تكريم النقيب انطوان السبعلاني والدكتور عباس قاسم
في يوم المعلّم الاثنين 9/3/2009
في الحركة الثقافية - انطلياس
كلمة الأستاذ جوزف هيدموس
كلمة الأستاذ جوزف حالوت
موجز كلمة الأستاذ أنطوان السبعلاني
كلمة د. عباس قاسم
كلمة الأستاذ محمد قاسم
نحتفل اليومَ في التاسعِ من اذار وككل عام بعيد المعلم؛ ورغم أنّ لسانَ حالنا يقول: "عيد بأية حال عدت يا عيد"، فإني أتقدم باسمي وباسم الحركة الثقافية - انطلياس، من جميع المعلّمين، بأخلص التهاني وأطيب التمنيات، آملين يوماً أن نقول: "عيد بأحسن حال عدت يا عيد".
المعلّم أبٌ وأخٌ وصديق، وقد قال فيه الاسكندر الكبير: " دَيني لمعلّمي أعظم منه لوالدي؛ هذا منحني الحياة، ولكن معلّمي علّمني كيف يجب أن تكون حياتي لأصير كاملاً ".
المعلم يربي الأجيال تلو الأجيال حتى وصفوه، بالجسر الذي تعبر عليه الأجيال، وهو صامد في مكانه لا يتزحزح.
المعلّم ينير العقولَ، يسلّح الناشئين بالمعرفةِ والحقِ كي يجابهوا الجهلَ والباطلَ، يضيءُ الطريقَ أمامهم، يعيشُ لتلاميذه على حسابِ راحتِه وراحةِ عائلته. يتابعُ، يقرأ، يصححُ، يتعب ويسهر الليالي ليمتّعَ نظرُه بثمارٍ نضجت ودخلت معترك الحياة. فأنصفه الشاعر أحمد شوقي بقصيدة مطلعها:
قم للمعـلـّم وفِّهِ التبجيـلا كاد المعلّمُ أن يكونَ رسولا
أعَلِمتَ أشرفَ أو أجلِّ من الذي يبني ويُنشىءُ أنفساً وعقولا؟
ضميرٌ حي، لا يأبه لوجعٍ أو مرض، يجرجر رجليه مهرولاً الى صفِّه، سعيداً بلقاء طلابه، مرتاحاً لأنه أكمل المنهج حتى اخر فاصلة.
مهنةٌ شاقة، انها فعلاً رسالة وصفها الشاعر ابراهيم طوقان بقوله:
يا من يريدُ الانتحارَ وجدتَه إن المعلّمَ لا يعيشُ طويلا
من هنا نسأل أين المعلّمُ في بلدي منه في باقي البلدان؟
دخلنا هذه المهنة، منذ اربعين سنة مؤمنين أنها رسالة. وكانت فعلاً مهنةً محترمةً ومشرّفة، لكن للأسف حولتها السلطات الجاهلة، مع الأيام، الى مهنةٍ، يستطيع أن يتعاطاها كلُّ عاطلٍ عن العمل. مهنةِ المتاعب والشقاء، من دون أي تقدير معنوي أو مردود مادي يسد به الأستاذ حاجاته وحاجات عائلته. حتى أصبح همُّ نقابات المعلّمين وروابطهم، ردُّ ضربات السلطة ومتابعة تحركاتها في السر والعلن؛ كي لا تفاجأهم ذات صباح، بمرسوم أو قانون أو مادة في موازنة ما، تحرمهم بعضَ الحال المتواضع الذي هم عليه.
سلطات متعاقبة ترى التعليم مهنةً كباقي المهن، تخضعُ للعرض والطلب. سلطات تقولث عن التعليم بالفم الملآن أنّه قطاعٌ غيرُ منتج، لأنها ترى الانتاجَ دولارات نقدية سريعة غيرَ مؤجلة تدخل الجيوب فتنتفخُ الرؤوس وتتحركُ الاحناك.
سلطات تعاملُ وزارة التربية التي تهتم بأولادنا، مستقبل الوطن الذي نراهن عليه، كأي وزارة أخرى. تقتطع من موازنتها، ولا ترصد الاعتمادات الواجبة لها؛ لأنّ لا همَّ عندها، إن أقرَّت مناهجَ جديدة منذ احدَ عشرَ عاماً وما زالت لا تطبقها حتى الآن؛ ولاهمَّ عندها إذا لم يتوفر أستاذٌ لمادةٍ او مواد معينة في بعض المدارس؛ ولا همَّ أيضاً إن تأخرت في تسديد رواتبِ الأساتذة، او أكلت أتعابَهم بطرقٍ قانونية وغير قانونية.
حكامٌ عقوقون يتربصون بالمعلمين وكأن هناك ثأراً قديماً لم يُشفوا منه بعد.
حسبكم أيها المعلّمون جزاءً وفخراً ما قاله الأديب سعيد تقي الدين ان العالم من صنع أيديكم.
أيها الاصدقاء
نحتفل اليوم وبمناسبة عيد المعلّم بتكريم أستاذين ممن عملوا وعلّموا سنين طويلة وناضلوا حتى الاضّطهاد في سبيل حقوق المعلمين وتطوير هذه المهنة واعلاء شأنها.
نكرِّم اليوم نقيب المعلمين من العام 1970 حتى 1992 الأستاذ انطوان السبعلاني، الذي تعلّم بفضل بساتين والده وأساور أمّه، فأحسَّ بظلم الدنيا والقدر، وزاده احساساً كونُه شاعرٌ مفوه له دواوين عديدة، فدافع عن زملائه بكل قواه، فاضّطُهد وصُرف خمسَ مرات، خمسةَ أوسمة علّقها على صدره.
نكرِّم أيضاً الدكتور عباس قاسم أستاذ الجغرافية في الجامعة اللبنانية. شارك في اعداد المناهج الجديدة، صاحبُ عدةِ أبحاثٍ في البيئة والمياه،. مكافحٌ بلا كلل، ترافق والنقيب السبعلاني على دروب النضال، في سبيل حقوق المعلمين؛ الذين حفظ قوانينهم عن ظهر قلب، فجمعها في كتاب أضحى مرجعاً.
أيها السيدات والسادة:
يسرّني ويشرّفني أن أعرّف بالسبعلاني نقيباً للمعلّمين في يوم عيد المعلّم وهو الذي لا يحتاج إلى تعريف. إلا أن صداقتنا، وقد ناهزت الخمسين من العمر، ومعايشتي شبه اليوميّة لنشاطه النّقابي، ومشاركتي له في صنع بعض الإنجازات، تخولني كلّها أن أدلي بشهادة حقّ، لا افتئات فيها ولا إطناب، نابعة من أعماق وجداني والضمير، وقد قيل عني يوماً إني ضميرالنّقابة.
حكاية نقابة معلمي المدارس الخاصة في لبنان حكاية تستحق أن تروى وتكتب، وأن تسمع وتقرأ. فهي حكاية، أبطالها مجموعة من المعلمين الشباب بقيادة نقيب استثنائي، آل على نفسه أن ينازل تنيناً متعدّد الرؤوس، فكان الصراع بطولياً والمعركة قاسية، أثخنته فيها الجراح، ولم تفتّ من عزمه، وبرّحت به الآلام إلا أنها لم تنل من شجاعته أو كبريائه.
فمن هو السبعلاني؟ وما هي الإنجازات التي جعلت منه نقيباً استثنائياً؟
أنطوان السبعلاني شاب من سبعل تعلّم في مدرسة - الفرير- في طرابلس.علىأيدي إخوة وأساتذة عرفوا بتفانيهم في خدمة الشبيبة، فتشرّب منهم الأخلاق العالية ،ومبادىء الإيمان السليم . تميّز منذ دخوله المدرسة بذكاء متوهّج ، فاختصر الزمن وأحرق المراحل، ونال شهادةالبكالوريا القسم الثاني فرع الرياضيات بتميّز.
انخرط في سلك التعليم في المدرسة ذاتها سنة 1957. ونظرا لمقدراته العلمية المتعددة وقوّة شخصيته أسندت اليه الإدارة الكثير من المواد التعليمية ، فعلّم مادّة الرياضيات ، والفلسفة العربية والعلوم الاختبارية في الصفوف الثانوية ونجح فيها جميعا كما علّم مادّة الترجمة افي الجامعة اليسوعية في طرابلس وبرع فيها.
إلا أن ولعه بالشعر وميله للأدب العربي جعلاه يتفوّق في هذه المادّة التي تخصص فيها في معهد العلوم الشرقية جامعة القديس يوسف ونال إجازة في الأدب العربي دون كبير عناء لثقافته الموسوعية ، وهو في غمرة انشغالاته التعليمية والنقابية.
انتسب إلى نقابة المعلّمين سنة 1960 فتفجرت طاقاته الإنسانيّة : ولمّا كان الأفق السياسي في منطقته مسدودا في وجهه ، أخذ يسعى عن طريق النقابة ،لأن يشبع طموحه في خدمة الوطن وتمثيل الناس وحمل همومهم، .فارتقى سلّم المسؤوليات بسرعة مذهلة من أمين سر فرع نقابة المعلّمين في الشمال إلى عضو مجلس النقابة المركزي إلى نقيب المعلّمين.
أما كيف استطاع السبعلاني أن يتبوأ المركز الأول بهذه السرعة، فلأسباب كثيرة أهمها أنه:
كان طموحاً ذا عنفوان وإباء.
آمن بالعمل النقابي الحرّ وسيلة لتحقيق مطالب المعلّمين،ودعم النظام الحرّ في لبنان.
حرّر المعلّم من عقد الخوف التي كانت تكبّله وجعله يؤمن بحقّه بالتعبير عن رأيه.
أقنعه بأنه هو سيّد أمره وما على مجلس النقابة سوى احترام إرادته والإنصياع لقرارات الجمعيّات العمومية.
أعاد إليه بإختصار الإيمان بنفسه وبنقابته.
توّج ذلك كلّه بترفّع عن المال ورفض عنيد لأي مساهمة في نفقات تنقله اليومي المرهق بين طرابلس وبيروت وغيرها من نفقات
هذه بعض الأسباب المبادئ ، التي حمل السبعلاني لواءها في ثورة بيضاء على الذين كانوا يقررون عن المعلّم ما يشاؤون ويحجبون عنه ما يشاؤون. فكان لوصوله إلى المجلس وقع الصاعقة عندهم بينما التف حوله المعلمون ومحضوه ثقتهم.
هذا الشاب الشمالي، الناطق بعنفوان المعلّم، الحالم بعالم يكون فيه الغلبة للحق والعدالة، النابض بالصدق والإخلاص ، أجفل الجميع ، فتكاتفوا عليه وكان له معهم واقعتان:
كانت الواقعة الأولى دفاعاً عن حرية الرأي.ففي إحدى الجمعيّات العموميّة ، حاول مجلس النقابة عبثا، الإجماع على إدانة رئيس فرع الشمال ، المرحوم الأستاذ محسن يمين لانتقاده تصرّفاته اللامسؤولة. الا أن السبعلاني رفض ذلك من منطلق مبدئي لا من منطلق مناطقي ، وفشلت كلّ المحاولات بإقناعه بالرجوع عن رأيه. ولما اتهم بتجاوز الحدود المرسومة له ، كانت صرخته الشهيرة :" لم يعد ممثّل الشمال ساعي بريد يحمل الرسائل جيئة وذهاباً إعلموا أنه اليوم أقوى وأشرف و أنظف ممثل للمعلّمين بينكم".
اعترف له أمين سر النقابة الأستاذ محمد علي مكي يومها ببراعته البريطانيّة كما قال ، وانتهى الأمر هنا.
أما الواقعةالثانية ، فكانت دفاعاً عن سيادة القرارات التي تتخذها الجمعيات العموميّة وهي ملزمة للمجلس.
ففي مطلع سنة 1964 أقرّت إحدى الجمعيّات العموميّة المنعقدة حسب الأصول ،توصية بالإضراب المفتوح قبل أسبوع من تنفيذه ، ولغاية في نفس يعقوب ، دعا مجلس النقابة بغياب السبعلاني إلى عقد جمعيّة عموميّة لرفع الإضراب ، ولكن السبعلاني فاجأ الجميع بحشد من المعلّمين لم يشهد له تاريخ النقابة مثيلا. عطّلوا الدروس في مدارسهم وتوافدواالى البيت المركزيّ في بيروت، واسقطوا التوصية برفع الإضراب. وبدل أن يمتثل أعضاء المجلس لرغبة الجمعية العمومية ، حمّلوا السبعلاني مسؤولية ما حدث ، واتّخذوا قرارا أحمق بفصله! فانتفض السبعلاني لكرامته وكرامة المعلم وانتفض معه معلموالشمال ، بأجمعهم ومعلّمون كثر من بيروت وصيدا وزحلة وغيرها ، قدّم طعنا لوزارةالعمل ، وظلّ يلاحقه طيلة سنتين ، رافضا كلّ العروض وساخرابكل الإغراءات التافهة بفتح نقابة له في الشمال وهو المؤمن بوحدة النقابة، الى أن، ألغي قرارالفصل. فانتسب الى النقابة وترشّح عن الشمال من جديد وشكّل معارضة نقابية أوصلته سنة 1970 الى مركز القيادة حيث استمرّ نقيبا للمعلمين حتى سنة 1992.
ما كان السبعلاني لينجح لولا ثقة المعلّمين به والتفافهم حول مبادئه ، ولولا براعته في تحريك الرأي العام عن طريق الصحافة وهو المؤمن برسالتها، وما كان ليستمرّ في قيادة النقابة طيلة ربع قرن من الزمن لولا تجرّده وإخلاصه وترفّعه.
خلال قيادته للنقابة ، كرّس وقته وجهده وماله وشعر ه، لخدمة المعلم ورفع مستوى التعليم في لبنان ، والأمران متلازمان. سعى الى تطبيق القوانين الناجزة من جهة وتطويرها وتحديثها من جهة ثانية. آلمه جوع الإنسان فأقضّ مضجعه وهو القائل:
أنا لا أنام وقرب بيتي بائس مأساته خبز الحياة ودار
صرخ في وجه الظلم ، وثار على بعض أصحاب المؤسسات- الدكاكين- كما سماها. وذلك من منطلق إنسانيّ لا من منطلق إيديولوجيّ أو طائفي. اتّهم بالتخريب لأنّه أراد أن يحمي المؤسسات من جشع أصحابها ، كما اتّهم بمحاولة هدم النظام وهو المؤمن حتى الجنون بحريّة النظام وحريّة العمل النقابي فيه:
قالوا: نظامك، قلنا: نحن فتيته الرافعون له في صدرنا القببا
لكن نريده إنسانا نلوذ به لا الذئب يفتك في أبنائه النجبا
وإذ أدرك أنّ الإضرابات المفتوحة هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق المطالب ، قاد أطولها بحنكة وشجاعة وانتصر،لأنّه حافظ على مطلبيتها واستقلاليتها وأبعد النقابة عن الإرتهان ، فخاطب المسؤولين بنبرة عالية ، مخاطبة الند للند، وفرض عليهم فرضا ، احترام من يمثل وما يمثّل. وقف في وجه الطائفية ورفض الابتزاز والمساومات الرخيصة مدافعا عن حقّ المعلّم باختيار ممثليه ، بغض النظر عن انتمائهم المذهبي أوالطائفيّ. ولماقامت نقابة ثانية ، رفض الاعتراف بوجودها حفاظا على وحدة النقابة ووحدة العمل النقابي.
أما أقسى المعارك النقابية فكانت تلك التي خاضها ضدّ المادّة 29 من قانون المعلمين ، وهي المادّة التي تبيح الصرف الكيفيّ فيسقط من جرّائها مئات المعلمين سنويا على مذابح شهوات المستغلين. ولا عجب بعد كلّ ما أثار حوله من نقمة أصحاب النفوذ من سياسيين وأصحاب مؤسسات ، أن يقع البطل ضحية هذه المادّة المجرمة ، ولكنّ العجب أن يسقط في مدرسة عرفت في تاريخها باحترامها المعلم بشكل عام وتقدير مدرائها المتعاقبين للسبعلاني بشكل خاص.
قال أحد مديريها يوما مقدّما السبعلاني في نادي الروتاري :" لو كان هذا الرجل في بريطانيا لكان واحدا من أهم القادة النقابيين". ونبهّه مدير آخر من محاولات لصرفه قائلا: أنا لن أوقع مهما بلغت الضغوط، لكن قد يأتي بعدي من يوقّع على صرفك...." وصدقت النبوءة المشؤومة!! فشرّد مع عائلته وسدّت بوجهه أبواب المدارس وتخلّى عنه الجميع ، وظلّ يحمل هموم المعلّم في صدره وما زال حتى اليوم!!
وبعد صراع تجنّد له حشد من المحامين ، ودام سبعة عشر عاما أنصفه القضاء الذي آمن السبعلاني على الدوام بنزاهته وتجرده.
وفي اانتخابات 1992 رفض السبعلاني على عادته، المساومة على حرية النقابة واستقلاليتها، في وجه المساومين، فتحالف ضده الأحزاب اليمينية واليسارية ، وأصحاب المدارس، الاسلامية منها والمسيحية ، فسقط الفارس بشرف ، في معركة كانت الغلبة فيها للتنين، وانتهت بسقوطه اسطورة نقابة المعلمين.!
هذه بعض من فصول الحكاية، كل فصل منها كتاب .فعذرا إن خانتني الذاكرة وأعياني بليغ الكلام. ارتقى البطل صعودا حتى بلغ قمما لا تبلغها الا النسور، وبنى لنفسه صومعة لا يقطنها الا النساك.
تفرّد فانفرد، وتألّم بكبرياء العظماء، فصدحت قيثارته بأجمل الأشعار. كان صوت المعلمين ومرآة أحلامهم. أبصر أبعد مما يبصر الآخرون -كالأنبياء- كما يحلو لشعراء القرن التاسع عشر أن يصفوا الشعراء. لم يفهمواتصرفاته ، فأطلقوا عليه السهام شأنه في ذلك شأن طائر "Albatros"" رمز الشاعر في قصيدة بودلير الشهيرة ، إذ قال: (عندما يحلّق يحمله جناحاه الى الفضاء فيتوشح بالغيوم ويسكن العواصف ويزدري السهام،..أمّا على اليابسة فجناحاه العملاقان يعيقانه من المشي بين الناس العاديين كالناس).
عزاؤك يا صديقي أنّك الضحية ولست الجلاد!
وأن لك في قلوب من عرفك من معلمين و طلاب، منزلة يصعب على انسان آخر احتلالها .
وفخري أني لك دائما الصديق الوفي .
موجز كلمة الأستاذ أنطوان السبعلاني
الحركة الثقافية بتكريمها اليوم مشكورة النقابيين: عباس قاسم وأنطوان السبعلاني إنما تكرّم مدرسة نقابية انسحب دورها على الساحة التربوية أكثر من ثلاثين سنة وعمل تحت رايتها من عمل في المجالس المركزية والفرعية. ومن ميزات هذه المدرسة:
1- حرية القرار: حتى حدود الجنون.
2- الديمقراطية الرفيعة: أ- في الإنتخابات المركزية والفرعية
ب- الجمعيات العمومية على أنواعها
3- إحترام مطلق لقرار القاعدة: وحدها كانت تُملي عليها المواقف.
4- السلاح الأول : الإضراب المفتوح: - المسيرات الحضارية المرخّص لها.
- وحدهم المعلّمون المنتسبون للنقابة يمشون فيها.
5- الندّية في مخاطبة : - المسؤولين جميعًا
- أصحاب المدارس
6- تعويد الدولة على درج النقابة: - غسان تويني دشّن طريق النقابة وزيرًا للتربية 1970
- ثم الوزراء جميعًا حتى 1992
- ثم رئيس الحكومة تقي الدين الصلح 1973
7- كرامة المعلّم خط أحمر: - المحافظة عليها الى حدود الكبرياء
- مطالبة بإقالة وزير التربية: 1974 لعدم احترامه موعدًا محددًا
- رفض الإجتماع بوزير تأخّر عن الموعد 10 دقائق فكان منه
أن أتى ليلاً الى النقابة معتذرًا
- إنسحاب مرتين من إجتماعين لوزيري تربية: 1975 و 1977
8- إضطهاد قادتها: - عباس قاسم صُرف مرّتين
- أنطوان السبعلاني صُرف خمس مرات.
9- تعاطيها مع المسؤولين وحدهم: من مختار المحلّة الى قصر بعبدا
10- الحفاظ المطلق على مال المعلّمين
السيّدات والسادة، ملتقانا الأعزّاء
إسمحوا لي في هذه العشية أن أُهدي إلى الحركة الثقافية- أنطلياس، ثلاث بطاقات معايدة، ثلاث بطاقات حبّ وتقدير.
- الأولى، أقدّمها للتعبير عن امتنانا "السبعلاني وأنا" على هذه المبادرة التي خصّتنا بها، متلازمة مع عيد المعلّم.
- الثانية، للتعبير عن اعتزازنا "نحن الأساتذة والمعلّمين" بالدور المميّز لهذه الحركة في رعايتها للعاملين في مجالات الثقافة على تنوّعها، والباحثين في المسائل الفكرية على تشعّبها، والمدافعين عن الحقوق الإنسانية التي لا حصر لها.
- أمّا البطاقة الثالثة، وهي الأبرز عندي في مقاصدها ومعانيها، فإنّي أقدّمها للتعبير عن الإعجاب بهذه الحركة الرائدة العاملة بعزم وثبات لإعداد أجيال مستنيرة توّاقة للترقّي، ولمستقبل أفضل في وطن موحّد، مستقلّ ديموقراطي، علماني، منفتح على محيطه العربي ومتفاعل معه، ومع العالم في إطار السيادة الوطنية المطلقة "مقتبس من ميثاق الحركة".
أيُّها الأصدقاء
إن الذين يكرِّسون وقتهم وحياتهم للخدمة العامة، والذين يستقيمون على طريق الحقّ مع الالتزام المطلق فيه، لهم الأخيار المصطفون في قومهم، وهم الذين عرفوا معنى الوجود، فحملوا طواعية، وعن اقتناع، عبء الإصلاح الفكري والسياسي والاجتماعي، لأن فاعل الخير لا يُعدِم جوازيه، لا يذهب العرف بين الله والناس.
ونحن فيما تقدَّم ذكره، نعني كلّ جماعة أو حركة فكرية أو نقابية، اكتمل عَقْدها لغاية إنسانية، والتزمت دستورها أو ميثاقها من دون بيع أو شراء.
أيُّها الإخوة
إن كان لغيرنا أن يقيّم ممارستنا السابقة للعمل النقابي من حيث الإنجازات والإخفاقات، فإن أحداً لا يُنكر علينا التزامنا نهجاً استقلالياً أخرج نقابة المعلّمين، لأوَّل مرّة، من واقع "المونة الطائفية والعشائرية" إلى واقع جديد، وجد فيه المعلّمون أنفسهم في مواجهة مباشرة مع أصحاب القرار والنفوذ، من سياسيِّين وأرباب عمل وزعامات حزبية طائفية، كانت وما تزال متنافرة فيما تُعلن، ومتناغمة فيما تضمر، تجاه حقوق المعلّمين ودورهم المأمول في حركة تطوير المجتمع.
لقد مرَّ على نقابة المعلّمين نقابيون من اتّجاهات فكرية وسياسية متباينة، وحزبيون ملتزمون كانوا في غاية النزاهة والتجرّد. واسمحوا لي في هذه المناسبة أن أحيِّي زميلَين عزيزَين، كانا متباعدَين سياسياً بُعد ما بين القطبين، لكنهما استطاعا بحقّهما النقابي أن يُزاوجا بين النقابة والالتزام الحزبي، فكانا صادقين في أقوالهما وأفعالهما، ومتقاربين في مواقفهما، وجعلا من هذا السلوك منهجاً نقابياً رائداً ما أحوجنا إليه اليوم وكلّ حين.
- سليم الفرنجي وكان كتائبياً، عرفت ذلك بعد أن استقال وترك العمل النقابي. كان بالتزامه النقابي لا يترك مجالاً لتصنيف آخر، فأنا الزميل القريب منه أشهدُ على أنه عَمِل بصمتٍ ليكون حزبه وسيلة لتحقيق أمانيه النقابية، لا كما هو حاصل اليوم في غالب المشهد النقابي.
- ومحيي الدين حشيشو، الذي كان عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني، ونائباً لنقيب المعلّمين، والذي اختُطف في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان على يد جماعة لبنانية غلّبت انتماءَه الطائفي على ولائه الإنساني الحضاري.
محيي الدين حشيشو هذا قال لي يوماً: "عندما أدخل النقابة أترك الحزب الشيوعي عند بابها، فقناعتي بحقوق المعلّمين هي محور اهتماماتي الحزبية، فالعمل النقابي كي ينجح ويحقّق أهدافه، يجب ألاّ يكون أداة حزبية، وعندها تسلم النقابة ويسلم الحزب.
أيُّها الإخوة
إنّ النقابة التي لازمتها خمساً وعشرين سنة، لم تأخذ من عمري المهني أكثر ممّا أخذته الجامعة اللبنانية، ومع ذلك تبقى الذكرى التي تجمعنا اليوم، هي نقابة المعلّمين، التي بمعلّميها ونضالاتهم الأولى، صقلت شخصيّتي وأنا في طور الشباب، ورسّخت قناعاتي بأن لا دولة حقيقية من دون ديموقراطية صحيحة، ولا ديموقراطية من دون مؤسّسات مدنية فاعلة ومستقلّة.
ملتقانا الأعزّاء
لقد عملنا ما كنّا نعتقد أنه الصواب، والصواب أيضاً أن نجهر بأحلامنا التي لم تتحقّق، وفي مقدّمها إعزاز مهنة التعليم عن طريق إلغاء الصرف المهين. وإذا كانت سنوات الحرب الطويلة والاضطرابات السياسية، حالت دون الوصول إلى ضفّة الأحلام، فإن نضالات المعلّمين يجب أن تستمرّ لتحويل نقابة المعلّمين من نقابة مهنية عمالية "syndicat" يرعاها قانون العمل الذي يكرّس مبدأ عدم إلزامية الانتساب، إلى نقابة حرّة "ordre" تخضع لقانون خاصّ بها، يوجب شرطين أساسيَّين، هما: إلزامية الانتساب، واستحداث شهادة كفاءة تعليمية لكلّ من حلقات التعليم الحالية المنصوص عنها في الهيكلية التعليمية الجديدة. وإذ ذاك يصبح لمهنة التعليم تعريف قانوني، وتصبح المسائل الأساسية وفي مقدّمتها الصرف من الخدمة أو ما يُعرف بسحب الترخيص، من شأن نقابة المعلّمين، ويقتصر الأمر على الإخلال بآداب المهنة وتُلغى مهزلة الصرف التجاري المهين السائدة اليوم.
وقبل الختام أتوجّه إلى رفيق نضالي أنطوان السبعلاني الذي عاند الدنيا وزبانيتها وبقي أنوفاً شامخاً، ولسان حاله يقول، ما قال المتنبّي يوماً:
فلا عبرت بي ساعةٌ لا تُعزّني ولا صحبتني مهجةٌ تقبل الظُلْما
وعلى دروب الوفاء كان معنا الأخ العزيز والصديق الغالي المناضل لوجه الله النقابي الأستاذ محمد قاسم، الذي له الشكر الجزيل على ما أضفى عليّ من صفات كم وددتُ لو أستحقّها، والشكر موصول للحركة الثقافية- أنطلياس، وهي الدائنة دوماً، ونحن المدينون لها كثيراً، بتقصيرنا في دعمها ومشاركتها همّ المسيرة الثقافية، التي نذرت نفسها لحمل مشاعلها في لبنان والعالم العربي.
أيُّها الأصدقاء،
إسمحوا لي بأن أُهدي هذا التكريم إلى كلّ العاملين في مجال التربية والتعليم. ولتكن هذه المناسبة "مناسبة عيد المعلّم" حافزاً للجميع على الاستمرار في تعبيد الطريق أمام الأجيال الواعدة، المتطلّعة إلى مستقبلها بهَدي تراثها ومنجزات عصرها.
عشتم أيُّها الأحبّة وعاش لبنان وطن الأخوّة والمحبّة والسلام.
سيّداتي سادتي، في حفل التكريم هذا،
قرأتُ الكثير عن النقابات والعمل النقابي، تاريخها، نشأتها، نجاحاتها، إخفاقاتها، نشاطاتها، وتطوّرها التاريخي وتوزّعها الجغرافي، وقرأتُ أيضاً الكثير عن وثائقها ومؤتمراتها ونتائجها.
ولكن بحثتُ كثيراً خلال مطالعاتي علّني أجد تعريفاً واضحاً ومحدّداً لصفات القائد النقابي أو حتى إطاراً عاماً لصفاته ومميّزاته. فجميعها جاءت تعريفات عامة.
لكن مهما كانت هذه الصفات ومهما تعدّدت إلاّ أنه يستحيل أن تتطابق كلّها أو معظمها على القائد النقابي في لبنان وذلك لفرادة الوضع في البلاد وتداخل السياسي والديني والطبقي والمناطقي ومؤخّراً المذهبي في كثير من الأحيان، حيث تلعب هذه العوامل بأكثريتها دوراً سلبياً أو إيجابياً في بعض الأحيان وكذلك تلعب دوراً معرقلاً، لا بل معيقاً ومقيداً لتطوّر هذا النقابي أو ذاك مهما كانت مواصفاته.
وبالرغم من ذلك، أستطيع القول أن نجاح القائد النقابي في لبنان رغم هذه التعقيدات جميعها مرتبط بعوامل عديدة أهمّها أن يكون:
- مؤمناً بالعمل النقابي والعمل الجماعي والتفاني والاندفاع من أجل تحقيق أهدافها.
- ديمقراطياً: يؤمن بحريّة الرأي وقبول الرأي الآخر وتحديداً رأي القاعدة التي يمثّلها.
- مثقّفاً: واسع الاطّلاع والمعرفة بالقيم النقابية وأهدافها وبالتشريعات المرتبطة بها.
- رؤيوياً: قادراً على رسم الخطط وتحديد الأهداف واختيار الأولويات وتوقيت إعلانها.
- متمتّعاً بطاقة جسدية وفكرية وبنيّة نفسية ومرونة وقادراً على تحمّل الأعباء مهما كبرت.
- ذكياً، كفوءاً، حازماً، قادراً على اتّخاذ القرارات وتحديد المواقف وتنفيذها (واثقاً من نفسه)
- مستقيماً، نزيهاً، شفّافاً، متّزناً، متنكّراً لذاته أمام مصلحة الجماعة.
- وطنياً، بعيداً عن التجاذبات الطائفية والمذهبية واضعاً كلّ مفاهيمه في خدمة نقابته.
- مفوهاً، ومحدثاً لبقاً وقادراً على مخاطبة الجماعة وإقناعها بتوجّهات النقابة.
أيُّها السيّدات، أيُّها السادة
لقد كان مُكرَّمُنا، الدكتور عباس قاسم، يتمتّع بهذه الصفات إن لم يكن أكثر منها، فتعالوا معي نستعرض بعضاً من سيرته ونضالاته ومناقبيته لتحكموا عليه بأنفسكم، علَّ حكمكم يتطابق مع ما أؤمن به وما عرفته عنه، وهاكم هذا البعض:
بدأت حكايتي معه قبل أن تبدأ حكايته مع نقابة المعلّمين.
تعرَّفتُ إليه في العام 1967 لثقتي أنه سيساعدنا على حلّ مشكلة رواتب المعلّمين في إحدى المدارس الخاصة المجّانية التي كنتُ أدرِّس فيها قبل دخولي الجامعة، حيث كنّا نتقاضى نصف قيمة راتبنا ولسبعة أشهر فقط، وعلينا توقيع الكشوفات بكامل الراتب والسنة كاملة. وفّقنا يومها بنصيحته وبحسّه النقابي، فتوحّدنا بوجه صاحب المدرسة وفرضنا عليه دفع رواتب تسعة أشهر بل سبعة و75% من قيمة الراتب بدل النصف. وكان إنجاز عظيم في حينه.
بقيت صورة عباس قاسم تتردّد في ذهني، لأدرك بعد فترة أنه هو أيضاً يدرّس في إحدى هذه المدارس ومنخرط في الدفاع عن حقوق معلّميها والذين هم بأكثريتهم من عوائل فقيرة، ويعانون أبشع أنواع وظروف القهر الاجتماعي. وكانوا أيضاً ضعفاء في مواجهة قلّة من أصحاب المدارس الخاصة النافذين والمحميِّين من زعامات طائفية وإقطاعية. ولم تكن نقابة المعلّمين في حينه تعيرهم، أي للمعلّمين، أيّ اهتمام. وبقي الحال هكذا حتى العام 1968 حين تعرَّف عباس قاسم إلى أنطوان السبعلاني، وهو النقابي المعارض والشاب المتحمّس القادم من الشِمال إلى بيروت. واتّفقا على خوض معركة الانتخابات. فتشكّلت في حينه ثلاث لوائح:
- اثنتان معارضتان، واحدة يقودها أنطوان السبعلاني وتضمّ إليه عباس قاسم، ليلى البعلبكي ومارسيل بارون. والثانية بقيادة أنطوان قازان.
- أمّا اللائحة التقليدية والتي كانت تُعتبر أنها غير قابلة للإختراق فتضمّ ثمانية مرشّحين من أصل 12.
وكانت المفاجأة أن فازت لائحة السبعلاني بأعضائها الأربعة وشكِّلت منذ تلك اللحظة المحطّة الأساس ونقطة الانطلاق لرحلة تصويب العمل النقابي وبداية مسيرة النضال الحقيقي دفاعاً عن مصالح المعلّمين وحقوقهم. وكنتُ على ثقة ولا زلت أن أصوات معلّمي المدارس المجّانية قد رجحت فوز عباس قاسم في لائحته.
هذه الانتخابات جعلت من عباس قاسم نجماً نقابياً من حيث لا يدري.
توثّقت علاقتي معه خصوصاً وأنه خلال العام 1968 كنّا ندرّس معاً في إحدى المدارس الخاصة غير المجّانية بعد أن طُرد نهائياً من المدرسة السابقة. وبدأ هو رحلته النقابية التي ستستمرّ حتى العام 1992 تاريخ انتقاله إلى ملاك الجامعة اللبنانية.
لم يتأخّر عباس قاسم بالتذمّر والشكوى من الواقع المأساوي للعمل النقابي آنذاك. وكنّا نسمعه يردِّد: "ممنوع على نقابة المعلّمين الخروج عن الطريق المرسوم لها طائفياً، لكننا سنكسر هذا القيد وسنسلك طريقاً آخر أكثر ديمقراطية وأكثر التزاماً بمصالح المعلّمين". فلقد شكّل نجاحه ورفاقه كسراً للمعادلة وللتوزيع الطائفي والمذهبي: عددياً وتوزيعاً.
كان اندفاعه وحماسه والتزامه للعمل النقابي ببُعده الوطني والاجتماعي والطبقي عالياً، حتى ظنَّ الكثيرون أنه صاحب فكر ماركسي، في حين أنه كان يفاخر دوماً بقوميته وعروبته وبإيمانه بوطنٍ عربي واحد ومجتمع عربي حضاري منفتح ديمقراطي، تسوده العدالة الاجتماعية.
شكَّل مع رفاقه الثلاثة السبعلاني، بعلبكي، وبارون، ومن موقعهم المعارض في النقابة قوّة ضغط كبيرة على قيادة النقابة مستندين على ثقة المعلّمين وعلى تأثيرهم على القاعدة، ساعدهم في ذلك، وتحديداً في العام 1969، الموقف النقابي الصلب، للقائد النقابي الشمالي- رئيس فرع الشمال في النقابة المرحوم محسن يمّين، الذي يصادف الأحد القادم ذكرى وفاته الأولى.
أذكر الفرحة الكبيرة التي كانت تغمر وجه عباس عندما تمكَّن هو ورفاقه المعارضين، ولأوّل مرّة أن يتحوّلوا قيادة فعلية للنقابة بعد أن كسبوا ثقة الجمعية العمومية التي فرضت على النقابة في العام 1969 إضراباً مفتوحاً مرغمة بذلك نقيب المعلّمين بإعلان الإضراب وتبنّيه. ومنذ ذلك الحين أصبح فريق المعارضة، وعباس قاسم أحدهم، من صنّاع القرار في النقابة. لقد تغيَّرت المعادلات.
وضعت هذه القيادات الثورية والنقابية الناشطة والمُدركة والمؤمنة بالعمل النقابي ودوره، والديمقراطية والكفوءة والجريئة، هذه الصفات وضعتهم وجهاً لوجه مع القيادات المحافظة والطائفية حيث وضعت هذه القيادات الأخيرة النقابة ووحدتها وتاريخها ونضالها المعلّمين على مذبح الطائفية والمذهبية. فبسبب سقوط بعض المرشّحين الممثّلين لإحدى الطوائف في انتخابات 1970 ونجاح المعارضة، لجأت السلطة السياسية لإنشاء نقابة ثانية للمعلّمين وذلك عام 1971. وعلى الرغم من حرص كلّ المعلّمين على حصر تداعيات الثنائية النقابية، فإن واقع الانقسام شكَّل خطراً كبيراً على مصالح المعلّمين ووحدة الحركة النقابية في لبنان. وبقي هاجس توحيد النقابة الشغل الشاغل لعباس وفريقه.
بتشكيل النقابة الثانية، بات عباس قاسم المسلم الوحيد في نقابة المعلّمين في المدارس الخاصة، وفاز مجدّداً في انتخابات العام 1972 ليصبح أمين السرّ العام للنقابة، ولتتحوّل النقابة من تاريخه طليعة العمل النقابي، وليشكّل منذ ذلك الحين الثنائي أنطوان السبعلاني وعباس قاسم ورفاقهما مرحلة جديدة في العمل النقابي الديمقراطي والمستقلّ، وباتت نقابة المعلّمين صوتاً عالياً ومدافعاً حقيقياً عن مصالح المعلّمين وحقوقهم وتطلّعاتهم وداعماً أساسياً لنضالات المعلّمين في المدارس الرسمية التوّاقين إلى تنظيم نقابي مماثل، وقد كان عباس قاسم ورفاقه في النقابة في طليعة المدافعين عن قضية المعلّمين الرسميين المعروفين في العام 1973. وكان للنقابة في حينه دور في حمل قضيتهم إلى اتحاد المعلّمين العرب والاتحاد العالمي للمعلّمين، هذا الدعم والتعاطف الشعبي والنقابي العام في البلاد ترافق مع صمود رائع للمعلّمين المعروفين ورفاقهم ممّا شكّل الانطلاقة الأولى لتشكيل روابط المعلّمين في المدارس الرسمية.
رغم كلّ هذه المشاغل والاهتمامات والمتابعة، بقي هاجسه الأكبر أوضاع المعلّمين في المدارس الخاصة المجّانية وبقي أميناً لوفائهم فانبرى إلى تعديل مجموعة القوانين الناظمة لأوضاعهم وبخاصة المواد المتعلّقة بالصرف من الخدمة. وبذلك أصبح في مواجهة مباشرة مع أصحاب هذه المدارس الذين يشكّلون قوّة عند أصحاب القرار الطائفي والسياسي، والذين رموا عليه الحرم ووصفوا إسلامه بالضعيف وحرّضوا عليه مجدّداً المدارس التي يدرّس فيها فصُرِف مرّتين وبات اسمه مُعمَّماً وشخصه مُهدَّداً بقطع الأرزاق.
لم يتوانَ لحظة عن استكمال جهده ورفاقه في العمل على توحيد النقابتين، وكان له دور أساس في تشكيل لجنة التنسيق الموحّدة للنقابتين دون أن يفرِّط بموقع النقابة الأمّ وريادتها ودورها.
ومع اندلاع الحرب المشؤومة في العام 1975، وبالرغم من الشلل العام الذي أصاب العمل النقابي، والنزعات التقسيمية والطائفية التي راجت في تلك الحقبة، بقي عباس قاسم يسبح مع أقرانه عكس التيّار، فاعلاً ومنخرطاً في شتّى مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية منطلقاً من إيمانه بوحدة العمل النقابي ووحدة اللبنانيين. وشاركنا معاً، رفاقاً نقابيين في القطاعين الرسمي والخاص، في اجتياز المعابر والحواجز التقسيمية وتأسيس مكتب المعلّمين الذي خاض نضالات جميع المعلّمين في لبنان على الصعد النقابية والاقتصادية والسياسية والمطلبية لسنوات طويلة وشكَّل إطاراً موحّداً لجميع هيئات المعلّمين، وكان درج وزارة الصحّة، المكان الآمن والوحيد في أكثر الأحيان الذي يجمعنا من مختلف الهيئات والمناطق، والذي من على أدراجه اتّخذنا القرارات بخوض الكثير من النضالات والتحرّكات والإضرابات وفي مقدّمها الإضراب الشهير في العام 1982 والذي حقَّق درجتين استثنائيّتين لجميع المعلّمين في الرسمي والخاص وتناقص الساعات والقانون 22/82 والذي يُعتبر أحد الإنجازات الهامّة في نضال المعلّمين.
سأوجز القول، إن الحراك النقابي خلال تلك الحرب، والذي كان عباس قاسم أحد قيادييه تمحور حول:
1- مطالب المعلّمين وتعديل سلسلة الرواتب ورفع الحدّ الأدنى للأجور وغلاء المعيشة والحدّ من الصرف التعسّفي وغيرها من المطالب. وهنا أسجّل لعباس قاسم بخاصة في تأمين عشرات فرص التعليم للمعلّمين المصروفين في العراق بعد أن تمكَّن من عقد اتفاق مع وزير التربية العراقي تأمين التدريس لهم هناك كلّ حسب شهادته والمرحلة التي كان يعلّم فيها وذلك لمدّة سنة دراسية وبعضهم لسنتين.
2- القضية الوطنية الكبرى ووحدة البلاد والشعب والمؤسّسات، والتصدّي لعمليات الخطف التي طاولت المعلّمين والتي استشرت بعد العام 1986. وهنا أشير إلى أننا شكّلنا فريقاً متماسكاً في وجه تلك الجرائم البشعة التي طاولت نخبة من معلّمينا ومثقّفينا وعملنا مجتمعين على إطلاق سراح المخطوفين. ولكم تعرّضت حياتنا للخطر الشديد ولكم تلقّينا التهديد تلو التهديد جرّاء ذلك. ولكن ذلك لم يثنينا عن متابعة القضية وتنظيم التظاهرات والمسيرات والاحتجاجات وقد وفّقنا في الكثير من الحالات بإطلاق سراحهم سالمين كما فشلنا في بعضها حيث كنّا نعثر على جثث بعضهم وأثر التعذيب ظاهر عليهم. وكم كنّا في كثير من الأحيان نعتقد أننا سنلاقي المصير ذاته.
3- تأسيس هيئة التنسيق النقابية للعمل على الصعيد الوطني العام ومواجهة الواقع المعيشي المتدهور جرّاء الحرب. حيث كنّا خلية نحل لا تهدأ، وكان عباس قاسم في حينه ممثّلاً لنقابة المعلّمين، حيث كان عملنا مشتركاً مع الاتحاد العمالي العام، والاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين ومكتب المعلّمين، ومجدّداً في محيط وزارة الصحة لإزالة السواتر الترابية المرفوعة آنذاك لتقسيم العاصمة بيروت.
كلّ ذلك لم ينسه قضيته المركزية، توحيد المعلّمين في المدارس الخاصة بنقابة واحدة، كما كان همّه أيضاً تحقيق تنظيم عام موحّد باسم اتحاد المعلّمين اللبنانيين في القطاعين الرسمي والخاص، وكان هذا السعي يلقى معارضة أحياناً حتى من الأقربين.
الحدث الأسعد إلى قلبه ووجدانه وجسه النقابي والوطني جاء في العام 1991 حين انتزعت هيئة التنسيق الموحّدة للنقابتين قراراً من وزارة العمل ينهي حالة الانقسام وذلك بإنشاء نقابة واحدة للمعلّمين في المدارس الخاصة في لبنان.
وفي الأوّل من تشرين عام 1992 جرت الانتخابات لمجلس نقابة المعلّمين الواحدة ليستقيل منها عباس قاسم بعد رحلة نضال نقابي طويلة جاوزت خمسا وعشرين سنة ليتفرّغ لإعداد أوّل دراسة قانونية لمجموعة قوانين أفراد الهيئة التعليمية في القطاع الخاص لتصدر هذه الدراسة في طبعتين الأولى في العام 1992 والثانية في العام 1998 وكانت أساساً لإصدارات نقابة المعلّمين فيما بعد على هذا الصعيد.
رغم كلّ هذه النضالات والمشاغل والمهام والمسؤوليات التي تولاّها، والمعاناة والعذابات وعمليات الصرف التي واجهها، إلاّ أنه لم يغب عن باله ولا عن إرادته استكمال تحصيله العلمي والمعرفي، فهو لم يكتفِ بشهادة الليسانس في الجغرافيا التي نالها في العام 1963، إلاّ أنه أكمل دراسته العليا لينال شهادة الدكتوراه (فئة أولى) في الجغرافيا البشرية في العام 1981 والتي كانت مدخلاً له للتدريس في الجامعة اللبنانية.
واستمرّ منذ العام 1981 وحتى العام 2004 أستاذاً فيها، لكنه بقي خلال فترة التعاقد (أي ما قبل 1992) وحتى تاريخ استقالته من النقابة يجمع بين نقابة المعلّمين ورابطة الأساتذة المتفرّغين، حيث انتُخب ممثّلاً لأساتذتها في كلّية الآداب- الفرع الرابع، ليشكّل ذلك مشهداً غير مسبوق في العمل النقابي.
وبعد دخوله ملاك الجامعة آثر التفرّغ للجانب الأكاديمي والبحث العلمي. ومن جهتنا نقول، أنه وبالرغم من كفاءته وتفوّقه في تدريس مادة الجغرافيا وأبحاثه المعمّقة والهامّة، إلاّ أننا عرفنا ولا زلنا قائداً نقابياً من الطراز الأوّل.
ويبقى السؤال الموجّه إليك يا صديقي الحبيب والعزيز،
"أين العمل النقابي ببُعده الاجتماعي والوطني والاقتصادي والسياسي بالأمس، واين هو اليوم؟".
سيبقى نموذجك في القيادة النقابية، وستبقى صفاتك الفريدة مدرسة لكلّ سالكي طريق وحاملي مشعل النضال الوطني والنقابي في هذا الوطن.
أحببناك منذ أكثر من أربعين سنة وسنبقى نحبّك ما حييت وحيينا.