِّق الكركي (علي بن الحسين المنظر الفقهي للدولة الصفوية) فحصر وجوب الجهاد بوجود الإمام أو نائبه المنصوص عليه بخصوصه، والشهيد الثاني (966911هـ) رفض إعطاء الفقيه المنصوب للمصالح العامَّة حال الغيبة صلاحية مباشرة الجهاد. وكذلك المقدس الأردبيلي (ت933هـ) والشيخ جعفر كاشف الغطاء، وذكر الشيخ محمَّد حسن النجفي (ت 1266هـ) صاحب موسوعة الجواهر، نصوصاً كثيرة حول اشتراط وجود الإمام في وجوب الجهاد. وأكّد «عدم إذن الأئمة للفقهاء في زمن الغيبة بجهاد الدعوة».
إلى ذلك فإنَّ موسوعة فقهية «مفتاح الكرامة» للسيِّد محمَّد جواد الحسيني العاملي، لا يوجد فيها كتاب خاص للجهاد، وفيها بعض الروايات عن الإمام علي والإمام الصادق من قبيل «لا غزو إلاَّ مع إمام عادل» و «إن خرجوا على إمام عادل فقاتلوهم، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم» وكذلك لم يخصِّص الشيخ يوسف البحراني (1186هـ) كتاباً للجهاد في موسوعته «الحدائق».
وللسيِّد كاظم اليزدي (ت1919م) متن فقهي هو الأشهر في أوساط كبار الفقهاء والمراجع الذين دأبوا على التعليق عليه منذ صدوره، كحقل تمرين على الاجتهاد والمرجعية وهو كتاب «العروة الوثقى» ولكنه خال من أي حديث عن الجهاد... ويفسِّر «سبيل اللَّه» الوارد في مصارف الزكاة بأنَّ جميع سبل الخير كبناء القناطر والمدارس والخانات والمساجد وتعميرها وتخليص المؤمنين من يد الظالمين، ونحو ذلك من المصالح، كإصلاح ذات البين ودفع وقوع الشرور والفتن بين المسلمين وإكرام العلماء والعاطلين عن العمل الخ.. أي غير الجهاد.. واللافت تعليق الإمام الخميني على ذلك بقوله: «لا يبعد أن يكون سبيل اللَّه هو المصالح العامَّة للمسلمين والإسلام».
والمراجع المتأخرون كالكلبايكاني والشاهرودي والخونساري والخوئي والقمي وشريعتمداري، علّقوا على العروة الوثقى ولم يذكروا شيئاً عن الجهاد.
ومن فقهائنا المسلمين الشيعة في لبنان المتأخرين فقيهنا المميز المرحوم الشيخ محمَّد جواد مغنية يقول: «قسَّم الفقهاء الجهاد إلى نوعين، الأوَّل: جهاد الغزو في سبيل اللَّه وانتشار الإسلام وإعلاء كلمته في بلاد اللَّه وعباده، وهذا النوع لا بُدَّ فيه من إذن الإمام» ويذكر قول الإمام علي (ع): «لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم، ولا يُنفِذ الفيء كما أمر اللَّه عز وجل». وقول الإمام الصادق: «لعبد الملك بن عمرو: «لِمَ لا تخرج إلى هذه المواضع التي يخرج إليها أهل بلادك؟ أي تجاهد مع الحاكم قال عبد الملك: انتظر أمركم، والاقتداء بكم، قال الإمام: أي واللَّه لو كان خيراً ما سبقونا إليه، قال عبد الملك: إنَّ الزيدية يقولون: ليس بيننا وبين جعفر خلاف إلاَّ أنه لا يرى الجهاد، قال الإمام: «أنا لا أرى الجهاد!!! بلى واللَّه، إني أراه، ولكن أكره أن أدع علمي إلى جهلهم».
ويقول الشيخ مغنية «إنَّ هذا الجهاد وجوب كفائي لا عيني» بشروطه الخمسة (الذكورة والعقل والصحة الخ) بالإضافة إلى إذن الإمام أو نائبه.
والنوع الثاني من الجهاد. يقول مغنية: «جهاد الدفاع عن الإسلام وبلاد المسلمين والنفس والمال والعرض، بل الدفاع عن الحقّ إطلاقاً.. وهذا الدفاع لا يشترط فيه إذن الإمام ولا نائبه الخاص أو العام (أي الفقيه العادل غير المنصوب من الإمام) ويجب عينا (على الجميع) لا كفاية (على الجميع فإذا قام به البعض سقط عنهم جميعاً).. ومن دون فرق بين رجل وامرأة».
ويضيف مغنية «ويدل على أنَّ الجهاد في سبيل الدعوة إلى الإسلام لا بُدَّ فيه من إذن الإمام، دون الدفاع عن النفس والمال.. يدل عليه قول الإمام الصادق: «الجهاد واجب مع إمام عادل». أو عن الجهاد الدفاعي فيقول الصادق: «ومن قتل دون ما له فهو شهيد» أي وإن لم يأذن له الإمام أو نائبه إذناً خاصاً.
إنَّ عدم اشتراط إذن الإمام المعصوم أو العادل في الجهاد الدفاعي، ليس إحالة إلى الفوضى العسكرية المسلحة أو العنف العشوائي الذي يؤول إلى توسيع مساحة العداوة إلى المختلف في الوطن الواحد أو الحزب الواحد، وهنا مجالات في النظر الفقهي تلزم بالتنظيم وحساب الجدوى والمراوحة بين الممانعة والمعاندة والمقاومة المباشرة أو الجمع بينها.. ويمكن أن يكون هناك موقع متقدِّم للفقيه العادل الخبير والمتعاون في منظومة القيادة الضرورية للحالة الجهادية السيستاني في حالة العراق مثلاً.
في الختام(1) كل ما قمت به هو إعادة ترتيب لآراء الفقهاء في هذه المسألة من دون جهد إضافي كبير إلاَّ في حدود الوصل بين الفقرات وبعض التعليقات السريعة.. وللقارئ أن يلاحظ أنَّ المبنى الكلامي أو العقائدي الذي بنى عليه فقهاء الشيعة شرطهم للإمامة المعصومة في وجوب أو جواز الجهاد، يعادله الموقف الفقهي المحض لدى فقهاء المذاهب السنية في التركيز على الجهاد الدفاعي دون الجهاد الابتدائي، والجامع بين الجميع هو الذوق الفقهي المشترك والقراءة المحتاطة جداً للخطاب الفقهي في المسائل ذات المداليل الإنسانية والحضارية الخطرة..
وفي ختام الختام: يحلو لي أن نفتح نقاشاً بلغة مختلفة حول المسألة تحت عنوان: ماذا نريد؟ أسلمة العالم أو أن نكون جزءاً فاعلاً ومنفصلاً من هذه الدنيا الواسعة؟ أسلمة العالم شعار سهل يغري الذين لا يريدون أن يجددوا في الإسلام ويتحدوا به ويسهموا في تجديد هذا العالم الذي يتجدّد من دوننا وعلى حسابنا، لأننا ما زلنا نجاهد في المفهوم الخطأ.
تصدّت الفلسفة لمسألة العنف منذ بداياتها، فأبانت معاثر العنف في الإنسان وفي المجتمع وفي التاريخ، ولو أنّ هيراقليط كان ينظر إلى الوجود كأنّه منسوجٌ نسجَ العنف في ذاتيّته الباطنة حتّى إنّه أرسل قولتَه الشهيرة : "الصراع أبو الأشياء كلّها وسيّدُها" (شذرات، رقم 35). غير أنّ الفلسفة ما لبثت أن انبرت مع سقراط وأفلاطون[1] تناهض العنف الكلاميّ الذي اتّصفت به مجادلات السفسطائيّين الراغبين في انتزاع التأييد انتزاعَ الإكراه.
مسعى هذا البحث أن يُظهر التباين الفكريّ الناشط في إدراك أصل العنف. فالقول الفلسفيّ يبرّر العنف بالاستناد إلى بنية الوجود وبنية الوعي الإنسانيّ التاريخيّ، فيما القول اللاهوتيّ يربط العنف بالانحراف الأصليّ الناشب في الطبيعة البشريّة. ومن مفارقات هذا التباين أنّ الفكر الدينيّ يَعيب الطبيعةَ البشريّة ويقرّعها على نوازع العنف فيها. ولكنّه يعرض عن التنديد بالعنف الناشب في بنية الأديان نفسها. واستجلاء لمثل هذه المفارقة ينعقد البحث على ثلاثة أقسام تتناول النظريّات الثلاث التي تتوسّل بها الفلسفةُ للوقوف على أسباب العنف ودوافعه الباطنة.
وفي خلاصة البحث يتبيّن لنا أنّ البشريّة يتنازعها اليوم ثلاث قوى أساسيّة، هي المقدّس القديم الأيّام الخاضع لمنافع النوازع الإنسانيّة الأنانيّة، والمعرفة الفكريّة والعلميّة الصارمة المحايدة، والإيمان المستنير بالإلهام الإلهيّ الصائن للحرّيّة الإنسانيّة. وحاجة الإنسان العظمى في اليوم الحاضر ليست هي إلى مقدّس عتيق الأيّام يعود به إلى الأزمنة الأسطوريّة الأولى، بل إلى كشف إلهيّ يضعه في مواجهة حرّيّته ومسؤوليّته في الحياة. ولا يكفي الاتّكال على عودة الدينيّات في هذا العصر والاطمئنان إلى مستقبل الإيمان حتّى تستقيم الأمور في مسرى الوجود. فإذا ما نظرنا في أسباب هذه العودة، ومنها نزوع الباطن الإنسانيّ والاختبار الوجدانيّ إلى الاندماج في الحركة الكونيّة العظمى، والإحباط الذي يصيب البشريّة التي يئست من الاستمساك بمعنى إيجابيّ للتاريخ، وشغف الإنسان بما هو غير قابل للشرح والتبرير، إذا نظرنا في هذه الأسباب كلّها وجدنا أنّ هذه العودة لا تنبئ برغبة الإنسان في القضاء على تأصّل بعضٍ من العنف في الطبيعة الذاتيّة للأديان.
وممّا لا شكّ فيه أنّ العنف لا يجوز حصره بالعنف الدينيّ. ذلك أنّ بعض الباحثين يعتبرون اليوم أنْ لا فرق بين الرأسماليّة والاشتراكيّة، إذ إنّ العنف الإداريّ (البيروقراطيّ) هو الذي يجمع بين الأنظومتَين على اختلاف تجلّياتهما. فالحتميّة في عقلنة الاقتصاد تُخضع لمنطق العنف الإداريّ كلَّ الأنظومات الاجتماعيّة، ومنها الرأسماليّة والاشتراكيّة[2]. فمن مفارقات العنف هذا أنّه يجمع بين الأنظومات الفكريّة المتباعدة. ويظنّ آخرون[3] أنّ التوق إلى المثُل الكونيّة الشاملة في الأزمنة الحديثة هو الذي يمكنه أن يبرّر بعضًا من الاستبداد والوحشيّة. ويتساءلون عن أشكال العنف في مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين (1989). فالعنف الناشط بين الجماعات راح ينحو منحى خاصًّا. فهذه الجماعات عادت لا تسيطر على مثل هذا العنف، وهو عنف التدمير الذاتيّ الذي لا تبرّره نضالاتُ التحرّر التي ازدهرت في الخطاب السياسيّ الحديث في أثناء الحرب الباردة بين الكتلتَين الرأسماليّة والشيوعيّة.
لا شكّ أنّ ما يعنينا في هذا الاستنطاق الفكريّ عن المعنفة الفلسفيّة والدينيّة هو التثبّت من انفطار المقولة الدينيّة الإطلاقيّة على تبرير العنف وتحريض المؤمنين على استخدام القوّة دفاعًا عن الحقيقة الدينيّة. فهل يجوز لنا أن نتطلّع إلى اختبار دينيّ يعترف بتنوّع الناس في تحسّسهم لآثار الكشف الإلهيّ ويعترف برحابة الكشف الإلهيّ نفسه في مخاطبة الناس ؟ وإذا جاز لنا هذا التطلّع، فهل يضمن لنا التنوّعُ الكفَّ النهائيّ عن تعنيف الآخرين الذين لا يشاطروننا لا الاختبار الدينيّ عينه، ولا الإفصاح اللاهوتيّ عينه، ولا المسلك العباديّ عينه، ولا التنظيم الاجتماعيّ عينه، وهم يرومون، مع ذلك، مراعاة أصول الكرامة الإنسانيّة الذاتيّة ؟ أفيكون الدين الصحيح هو الذي يُسقط من مقولاته كلَّ احتكار واستئثار واستعلاء ؟ أوليس لزامًا على الأديان، إذا شاءت أن تظلّ قادرةً على مخاطبة الناس في زمن التنوّع الكونيّ الأرحب، أن تختار بين الحقيقة الوادعة والحقيقة القاهرة ؟
لو تتبعنا أوجهَ استعمالاتِ اللغةِ للفظِ العنفِ، لتبين لنا أنها تشملُ الجسديَ والمعنويَ معاً. فالعنف لغةً ما كان ضد الرفقِ، والعنيفُ هو الشديد من القول، واعتنفت الشيءَ إذا أخذتُه بعنفٍ، والتعنيف التعيير واللوم. كذلك، يشمل العنف أيضاً، كل حيوية وطاقة دفع بشريتين، إذ أن عنفوان الشيء أوله، والقول هو في عنفوانه أي هو في شبابه.
وليس صدفة أن يدل لفظ الدين في إحدى إستعمالاته اللغوية أيضاً، على معنى القهر. فالدين من الديان أي القهار، وتقول دان الناس أي قهرهم فأطاعوا، والدِين بالكسر هو الطاعة والحمل على ما يكره، ودانه دِيناً أي أذله واستعبده، ودنت له أي أطعته. وهذا يوحي بأن للدين في تمظهراته الأولية، بل والمعاصرة، مرتكزات إكراه وقهر، تفرضها طبيعة العلاقة بين المتناهي والمطلق، وطبيعة الدين نفسه كمؤسسة ذات انتظام عقلي ولوترجي وعلائقي، تفرض التزاماً (عقلياً وسلوكياً) إلزامياً بأمور محددة، وتخلِّياً قصريا عن أمور أخرى: "قل لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"(القرآن)، "كتب عليكم الجهاد وهو كره لكم"(القرآن)، "بع كل ما عندك واتبعني"(الإنجيل)، "إحمل صليبك واتبعني"(الإنجيل).
من هنا، فإن بحث الدين والعنف، يعني أو يستدعي، البحث في حضور كل منهما في الآخر، أو عمق اتصاف أحدهما بالآخر. وهو حضور أو اتصاف يتحقق في اتجاهين: إتجاه عنف الدين، وإتجاه دينية العنف. والإضافة الحاصلة بين العنف والدين، في كلا الإتجاهين، ليست مجرد التقاء اعتباطي أو ظرفي، بل هي في بعض أوجهها، تحديدٌ وإظهارٌ لحقيقة أحد طرفي الإضافة عبر استدعاء واستحضار الآخر.
ولعل من التبسيط الساذج، السعيَ إلى إلغاء العنف، أو التطلعَ لعالم خال من العنف، أو لدين خال من العنف، أو عدوانية نزعت عنها مسوغاتها الدينية . فالصراع بحسب كارل باسبرز شكل رئيسي من أشكال كل وجود، والعدوانية بحسب فرويد- تجسيد لتلك الإزدواجية العاطفية التي تلازم النفس البشرية المعبرة عن اندفاعة الحياة والموت معا. فكما أن إرادة الحياة تحشد في داخلنا طاقة عدوانية تدفعنا إلى العمل والحياة والكفاح من أجل حفظ التوازن بين الرغائب والوقائع، كذلك فإن غريزة الموت القابعة في العمق، تدفعنا نحو توجيه العدوانية ضد أنفسنا وإنزال الموت بها. وهي بحسب يونغ نتاج الشعور بالذنب الذي يغزو كياننا بسبب العجز عن تحقيق الذات وإبراز فرديتنا. وهي بحسب شوبنهاور شر مقوم لجوهر الحياة والوجود وإرادة العيش، وغيابها يقتضي إفناء الإرادة وإبادة الحياة. وهي بالنسبة لنيتشه، والتي يسميها العدوانية الحيوية، خيرٌ بذاتها وكل ما يعيقُها ويضعفُها ويقيدها هو شر. وهذا يجعل العنف، كما يقول كلود كوهن، هو الرابحُ دوما لأنه يشبه اللهيب الذي يلتهم كل ما يمكن أن يلقى عليه بقصد إطفائه.
وإذا كانت العدوانية كامنة في صميم كيان الإنسان، فإنها تبقى فردية وفي محيط اللحظة وحيز المكان الضيق الذي يشبع الحاجة، ولا تصبح كلية وشاملة، أي ذات بعد تدميري عام يمتد في الزمان وينتشر في المكان ويكتسي بالمطلق، إلا حين ينتقل التكوين الإنساني من الطبيعي (البيولوجي أو الغريزي) إلى الثقافي (التربوي) ومن الفردي إلى الإجتماعي.
فأولى خصائص الحياة الإجتماعية كما يرى دوركهايم هو الإكراه أي قدرتها على إلزام أعضاء المجتمع بعدد من الأعمال الخارجية وطرق التفكير والرضوخ للمعايير. وقد أدرك فرويد، أن واقع المجتمع قد يكون بذاته سببا من أسباب العدوانية، إذ في حالات الصراع مع الخارج تتأكد لحمة الجماعة ويتزايد عدم التسامح في الداخل. فالحياة المجتمعية كما يرى ميشال كورناتون، تضاعف من فرص التعبير عن العدوانية، لأنها - أي العدوانية - تصبح مرتبطة برؤية كونية ذات طبيعة أخلاقية أو فلسفية، تجعل عدوانية جماعة ما حيال جماعة تفوق بكثير عدوانية فرد ما حيال فرد آخر.
وإذا كان هذا حال المجتمع، فإن الدولة أو الكائن السياسي الأعلى، قد نقلت العدوانية من شكلها البدائي والغريزي إلى شكلها المعلقن، وتحول النزاع إلى مؤسسات تعمل على تحطيم كل الحواجز النفسية والدينية التي تمنع البشر من الإقتتال، واتخذت الحرب صفة شرعية تكرس التدمير والإبادة بإلقاء كل الشر الموجود في العالم على العدو. وهذا ما جعل أسباب الحرب كما يقول كارل بوتول، عقلنة بحت للإنطلاقات الفردية والجماعية البعيدة.
من هنا لا معنى لإدانة العنف الكامن في الدين، ولا قيمة لمسعى نزع صفة الدين عن السلوك العنفي. خاصة إذا علمنا أن الدين الأولي أو "البدائي" كان يتوسل إلى تهدئة العنف وتدجينه وتنظيم مساراته من خلال الأضاحي المصحوبة بأعمال التقديس. أي كان العنف الديني يقي المجتمعات الأولى من عنف الثأر الللامتناهي.
لذلك، لا بد من تجنب تلك الحلقة المفرغة في إثبات العنف أو نفيه في الدين، في تسويغه أو إدانته. أي ليست مهمتنا هي الكشف عن مواضع العنف ليكون بالإمكان تصفيتها لاحقاً. فالعنف انتقل من شكله المباشر والعفوي إلى شكله الثقافي والمعقلن، بل وتغلغل في اللغة والكلمات ووسائل التعبير، في الفكر وفي سائر العلاقات العلاقات الإنسانية. وهو تغلغل، ليس ماكراً أو إبليسيا، لكنه تغلغلٌ يعكس طبيعة الإنسان الحضارية المستجدة.
لذلك أقترح الإنتقال إلى منطق العلاقة بين الدين والعنف، ونظام الفكر والوعي الدينيين، وبنية الإنتاج المتبادلة، التي تجعل العنف يختبئ فيها خلف الدين، والدين يتستر عبرها بالعنف. وعما إذا كان هكذا منطق ونظام علاقة وبنية إنتاج، التي تشبك الدين والعنف معاً، موصلة الدين إلى مراميه ومقاصده الحقيقية.
هذا يفرض علينا التمييز بين الحدث التدشيني الأول للدين، والذي تتداخل فيه أبعاد المتناهي مع تجليات المطلق، والمبشر برهانات إنسانية وكونية ووجودية وإلهية، وبين الدين كتموضع داخل نظام علاقات خاص، ومنظومة مولدة للمعنى والحقيقة. حيث أن الحدث التدشيني، فضاء دلالي مفتوح، يحثك التفسيرُ الجديدُ فيه على إيجاد تفسيرٍ آخر له، ويدفعك المعنى المُحصَّل إلى تحصيل معنى له، كما لو كنت تتسلق جبلا، وحين تظن أنك وصلت إلى القمة، تدرك أن هنالك قمة أخرى أعلى منها تختبئ وراء شعورك المؤقت بالظفر. في حين فإن الدين كمنظومة، عبارة عن رهان تاريخي وإجراءات معرفية واستراتيجيات علائقية خاصة، حصلت وأحكم ختمها في لحظة تاريخية لاحقة، نقلت الحدث التدشيني إلى واقع معقلن ومنظم في مجرى الفعالية الإجتماعية والحراك الإنساني.
هذا التمييز، يضعك في قلب التوتر الحاصل بين الثابت والمتحول، بين النهائي المنجز والتوق الحر للوصول إلى المطلق. ويخلق فيك حساً نقدياً وتوقاً روحياً، تعود من خلالهما الذات المؤمنة على نفسها، لتحرر من إكراهات النزعات الدوغمائية أو الإنغلاقات العقائدية، والتعرف على أليات الانتقاء والحذف التي تمليها الارثودكسيات الدينية والكشف عن الآليات الإجتماعية والإيديولوجية للإنتقاء والرفض والنسيان. فتتمكن من خلال ذلك، من التمييز بين المعنى الذي يؤدي إلى استلاب الروح والمعنى الذي يؤدي إلى تحريرها، ومن إنقاذ القيمة الدينية من الذوبان الكامل في الحقل الإجتماعي ومجالات السلطة، ومن مرجعة الخيارات التاريخية التي لازمت بين المقدس وبين كل مظاهر السلطة، وقراءة كافة أشكال حضور المقدس في التاريخ الإنساني. والأهم من ذلك، دراسة خيارات الدين في زماننا المعاصر، الذي أدى غياب الحس الإيماني الفاحص، إلى أن تملأ تحريضات العنف والحرب كل فضائه. لتكتشف، بعد رفع كل هذه الموانع، رهانات كينونية جديدة في علاقتها مع الله.
وعلى الرغم من عودة الدين في زماننا المعاصر "من منفاه"، والتي دفعت المؤسسات السياسية والدولية إلى إعادة النظر في تكويناتها، بعدها اطمأنت قبل قرن مضى، تلاشي فعالية الدين ومحدديته السياسية والعلائقية. إلا أن سؤالنا المعاصر، أيضاً، هو، هل عودة الدين، هي فعلاً عودة لفعل الإيمان بالله، وإعادة اعتبار للحقيقة الغيبية، كي تأخذ موقعها الطبيعي داخل منظوماتنا المعرفية والسلوكية والسياسية. وهل هذا الدين، القادم بوتيرة عنف غير مسبوقة، والقائم على تكوينات لاهوتية ورهانات وجودية خاصة، قادر على استعادة الأبعاد الإنسانية التي سطحتها حضارة السوق، وتحقق للإنسان دفقه الروحي.
برأيي، توجد أربعة إنسدادات، في واقع المؤسسة الدينية في زماننا المعاصر. المسيحية والإسلامية بالتحديد. وتمثل المكامن العميقة للعنف، والمعوقات الأساسية في تمثل الرهانات الإيمانية وفي تحقيق مملكة الله في هذا العالم.
الأولى: العلاقة بين الدين والسلطة:
هنالك تشابها بين منطق الدين ومنطق السلطة، بل يكاد المنطق الديني أن يكون مستهلكا في حقل السلطة وتابعاً لها. ولعل ذلك نابع من ضرورات الفترة التأسيسية الأولى للدين، التي استدعت إيجاد تضامنات اجتماعية وقوة وسلطة أمر بل ومنطق مغالبة ومساجلة، من أجل ضمان إستمرارية الدين والإيمان. إلا أن ضرورات التأسيس أو التمأسس الأولى، لا يعني استمرار الصلة العضوية بينهما. فضرورات التأسيس شيء واستهلاك الدين في حقل السلطة وتبعية منطقه لها شيء آخر. حيث تحول الدين المنظومي في التاريخ إلى كائن سلطوي، تحدد شبكة علاقات السلطة كامل حقيقته، ليصبح تاريخ الدين بذلك تاريخ سلطات وكينونات الأمر، أي تاريخ يصنع حقيقة غيره وينفي حقيقته.
هذا يستدعي كتابة جديدة للتاريخ الديني، يستحضر العناصر المقصية والمنسية من حركة الدين، فلا يقتصر الدين، على سرد حياة الرموز الدينية أو توثيق تشكل وتحولات المسؤسسة الدينية الرمسية أو كتابة تاريخ الإنتصارات والسيادة بأحرف ذهبية، فهذا النوع من التاريخ لا يلاحق تحولات وتقدم فكرة الإيمان وتجليات البشرى الإلهية في الحياة الإنسانية، بل يعرض مظاهر الإستثمار السلطوي للدين وأشكال التطور الإجتماعي والمؤسسي لمجتمع المؤمنين. وهذا ما عرض الكثير من أتباع الدين المسيحي والإسلامي، إلى الإلتباس بين تقدم البشرى الدينية وبين تغلغل الدين إلى مواقع متقدمة في السلطة أو حيازة الكثرة العددية أو طواعية أتباع الدين الكاملة لرموز الدين ومؤسساته. لقد تاه العقل الديني الإيماني، بحكم الملازمة بين معنى الغلبة ومعنى الدين، عن التقاط مساراته التاريخية الحقيقة، وراح يستعرض إستثمارات السلطة للدين التي تأخذ أكثر من شكل وتتوزع في مواقع لا حصر لها داخل الفضاء الديني، ظنا منه -أي العقل الديني- بأنه يقرأ تاريخه الخاص ويتعرف إلى صيروته الذاتية.
سقوط الدين في إغراءات السلطة السياسية وحيلها، مكن السلطة من حصر الواجب الديني في مجال التكيف والتحكم، ومن تحويل الدين إلى إيديولوجيا سلطة ومنظومة طاعة، فأصبح دين البعد الواحد الذي لا ينتج سوى عقائد قتالية أو مبادئ سيادة أو مقدس مسلح وقاتل. وهو ما ورط الدين في ممارسات خارجة عن حقيقته، وسبب إبتعادا له عن رهاناته الكونية التي أطلقها لحظة التأسيس الأولى، والتي أخذت تتقلص كلما دخلت السلطة السياسية إلى جوفه.
مملكتي ليست من هذا العالم
ما يؤخذ بالسيف يهلك بالسيف.
أحبوا أعدائكم وباركوا لاعنيكم وأحسنوا إلى مبغضيكم.
الثانية: الدين والحقيقة
إلتباس الدين بالسلطة، انعكس على مسارات التجربة الدينية نفسها. ليصبح الإيمان عبارة عن تلقي النهايات القصوي والتربي عليها، والدين دين الحقائق المكتملة التي لم يعد ورائها أو فوقها أية حقيقة أو معنى. الأمر الذي سلب عن المرء إرادة الإختيار بين المعاني أو حق إنتاج حقيقته، بل انحصر خياره بقبول الحقائق والتسليم بها. فلم تعد هنالك، معاني مجهولة أو مناطق وعي مختبئة وكامنة. ولم تعد المعرفة الدينية فعل اكتشاف وإبتكار وإبداع، بل فعل دفاع وتهيئة مقدمات مقنِعة لنتائج محسومة. بهذا فأنت لست مقصرا فقط، بل قاصر أيضا عن إدراك الحقائق النهائية التي استقر عليها التقليد الديني الخاص.
هذا النوع من السلوك الديني، الذي ما يزال معمماً داخل المنظومات الكتابية الثلاث، أدى إلى إلغاء حق الذات في الإختيار وفي التعبير وفي تحديد مجال وجودها، وأدى أيضاً إلى إلغاء الآخر المختلف ونفي حقيقته الإيمانية، بحكم الدعوى بحصرية الحقيقة الإيمانية داخل مجال خاص. وهذا بعينه أهم منابع التطرف، الذي يبدأ في النمو بصمت، منتظراً الشرط الإجتماعي والسياسي ليطلق شرارة انفجاره. بهذا النوع من الإيمان، المتحكم حاليا ببيئتنا الدينية، يصبح كل واحد منا وبدون استثناء مشروع "تطرف أو منطرف".
لعلنا هنا بحاجة إلى استعادة تلك الحيوية التي أطلقتها لحظة التدشين الأولى، في كلتا الديانتين، التي لا ترى في الإيمان شيئا يتلقى من الخارج، بل هو ميدان تجربة الوعي والباطن مع المتعالي (بول تيليش)، وعملية إنتاج وابتكار وفعل كشف، وجزءا من السعي لتحقيق إمكانات وجود الذات في هذا العالم، بحيث يتولد من كل تجربة خاصة، صورة إيمان فريدة لا تقبل التكرار في الآخرين. فلا تعود العلاقة مع الله، حقيقة جاهزة نتربى عليها، بل حقيقة نسعى ونكدح دائما للوصول إليها، ولا تعود معرفة الله فعل خضوع لكلمة "إعلم" أو "ينبغي"، بل يعرف بالإختبار الذاتي والتحسس والتنوير الباطني. بذلك يخرج الإيمان من منطقة الأمان الراكدة، إلى منطقة الخطر الدائم، والأثمان الغالية، "بع كل ما عندك واتبعني"، "من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني"، "من حفظ نفسه خسرها ومن خسر نفسه في سبيلي حفظها"، "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص في الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين"، "أحسب الناس أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون"، فلا يعود الإيمان دفاعا عن منجزات، بل هو حالة ترحال لا تستقر، وسعي دائم لاكتشاف أو ابتكار صورا جديدة في العلاقة مع الله.
الثالثة: الدين والعالم أو الدين والآخر، أو الدين والتعددية
هذا يأخذنا إلى معضلة العلاقة مع الآخر، ومعضلة تكيف الأديان السماوية مع هذا العالم، الذي تبين لنا، بفضل وسائل الإتصال أن تعدديته لا تقتصر على الإجتماع والنظم السياسية، بل على تجربة العلاقة مع الله.
يقول جون هيك : "الأديان العظمى في العالم، هي استجابات مختلفة لذات الحقيقة المتعالية المحتجبة بذاتها عن أي إدراك بشري، إلا أنها مع ذلك حاضرة في وجودنا ونتعرف عليها ونتفاعل معها عبر نظم دينية متعددة، تتضمن كل منها نصوصا مقدسة، وتجارب روحية، ونظم معتقدات، وذاكرة دينية جمعية، وتعابير ثقافية، وقوانين وعادات وأشكال فنية، تشكل بمجموعها كيانات دينية تاريخية ذات طبيعة معقدة وشاملة، وتعبر عن إستجابات بشرية متنوعة للحقيقة الإلهية القصوى". ويقول ماكس فيبر: "الدين نوع خاص من التصرف في المجتمع يتضمن ذلك المجال في تنظيم علاقة الإنسان مع القوى الخارقة، فكل ديانة هي تنظيم يتضمن أدوارا متمايزة وتراتبية بين هذه الأدوار"، ويقول إيرنست ترولش أيضا: "يعتمد الدين على الشروط الفكرية والإجتماعية وحتى القومية التي يتواجد فيها".
تبين لنا أن التعددية الدينية ظاهرة طبيعية وأصيلة بأصالة المجتمع نفسه، وأن التصاق الخصوصية الثقافية والتاريخية والإجتماعية بأي دين، يعني أن التعدد الديني هو ظاهرة طبيعية ملازمة للطبيعة الإنسانية نفسها، التي اقتضى وجودها على الأرض أن يكون متنوعا ومتعددا ومختلفا ومتفاوتا. فطالما أن التعدد المجتمعي والثقافي هو السمة الطبيعية بل والمنطقية للوجود الإنساني، فإن التعدد الديني يحمل نفس السمات لتجعل منه الأصل الذي لا يحتاج إلى برهان. في حين تحتاج الدعوة إلى توحيد المعتقد والممارسة والمرجعية الدينية لكل الشعوب في ظل التنوع المجتمعي الموجود والبديهي، إلى الكثير من التفسير والتبرير والبرهان، بل هي موضع إدانة إخلاقية إذا جاءت في سياق قهر سياسي أو عسكري من أتباع دين معين ضد باقي الأديان، بحجة أن دينها هو دين الله الحق والوحيد.
نشأت الأديان بنحو منفصل عن بعضها البعض، بحكم تأسس الأديان الكبرى في العالم، الإسلامية والمسيحية واليهودية والهندوسية والبوذية والطاوية، في العصر المحوري داخل حضارات منعزلة ومنفصلة عن بعضها البعض وتملك القليل والنادر من المعرفة المتبادلة بينها. فنشأت الأديان بحكم ذلك، كمجموعة عقائد وممارسات طقوسية وعلاقات داخلية، لا تلحظ بحكم جهلها بذلك، وجودَ تنوعٍ وتعددَ أديانٍ في العالم. كان الدين، أي دين، وليدُ حضارة ذاتُ بيئة ثقافية مغلقة، أي دين يتمحور حول ذاته، وتنحصر حقيقة الهداية في داخله وتقتصر طرق الخلاص عليه.
وقد ظلَّت الأديان الكبرى في العالم، تسيرُ في مسارات منفصلة ومغلفة، وفي حالة جهل متبادل لبعضها البعض. إلا أن الإتصالات الحديثة والدراسات العلمية حَول الأديان، ولَّدت وعيا بحقيقة التعدد الديني القائم في العالم، فلم يعد بالإمكان الإحتفاظ بالمقترحات اللاهوتية القديمة، بل يستدعي الأمر بحكم تغير الكثير من معطيات الواقع، مراجعة الكثير من البناءات العقدية داخل كل دين.
من هنا نجد الممؤسسات الدينية، بشقها المعرفي واللاهوتي والإجرائي، مترددة، بل وعاجزة عن التكيف مع متغيرات الواقع السياسي والدولي.
لا بد في استراتيجية الفهم التاريخي لوجود أية دعوة دينية، من التمييز بين ثلاث مراحل من وجودها: مرحلة التأسيس (أو التدشين) ومرحلة التمأسس ومرحلة الإشباع. ففي زمن التأسيس يكون الدين ممتلئا بالنزعة الطهرية التي تحتج على العالم وتحث على تعبئة كامل الطاقة لتغييره بالكامل، حيث يكون باعث وضابط التغيير هو البعد العقائدي الصرف. أما زمن التمأسس، فيعبر عن المرحلة التي تدار بها شؤون الدين وفق قواعد منظمة ومنضبطة في التفكير والسلوك، تراعي توازن القوى الداخلية في المجتمع وجماعات المصالح فيه، بحيث تستدعي تسوية أو مصالحة في العقل الديني، تحقق توازناً بين دافع التغيير وحركية المجتمع واستقراره. أما مرحلة الإشباع، فهي المرحلة التي استقر فيها انتشار الإسلام، بشريا أو جغرافيا. وهي مرحلة، تستدعي مصالحة مع العالم بأسره، أي الإعتراف بمكونات العالم وتعددياته، واعتبارها أصيلة وحقيقية بنفس حقيقة الإنسان والوجود. فإذا كانت مرحلة التمأسس تستدعي مصالحة مع واقع المجتمع الديني، فإن مرحلة الإشباع تستدعي الإعتراف بالآخر في العالم، مطلق الآخر، لا كحقيقة إنسانية وحضارية وتاريخية وسياسية فحسب، بل كحقيقة دينية وإيمانية أيضا.
وكما أن الأرض أصبحت في تفسير كوبرنيكوس تدور هي والكواكب الأخرى حول الشمس، فإن الثورة الكوبرنيكية (Copernican Revolution) في اللاهوت تعني ببساطة أن تخرج المسيحية (كما يفترض بباقي الأديان أيضا) من تمركزها الذاتي واعتبار نفسها مدار القيمة والحقيقة الروحية والخلاصية، إلى التمحور هي والأديان الأخرى حول الله. عندها ينتهي الحديث عن حقيقة دينية كاملة ومتفوقة في مكان ما والحديث عن حقيقة دينية ناقصة ودونية في مكان آخر، وتصبح أديان العالم الكبرى وفق هذا الفهم، عبارة عن إدراك واستيعاب متعدد وإستجابة متنوعة للحقيقة الإلهية الواحدة، وهو تنوع يفرضه تعدد الثاقفات واختلاف البنى الإجتماعية التي تكون وتطور وتواجد فيها كل دين.
النقلة الكوبرنيكية كما يسميها جون هيك، تستدعي تغيرات جذرية في نظام الوعي الديني تصل بالعمق إلى زعزعة الكثير من الثوابت اللاهوتية، وتتطلب فهما جديدا لكثير من مفردات الدين والإيمان يدعم الفرضية القائلة بأن أديان العالم الكبرى هي إستجابات متنوعة لحقيقة إلهية واحدة، وليس الإختلاف بينها إلا إختلاف ظرفي، نابع من ظرف الثقافة واللغة والعادات داخل التكوين الحضاري الذي يحضن كل دين. فكما أن الأديان تقف على مسافة متساوية من الله بحيث تنتفي معايير الأفضلية والأسبقية بينها، كذلك فإن لله طرقه بنحو متساو إلى كل الشعوب والحضارات، فلا يوجد دين واحد لله بنحو حصري، بل لكل دين حقائقه الذاتية ونظامه الداخلي، يكفلان بنحو متساو تقريبا بين الأديان، إخراجَ الإنسان من ظلمات تمحوره الذاتي (Self-Centered) إلى نور التمحور حول الله ( God Centered ).
رابعها: أولوية الإنسان على العقيدة. ما يزال البناء الفقهي أو اللاهوتي، يستند إلى مرتكزات عقيدية، تُقدم أصالة التوحيد على أصالة الإنسان، بمعنى خضوع الواقع البشري لمقتضيات التوحيد العقيدي. وهو بناء يدعم فكرة تقسيم العالم إلى ثنائيات خير وشر، هدى وضلال، توحيد وكفر. تجعل الواقع البشري محل إدانة دائمة لكونه في أكثر لحظاته لا يتماهي مع الطريق القويم.
منطلق هذا التصور يعود بالعمق، إلى وجود تقابل منطقي بين الله وحرية الإنسان. فلا تفهم العبودية لله كعلاقة حرة مع الله، بقدر ما تُفهم كضرورة تماهي مع نموذج سلوك جاهز وثابت، أي علاقة إستلاب يغيب فيها المضمون الإنساني لصالح تعالي المعاني الإلهية اللازمنية والمطلقة. فتصبح الكثرة بذلك مذمومة ما لم تتماثل، ويعود التنوع الإنساني تهديدا لحقيقة الوحدة الجامعة للكون والوجود، وينتهي الآخر ليس فقط مختلفا بل مظهر شر لا بد من إلغائه أو تحويله.
من هنا، الحاجة إلى أنسنة الفقه الإسلامي، بمعنى اعتبار كرامة الإنسان الطريق الوحيد لتأسيس مملكة الله، والسبيل الوحيد لتجذير التوحيد. بهذا نستيعد الإنسان، كحقيقة ورهان وجودي حر، لا كحقيقة منفصلة عن الله أو قباله، بل وكما يقول إبن عربي: "كأرفع حقيقة وجودية جمعت في باطنها حقائق الأسماء الإلهية التي توجهت لإيجاد العالم وجمعت في ظاهرها حقائق الكون كلها". بذلك تتحول عقيدة التوحيد، من عقيدة مقنَّعة في إلغاء الآخر، إلى عقيدة تمجيد للحياة والإنسان.
(1) راجع: مغنية محمَّد جواد فقه الإمام جعفر الصادق وسيِّد سابق فقه السنَّة.
[1] راجع أفلاطون في محاورته للسفسطائيّين في كتاب غورجياس، باريس، فلامّاريون، 1993.
Platon, Gorgias, trad. M. Canto-Sperber, Paris, Flammarion.
[2] أنظر م. مافِسولي، العنف التوتاليتاريّ، باريس، ديسكليه دو براوِر، 1999، ص 296.
M. Maffesoli, La violence totalitaire, Paris, Desclée De Brouwer.
[3] راجع هـ. م. إنتسنسبرغر، نظراتٌ إلى الحرب الأهليّة، دار زوركامب، 1996.
H. M. Enzensberger, Aussichten auf den Bürgerkrieg, Suhrkamp Verlag, 1996.