نظّمت "الحركة الثقافيّة- أنطلياس" ندوة حول كتاب الدكتور "مشير عون": «هايدغر والفكر العربي» Heidegger et la pensée arabe، شارك فيها الدكتور ناصيف نصّار والدكتور موسى وهبة وأدارها الدكتور أنطوان فليفل.
أشار الدكتور "أنطوان فليفل" أنّ فكر الفيلسوف الألماني لم يثر أيّ فضول في العالم العربي، ولم يستثر أي إغراء إيديولوجي. وهذا البحث أو الكتاب، يتناول إشكالية تلاقي فكر "مارتن هايدغر" الفلسفي والفكر العربي. ويبغي الكاتب إظهار أهمية التلاقي الإيجابي الممكن بين هذين العالمين، علّ الفكر العربي يجد في «فلسفة الكائن» الهايدغرية، مصدر وحي يتناسب وإشكاليّاته الخاصة. لا شكّ في أنّ لقاء الفكر العربي فلسفة هايدغر يحدث نوعاً من التوتّر لاستحالة تعدّد الخطابات حول الكينونة شرعياً. «يمكن كل الثقافات أن تدرج عطاءاتها في سفر الحقيقة، بالقدر الذي تجهد عقولها في إظهار تنوع الكينونة الذي لا ينضب». ويعي الكاتب عمق الهوة التي تفصل بين هذين العالمين، وانعدام محاولات التقارب في تاريخ الفلسفة الحديثة. الإشكالية الأكبر التي تواجهها هذه المقارنة تتمثّل في عمق الفكرين. يقترح الكاتب سبلاً للاستفادة وللتبادل بين فكر "هايدغر" والفكر العربي، منها أنّ أصالة الإنسان تمرّ بالنسبة إلى الفيلسوف الألماني بعالميته (mondanité)وبزمنيته (temporalité)وبتارخيّته (historialité). نظرة هايدغر إلى الإنسان نظرة أنطولوجية، وهو يدعوه «الكائن هنا» الذي «عليه أن يتعلّم كيف يراقب تجلّيات وانحجابات الكينونة باحترام ومودة». أمّا نظرة الفكر العربي إلى الإنسان، فهي بالنسبة إلى الكاتب متأثّرة بالنظرة القرآنية التي تقول بأنّ كل شيء مصدره الله وأن لا شيء يمكن تفسيره من دون الله. يرى "مشير عون" أنّ هناك تقارباً بين إنسان هايدغر «الكائن هنا» الذي يستسلم بشكل ما «للكينونة»، وإنسان القرآن، «الخليفة» الذي يستسلم بشكل مطلق لله. وبينما يحاول الإنسان القرآني فهم كلمة الله عبر الحفاظ على خلقه، يحاول إنسان هايدغر فهم كلمة «الكينونة» رسالة خلاصية تدفعه إلى المحافظة على الأرض والسماء، والبشر والآلهة.
واعتبر الدكتور "موسى وهبة" أنّ كتاب الدكتور "عون" مثير للجدل لأنّه يصرّ على وحدة " هايدغر" المتشعّبة في اهليلج ذي مركزين متكاملين ورفضه أن يكون ثمة "هايدغرًا " مجددًا للميتافيزيقيا ومنهمكاً بالأنتروبولوجيا الأساسية وهيدغر، المعلن نهاية الميتافيزيقا تحت وطأة نيتشه والخروج على المنطق والعقل الحسَاب والذات العارف، مع إقراره بهايدغر أخير ذي لغة مُلغزة (أو صوفية). وذكر أنّ الدكتور "مشير عون" عرض في صفحات قليلة وببراعة فائقة المفاتيح الرئيسة لفكر "هايدغر" ويتوقف عند أنسيته الجديدة ويحسب أنها تعيد للإنسان كرامته التي فرّغتها الميتافيزيقيا في التكنيك. ويرى أنّ "هايدغر" يتلخّص بثلاث نقاط هي: أولا، رفض الإلحاح الفلسفي القائم على الحسّاب العقلي والتلاعب الأفاهيمي، وثانيًا الانهمام بالانفتاح على كامل البعد الانطولوجي للواقع، وثالثًا، بسط التفكير كتذكر واستفهام وتملك الأصالة النابعة من تراث الفكر. والفراك العربي في ظلّ حراك النداء لهايدغر، أن يعمل في موقف واع من التقوى التبجيلية والصبر الواثق والصفاء المتواضع. ويضيف أنّ الدكتور "عون" يتساءل عما يميّز الكائن الانساني الذي يرميه الكون ليحرس حقيقة الكون من الذات المفكّر والأنا الحرّ. وينهي بالدعوة إلى أناسة أنطولوجية منهّمة بالكائن البشري . وهكذا تتجدد الحيرة حين تبلغ ذروتها. كما لو أنّ "مشير عون" أراد أن يفكّر مع "هايدغر" وأن يفكر ضد "هايدغر"، أو لعله أراد أن يسير بنا على الحافة مع ما يقتضيه السير هذا من قلق ويقظة وتنبه خشية الوقوع في الهاوية. وثمة مسألة تعود إلى اضطراب المصطلح الفرنسي وفموض العبارة الهايديغرية. أما ما هو الكون Das Sein وكيف يفترق عن الله والمقدس فتلك مسألة تكاد تمتنع على الايضاح. فلبس النصّ الهايدغري يتضاعف باستعمال لفظة الكون استعمالا متعدّد المعاني ومطنبًا بل نبويًا أيضًا. وأخيرًا عبّر عن عدم اقتناعه بأن الميتافيزيقا انتهت ولا بأنّ ما بعدها في مجال التفكيرممكنٌ.
وقرأ الدكتور "ناصيف نصار" الكتاب قراءة نقدية مشيدًا بما بذله المؤلّف من جهد وهو المتعاطف سابقًا مع الفكر الهايديغري، إلا أنّه لاحظ أنّ الدكتور "عون" خرج من الموضوع الهايديغري الذي كان يستهويه في السابق وأصبح قريبًا جدًا من فكر "بولس الخوري". ولكنّ معرفته "بهايديغر" دقيقة ومهمّة. إلا أنّ صعوبة أساسيّة تكمن في المجال اللغويّ: فالكاتب يدعونا إلى قراءة كتابه بالفرنسية عن مفكّر كتب بالألمانية والمطلوب مناقشته باللغة العربيّة. عبارة "الفكر العربي" واسعة وغير دقيقة. فهي تحيل إلى نمط من التفكير الإسلاميّ الرسميّ. وأنا أعتقد ، قال نصّار، بأنّ "هايدغر" خدم هذا الفكر الإسلامي بشكل ضمني، في مجالين اثنين على الأقلّ: أولاً في نقده الحضارة الغربية بشكل عام، والثاني في أنّ هذه الحضارة قطعت صلاتها مع المقدّس وتلك موضوعات ما زالت أساسيّة في الفكر الإسلامي المعاصر. ورأى أنّ "هايدغر" يطرح كثيرًا من الأسئلة من غير أن يتوقف كثيرًا عند الأجوبة. فهو لم يحدّد "الكينونة" تحديدًا واضحًا، وعالج الشأن السياسيّ ولكن بدون الغوص في السياسة العمليّة، وكذلك فعل مع الأخلاق. والسؤال الذي يطرح الآن على المهتمّين بفكر "هايدغر" هو التالي: هل يمكن استخلاص نظريّة أخلاقية من مؤلّفات "هايدغر"؟