نظّمت "الحركة الثقافيّة- أنطلياس" ندوة حول الأب "ميخائيل معوّض" بمناسبة مرور خمس وعشرين سنة على غيابه، شارك فيها الأب "بطرس عازار" والدكتور "ربيعة أبي فاضل" والدكتور "سليمان معوّض". أدارها الأب الدكتور "سركيس الطبر".
رحّب الأب الدكتور "سركيس الطبر"بالمشاركين في الندوة "حول الأب "ميخائيل معوّض" من رهبان وأهل وأصدقاء لتوجيه تحيّة لهذا الحاضر أبدًا بقيمه الانسانية والفكرية والوطنية، الذي أفنى العمر في سبيل نصرة الخير والحق والجمال. رحل الأب "معوّض" في 16 من شهر آب 1986، في دير "مار يوسف" "بحرصاف"، فكان رحيله مفاجئًا. فهو كان رجل حوار، علّمته تجارب الحياة التعالي عن الصغائر. وحين كان الوطن مثخّنًا بجراح الحرب والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد، عمل الأب "معوض" وشلّة من إخوته الرهبان ومجموعة من العلمانيين على النهوض بالدّين والثقافة ومحاولة مساندة قضايا كلّ لبناني، فكانت "الحركة الثقافية-أنطلياس" التي أعلنت وقوفها ضد الحرب وإلى جانب العمق الروحي والوطني لدير مار "الياس أنطلياس". واجتهد الأب "معوّض" كي يكون رجل الله، رجل البساطة العميقة والشعور المتسامي والروح المسالمة. فاستطاع أن يرتقي بالأدب إلى رحاب اللاهوت، وأن ينشر رسالة الروح من خلال الرواية والمسرحية والسيرة والقصة والرحلة والوجدانيات وغيرها.
وتحدّث الأمين العام للمدارس الكاثوليكية في لبنان، الأب "بطرس عازار" عن معلّمه وقدوته في الحياة:"يا معلمي أنت في القلب باق وفي البال، لأنّك علّمتني أن أكون إنسانًا، وأن أزيّن انسانيتي بترهبي وكهنوتي ووطنيتي. أنت علّمتني أن يكون لعملي لذة في الحياة وأن أحسن المتاجرة بما أعطيت من وزنات ومواهب. أنت حبّبتني بأهمية وضوح الكلمة وشفافيتها." وذكر أنّه تعرف إليه عندما كان هو طالبًا والأب "معوّض" نائبًا عامًا ورئيسًا على دير "مار الياس-انطلياس". ومنه تعلّم معنى الإخوة الرهبانية والحضور دوماً لإخوته الرهبان، خادمًا معطاءً، بحب وفرح. وينسحب الكلام من الراهب المعلم إلى الكاهن الراهب الأديب، الذي أضاء على النهضة الثقافية في الرهبانية الأنطونية، ليكمل فيها ما بدأه رهبان أفاضل زيّنوا حياتهم بالصلاة والعمل بدون أن ينسوا الحياة الفكرية والثقافية والفنون، وأهمها كانت الموسيقى. وفي كل دير كان فيه، كان يحوّله إلى ملتقى لأهل الأدب وأهل الثقافة وما "الحركة الثقافية" إلا واحدة من انجازاته على هذا الصعيد. فضلاً عن ذلك، يمتاز الأب "معوّض" بانتمائه الوطنيّ، فهو ينقل لنا عن تاريخ الرهبانية الأنطونية وعن لبنان صورًا وأحداثًا تزيدنا تعلّقًا بهما. إلى جانب هذه الأمانة للوطن والرهبانية، يبهرك الأب "معوض" بكبره ونبله وتعاليه على الصغائر والأحقاد. وفي صفحات كتبه ومقالاته بدعو إلى الحق واليقظة وإلى المصالحة والالتزام بالقيم الإنسانية والأخلاقية. وبشّر الأب بالغفران والصفح بدون أن ينسى المطالبة بالحق والعدل. وأنهى كلمته بقول للأب معوّض " لو ترك كل الكهنة الكهنوت، فأنا باق كاهنًا للرب، ولو ترك كل الرهبان رهبانيتهم فانا باق راهبًا في رهبانيتي."
أمّا الدكتور"ربيعة أبي فاضل" فقد أشار أنّه تعرّف إلى الأب "معوّض" منذ كان مبتدئًا في المعهد الأنطوني بعبدا، فكان الأب يزيّن فيه الحنين إلى الروح من خلال كلماته ونصوصه وبخاصة في كتابه "على دروب الجمال"، فكيف يعقل أن تكون الإفادة والزيّادة والريّادة على هذا الرقيّ الراقيّ؟ فهذه النصوص تشكّل مدى تفاعليًا وتأويليًا لأجناس كثيرة، عشق بعضها بعضًا وساهمت موهبة الكاتب في تماسكها وتكاملها. فيوازي بهاء ومهابة ما حبّر "جبران" في "دمعة وابتسامة" و"أمين نخله" في "المفكّرة الريفية" و"فؤاد سليمان" في "تموزيّات"؟ ومجّد الأب "معوّض" الله بفنّه النقديّ ونظر إلى البعيد وبرهن عن ثقافته فنية وروحيّة وعن فطرة أدبية راقية وعن أنّ الانسان طاقة وعطاء لا يحدّه ظلام. فعاص على المعاني بلغة مرهفة راحت بعيدًا في التخيّل والتأوّل وفي كشف جمال الجمال وروح الرّوح من فلورنسا الخالدة إلى المسيح الحيّ.
وتوقّف الدكتور "سليمان معوّض" على بعض المحطات من حياة الأب "معوّض" الذي غادر منزله الوالدي قبيل أسبوع الآلام في شهر آذار من العام 1929، متجها إلى دير مار سركيس-الضهر الأنطوني ليترهّب، ولم تكن والدته مقتنعة بهذا المشروع الذي لاقى الدعم والتشجيع من والده. وعندما عادت والدته لاحقًا لتطمئنّ إلى حاله قالت له" يا ابني، أوّل الطريق ولا آخرها: أو ارجاع على البيت أو كون راهب مليح" ورافقته كلمات والدته طوال حياته الكهنوتية. فيعرف كل من عايشه كم كان يقدّس رسالة الكهنوت ويلتزم القوانين الرهبانية! وهو أدرك أن الانسان محور عمل الكاهن وإلا فلا معنى للدعوة. لأنّ الدير ليس هروبًا وتقوقعًا بل مكان يتطلب شجاعة وقدرة على الحرمان والتضحية. فالحياة لا يمكن أن تقوم إلا بالمحبّة والصبر. وجمع رسالة الأدب مع رسالة الكهنوت، ففي جعبته عدد كبير من المسرحيات منها مسرحية غنائية واسكتش واحد عن الاستقلال وأربع وعشرون محاضرة واثنان وعشرون حديثًا وعدد لا يحصى من المقالات وخمس وعشرون مقابلة منها ثلاث إذاعية وقصائد تتوزّع بين الشعر الموزون والحديث. تناولت كلها الشؤون الاجتماعية والدينية والثقافية والتربويّة. ومنها جميعًا تستشفّ بعد الرؤيّة والموضوعيّة. استمدّ الأب "معوّض" طاقته من كل ما يحيط به ومن الخطايا والشرور التي يسمعها في كرسي الاعتراف "حيث تظهر البشرية بضعفها المريع ويتبدى لك ما كنت إلى ذلك الحين تجهله أنّ الناس متشابهون.
وذكر الدكتور "سليمان معوّض" أننا نعمل على جمع منشورات "عمي الأب مخايل" وكتاباته كافة وحفظها، مقدّمين بذلك للأدب والفكر خدمة جلّى. فمن التقصير المعيب أن تبقى درره مدفونة في الأدراج.