ندوة حول كتاب "بولس الرسول بعد الفي سنة"
كلمة أسمهان عيد
كلمة الدكتور جوني عوّاد
كلمة الأخت باسمة الخوري
كلمة الأب أنطوان عوكر
أيها الاصدقاء، اهلاً وسهلاً بكم.
لقاؤنا الليلة لقاء قدسي، انه لقاء الارض بالسماء، لقاء الروح بالمادة، حيث تنحل الكلمات انواراً واضواءَ فتدغدغ السمع وترتقي بالخيال الى حيث الألوهة العظمى، الى يسوع المسيح، الرب والمخلص.
لقاؤنا الليلة قدسي السمات، كيف لا! والكلام فيه عن رائد من رواد الكنيسة، ورسول من اعظم رسلها، انه بولس الرسول!
هذا الرسول الذي جاب اقطار العالم، ولم تثنه الصعوبات مبشراً بيسوع المسيح القائم من بين الاموات رباً والهاً ومخلصاً، ذاك الرائد في الكنيسة الذي خطّ اول كلمة في العهد الجديد، فخلق لغة انجيلية في اكبر لغة حضارية في ذلك الزمان، انها اللغة اليونانية، لغة الفكر والفلسفة، ولغة روما العظيمة حتى القرن الثالث بعد الميلاد.
هكذا استطاع الرسول بجعله لغة الانجيل اليونانية ذات الامتداد العالمي ان يوصل البشارة الى كل الامم. فغدا رسول الامم.
هذا العظيم! بولس الرسول! كيف يراه العلاّمة بولس الفغالي "بعد الفي سنة"؟
ولكن قبل القاء الضوء على مضمون الكتاب مع ضيوفنا الكرام: الأب انطوان عوكر، والأخت باسمة خوري، والدكتور جوني عواد، لا بد لنا من القاء نظرة سريعة على السيرة الذاتية للأب العلاّمة الدكتور بولس الفغالي ونشاطاته الكتابية والرعوية.
الأب بولس الفغالي ابن كفر عبيدا، والكاهن في ابرشية البترون المارونية، اتخذ اسم بولس تيمناً بالرسول بولس القائل: "اقتدوا بي كما اقتدي بالمسيح". لبى هذا الكاهن النداء وحمل البشارة واخذ يكرز باسم الرب يسوع قولاً وكتابة، فجاوزت كتبه المائتي كتاب، وكلها تهتف باسم يسوع وقدسيه. نذكر منها: "المحيط الجامع في الكتاب المقدس والشرق القديم"، و"المدخل الى الكتاب المقدس" في ستة اجزاء. له سلاسل كتب في مجالات مختلفة، منها المجموعة الكتابية، والبيبيلية، ومحطات كتابية، وغيرها من المجموعات التي تناولت آباء الكنيسة: كيوحنا الذهبي الفم، ويعقوب السروجي، وافرام السرياني وغيرهم. له ايضاً كتب باللغة الفرنسية.
الخوري بولس الفغالي حائز على دكتوراه في اللاهوت من الجامعة الكاثوليكية في باريس. ودكتوراة فلسفة من السوربون، درّس في الجامعة اللبنانية حوالي عشرين سنة.
شارك في مؤتمرات عديدة في اوروبا وبلدان عربية. نظّم مؤتمرات في لبنان والعالم العربي تجاوزت العشرين.
وكاتب لاكثر من الف مقال في الامور الرعائية والبحثية العلمية. يتقن أكثر من عشر لغات قديمة وحديثة.
ان لقاءنا اليوم حول الأب العلاّمة بولس الفغالي بمناسبة صدور كتابه "بولس الرسول بعد الفي سنة"، ليس الاول بل سبق وكرمته الحركة الثقافية ـ انطلياس في السنة 2000، وفي المهرجان اللبناني للكتاب، كما التقينا في العام الماضي، لتوقيع كتابه "العهد القديم".
"العهد القديم"، "والعهد الجديد" كتابان اشترك في كتابتهما الاب بولس الفغالي والأب انطوان عوكر.
الأب انطوان عوكر راهب انطوني، ورئيس دير مار شعيا ـ برمانا، باحث في الكتاب المقدس، يدرّس "العهد الجديد" في كليّات اللاهوت في الجامعة الانطونية، ماذا يقول في كتاب العلاّمة بولس الفغالي "بولس الرسول بعد الفي سنة"؟ الكلام لكم فتفضلوا...
2 ـ شكراً للأب انطوان عوكر على هذه النظرة الشاملة والقيّمة للكتاب. وسيحدثنا الآن الدكتور جوني عواد، عن بعض الأبحاث والدراسات التي تناولت رسائل القديس بولس، وفي الكتاب عينه.
الدكتور جوني عواد، استاذ العهد الجديد في كلية اللاهوت في الشرق الادنى، وعضو محاضر في الرابطة الكتابية، ويكتب في جريدة النهار، وفي مجلة بيبليّا ومجلات اخرى متخصصة في الكتاب المقدس، الكلام لكم فتفضلوا.
3 ـ شكرا للدكتور جوني عواد على هذه المداخلة القيمة التي اضاءت بعض جوانب الكتاب. ومع الاخت باسمة خوري سنتعرف على المكانة العظيمة التي احتلتها رسائل القديس بولس عند آباء الكنيسة ومنهم الذهبي الفم الذي شغف بهذا القديس العظيم.
الأخت باسمة خوري مدبرة في الرهبنة الانطونية، تعلم الكتاب المقدس في كلية اللاهوت الحبرية في جامعة الروح القدس ـ الكسليك، تكتب في جريدة النهار، تلاحق اخبار الكتب اللاهوتية الجديدة، اشتركت مع الأب بولس الفغالي والأب انطوان عوكر في تأليف كتاب بعنوان "مقدمات في الكتاب المقدس". الكلام للأخت باسمة خوري فلتتفضل.
4 ـ نشكر الأخت باسمة خوري على هذه الاضاءة القيمة التي طالت جوانب مهمة من الكتاب.
ان كتاب "بولس الرسول بعد الفي سنة، كتاب قيّم يطلعنا على فكر هذا القديس العظيم ورسائله واعماله من خلال ابحاث ودراسات معمقة قام بها المؤلف، وهو جدير بان يقرأ، ويستحق ان يكون مرجعاً مهماً لدارسي الفكر البولسي في المستقبل. ونترك الكلام لمؤلف الكتاب الأب العلامة الدكتور بولس الفغالي فليتفضل.
ـ شكراً للأب الدكتور بولس الفغالي على كلمته التي اضفت رونقاً خاصاً على هذا اللقاء. ونفتح باب المناقشة لمدة عشر دقائق.
6 ـ في الختام نشكر ضيوفنا الكرام والاب بولس الفغالي والاصدقاء الاعزاء على مشاركتهم.
بداية لا بدّ من تهنئة الدكتور الخوري بولس الفغالي، والذي سأشير إليه بالفغالي في سياق هذه المراجعة، على مؤلّفه "بولس الرسول بعد ألفي سنة" الصادر عام 2008. هذا لا يُعتبر كتاب جديد، لأن الفغالي على أغلب الظنّ قد أصدر دزينة من الكتب بين كتاب بولس والوقت الحاضر.
مَن يقرأ الفغالي لا يمكن إلاّ أن ينوّه بالموجة الثقافية الواسعة التي تميّز تفسيره للنصوص الكتابية فتسمها بالفرادة. فهو كالأخطبوط تمتدّ أيديه إلى حقول المعرفة المختلفة من علم الآثار، إلى عالم اللغات القديمة، إلى التاريخ القديم، التراث اليهودي، وكتابات آباء الكنيسة، يستثمر ما التقطته يداه من حقول العلم تلك في تفسيره للكتاب المقدّس. أنا لا أجامل الفغالي، إنّما أقول الحقيقة.
مهجتي في هذه الندوة، والتي لي شرف المشاركة فيها شاكراً الحركة الثقافية في انطلياس على دعوتها لي للمشاركة، هي مراجعة واحد من أقسام الكتاب الخمس. العنوان الرئيسي لهذا القسم هو "أبحاث ودراسات" ويتضمّن تسعة فصول (من صفحة 139-259).
لن أقوم بتلخيص محتوى هذه الفصول، إنما سأتكلّم باختصار عن مضمون كلّ واحد منها ومن ثم أنتقي بعض الأمور المحدّدة، والتي أعتبرها شخصياً مهمّة إن من ناحية المضمون أو ذات طابع منهجي، أعلّق عليها وأطرح بعض الأسئلة أو التساؤلات.
أحببت أن يكون اللقاء على مستوى من العلمية، فأنا أشكر الفغالي مسبقاً على رحابة صدره، وأتطلّع إلى نقاش جدّي حول الأمور المطروحة.
الفصل الأوّل: من بولس إلى أحبّاء الله في رومة
هذا الفصل هو مقدّمة للرسالة إلى أهل رومة. سهولة قراءَته وسلاسة الأسلوب سوف يسمحا للقارئ غير المتخصّص بالاغتناء بمضمونه. يعالج الفصل قضايا مهمّة تتعلّق بأكبر وأعمق كتابات الرسول بولس، مثل جماعة رومة، أسباب كتابة الرسالة، زمان ومكان كتابتها، تصميمها، الفن الأدبي، وبعض النقائض في الرسالة (الخطية- البرّ، الموت- الحياة، الحرف- الروح).
استوقفني في هذا الفصل قول الفغالي أن الرسول بطرس أقام في رومة قبل مجيء بولس إليها وذلك بحسب شهادة البابا كليمان، واغناطيوس وبتلميح من رسالة بطرس الأولى (5: 13). باعتقادي تاريخية هذا الموضوع بحاجة إلى بحث أعمق خصوصاً في ضوء صمت كتاب أعمال الرسل، أو رسائل بولس، عن تواجد لبطرس في رومة، وفي ضوء أسئلة جديدة تُطرح، يعرفها الفغالي كلّ المعرفة، عن وثوقة بطرس الأولى، أي إذا ما كانت الرسالة من يد بطرس الرسول نفسه.
لكن يبدو أن إدخال الرسول بطرس على الساحة في رومة له غاية أخرى بالنسبة للفغالي. ففي تعليقه على قول الرسول أنه كتب مطولاً بغية فقط التذكير بما يعرفون، يقول الفغالي:
"كان بطرس على اتفاق مع بولس في جوهر التعليم المعروض في رومة، ولهذا قال بولس إنه يكتفي بأن يذكّرهم..." (صفحة 135).
أليس القول أن بطرس وبولس كانا على اتفاق في جوهر التعليم المعروض في رومة مبالغ به بعض الشيء؟ عندما كتب بولس الرسالة إلى رومة، كان مضمون رسالة غلاطية القاسية لا يزال يتفاعل، والتي فيها وصف بولس للرسول بطرس ب المرآة (Ty Utioxpltel) على خلفية ما جرى في انطاكية عندما انسحب الرسول بطرس عن مائدة الأمم. انسحاب بطرس هو دلالة على أن بطرس كان اقتنع باستمرارية الشريعة حتى بعد ..........................
وهذا أمر جوهري للرسول بولس.
الفصل الثاني: عجيب أمركم أيُّها الغلاطيون
هذا الفصل هو أيضاً مقدّمة للرسالة إلى الغلاطيين. في معرض التحليل يثير الفغالي موضوع تعاليم المتهوّدين (أي المسيحيّين من أصول يهودية الذين كانوا يحاولون إقناع الغلاطيّين بضرورة تبنّي أعمال الشريعة كشرط لصيرورتهم ورثة للعهد والوعود التي تحقّقت بالمسيح)، الذين يزعمون أنهم يستندون إلى يعقوب أخ الربّ أحد أركان الكنيسة في أورشليم. ويتابع، أن بولس يتحدّث عن هؤلاء باحتقار، ويلمّح إلى قائدهم في 5: 10 "وآثر أن يبيّن أنه على اتّفاق مع يعقوب في ما يخص جوهر الأمور (1: 19 ؛ 2: 9) (أنظر صفحة 159).
باعتقادي أن الحديث مجدّداً عن اتّفاق في جوهر الأمور بين يعقوب وبولس فيه بعض المغالاة.
غلاطية 1: 19 تتحدّث عن لقاء وُجِد بين بولس ويعقوب خلال زيارة بولس الأولى إلى أورشليم بعد الاهتداء. وغلاطية 2: 9 تتحدّث عن لقاءٍ ثانٍ تمّ التوافق فيه على تقسيم حقل الخدمة: بولس إلى الأمم ويعقوب وكيفا ويوحنا إلى الختان. ليس في هذين النصّين إشارة إلى اتفاق في جوهر الأمور. باعتقادي هو اتفاق في قشور الأمور.
العكس هو الأصحّ. كان هناك خلاف عميق بين بولس ويعقوب في جوهر الأمور لم يكن قد حُلَّ بعد. أعود ثانية إلى حادثة انطاكية والتي حصلت بعد لقاءَي أورشليم، والتي يعزو فيها بولس السبب لانسحاب بطرس عن المائدة مع الأمم، لقدوم قوم من عند يعقوب (2: 12). إذ حسب الشريعة اليهودية لا يمكن لليهودي والأممي أن يكون لهما شركة المائدة.
جوهر الأمور بالنسبة لبولس أن المسيح نهاية الشريعة، وبالتالي نهاية ما يعيق الشركة بين اليهود والأمم. ونهاية الشريعة يعني نهاية للبرّ الذي بأعمال الشريعة. هذا أمر جوهري، وقول بولس في غلا 2: 21 "إذا كان البرّ بالشريعة، فالمسيح مات بلا سبب". هذا القول هو دلالة على جوهر الأمور.
أنا لا أريد أن أماهي بين يعقوب والمتهوّدين، لكن باعتقادي أنه من المحتمل القول، ومن وجهة نظر بولسية، أن هناك تقاطع بينهما فيما خصّ استمرارية الشريعة، الأمر الجوهري المرفوض من قِبَل الرسول بولس.
وكأنّي في هذين الفصلين أمام عملية ممنهجة لطمر الاختلافات داخل العالم المسيحي الأوّل. أتمنّى أن لا يكون ظنّي في مكانه.
الفصل الثالث: الرسالة إلى غلاطية في كنيسة انطاكية
هذا الفصل يقوم للمدرسة الانطاكية التفسيرية وكيف تلقّف روّادها الرسالة إلى الغلاطيّين. لن أعلِّق على هذا الفصل كونه وصفاً لكتابات الانطاكيين أكثر منه تحليلاً.
الفصل الرابع والخامس: - أفسس بين الكتاب المقدّس والتاريخ.
- أفسس من هيكل ارطاميس إلى بازيليك القدّيس يوحنا.
هذان الفصلان هما بحثان جدّيان وعلميان في تاريخ مدينة أفسس وعبادة الآلهة ارطاميس في المدينة، وعمل الرسول بولس فيها حسب أعمال الرسل 19 وما تكشفه لنا الحفريات عن كنيسة العذراء وبازيليك القدّيس يوحنا.
لا تعليق لي على المحتوى الجدّي للفصلين. إنما سؤالي للفغالي هو التالي: ما المقصود من إدخال أو بالأحرى إقحام هذين الفصلين في هذا القسم من الكتاب الذي يعالج رسائل بولس الوثوقة والقضايا التفسيرية واللاهوتية المتعلّقة بها؟
نحن نعرف أن بولس مكث في أفسس وكان له خدمة هناك. لكن لا نعرف تفاصيل هذه الخدمة. هو لا يخبرنا الكثير عن هذه الخدمة في رسائله. الفغالي نفسه يُصنّف الرسالة إلى أفسس وكولوسي وتسالونيكي الثانية والرسائل الراعوية على أنها رسائل غير وثوقة، وأنها تنتمي إلى مدرسة بولسية، وأنا أشاطره الرأي في ذلك وأعتبر هذا الموقف بمنتهى الجرأة على مستوى التفسير الكتابي في الشرق.
والفغالي نفسه في القسم الثاني من الكتاب يحذّر من الاستعمال اللانقدي للمعلومات في أعمال الرسل حينما يقول:
"... نجد مراجع لوقا، كاتب أعمال الرسل، هي متقطعة، وتقديمه للأحداث يراعي نظرة لاهوتية تخفي بشكل منهجي الاختلافات داخل العالم المسيحي وهي اختلافات دراماتيكية كما تقدّمها رسائل بولس. لكن لا بدّ من استعمال سفر الأعمال شرط أن نقرأه بعين ناقدة وتقابل مع الرسائل..." (ص 67).
إذا كانت المعلومات حول خدمة بولس في أفسس مبنية على أعمال الرسل، ولا يمكن قراءَتها بعين ناقدة من خلال مقابلتها مع الرسائل البولسية، كون أن الرسالة إلى أفسس ليست من الرسائل الوثوقة، لماذا هذين الفصلين في هذا القسم من الكتاب؟ أنا أطرح سؤالاً منهجياً. أنا لست ضدّ الحديث عن خدمة بولس في أفسس حسب أعمال الرسل، لكن شرط أن يكون هذا الحديث في موقع آخر من الكتاب وليس في قسم يتناول الرسائل الوثوقة. كنت أتمنّى لو خصّص الفغالي هذين الفصلين للرسائل الكورنثية.
الفصل السادس: من بولس إلى شركائه في نعمة الله
هذا الفصل هو مقدّمة للرسالة إلى فيليبي ويعالج فيها الفغالي قضايا تتعلّق بالمدينة، الجماعة، مكان الكتابة، وحدة الرسالة، مضمونها، وتعليمها اللاهوتي ومشهد المسيح 2: 6-11.
هنا أريد أن أثير أمر واحد متعلّق بوحدة الرسالة: إن التغيير المفاجئ في اللهجة في 3: 1 (أي منتصف الرسالة) من "أخيراً يا إخوتي إفرحوا في الربّ"، إلى "أنظروا الكلاب فعلة الشرّ أنظروا ............
هذا التغيير المفاجئ خلق إشكالية تتعلّق بوحدة الرسالة. بعض المفسّرين اقترح أن الرسالة مركّبة من رسالتين أو ثلاث، والبعض الآخر دافع عن وحدتها. والفغالي من المدافعين عن وحدة الرسالة وقد يكون على حقّ. إنما تبريره لوحدة الرسالة برأي لا يرتقي إلى حجم المشكلة، خصوصاً عندما يقول:
"نحن لا نجهل الوقت المطلوب ليملي بولس رسالته. ثم إنه كان في السجن فيُجبر على التوقّف عن الإملاء. وهكذا يكون قد مرّ بين قسم وآخر بعض الوقت حصلت فيه أحداث جديدة ففرضت على الرسول تغييراً في الأسلوب واللهجة" (صفحة 198).
نعم كلّ شيء ممكن، ولكن ليس كلّ شيء محتمل. وكلّ الرسالة أربع إصحاحات يا أبونا!
الفصل السابع: مدينة كولوسي والتعاليم الضالة
باعتقادي هذا الفصل مهمّ جداً كمقدّمة للرسالة خصوصاً ما يطرحه الفغالي عن وجود غنوصية مبكرة يحاول الكاتب دحض تعاليمها. مشكلتي مع هذا الفصل لا تتعلّق بالمحتوى. مشكلتي ذات طابع منهجي وهي نفس المشكلة التي أثرتها بخصوص الفصلين المتعلّقين ب أفسس. إذا كانت كولوسي ليست رسالة وثوقة، ماذا تفعل في قسم يحاول تقديم الرسائل الوثوقة والأمور التفسيرية واللاهوتية المتعلّقة منها؟ من الممكن أن يخصّص قسم من الكتاب لهذه الرسائل ويُدرج الفصل فيه. الفغالي رسم في القسم الثاني من الكتاب خطوطاً منهجية مبهمة، وإدراج الفصول بتناغم مع المنهجية هو الذي يعطي الكتاب تماسكه.
الفصل الثامن: الأبحاث الحالية حول بولس ورسائله
في هذا الفصل يقدّم الفغالي للقارئ ما يجري من أبحاث وقراءات معاصرة حول بولس. منها ما هو غير لاهوتي، مثل القراءات اليهودية، أي نظرة يهودية على رسائل وشخص بولس، ومنها قراءات اجتماعية أو تاريخية أو سياسية. وهناك قراءات فلسفية أو بلاغية. بعض أقسام هذا الفصل يعالج أمور لاهوتية بولسية كالإيمان والشريعة، تاريخ الخلاص .................... ببعض الإشكالات التفسيرية للرسائل ذات البُعد اللاهوتي (أعني إشكالية إيمان أو أمانة يسوع- والإيمان بيسوع).
أسأل الفغالي لماذا الصمت عن الأبحاث والقراءات الرؤيوية Apocalyphic لبولس (أو الجليانية كما يحبّ أن يسمّيها الفغالي) وأخصّ بالذكر James Dunn Johann Christian Beher. وأنا أعرف أنك تتعاطف مع هذا الخطّ التفسيري. هذا أمر جانبي بالنسبة لي. الأمر الأساس هو الإشكالية التفسيرية المتعلّقة بإيمان أو أمانة يسوع- والإيمان بيسوع.
لتبسيط الأمر للمستمع غير المتخصّص، هناك عبارة باللغة اليونانية في رسالتَي رومة وغلاطية تحتمل قواعدياً ترجمتها بطريقتين:
إمّا إيمان أو أمانة يسوع
أو الإيمان بيسوع.
طبعاً لكلّ من هاتين العبارتين تبعات لاهوتية مبهمة، وكم كنت أتمنّى التبسيط والتوسّع في هذه الإشكالية للقارئ غير المتخصّص. باعتقادي الحديث عن أمانة يسوع في فكر بولس هو أفق يجب أخذه بجدّية. ولكني أحترم خيار الفغالي أن يصرّ على "الإيمان بيسوع"، كما يفعل الكثير من المفسّرين. غير إني لم أفهم آخر جملة للفغالي في هذا المقطع عندما يقول:
"أمّا نحن فلا نختار في النهاية إيمان يسوع الذي يعمل كلّ شيء. فلا يبقى للإنسان سوى أن يتقبّل عطية الله بشكل منفعل، بحيث لا يفعل شيئاً (كيف منفعل ولا يفعل شيئاً)، كمريض لا يقدر أن يفعل شيئاً سوى جرع الدواء، بل نختار الإيمان بيسوع. الله ينادي والإنسان يجيب جواب الإيمان، والإيمان بالأعمال، كما يقول القدّيس يعقوب (2: 14-20) (صفحة 238).
أنا حقيقة لا أفهم هذا المقطع، إذا كان الله ينادي والإنسان يجيب بالإيمان. كيف يكون الإيمان بالأعمال؟ أي منطق هذا تحلّ فيه معضلة لاهوتية بولسية اسمها الإيمان/ أعمال على أساس نص من رسالة يعقوب؟ أليس هذا إسقاط لمفاهيم يعقوبية على لاهوت كبير مثل لاهوت بولس؟ هل أصبح اللاهوت البولسي فريسة رغبة في تبيان مفاهيم دغماتية عقائدية من هذا الطرف أو ذاك؟ أنا أريد أجوبة من الفغالي حول هذه المسائل.
الفصل التاسع: قراءة الرسائل البولسية في الألف الثالث
يبحث الفصل في نظرة بولس الرسول إلى مجيء المسيح في حياتنا والعالم. هذا الفصل مهمّ جداً خصوصاً عندما يضع الفغالي العالم والفكر الجلياني كإطار لفهم فكر الرسول بولس. أنا أتوافق معه في هذا المنحى وأعتبره الأفضل والأصحّ لفهم الرسول. الفصل يطرح إشكالية التحوّل في الاسكاتولوجيا بين الرسائل الوثوقة ورسائل المدرسة البولسية. لن أعلّق على هذا الفصل.
نهاية
بولس الرسول بعد ألفين سنة، كتاب للدكتور الخوري بولس الفغالي، يغني المكتبة البيبلية العربية. قد لا يتوافق القارئ مع بعض استنتاجاته، لكن الكتاب نتاج عملٍ مضني في البحث والتفسير الكتابي. أحببت مراجعته بجدّية وعلمية.
أشكر الفغالي على هذه الفسحة التي أمّنها للحوار حول بولس. نحن نغتني بكتابه ونرجو أن يغتني بنقدنا البنّاء للكتاب.
قيل قديمًا للذهبي الفم "من أين لك هذه الحكمة؟"، فكان جوابه "أقرأ بولس الرسول مرّتين أسبوعيًا".
يوم كُرّم أبونا بولس في آذار سنة 2000، وكان لي يومها فرصة توجيه كلمة شكر له، كان عنوان كلمتي سؤال واحد "أبونا بولس ما هو سرّك"؟.
وأجبت ذاتي تلك الليلة بأن سرّ هذا الأبونا هو انفتاحه الصادق والثابت أمام كلمة الله، تصعقه يومًا فيومًا فيوم، وتقوده من مجد إلى مجد، في طريق الشوق والرغبة بمعرفة من عَرَفَه وإدراك من ادركه.
أمام كل كتاب أو مقال يتحفنا به، وما أغزر عطاءاته، تنتصب هذه الخواطر أمامي. وأتساءل من جديد: ما سرّك يا ابونا؟ ألم تتعب بعد أيها الشيخ الذي يجدّد الرب شبابه؟ ألم تكتفِ من كلمةٍ كرَّست لها حياتك في نهاراتها ولياليها؟ ألم تملّ من قراءات تقدّمها لشعب عاصٍ له آذان ولا يسمع وعيون ولا يرى؟ ألم يحن الوقت لتدع قلمك يستكين؟ ألم يقل بعد كل ما عنده؟
ولكي لا أتفاخر بعظمة هذه الأسئلة، أرسل إليّ الأبونا كتابه "بولس الرسول بعد ألفي سنة"، مع دعوة مبطّنة تجبرني على قراءته بتمعّن، فأجد لها أجوبة من فيض ما عنده، ولا "أتجرّس" أمامكم. فعليّ تقديم القسمين الأخيرين منه: الرابع، وهو المخصّص لدراسة نصوص وقراءات عشرة، كما كلمات الله العشر، والخامس في طلةِ شروحاتٍ أبائية تغني فهمنا للقديس بولس.
أبدأ بالقسم الرابع وقد عنونه أبونا بولس نصوص وقراءات
اعتدنا، نحن معشر الذين يفخرون بوضع أنفسهم في خانة العلماء، ولو تعلّق الأمر بـ"البشرى السارة"، أن ننتظر من شارحي النصوص المقدّسة دراسةً علميّة بحتة، تُدخلنا عالم الدراسات النقديّة، وتفرح قلبنا في تعقيداتها وصعوباتها فنصرخَ دهشةً من عظمة الطرائق التقنية عند هذا العالم الضليع، حتى ولو لم ينجح في نهاية دراسته بإيصال بشرى الفرح والخلاص، علّةَ وجود النص.
اعتدنا أن نحكم على "علم" الكاتب و"معرفته"، من خلال طريقة معالجته للنصوص. فإن تبع ما اتّبعه الغرب واستمات في ذلك، فهو جدير بالثقة، وإن لم يفعل فهو لم يعرف من "العلم الحق" شيئًا، "وضيعان" الورق الذي صرفه والحبر الذي أهدره.
هذا ما اعتدناه نحن،
... واعتاد أبونا بولس في المقابل، أن يقف في وجهنا جميعًا. اعتاد أن يذكّرنا، في وقته وفي غير وقته، بأن الطرائق المنهجيّة ليست سوى وسيلة للوصول إلى الهدف، وبأن الهدف الأول والأوحد، هو الفرح الذي حمله لنا الرب ، وتنقله إلينا النصوص المقدّسة.
درج أبونا بولس على استعمال الطرائق المنهجيّة العلمية ببراعة تامة، لكنّه عمّدها بالأسلوب الفغالي المميّز، الذي ينتقل من التقنيّة إلى التطبيق الحياتي بسلالة وبساطة غريبة.
للقسم الرابع من كتابه، اختار الدكتور فغالي من كتابات بولس الرسول عشر نصوص أو آيات قرأها علميًّا، وتأمّل بها روحيًا، بعضٌ من هذه القراءات منشورٌ في مجلاتٍ علميّة أو رعويّة، جَمَعَها وأعادَ نشرها في كتابه، وحسنًا فعل. فهذه النصوص العشر تشكّل في رأيي مفاتيح فكر بولس اللاهوتي، والأسس التي بنى عليها رسائله.
يعلن ابونا بولس باديء ذي بدء، أن كتابات بولس الرسول هي صرخة حريّة لكنه بدلاً من أن يوصل هذه الحقيقة، بإبرازه انتفاضةَ بولس الرسول ضد القوانين والشرائع، وهو ما يمكن أن يخلق عن القاريء روحًا ثورويّة تُترجم غير ما أراد بولس، أبرز الأبونا مصدر هذه الروح التحرّرية في عنوان المقال الأول: "المحبّةُ ملءُ الشريعة". بهذا أظهر أبونا بولس أن كتابات الرسول صرخة تحرّر من أسوار الشريعة وقيودها. نعم! ولكن بواسطة المحبّة وحدها. تحرّروا من الوصايا إن شئتم، يقول بولس، ولكن لتتكرّسزا تحت نير الحرية: الله محبّة ولا وصيّة سواه.
إنطلاقًا من هذه المسلّمة الأولى، ينطلق الفغالي الى وصيّة القديس بولس الثانية: كلّكم واحد بالمحبة، فكونوا جسدًا واحدًا. هذا عنون فصله الثاني من القسم الرابع، "محبة المسيح تلفّنا". فهم أبونا بولس ما الذي جعل من شاول سفيرًا للمسيح، يكملُ في جسده ما نقص من آلام الرب، ويتكلّمُ بلسان الله، فلخّصه محقًا بهذه الآية من 2 كو 14:5. وبالفعل، ما الذي يمكن أن يجعل من إنسان فرّيسي أصولي كشاول، مبشّرًا بإنسانيّة هي جسدٌ واحد، يتألّم كل عضوٍ فيه مع الآخر كائنًا من كان، ويفرحُ مع الآخر من أي جنس أو عرق أو دين، أتى، إلا محبّة الله التي تلفّه، بالرغم من خطيئته وقلّة رحمته (2 كو 18:11)؟
أما الوصيّة الثالثة فتأتي جوابًا على من ينبري لينشرَ خطيئة بولس الرسول الكبرى، هو الذي لم يُطِع رأس الكنيسة، أو على من يدافع عن بطولته بولس في مواجهة بطرس ومعارضته. يأتي الفصل الواحد والعشرون ليدرسَ هذه القضيّة الشائكة، وليعلن، من خلال قراءة الرسالة إلى غلاطية، بأن بين بطرس وبولس، يبقى يسوع هو الرأس الأوحد والرئيس الأوحد، ولا سلطة أكبر من سلطته، ولا خَلَف له، وبالتالي، ما على المسؤولين سوى الاقتداء به للخدمة. ويبقى أن عليهم الانتباه إلى سلوكهم، لأنه أساسٌ لسلوك المؤمنين، بغض النظر عن شخصيّة كلٍ منهم. كلام برسم آذان تسمع.
والوصية الرابعة، دواء لمرض الحروب الدينية. كعادته، عرف أبونا بولس كيف يطرح مسألة الصراعات، والحروب المبنيّة على أسسٍ دينيّة دون أن يستنفز أحدًا. فوضع الجميع أمام أخطائهم وجهلهم للإله الذي يدافعون عنه. طرح في الفصل الثاني والعشرين موضوع العبوديّة والحريّة، موضِحًا لكل من يظنّ أنه "شعب الله"، فنصّب نفسه مافعًا عن الله من جهة، وعن حقوق شعبه الإلهية من جهة ثانية، أن مرتبة شعب الله ليست إلا لمن يلتزم المسيرة نحو الوطن الحقيقي. وبأن أحدًا لن يصل إلى هذا الوطن إلا الذين يعرفون كيف يعيشون أولادًا لله . وكأن الوصية البولسية الرابعة تقول: لا فضل لأحد على أحد إلا بالتفاني .
وإن تساءلنا لماذا؟
يجيب أبونا بولس في الفصل الثالث والعشرين، بأن المتديّن الذي يعتبر نفسه صاحب الحق بامتلاك الله وميراثه الأبدي، ويتعلّق بامتيازات تفرِّده عن سائر الناس، خوفًا من أن يخسر مرتبته، هو تمامًا كاللامتديّن الذي يتعلّقُ بصنم الثروة والسيادة والتسلّط، لأن الإثنين لا يفهمان سوى لغة الأخذ والامتلاك. أما المؤمُن الحق فهو من يتبنّى منطقَ العطاء والبذل، على مثال المسيح الذي "قتل العداوة بصليبه". يكتب الأبونا مقاله هذا وكأنه يدعو شعوبنا المتصارعةَ باسمِ الله، إلى العودة الله فيعرفون كيف يكسرون دوامة العنف. وكأن الوصية الخامسة هي: "قتل العداوة بصليبه" فاكسروا العداوة.
مثال يصلح خارطة طريق لهذا الشرق المعذّب باسم التديّن.
وبعد معالجة صراع الإنسان مع الإنسان، يدرس الأب فغالي في مقال سادس يقع في الفصل الرابع والعشرين، صراعَ الإنسانِ مع ذاته أمام الحياة والموت. ينطلق في قراءته، لا من أفكار فلسفيّة أو لاهوتيّة، بل من الصراع الذي عاشه القديس بولس في سجن أفسس (1: 12-20). ينطلق من خبرة حياتيّة، ليضع أمامنا أساسًا لتمييزٍ متواصل لإرادة الله فينا، يخلص فيه إلى أن الخيار المسيحي الحقيقي ليس بين الحياة والموت. فالحياة هي المسيح والموت ربح، لكنّه خيار بين الفرح الشخصي بلقاء المسيح في الموت، وحاجة الجماعة للبشارة والخدمة. خيارٌ يضع المسيحي أمام المطلوب الأوحد. إنها الوصية السادسة: الحياة هي المسيح فلا موت للمؤمن.
وفي مقاله السابع، يشهر الفغالي قلمه مدافعًا عن رسول الأمم، الذي طالما اساء الناس فهمه، فنعتوه بكارِهِ النساء حينًا، وبالمنادي بالخنوع أمام السلطات حينًا آخر، وبالديكتاتوري الذي لا يعرف كيف يعملُ ضمن فريقٍ أحيانًا. فيأتي الفصل الخامس والعشرون ليعرّف القارئ بأهمّ معاوني بولس، وليبرز التفاهم، والتواصل، والتعاون، والتقدير المتبادل الذي ميّز "علاقات بولس مع رفاقه في العمل". لن أدخل في التفاصيل، فالنص بين أيديكم يُدخلنا في حميمة هؤلاء الأشخاص، وقد عرف الأب فغالي أن ينقلنا إلى عالمهم الخاص، مظهرًا عواطفهم، وأطباعهم وطموحاتهم والصعوبات.
إنها الوصية البولسية السابعة: إعملوا معًا لخلاص الجميع
ثم ينتقل الكاتب في الفصل السادس والعشرين، إلى إظهار قدرة القديس بولس في التوجّه إلى الناس بالطريقة التي يفهمونها. فقدّم دراسة لنص كو 1: 15-20 مظهِرًا أنه مدراش مسيحي على طريقة الربابنة اليهود، وهو بالتالي تعليم على مثال ما اعتاد الناس سماعه في المجامع يوم السبت. بهذا بيّن أبونا فغالي قوة الأسلوب البولسي في الانثـقاف بحيث استند إلى الموجود القديم، للعبور إلى العهد الجديد، ناقلاً قرّاءه من كلمات الكتاب إلى من هو الكلمة "يسوع المسيح". فاسمعوا يا مؤمنين الوصية الثامنة: يسوع هو كلمة الله، فلا حرف بعد الآن.
أما في الفصل السابع والعشرون، فيقدّم ابونا بولس دراسة تحليليّة لنص 1 تس 5: 23-28 ليخلص إلى التأكيد أن فيها خلاصة تعليميّة من نقطتين: أولاً إرادة الله بتقديم الخلاص مجّانًا بالنعمة؛ وثانيًا مسؤوليّة الإنسان بأن يجيب على هذه المبادرة. إنها الوصية التاسعة: إرادة الله هي خلاص الانسان... فخلاصك بيدك يا انسان.
وينتهي هذا القسم الرابع، في الفصل الثامن والعشرين بموضوع نهاية الزمن واقتراب نهاية الأيام، موضوع صعب، عرف ابونا بولس كيف يبسّطه. في عالم عرف كيف يستثمر خوف البشرية من النهاية، عرف الأبونا أن يجعل من الخوف سببًا للثقة والرجاء.
من خلال دراسة لنص 2 تس 1:2-12 يتناول الأبونا موضوعَ علامات اقتراب نهاية العالم، فيفصّلها ويربطها من جهة بنصوص العهد القديم الذي حفظه بولس الرسول وقرّاءه، ومن جهة أخرى بالكتابات المعاصرة التي استعمل بولس رموزها وتعابيرها. بواسطة هذه الدراسة النقدية وصل الفغالي إلى مسؤوليّة الكنيسة في تنبيه المؤمنين ألا يتزعزعوا، وألا يقعوا في خطأ استباق الزمن الأخير، لأن المسيحي هو من يحيا هادئًا، واثقًا، بانتظار يوم الرب، على ما طمأن رسول الأمم: لا تخافوا الله آتٍ.
وهكذا يمكننا أن نقول بأن بولس الفغالي استخرج الوصايا البولسيّة العشر كالتالي:
1- الله محبّة ولا وصيّة سواه.
2- كلّكم واحد بالمحبة، فكونوا جسدًا واحدًا
3- يسوع هو رأس الكنيسة الحي الى الأبد
4- لا فضل لأحد على أحد إلا بالتفاني
5- "قتل العداوة بصليبه" فاكسروا العداوة
6- الحياة هي المسيح فلا موت للمؤمن
7- إعملوا معًا لخلاص الجميع
8- يسوع هو كلمة الله، فلا حرف بعد الآن.
9- إرادة الله هي خلاص الانسان... فخلاصك بيدك يا انسان
10- لا تخافوا الله آتٍ.
فهل هذه الوصايا البولسيّة العشر، الذي عرف أبونا بولس أن ينبأها ويعلنها، ليست سوى محض رأي خاص؟
بالطبع لا! يجيب الفغالي، وإن إردتم برهانًا على ذلك، فما عليكم سوى الدخول حيث دخل هو، ومرافقته في قراءة ما كتب اباء الكنيسة وما شرحوا.
في ثلاثة فصول، ندخل مع أبونا بولس بحرَ عظات يوحنا الذهبي الفم الخمس والخمسين، في تفسيره للرسائل البولسيّة. معه نندهش أمام غنى ما في هذه الرسائل، ونتحسر لحسرته لأن القليلين قرأوها، ونتحمّس لاندفاعه في مديح شخص الرسول بولس وفضائله وفكره. مع أبونا بولس، ندخل منجمًا مخفيًا خبأ فيها فم الذاهب اكتشافاته للاهوت بولس الرسول، الذي طال كل مستويات الحياة المسيحيّة وتفاصيلها دينيًا وروحيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا.
ثم تأتينا المفاجأة الكبرى. فقد أتحفنا بولس الفغالي بـ 1224 بيتًا من الشعر، هي ترجمةٌ لمقالين ليعقوب السروجي حول القديس بولس، أظهرت هذه الأبيات عظمة بولس وأهميّة القديس السروجي من جهة، وبلاغة أبونا بولس الشعريّة واللاهوتيّة من جهة أخرى. فالأبونا الذي عرف كيف يدخل عمق كهوف الآباء ليكتشف جواهرها ويكشفها للجميع، ليس عالمًا بالكتب وحسب، ولا لاهوتيًا معاصرًا فقط، بل هو شاعر، أترك للشعراء من بينكم الحكمَ عليه، وعالمُ لغاتٍ قديمة يُسهل عليه نقلها إلى الحديث وحديثة...
ولكي ينهي كتابه، يُدهشنا أبونا بولس في شموليّة معرفته. فلمن يظن أنه تعلّم، وأنه يعرف الكثير، كما كنت اظن، يأتي هذا الفصل الأخير من الكتاب ليقول، انتبهوا! بينكم من لا تعرفونهم.
فإن كنتم قد سمعتم عن ديودور الطرسوسي وتيودور المصّيصي، يذكّرنا الفغالي بضرورة عدم نسيان فيلوكسين المنبجي وأيشوعداد المرّوزي ويعقوب الرهاوي، قبل أن يورِدَ نصوصًا لأفرام، كنارة الروح القدس، ونرساي العظيم، ويعقوب السروجي.
أعلمُ جيدًا، يا أبونا بولس، بأنك ستجد مَن يقول: كتبتَ ولكن...،
أعلم أنه سيقف من ينتقد طريقة ما شرحت، ومن يحكم سلبًا على ما قدَّمت. لكني أعلم جيدًا بأني في قراءاتي لهذا الكتاب، بعد قراءتي لمئات المقالات والكتب في هذه السنة المخصّصة لبولس الرسول، شكرت ربّي عليك وعلى ما تُقدِّم. وأعلمُ جيدًا بأنك فيما قدّمت، أوصلت إلينا "إنجيل" بولس، ليس إنجيلاً حرفيًا، بل بشرى حياة كما أراد هو بالذات.
لقد نجحت في أن توصل إلينا: "إنجيل الروح" الذي يحيي.
أتعبني كتابُك يا أبونا بمقدار ما أفرحني، فأتمنّى لجميعكم تعبَ قراءتِه والفرح.
أعطاك الله العمر الطويل والصحة والقدرة على متابعة رسالتك كسفيرٍ لله وكأن الله يتكلم على لسانك وعبر قلمك. وشكرًا.
مقدّمة
لا بُدَّ من أنْ يُسجِّلَ عارِفو الخوري بولس الفغالي استغرابًا: ندوة حول كتاب للخوري بولس؟ أيّ كتاب؟ فَهُناك كتابٌ أو كتابانِ في الشهر؟ وهَل مِنْ كتاب لَه ولا يستحقّ ندوة؟
ندوة حَول كتاب؟ لماذا؟
للدعاية؟ بالحقيقة لا حاجة ترويجيّة للخوري بولس الفغالي!
للتسويق؟ للمَبيع؟ للربح المادّيّ؟ لا أعتقد أنّ الخوري بولس يَسعَى إلى الربح. والدليل على ذلك هو أنّ الخوري بولس يواصل وضع كُتُبِه على الموقع الإلكترونيّ الخاصّ بِه (http://www.paulfeghali.org/) حيث يُمكن للجميع تحميل مضمونها دون أيّ مقابل. هَمُّه الوحيد هو إيصال كلمة الله إلى أكبر عدد مُمكن من قرّاء اللغة العربيّة.
إنَّنا في الواقع بصدَد ندوة في خدمة الثقافة والعِلم كما هي الحال دائمًا مع الحركة الثقافيّة. الشكر للحركة الثقافيّة بشخص أمينها العامّ الدكتور أنطوان سيف، وبشخص الأستاذة أسمهان عيد التي تتولّى إدارة هذه الندوة.
تتضمّن النظرة الشاملة للكتاب التي سأقوم بها نقطتَين: الأولى قصيرة، أتطرّق فيها إلى أهمّيّة هذا الكتاب؛ والثانية أطول، أُعالج فيها كيفيّة الاستفادة من أقسام هذا الكتاب.
1- كتابٌ يُخاطِبُ الاختصاصيّ وغير الاختصاصيّ
مِن سماتِ كتابٍ لاهوتيّ أنّه يُصنَّفُ في خانة الكتاب المُتخصِّص في المادة التي يُعالِجُها أو في خانة الكتاب المُبسَّط الذي يتوجّه إلى أناس غير مُلمِّينَ بالموضوع المُعالَج.
(Livre spécialisé ou livre de vulgarisation).
كتاب "بولس الرسول بعد ألفَي سنة" لا يُمكِنُ تصنيفُه. هذا لا يعني أنّه فاتر، لا حارٌّ ولا بارِدٌ. لكن على العكس من ذلك، فإنَّ قُدرة الخوري بولس جعلَته يدمج بحذاقة بين الاختصاص وبين التعميم. فالنصّ الأساسيّ للمقالات سَهلُ القراءة وَواضح المضمون وبَيِّنُ المنهاج وعميق الأبعاد. أمّا القارئُ الذي يُريد أن يذهب بعيدًا في البحث والدراسة، فَالحواشي الموضوعة في أسفلِ الصفحات تُحقِّق له غايته. فهي تلفت النظر إلى الأساس اليونانيّ لكلمةٍ ما، أو تُعيد القارئ إلى المرجع أو المصدر من حيثُ أُخذت الفكرة المُوسّعة، أو تُعطي تفاصيل إضافيّة لكي لا يُحرمَ النصّ من السلاسة والسهولة.
بكلمةٍ واحدة، إنّه كتاب مصقولٌ أدبيًّا ولاهوتيًّا ليستفيد منه القاصي والداني وكلُّ مَنْ نطقَ بلغة الضاد. هذا على مستوى الأسلوب. أمّا من جهة المضمون، فالكتاب يُعالج الدراسات البولسيّة من مختلف جوانبِها.
2- كتاب يُخاطبُ الاهتمامات المتنوّعة بشأنِ الرسول بولس
عندما نتكلّم على بولس الرسول، لا بُدّ من العودة إلى مصدرَين أساسيَّين وهما أعمال الرسل والرسائل المنسوبة إلى بولس بالإضافة إلى مصدر ثالث هو "التقليد" وما حفظَه لنا الآباء عن موت بولس وظروفِه. ولم يشأ الكاتب أن يتوقّف عند اللائحة القانونيّة بالأسفار المُلهمة، لكنّه تطلّع أيضًا إلى التقاليد المسيحيّة التي جاءت "تُعوّض" عمّا نقص من معلوماتٍ حول يسوع وتلاميذه. وكما كَمَّلَتْ "الأناجيل المنحولة" حياة يسوع وأبوَيه، جاءت "الأعمال المنحولة" تُخبِرنا عن حياة الرسل وموتِهم، على مثال الروايات التي تُقرأ في العالم الوثنيّ (راجع ص 116).
من جهة أُخرى يُمكِننا أنْ نُصنّفَ الدراسات حول الرسول بولس تحت عناوينَ كبرى أَبرزها: حياته (دعوتُه أو اهتداؤه)، ورحلاتُه الأساسيّة لتأسيس الكنائس ولتَثبيتِها، ورسائله التي تنقل لنا فكرَه اللاهوتيّ في أبعادِه كُلِّها (العقائديّة، الكنيسانيّة، الأسراريّة، الأخلاقيّة...). عالج الخوري بولس هذه العناوين الكبرى من زوايا مختلفة؛ أتطرّق هُنا إلى أبرزِها.
مِنَ الزاويةِ التاريخيّةِ، عرض القسم الأوّل من الكتاب الإطار التاريخيّ والفلسفيّ والدينيّ الذي نشأ فيه شاول-بولس، الجامعُ في شخصِه حضارتَين أساسيَّتَين. حدّد الكاتب فصول هذا القسم على الشكل التالي: "بعدَ أن نستخلص المعطيات السيرويّة، نُرافق ذاكَ الفرّيسيّ العائش في الشتات، لا في أورشليم، كما نرافقه يَغرف من هذه الحضارة اليونانيّة، لكي يحمل في لغةٍ مسكونيّةٍ بلاغًا حملَه يسوعُ في اللغةِ الآراميّة، وما خرج إلاّ نادرًا من أرضِ فلسطين" (ص 8).
أمّا من الزاوية التفسيريّة-الكتابيّة، فأعطى الكاتبُ فكرة واضحة عن الفنّ الأدبيّ الرسائليّ. هذا الفنّ الذي يختزن فكر بولس. أتمنّى شخصيًّا لو كان هذا القسم أطول وأعمق لأنّ موضوعَه غير مطروق بشكلٍ وافٍ باللغة العربيّة. أضف إلى ذلك المفهوم البلاغيّ اليونانيّ الذي يُلقي الضوء على الأفكار البولسيّة وعلى منهجيّة الكتابة في معظم رسائله. والكاتب نفسُه يعرف هذه الأبعاد ولكنّ هدفَه ظهر واضحًا بقوله: "إنّما أردنا هذا الفصل القصير حلقةً تربطُ عالم الرسائل بشكل إجماليّ، برسائلِ بولس، تلك التي كتبها أو أملاها، وتلك التي دوّنها تلاميذه والمدرسةُ التي جاءت امتدادًا لتعليمِه...".
احتلت زاوية اللاهوت البحثيّ مكان الصدارة، الفصل الثالث، محور الكتاب. "أبحاث ودراسات" طاولت أبرز المحطّات والمفاهيم في فكر بولس. ومن بينها محطّة خاصّة عرضت "الأبحاث الحاليّة حول القدّيس بولس ورسائِلِه". أيضًا، لم تَخلُ هذه الدراسات من العودة إلى الأركيولوجيا - التي علّمها الخوري بولس في الجامعة اللبنانيّة - لتوضيح بعض التلميحات والمعلومات حول أبرز المُدن التي يذكرها الرسول بولس في رسائلِه.
أمّا الزاوية التي قرأت نصوصًا من الرسائل، فخصّص لها الكاتب القسم الرابع من الكتاب: "نصوص وقراءات". يحتوي كلّ فصل على مقطع أو آية من الرسائل، قرأَه الخوري بولس وتأمّل فيه، وانطلق منه دارسًا ومُفسِّرًا ومتَوسِّعًا في وجهةٍ من وجهات الفكر البولسيّ (راجع ص 260). يُساعد هذا القسم أيضًا القارئ الذي يبحث عن موضوعٍ روحيّ تأمّليّ يسمح له بأنْ ينتقل من الحرف الذي يقتل إلى الروح الذي يُحيي. قِسمٌ يرسم منهاجًا لدراسة تأوينيّة لنصوص الرسائل، يُمكن أن يكون منطلَقًا للمُنشّطينَ في الجماعات ولِمُعلِّمي التعليم المسيحيّ. بالطبع، لم يتوسّع الكاتب في هذا البُعدِ الحياتيّ التطبيقيّ؛ فَقد تركَه للقارئ الذي سيغتني من فكر بولس فَيُترجمه سلوكًا مَعيشًا.
وَلأنَّنا، كما يقول الكاتب في مقدّمة القسم الأخير من الكتاب، "لا نقرأ الكتاب المقدّس بمفردِنا، وكأنَّنا أوّلُ مَنْ يقرأُه ويشرحُه. فَقَبلَنا آباءٌ سبقونا ونحن نسير في خطاهُم". مِن هُنا عرض الخوري بولس كتاباتٍ وَتفاسيرَ لبعض الآباء الشرقيّين الذين قرأوا رسائل القدّيس بولس أو كان لهم رأيٌ في شخصِه وفِكرِه. أهمّيّة هذا القِسم أنّه يوسّع آفاق القارئ على حِقْبةٍ لا نُعيرُها في معظم الأحيان الانتباه الواجب. والجدير بالذكر هو أنّ الآباء كانُوا لا يزالون قَريبينَ زمنيًّا من كتابة الرسائل، وبالتالي يأتي تفسيرُهم مُرتكزًا ليس فقط على المضمون بل أيضًا على الإطار الاجتماعيّ والثقافيّ لِكُتَّابِ العهد الجديد.
خلاصة القول، مَهما كانتِ اهتماماتُ القارئ (تاريخيّة، لاهوتيّة، بَحثيّة، روحيّة، آبائيّة...)، فإنّه يجد في هذا الكتاب انطلاقَةً تَستَميلُه حتّى يُتابع بلهفةٍ سائر مضمون هذا الكتاب الشيِّق.
خاتمة
كتاب - كما سائر كُتب الخوري بولس - يُغني المكتبة العربيّة ويُغني دراسات الكتاب المقدّس. ولا نستغرب أمام فيضِ نعمة الله على كاتِبنا الحبيب إذا استَتبعَه بكتاب آخر حول شخصيّة الرسول بولس كما تظهر في أعمال الرسل، وكتاب آخَر حول المنحولات المُتعلّقة ببولس حيث يُمكِننا أن نستشفّ من خلالِها التأثيرات والامتدادات البولسيّة في العصور الأولى. فالكاتب لم ينسَ أنَّ هُناك مصدرًا رابعًا (غير أعمال الرسل والرسائل والتقليد)، وإنْ لم يكن أساسيًّا، قَد نستقي منه بعض جوانب من فكر بولس كان لها أثرُها على المُتلقِّفينَ شخصيّة هذا الرسول الكبير. بمعنى آخر، ما ذَكرَه الخوري بولس سريعًا في الفصل المُعنوَن "في امتداد التقاليد البولسيّة" قد وسَّعه في كتاب بعنوان: "امتداد الأدب البولسيّ في الأسفار المنحولة" في مجموعة "على هامش الكتاب" عدد 14. فَهل سَيُتابع الشيء نفسه فَيُصبح كلّ فَصل من هذا الكتاب كتابًا مستقلاًّ؟ (مش بعيدة مع الخوري بولس، وشكرًا).