كلمـة الأستـاذ جـورج أبـي صالـح
أيها السيدات والسادة،
يطيب لنا ان نلتقي اليوم في هذا الصرح الثقافي، وفي إطار الندوات المرافقة للمهرجان اللبناني للكتاب، من أجل ألقاء الضوء على كتاب جديد حول "الأوقاف المسيحية في مضامين الشرع"، يحمل الرقم 14 في سلسلة مؤلَّفات الأب الدكتور أنطوان راجح.
يتألف هذا الكتاب من فصلين: يقدّم الفصل الأول نبذة تاريخية عن الأوقاف، بدءاً بتحديد مفهوم الوقف وتطبيقاته الأولية في تقاليد الشرع الروماني البيزنطي، ومن ثم في الشرع الإسلامي، مروراً بجذور التشريع الكاثوليكي الشرقي في شأن ممتلكات الكنيسة اعتباراً من القرن الرابع الميلادي، وانتقالاً إلى أبرز النصوص التشريعية الكنسية التي تناولت موضوع الوقف منذ عهد المماليك حتى مرحلة استقلال الدولة اللبنانية، مع التوقف بوجه خاص عند محطتي الفترة العثمانية والانتداب الفرنسي.
أما الفصل الثاني، فيتمحور حول خمسة مواضيع، أهمها وأوسعها شرح التشريع النافذ بصدد أوقاف الطوائف الكاثوليكية، إضافةً الى النصوص التي ترعى شؤون الأوقاف لدى طائفتي الروم الأرثوذكس والسريان الأرثوذكس ولدى الطائفة الإنجيلية، مع خاتمة عن قانون الوقف الذرّي تمييزاً له عن الوقف الديني الخيري.
ومن العلامات الفارقة لكلا الفصلين، احتواؤهما على مجموعة كبيرة من الوثائق التنويرية المختارة بعناية لإغناء ثقافة القارئ، سواء كان من أهل الاختصاص أم من ذوي الفضول المعرفي.
ولمّا كان التعليق على محتوى الكتاب موقوفاً في المبدأ لحضرة المنتدين الكرام، وهم أكثر دراية في الموضوع وأوسع إلماماً به، فإننا سنكتفي بإبداء ملاحظتين اثنتين:
أولاً : يشكّل الكتاب مدخلاً بل دعوة صريحة إلى دراسات مقارنة أكثر تعمّقاً بشأن الأوقاف لدى مختلف الطوائف المسيحية، من جهة، وبين الطوائف المسيحية والطوائف الإسلامية، من جهة ثانية، خصوصاً وأن كتاب الأب راجح يشير إلى الامتزاج بين الشرع الإسلامي والشرع المسيحي في موضوع الأوقاف، لا سيما بعد سنة 1841، تاريخ انتهاء عهد الإمارة الشهابيّة.
ثانياً: يؤكّد الكتاب ارتباط الأوقاف أصلاً بالزراعة والاقتصاد البدائي التقليدي، وان كانت للوقفيّات دوافع شتى، تراوح بين التعبير الملموس عن قوة الإيمان والحماسة للدين ودعم الرهبانيات الذكورية والأنثوية، وبين الرغبة في حماية الملكية الخاصة من المصادرة والضرائب أو في توفير الإعاشة الشخصية أو العائلية للواقف في آخر مراحل عمره.
ولكن، مع تطور المجتمعات والحياة الاقتصادية بمختلف قطاعاتها، ومع تقدّم الصناعة وأشكال وصيغ الاستثمار العقاري والخدماتي والمالي، لا بدّ من الدعوة إلى تحديث دور الأوقاف القائمة، في إطار عصرنة إدارة أملاك الكنيسة عموماً، تعزيزاً للتضامن الاجتماعي. وهنا يجدر التفكير في توسيع نطاق بعض المبادرات الحديثة العهد، لجهة إنشاء التعاونيات الزراعية والسكنية، والمضي قدماً في اتجاه استثمار الأراضي التابعة للكنيسة، لاسيما في الأرياف، بهدف إقامة مشاغل للصناعة الحرفية والغذائية التقليدية، ومراكز صحيّة وثقافيّة، ودورٍ للراحة والعجزة، ومراكز لاستضافة الشباب وغيرها من مقتضيات الإنماء الاجتماعي - الاقتصادي المتوازن والمستدام. فكتاب الأب راجح يحفّز على تجديد الدعوة الى المزيد من استخدام أملاك الأوقاف، وغيرها من موارد الكنيسة، البشرية والمادية، بطرائق أجدى وأكثر عقلانيةً وأوسع نفعاً.
هذا عن الكتاب، فماذا عن الكاتب؟
في الحقيقة، شهادتنا فيه "مجروحة"، لما يربطنا به من صداقة وما نكنّ له من مودّة وتقدير.
فالأب انطوان راجح الأنطوني ينتمي إلى جماعة تعيش منذ ثلاثة قرون رسالتها الرهبانية في تواصل يومي مع مجتمعها، موزِّعةً عطاءاتها بين نشر العقيدة الإيمانية وتقديم الخدمات التربوية والانخراط الايجابي في حياة المجتمع المدني وترسيخ تجربة العيش المشترك. وهي، في مسارها الطويل هذا، لم تبخل على لبنان بأيّة تضحيات، حتى الشهادة.
والأب انطوان راجح، راهبٌ مسكونٌ بعشق البناء، كأنه يجد في فعل البناء واحداً من أنبل الأفعال التي تقرّب المخلوق من الخالق. لذا، تراه حيثما يحلّ، يرمّم او يشيّد، غير آبه لصعابٍ او لشحّ في الموارد. وأغلب إنجازاته تنطلق من الصفر، بحيث يصنع من العدم صرحاً ومن الخراب عمراناً، معتمداً على قوة إيمانه وعلى حشد طاقات الأصدقاء والمعارف والمعاونين من أصحاب الأيادي البيض والنيّات الطيبة.
والأب أنطوان راجح أستاذ جامعي في "الحكمة" و"الانطونية"، حرص على وضع معارفه العلمية بتصرّف أجيال من الطلاب الجامعيّين، لاسيما في ميدان الحق القانوني الذي يحمل فيه شهادة الدكتوراه من جامعة اللاتران الباباويّة. وقد توّج مسيرته الأكاديمية بتولّيه رئاسة الجامعة الانطونية الناشئة والواعدة، حيث يعوَّل على ما يتمتّع به الأب راجح من كفايات إدارية ومن مخزونٍ معرفي وخبرة تعليمية لتمكين هذا الصرح التربوي الجديد من كسب رهان المستقبل.
والأب أنطوان راجح قاضٍ في المحكمتين الاستئنافيتين المارونية والأرمنية، حيث مزاولة القضاء تعني براعة وحراجة التوفيق بين موجب النص ومبدأ العدالة ومقتضى الحفاظ على تماسك العيلة المسيحية.
والأب انطوان راجح راعٍ، لم تُثنِه اهتماماته التدريسية والقضائية عن خدمة العديد من الرعايا، حيث التجسيد الحقيقي لمحبّة الله والإنسان.
عزيزي الأب راجح،
أن تكون في آن واحد راعياً، وإدارياً، ومعلّماً، وقاضياً، وكاتباً "ومعمرجياً"، يجعل رصيدك كبيراً في قلوب محبّيك وقادريك، وفي طليعتهم نحن أعضاء الحركة الثقافية - انطلياس. فقد خبرناك رئيساً لدير مار الياس ولحركتنا، حيث تجلّى لنا في أثناء اضطلاعك بمسؤولياتك ما تزخر به شخصيتك من لياقة ولباقة، وما يتميّز به أداؤك من جَدّ وجِدّ وجدارة، فتوطّدت في نفوسنا تجاه شخصك المتواضع مشاعر المحبة والاحترام والتقدير.
ولكن، إسمح لي يا أبتي الجليل بأن أعترف لك، أنا الذي هجرتُ كرسيَّ الاعتراف منذ زمن، بأنَّ بعض أصدقائك ومحبّيك، وأنا واحد منهم، يحسدونك: لقد جعلتَ يومك خمساً وعشرين ساعة، فبات اللحاق بك او مجاراتك مهمة مستحيلة! أدامك الله بهذه الهمّة، وأمدّك بطول العمرِ ودوامِ العافية وغزارة الإنتاج الفكري الرصين.
تعريـــف
سوف يتولّى مناقشة كتاب الأب انطوان راجح ثلاثة من أهل الفكر والخبرة والاختصاص، كلُّ من زاويته، آملين أن تلقي تحليلاتهم القيّمة أضواء متكاملة على مضمون هذا الكتاب، وأن تُغني هذا اللقاء بأفكار ومقترحات مثيرة للاهتمام وبالغة الجدوى.
ضيوفنا المنتدون هم : سيادة المطران ايلي حداد، المحامي بطرس حبيقة والباحث نايل ابو شقرا.
المطران ايلي حداد
هو ابن أبلح، البلدة البقاعية المعروفة بالعيش المشترك وابن الرهبانية المخلّصية المشهود لها بانفتاحها وعملها الدؤوب في خدمة الإنسان والمجتمع، وفي تعزيز الحوار بين المسيحيين والمسلمين.
نال الإجازة في الفلسفة واللاهوت من جامعة الغريغوريانا للآباء اليسوعيين في روما، ثم شهادة الدكتوراه في الحق المدني والكنسي من جامعة اللاتران، والتحق بمعهد محكمة الروتا الرومانية حيث تابع دورات مؤهّلة للعمل في القضاء الكنسي.
شغل منصب رئيس المحكمة الاستئنافية للروم الكاثوليك في لبنان، ورئيس الاكليريكية الكبرى في الرهبانية المخلصية، ورئيس الديوان البطريركي في الربوة، قبل أن ينتخبه سينودس طائفة الروم الكاثوليك في شهر كانون الثاني الماضي مطراناً على أبرشية صيدا ودير القمر،.
لسيادة المطران حداد مؤلفات عديدة في حقل القانون، أهمها:
- المجمعية الأسقفية في الكنائس الشرقية.
- اللمسات المسكونية في مجموعة قوانين الكنائس الشرقية.
ونُشرت له مقالات عدة في حقل القانون الكنسي، كما شارك في العديد من المؤتمرات داخل لبنان وفي الخارج.
تهانينا لسيادة المطران الجديد، مع الدعاء له بمزيد من العطاء والتوفيق.
بطرس حبيقه
هو محام كنسي و مدني، يدرّس مادة أصول المحاكمات الكنسيّة في كليّة القانون الكنسي - جامعة الحكمة
حائز على شهادة "الليسانس "في الحقوق اللبنانية ، و أخرى في الحقوق الفرنسيّة من جامعة القديس يوسف للآباء اليسوعيّين .
صدر له مؤلف " الدليل في الدعاوى الزواجيّة " لدى الطوائف الكاثوليكيّة، و مؤلَّف "الإشكالات في الدعاوى الزواجية" لدى الطوائف الكاثوليكيّة.
وهو أيضاً صاحب عدد من المؤلَّفات الأدبيّة .
نايل أبو شقرا
باحث حرّ في تاريخ لبنان الوسيط والحديث.
صدرت له حتى الآن خمسة كتب هي التالية :
ـ التحولات الاقتصادية والاجتماعية في مجتمع جبل لبنان 1550ـ1900م
ـ الأسَر في جبل الشوف من خلال مخطوط قديم ، بالاشتراك مع المحامي سليمان تقي الدين
ـ دارسات في تاريخ الشوف بالوثائق ، بالاشتراك مع المحامي سليمان تقي الدين ، والدكتور
عبد الله سعيد .
ـ نظام الموحِّدين الدروز في سجل الأحكام المذهبية، بالاشتراك مع المحامي سليمان تقي
الدين.
ـ تاريخ لبنان، أزمة نصّ ومصطلح وهوية.
شارك في العدد من اللقاءات الثقافية والمؤتمرات الأكاديمية في لبنان والدول العربية.
كلمـة المطـران إيلـي حـداد
أول ما يطالعنا في هذا الكتاب هو جرأة الكاتب في اقتحام حقل لم يجرؤ على درسه الكثيرون من قبل. إذ تُرك المجال الواسع للاستعارات والتأويلات لا بل والتعديات على الأوقاف والأملاك تارة بلغط بين مفهومي الملكية والوقف وطورا بشكل مقصود لانتقاص حق الكنيسة والواقفين. فنشكر المؤلف على جرأته لخوض هذه المغامرة التي بدأت بنجاح. وكم يكون سرورنا كبيرا لو أن المغامرة تكتمل فنرى الدراسة تنضج لتشمل أكبر عدد من الأوقاف والاجتهادات والقوانين وتطرح البدائل في التشريعات بهدف تطوير نظام الأوقاف.
في مطالعتي السريعة، بعض الشيء، لكتاب "الأوقاف المسيحية في مضامين الشرع" استوقفتني الملاحظات التالية:
1- من فوائد هذه الدراسة أنها تؤدي إلى حماية أكبر للأوقاف المسيحية المؤسسة حديثا وقديما من التعديات في مجال تحديد هويتها القانونية. فقد ذكر المؤلف كماً من اللغط الحاصل حول بعض الأوقاف وكيف تم التعامل معها قانونيا وحتى سياسيا. ويذكر الكاتب جوزف الحجار في مؤلفه التاريخي "الديبلوماسية الغربية لاسيما الفرنسية في لبنان" بأن العديد من الأوقاف الكنسية قد فُقدت إما لسوء تنظيمها من قبل الواقفين أو لسوء النوايا من قبل المسؤولين آنذاك. والحديث عن الفترة العثمانية وما بعدها أي الانتداب الفرنسي وحتى فترة الاستقلال اللبناني. أتت هذه الدراسة لتشكل صدا منيعاً لهذه الاستغلالات ولسوء الإدارات وتضفي على الواقفين ومسؤولي الأوقاف إلزامات وجب التقيد بها. وأهمها اكتتاب الوقف وتحديد المرجعية المسؤولة بوضوح ونية الواقف من الوقفية ومدة الوقف ونوعه.
[1]. ويتابع الإرشاد الرسولي قائلا: " من الضروري أيضا وضع تخطيط شامل للاحتياجات والاستخدام الصحيح للأوقاف يتوافق والأهداف الأربعة لأملاك الكنيسة، وهي: العبادة الإلهية ، وأعمال الرسالة، وأعمال المحبة، وتأمين عيش رعاتها تأمينا صالحا"[2].
كذلك يدعو البابا الراحل في الإرشاد عينه الكنيسة إلى اتخاذ المبادرات التي اتخذتها البطريركيات وأبرشيات ومؤسسات رهبانية وبخاصة بناء مساكن للعرسان الشبان وللأشخاص المعوزين. ويشجع العلمانيين لاتخاذ مثل هذه المبادرات لصالح الأسر الأكثر افتقارا للوسائل المالية لتأمين العيش (راجع المرجع عينه).
2- لقد أدت هذه الدراسة إلى قطع الطريق على من تلهمه نفسه فرض ضرائب على الأوقاف، وهي نوع آخر من التعديات. لقد ذكر المؤلف أن بعضا من الضرائب كانت تفرض على بعض الأوقاف مع بعض المسايرة من السلطة العثمانية ومَن أتى بعدها، كونها أوقاف تبغي عمل الخير أولا وأخيرا. إلا أن مفهوم الوقف بالعمق يتضارب ومفهوم الضريبة. فعمل الخير هو شأن عام ويوفر على الدولة والمؤسسات ما هو من واجبها القيام به، كدور الأيتام والمستشفيات والمدارس وبيوت العجزة وما إليها. وما يلحظه الكاتب بأن الوقفية هي أقرب إلى المؤسسة العامة منها إلى الخاصة، فهذا شأن يحمي الأوقاف إلى حد بعيد. ولا يغب عن بالنا أن محاولات قام بها بعض المسؤولين السياسيين في لبنان مؤخرا بتحرير مسودات تشريعية تفرض ضرائب على الأملاك الكنسية دونما تمييز بين وقف وملكية. والحمد لله أن المشروع قد اختفى من التداول لكنه لم يمت بعد في أذهان البعض. 8- من أهم الفوارق بين القانونين هو تركيز مجموعة قوانين الكنائس الشرقية على ما أسمته الإرادات والمؤسسات التقوية. وقد سقطت تسمية الوقف الذري والخيري وبقيت تسمية الوقف الديني التقوي. فيمكن وهب الأموال دون أي شرط فتزيد من رأس مال المستفيد، كما يمكن إخضاعها لأعباء طويلة الأمد، وليست مؤبدة كالسابق، فتشكل بذلك مؤسسة تقوية غير مستقلة. ويمكن أيضا أن تشكل مؤسسة مكلفة بتحقيق أهداف الكنيسة الخاصة، مشكلة بذلك مؤسسة تقوية مستقلة، تعلنها السلطة الكنسية ذات الصلاحية، وغالبا ما يكون الأسقف الأبرشي، تديرها هيئة خاصة وتدعى شخصا قانونيا. 3- تعزز هذه الدراسة ما أتى على لسان قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في الإرشاد الرسولي " رجاء جديد للبنان" من أن الأملاك والأوقاف الكنسية ونظامها القانوني وطريقة إدارتها يجب أن يعاد درسها وتقويمها لتسهيل إدارتها. يجب أولا القيام بجردة لوضعها الحالي وللأهداف الحقيقية لكل واحد من أنواع الأوقاف ومختلف الخيرات الزمنية والتحقق من إيرادها واستثمارها" 4- تركز هذه الدراسة على الأمانة من قبل الكنيسة لنية الواقفين عملا بالمبدأ القائل بأن نية الواقف قانون. أي ملزمة بإلزامية القانون نفسه. ويدرج المؤلف العديد من الأمثلة عن التوترات الحاصلة بين الواقفين والسلطة الكنسية من حيث أن هذه الأخيرة لم تلتزم بما أوصى به الواقف من القيام بواجبات روحية وإنسانية. إنها لمسألة دقيقة للغاية. ولدينا في المحاكم الكنسية دعاوى لا يستهان بها لا عددا ولا خصومة وكذلك في القضاء المدني. لقد فعل حسنا الكاتب بإثارة هذه النقطة بالذات تفاديا لتكرارها في الأوقاف اللاحقة. 5- يتعرض المؤلف لورثة الواقف الذين غالبا ما يستهويهم الوقف بعد وفاة الواقف. فيلجأون إلى صيغ شتى لاسترجاع ما قد قُدم. وهذا ما يخلق المشادات أمام القضاء لجهة صلاحية القضاء المختص هل هو كنسي أم مدني. ثم لجهة تفسير نية الواقف. وفي أغلب الأحيان تنم نية الورثة عن الرغبة بإحداث تبديل جذري في وصية المورِّث الواقف. وغالبا ما نرى ظهور تحرير وصية للواقف موقعة بخط يده ولكن في آخر أيام حياته، مخالفة بمضمونها عن الوصية التي كان قد تركها يوم كان بعد قادرا ومميزا. وهذا تحريف وعمل باطل تحت عنوان بطلان الوصية تحت تأثير مرض الموت. فمجرد أن يعرض الكاتب الوضع بتاريخيته فهذا بدء لحل هذه المعضلة. 6- يتحدث الأب راجح عن بيع أملاك الكنيسة وما تتعرض له لأوقاف من مضرة في هذا الإطار. لقد وقعت السلطة الكنسية تحت عبء اللغط الحاصل بين الملكية الوقف فباعت بعض الأوقاف على أنها ملكيات. وهذا برأينا خطأ فادح لا بل وأن هذه الأعمال باطلة من أساسها. هذا ما دفع المشترع الكنسي أن يُخضع بيع أملاك الكنيسة اليوم وبحسب القانون الكنسي الحالي لشروط بغاية الدقة والانتباه. (راجع المواد 1035-1037 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقية). هذه الشروط لم تكن دقيقة إلى هذا الحد لولا حصول مخالفات قانونية ولكن أيضا أدبية بحق الوقف وأحيانا كثيرة بحق الملكية. فقد تمت المتاجرة بهذه الأوقاف من قبل من اشتراها من الكنيسة. فعاد ليبيعها بأسعار عالية وبيع البعض منها مرة ومرتين وأكثر بأسعار تصاعدية. إلا أن غاية الكنيسة من بيع هذه الملكيات كانت مساعدة الناس لإيجاد مساكن وفرص عمل وتأسيس متاجر وما شابه. وتأتي هذه الدراسة لتنبه على أن المسألة بتاريخيتها تشكل عبئا على الكنيسة ولمجرد عرضها أيضا فهي بدء للحل. لا بل نجد اليوم ابتكارات في حقل الأوقاف كالمشاركة بالأسهم مثلا دون الحق بالبيع ما يؤدي غرض الوقف ونية الواقف ويحافظ على الوقف من البيع. 7- في شرح القانون الحالي يلمح الأب راجح إلى أن مادة الأوقاف قد عادت الكنيسة الكاثوليكية ونظمتها ولو جزئيا في إطار مجموعة قوانين الكنائس الشرقية في المواد 1007-1054. وتحديدا المواد 1043-1054. لكن المؤلف آثر التعليق على المواد القديمة كما وردت في الأحوال الشخصية. ويبقى السؤال في أي من القانونين هو الواجب تطبيقه اليوم؟ خاصة وأن القانون الجديد مدروس ومعمق أكثر من سابقه كما هي حالة القوانين الحديثة بالنسبة للقديمة. وأعجب لما لم تبلغ بعد الكنيسة الكاثوليكية الدولة اللبنانية قانونها الجديد. 9- من الفوارق أيضا بين القانون القديم والجديد هو أن ما يسمى بشخص قانوني اليوم يجب أن ينسجم مع أهداف الكنيسة الأربعة المذكورة أعلاه. بينما في قراءتنا لبحث الأب راجح، ولم نفاجئ، طالعتنا مؤسسات تقوية أي أوقاف كنسية، تأسست بقصد المنفعة الشخصية لا المصلحة العامة أو التقوية منها. ونذكر مسألة تهريب الأملاك من الضرائب أو الفقر المدقع لدى بعض المالكين والتخلي عن أملاكهم بهدف إعالتهم من قبل الرهبان. وكذلك اللجوء إلى خبرة الرهبان والإكليرس الزراعية والإدارية العالية آنذاك. ويا ليتنا ما زلنا على هذه الحال، لكنّا استفدنا من المساحات الشاسعة التي بحوزتنا لما فيه خير الكنيسة والمؤمنين. إن كثيرا من أوقاف الأمس ليست بأوقاف إذا ما قيست إلى ما ورد في مجموعة قوانين الكنائس الشرقية من مواد تصف الوقف بالمؤسسة التقوية أو بهدف الخير العام. وإننا لنفهم ما يحصل من مشادات مع الواقفين أو ورثتهم إذ إن النوايا أحيانا لا تكون منسجمة مع روح الوقف.
الاعتراف المدني:
لقد ورد في كتاب الأب راجح ملاحظة حول ضرورة احترام الاعتراف المدني بالأوقاف. وهذا أمر بالغ الأهمية وغايته حماية الوقف.
تعود مسألة الاعتراف المدني بالأشخاص القانونيين الكنسيين إلى اتفاقيات معقودة بين الكنيسة الكاثوليكية والدول عامة، وإلى اتفاقيات معقودة بين الكنائس والدولة حيث تواجد هذه الكنائس. وتندرج في هذا السياق أنواع الاتفاقيات بحسب أنواع الكنائس وأشكالها القانونية. فمثلا في لبنان هناك اتفاقيات مع الدولة لكل من الكنائس البطريركية الكاثوليكية كل على حدة في موضوع الأحوال الشخصية، لجهة اعتبار المحاكم الكنسية بمثابة مراجع قانونية لها مفعولها على الصعيد المدني. تطال هذه الاتفاقيات أيضا حق الأشخاص القانونيين الكنسيين بالتملك وإدارة الأملاك وحقوق أخرى مشابهة. وكذلك الأمر بالنسبة لسائر الكنائس غير الكاثوليكية كالأرثوذكسية والبروتستانتية.
لا يعني هذا الأمر أن الاعتراف المدني يأتي تلقائيا بعد الاعتراف الكنسي بالشخص القانوني، بل وجب في كل مرة إعطاء العلم والخبر للدولة المعنية بأن السلطة قد وافقت على تأسيس هذا أو ذاك من الأشخاص القانونيين ووجب اعتباره من الوجهة المدنية على أنه كذلك.
أما عن سائر الأشخاص القانونيين الكنسيين الذين لا يندرجون في إطار الاتفاقيات المذكورة أعلاه بين الكنائس والدول، فالمسألة بحاجة إلى قرار مدني، وعادة من وزير الداخلية، في كل مرة تطلب الكنيسة الاعتراف بشخص قانوني معين.
بين هذه وتلك من الحالات لا بد من الإشارة إلى أن الاعتراف المدني بالأشخاص القانونيين يعطيها قوة بالتحرك وضمانة أكبر لجهة الإدارة الذاتية والاستقلالية والاستمرارية. إلا أن الاعتراف المدني هذا قد يكون غطاء للأشخاص القانونيين الذين تتخلى الكنيسة عنهم إثر مخالفات للقانون الكنسي. فتصبح الدولة هي الحامية لهم. لذا وجب استدراك بنود خاصة في الاتفاقيات بين الدول والكنيسة، تجيز للسلطة الكنسية سحب اعترافها بالشخص القانوني مدنيا وكنسيا معا. وهذا عمل يضمن حق الكنيسة والخير العام معا.
أخيرا وجب الاعتراف أنني لم أفِ الأب راجح حقه بإدلائي بهذه النقاط حول كتابه. وهي ليست حصرية شاكرين جهوده على كل ما عمله، آملين أن يعمل جهوده لتطوير هذا البحث للحاجة الملحة إليه في هذا القطاع.
[1] الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان" صفحة 166 رقم 105.
[2] الإرشاد الرسولي، رقم 105. راجع أيضا مجموعة قوانين الكنائس الشرقية قانون 1007.
كلمة الأستاذ نايل ابو شقرا
تعتبر اللغة أحد عوامل تكون الأمة ووحدتها وهي بالتالي تحتضن هويتنا الإنسانية ولأن في مضامينها يتجسد المعنى لذلك علينا ألا نخلط في استعمالها بين (الأصل) من جهة والنماذج من جهة أخرى والتي مهما بلغت من الدقة والمطابقة تبقى وجه الشبه وليس الأصل "فإدراك المتشابه في المختلف والمختلف في المتشابه " هما مسألتان في غاية التعقيد إذ لا يمكن أن ننقل الشيء إلى ما يمثله من الكلمات والدلالات إلا وهو في حال من التغير ، وهذه إحدى المسائل الفكرية عند ميشال فوكو .
وفي هذا السياق فإن العلاقة الإنسانية بين الكاتب وبيئته غالباً ما تفرض ذاتها على النص فتحجب عنه المنهجية العلمية ، لكن هذه الفرضية لا يمكن أن تطال في المبدأ صديقنا الأب الدكتور أنطوان راجح الذي وعى ما يتلبس موضوعه الجديد من حرج ومع ذلك لم يرَ ما يمنع في أن يعطي النصوص التي وضعها أبناء الكنيسة الشرقية أساقفةً وعلماء سواء في المجامع الكنسية أو في أعمال تأليفية حضوراً تشريعياً كنسياً تتمايز من خلاله هذه النصوص عن تلك التي احتضنها الفقه الإسلامي بما يرفع عنها النعتية بتبعيتها للآخر ، أو استئناسها بتراثه لا بل أن المؤلف يحاول في ضوء ما توفر لديه من إسناداتٍ تاريخية أن يمحي هذا الظلم الذي ساد قناعات كثيرين ، فصاغ أسانيده التي تشير إلى أن بعضاً من الفروض الدينية ولا سيما منها الوقف كانت قائمة قبل الإسلام ، فهل نجح المؤلف في إظهار أقدمية الوقف المسيحي وتمايزه عن الوقف الإسلامي ...؟ لقد كان الاعتقاد سائداً لدى كثير من الباحثين أن النصوص التي تناولت الوقف المسيحي في الكنيسة الشرقية هي نصوص إسلامية ، ومهما حاول أبناء الكنيسة تدعيم رأيهم بوجود نصوص مسيحية سابقة للإسلام فإن هذه النصوص بانت لهؤلاء وكأنها متدثرة بعباءة إسلامية بسبب السلوكيات الشمولية ، ولا سيما أن العهد الذي أخذ على النصارى قضى بحمايتهم والجواز لهم بإقامة الصلاة والبيع والأديرة / عمرو بن متى 54ـ55 / .
إن أول النصوص الفقهية نسبت إلى الإمام جعفر الصادق (699 ـ 765 ) وإلى النعمان بن ثابت أبي حنيفة (ت 767 م) وذلك بعد قرن من الفتوحات علماً أن علم النحو لم يكن معروفاً في فجر الإسلام أقله في خلافة عمر بن الخطاب / العقاد ص 193/ ويفيدنا أبن منظور أن هذا العلم أخذ عن اليونان / لسان 15/309 / وإذا لم يكن الوقف معروفاً في تلك المرحلة فهل استعار الفقه الإسلامي مصطلحات الشرع الكنسي في الوقف وغيره ، ربما كان السؤال مشروعاً عندما نعرف أن الفاتحين استعانوا بالنظم الضريبية البزنطية في أول عهدهم .
لا شك أن الفتوحات الإسلامية وبالطريقة التي تمت فيها قوضت المدنية البيزنطية وبعد أقل من نصف قرن كان كل شيء إسلامي على أن غياب الأركيولوجيا لم يحجب فيما بعد الحفيرة والوثيقة ذلك أن المصادر العربية تذكر مثلاً الأساقفة العرب وأبرشياتهم حتى أن هناك ما يؤكد على اشتراك أكثر من أسقف عربي ساهم في أعمال مجمع خلكيدونيا سنة 451 فجأة بعد الفتح طمس كل شيء الأمر الذي حدا بأحد الباحثين المسلمين القول : " أن كل النصوص حول المسيحية والمسيحيين باتت نصوصاً إسلامية / سلوى العايب المسيحية العربية ص 182 / وعليه يتوجب سؤال جوهري هو كيف كانت الكنيسة تتدبر أمر استمرارها إن لم يكن لديها الأموال اللازمة من الهبات والصدقات ، وإذا كانت التساؤلات لا تغني عن الحاجة إلى معرفة ما إذا كان الوقف قد عرف في تلك المرحلة نقول إن المصطلحات السريانية واليونانية لا تتفق مع مصطلحات العربية ولكن معاني الوقف ومقاصده كانت موجودة إذ أن العامل السببي هو الذي ينتج المصطلحات وهو كان قائماً في الكنيسة المسيحية .
إن النصوص التي استشهد بها المؤلف نقلاً عن المؤرخ يوسابيوس القيصري تقدم إشارات واضحة إلى أن الكنيسة الجامعة في المسيحية الأولى وتحديداً بعد مجمع ميلانو سنة 313م كانت لديها أموالها كما كانت هناك ملكيات للجماعة ، نضيف إلى هذا النص نصاً في اتجاه آخر حيث يقول يوسابيوس : " إن أسماء الأنساب كانت تراعى في إسرائيل إما وفقاً للطبيعة أو وفقاً للناموس ، وفقاًً للطبيعة بتعاقب الذرية الشرعية ( وهنا النقل حرفي) ووفقاً للناموس كلما أقام شخص آخر نسلاً لأسم أخيه الذي مات بلا نسل " (يوسابيوس ص 28) .
هذه المفردات ( النسل ، الذرية الشرعية) تقدم دلالة لا لبس فيها على أن الأبناء ، والأحفاد كانوا يحظون بعطية باعتبارهم من الأصلاب ، علماً أنه في العهد العباسي كان الاعتصام بالمسيحية من ضمن الاعتصام بالقبلية / سلوى العايب ص 168 / وهذا يدل على أن التوارث كان موجوداً .
يثبت المؤلف ما يؤكد حضور الكنيسة في الشرق من خلال المجامع والقوانين الكنَسية ففي قانون الرسل هناك تحذير من بيع الكهنة لأملاك الكنيسة وهناك دور للأسقف في عملية إستعادة أملاكها / ص 25 / ولكن النص الأهم حول تأبيد أملاك الكنيسة يعود إلى مجمع خلكيدونيا " إذ أوجب أن تبقى الأديار التي كرست بموافقة الأسقف أدياراً إلى الأبد وهذا يعني أن الأملاك التي وهبت إلى الكنيسة ـ مهما كانت صيغة الوهب ـ تصبح أملاكاً للكنيسة إلى الأبد أليس هذا معنىً من معاني الوقف ...؟ أما مجمع قرطاجة فحذر أيضاً من بيع أملاك الكنيسة وفي حالة الضرورة أوجب أن يرفع الأمر إلى متروبوليت الأبرشية فيتخذ قراره بالتوافق مع الأساقفة ، هذه النماذج من القرارات التي اتخذت في المجامع قبل الإسلام والتي يستند إليها المؤلف تؤكد بما لا يقبل الجدل أن الكنيسة المسيحية كانت لها قوانينها وإدارتها للأملاك العائدة لها ، ولكن الفتح الإسلامي أحدث شرخاً تاريخياً واسعاً في الثقافة المسيحية امتد إلى أكثر من خمسمئة سنة نتيجة المناخ السياسي والديني الضاغط .
يستعرض المؤلف ثلاثة نصوص تعود إلى العصر الوسيط هي :
ـ كتاب الهدى وهو مختصر الشرائع الرومانية البيزنطية وضع سنة 371 م
وعمل به في سوريا .
ـ كتاب الهدايات لأبن العبري (1226 ـ 1286 )
ـ كتاب الناموس الأول لأبن العسال الموضوع سنة 1550 م
ـ حواشي إنجيل ربّولة وهذا الإنجيل كتب سنة 586 م وجمع الأناجيل الأربعة وقد
دون عليه نصوص وقفية تعود إلى أواخر القرن الثالث عشر والقرن الرابع عشر.
لن ندخل في كل موضوعات هذه الكتب حسبنا الإشارة إلى المصطلحات التي اعتمدت للدلالة على الهبات والصدقات في مفهومها الكنسي . فقد وردت الكلمات التالية (الوقف بالوصية ـ الهبة ـ الصدقة ـ الواجبات الروحية ـ الولي ) كما وردت في كتاب الهدى عبارات توضح الوقف وهي :
ـ يجوز أن يوقف ثلاثة أرباع الملك ( في الإسلام الثلثان )
ـ يجوز للرجل أن يكتب وصية ويعطي فيها الورثة لمن أحب ( في الإسلام الوقف في المرض وصية ) .
ـ إخراج الخراج والدين من الميراث (في الإسلام إخراج مؤنة الموصي وقضاء ديونه )
تلاقي هذه النصوص في الوقف بين المسيحية والإسلام بعض الفروقات ربما كان أهمها لزوم أن يحسم من تركة الموصي المسيحي الخراج بينما عند المسلمين هناك إلزام بدفع الدين فقط والمقصود هنا بالخراج ربما الجزية كما سنرى لاحقاً ، وإذا صح هذا الاستنتاج يكون بعض النصوص الذي تضمنها كتاب الهدى قد أعيدت صياغته بعد الفتح باللغة العربية إذ أن كلمة خراج هي في الأصل يونانية (خوريجيا) بالإضافة إلى ذلك فإن كتابي الهدى والهدايات جاءا خُلواً من مصطلح الوقف الخيري بينما استعمل أبن العسال الواجبات الروحية وهو الأقرب إلى تقاليد الكنيسة الجامعة وإذا كان الفقه الإسلامي قد قسم الوقف إلى خيري وذري فإن النصوص المسيحية تغايرت عنه فأضافت إليه الوقف الديني وهذا الجديد في النص الكنسي أوضحه قانون الوقف للطوائف الكاثوليكية في مادته الأولى حيث قسم الوقف إلى ثلاثة أقسام : ديني وخيري وذري ، ويرى المؤلف في هذا التمايز " تكريس لواقع اختلاف بين الوقف المسيحي والوقف الإسلامي "( ص 207) ولكن بالرغم من كل ذلك تبقى مسحة الفقه الإسلامي حاضرة في معظم النصوص المسيحية ويعود ذلك إلى المناخ الذي كان سائداً منذ الفتح الإسلامي وحتى بدايات القرن السابع عشر في مجال الحريات الدينية ، وللتأكيد على ذلك نثبت الحوار الذي دار بين هارون الرشيد والأسقف حنا نيشوع فقد سأل الرشيد الأسقف " يا أبا النصارى أي الأديان عند الله الحق فأجاب الأسقف الذي شرائعه ووصاياه تشاكل أفعال الله في خلقه ، وقد علق الرشيد على جواب الأسقف بالقول : لو قال النصرانية لأسأت إليه ولو قال الإسلام لطالبته في الانتقال إليه " / متى ص 65 / ولذلك نعثر على نصوص تثبت اعتماد المسيحيين لمصطلح الوقف من ذلك ما نشره حبيب الزيات حيث أشار إلى مخطوط يعود إلى القرن الثالث عشر ميلادي كتب عليه " هذا التريودي المبارك وقف مؤبد وحبس مخلد على دير مار جرجس في قرية بلودان " الزيات الديارات ص 145 / . كما أشار إلى مخطوط آخر يعود إلى سنة 1491م كتب عليه " أوقف وحبس عن روح القس يونان بدير ما يعقوب في قارا (جبل القلمون) / الزيات ص 210 / وفي سنة 1256م حذر أحد المطارنة في وصيته من " أن كل مطران أو أسقف أو قس يخرج عن إرادته لا يخرج عليه شيء من مال الوقف " / متى 118 / .
في سنة 1744م اعتمدت الكنيسة المارونية كتاب مختصر الشريعة " مرجعاً للقضاء استمر العمل بأحكامه حتى سنة 1841م ، وهذا الكتاب وضعه المطران عبد الله قراعلي (ت 1749) أحد مؤسسي الرهبانية اللبنانية ، وهو لا يختلف في أهدافه عن المؤلفات التي سبقته ، وقد تناول الهبة والصدقة بما يتوافق مع الخصوصية الدينية المسيحية / ص 58/ إلا أنه في الجوهر لم يخرج عن روح الفقه الإسلامي ، إذ أن في الإسلام يمكن أن يكون الواقف معطياً ومتبرعاً ومتصدقاً / مغنية فقه ص 585 / .
أهمية هذا المؤلَف أنه واكب نشوء الرهبانية اللبنانية التي أنشئت سنة 1693م وتبعتها أربع رهبانيات للروم الكاثوليك فحتى أواخر القرن السابع عشر لم يكن للموارنة سوى دير قنوبين الذي كان يعرف بـ " دير المايتي راهب " / دويهي ص 328 / ولكن اللافت أن القرن الثامن عشر شهد بناء ما يفوق الخمسة عشر ديراً ، بتشجيع من مشايخ العهدة منذ استحداث نظام التوزيع الريعي بعد معركة عين داره 1711 ، حيث شكل المسيحيون عامة والموارنة خاصة العامود الفقري لهذا النظام ، وكان أن تشكلت علاقات ثقة بين الدروز والموارنة ، وكانت أول هبة درزية إلى الموارنة حيث وهبت أرملة الأمير أحمد المعني قطعة أرض في محلة عين الجوزة في أرض مشموشة للمطران سمعان عواد بموجب صك ختم في آخره بعبارة " انشالله يكون مبروك عليكم " /أبو شقرا التحولات ص 79 / وإذا كان الجهد الذي بذله الموارنة على صعيد التشريع الكنسي قد شكل مدخلاً لبناء هويتهم الدينية من جديد بعد أن شلعها الزمن والتاريخ والسلطة ، فإن طائفة الروم الكاثوليك التي لم تعترف بها السلطنة العثمانية حتى عام 1837 حظيت في تلك السنة بموافقة السلطان محمود على عدة امتيازات منها :
ـ موافقة الشرع الشريف على تعمير الكنائس وترميمها .
ـ تنفيذ وصايا المطارنة والقساوسة والرهبان والراهبات .
ـ إدارة أوقاف كنائسها من أبنية وأراضٍ .
هذه البراءة وغيرُها ، ألزمت الروم الكاثوليك أدبياً بالشرع الإسلامي في قضاياهم المدنية لا بل أن السعيد الذكر البطريرك مكسيموس الثالث مظلوم كان سبق له وجمع العشرات من المسائل الفقهية بينها الوقف في مخطوط عنوانه " كتاب البيوع " وهو غير معروف ونملك نسخة مصورة عنه .
في مسألة التقاضي حول الوقف يشير المؤلف إلى " تذكرة الديوان الهمايوني "سنة 1892 التي تجيز لغير المسلمين بالتقاضي عند رؤسائهم الروحيين / ص84 / والواضح في المصادر التاريخية أن القضاء في السلك الكهنوتي عرف منذ سنة 1785 في إمارة الأمير يوسف الشهابي حيث كان المطران جرمانوس آدم قاضياً على النصارى ، ولكن هذا التعيين لم يكتسب صفة الديمومة إذ غلب عليه الواقع السياسي والعلاقات الشخصية ، ما يعزز ذلك قول ميخائيل مشاقة الذي عاصر الأمير بشير " أن الشيخ شرف الدين القاضي كان يقضي لعموم الجبل / أبو عزالدين /قضاء 355 / ولكن puget de saint Pierre الذي زار لبنان في عهد الأمير فخر الدين الثاني يقول : " ... احتراماً للكنيسة الكاثوليكية لم يشأ [ الأمير] أن يحكم في أي أمر يتعلق بالدين المسيحي بل أوكل جميع ذلك إلى البطريرك الماروني / أبو عز الدين 353 / وفي العهد الشهابي وبالرغم من وجود نصوص تؤكد على أن الأكليروس الماروني كان يقضي بالمسائل المدنية إلا أن التصديق عليها كان يتم في شرع دير القمر وهذا ما تؤكده وثيقة مؤرخة سنة 1711 حول اتفاقية بين المشايخ آل حبيش وأهالي وفلاحي كسروان على رئاسة دير ما الياس حيث صدق الوثيقة قاضي الشرع في دير القمر، علماً أنه مع بداية القرن التاسع عشر أهمل القضاة الموارنة وهم من الأكليروس كتاب مختصر الشريعة وفي رسالة موجهة من البطريرك يوسف حبيش إلى المجمع المقدس يقول فيها " أخذت القضاة والمتشرعون في جبلنا ولو كانوا من طغمة الأكليروس أن يفصلوا ويقضوا على جميع الدعاوى المدنية بموجب رسوم وحدود الشريعة الإسلامية فقط ما عدا الأمور المختصة بالإيمان والآداب ، بخلاف سلوك أسلافهم الذين كان اعتمادهم على كتاب مختصر الشريعة / أبو عز الدين 412 / وهذه الوثيقة تناقض المعلومة التي استند إليها المؤلف والتي تفيد بأن كتاب مختصر الشريعة سد فراغاً استمر قروناً / ص 61 / علماً أن المجمع المقدس في روما كان يعي تماماً مشكلة الكنيسة الشرقية مع الشريعة الإسلامية فطلب " مراعاتها " ، والملاحظ أن الكنيسة المارونية كانت كلما تقدمت في الزمن ممارسة وتجارب عادت إلى الأصول لترسيخ خصوصيتها الدينية في إدارة الأملاك فأسبغت عليها الصفة المقدسة في أحد قراراتها الذي صدر عن مجمع دير الشرفة سنة 1888 حيث اعتبرت الأموال الكنسية المنقولة وغير المنقولة " مقدسة مالكها السيد المسيح بنفسه " /ص 75 / إلا أن المجمع وضع شرطين لنقلها :
ـ السبب العادل
ـ موافقة كهنة الأبرشية وإذن البطريرك
ـ موافقة أساقفة الطائفة والكرسي الرسولي إذا كان البيع يتناول الأديرة والمدارس الأكليريكية
ولكن بعودتنا إلى مقررات مجمع دير ما أليشع سنة 1827 أي قبل واحد وستين سنة على مقررات دير الشرفة نتحقق من أن هذا المجمع وافق على بيع شيء معلوم من رزق دير اللويزه لسداد ديون مترتبة عليه ولحظ المجمع أن يكون ذلك باطلاع قدس النائب العام وهذا يشير إلى تطور التشريع في الكنيسة في موضوع الحفاظ على أموالها / رهبانية فهد 6/40 علماً أن مقررات مجمع اللويزة 1736 توضح تبني المجمع مصطلحين عائدين لمجمع خلكيدونيا وهما : ( الروحي ويعني الديني والعالمي ويعني الزمني )/ الدبس 4/ 209 /.
الضريبة على الأديرة والكنائس والرهبان
حول إعفاء الرهبان من الجزية يقول المؤلف في الصفحة 87 " بسبب نذر الفقر وحياة التقشف أعفي الرهبان من دفع الجزية " . في الحقيقة لا يوجد أنماط أخلاقية عند الدول ذات الخزينة العامرة حتى في أوروبا القرن التاسع عشر ، ففي التشريع العثماني كان هناك اثنان وسبعون نوعاً من الضريبة بينها ضريبتان تعنيان مجتمع جبل لبنان التعددي .
ـ خراج الرأس أو (الجزية )
ـ خراج الأرض
والمعروف أن الجزية كانت تفرض على الرعايا غير المسلمين بدل أدائهم الخدمة العسكرية وهي قسمان : الجزية المقطوعة ـ وجزية الرأس والفتاوى التي التزمت بها الدولة العثمانية بشأن الجزية أوجبت منذ سنة 1692 ما يلي :
ـ إسقاط الجزية عن كل فقير ومريض ومسن من الذميين الذين لا يستطيعون دفعها .
ـ عدم أخذ الجزية من الأعمى ، والمقعد ، والمسن الذي لا يقدر على العمل والرهبان الذين لا يدخلون في الحياة الاجتماعية للناس ولا يمارسون أي عمل والنساء والأطفال / التشريع الضريبي عند العثمانيين / ص 36و 37 / وبالرغم من ذلك فإن الشواهد التاريخية تؤكد أن الجزية قد فرضت على الرهبان في ولاية طرابلس سنة 1692 بعد أن تبين وجود أعداد ضخمة في الرهبنة ، /الزيات الديارات ص 124 و 125 /.
منذ العهد الشهابي وحتى بداية عهد المتصرفين لم تكن الأديرة والكنائس تدفع أي ضريبة باستثناء ضريبة خراج الأرض ورسم المطاحن ورسوم أخرى لها علاقة بالإنتاج ، ولكن بدءاً من سنة 1865 استحدثت ضريبة الجمارك وهي كانت موجودة أصلاً في التشريع الضريبي العثماني ، هذه الضريبة طالت الأديرة والكنائس والخوارنة والرهبان والراهبات والمدارس وقد وصف المطران طوبيا عون هذا التدبير بالمعاقبة الصادرة بها الإرادة السنية " (انطوان لبس ، توجهات الأكليروس الماروني السياسية في جبل لبنان ص 202/ .
يستنتج من هذه المداخلة أن النصوص الفقهية المتعلقة بالوقف الإسلامي ـ ومع اعترافنا بمرجعياتها ـ لا يمكن فصلها عن الجذور المسيحية التي تكشفها بعض المصطلحات في العصر المسيحي هذا ما حاول إثباته المؤلف من خلال نشره النصوص المسيحية القديمة المتعلقة بالوقف ، وفي ضوء ذلك تظهر ريادة المؤلف في اتباعه منهجية ملفتة وقدرةً فائقة على إبراز الخصوصية المسيحية في الوقف دون أن يقطع شعرة معاوية مع الفقه الإسلامي .
فللأب الدكتور أنطوان راجح كل تقديري ، ولكم أيها الأخوة شكري على إصغائكم .
كلمة المحامي بطرس محفوظ حبيقة
I
يركض طرْف القارئ فوق صفحات كتاب " الأوقاف المسيحيّة في مضامين الشرع"، صفحات مجيدة في تاريخ الأوقاف، نشرها الأب أنطوان راجح ديباجةً وصلت مساحتها إلى ما يزيد على الأربعماية صفحة.
في التاريخ خبايا وزوايا شاخ عليها الزمان. والمؤلِّف راوية ثقة لأخبار الأوقاف، انتزع أسرارها من صدور العصور الخوالي، رافق تطوّرها وتدرّجها من قفزة إلى قفزة، وساير حركتها في أحداثها المتعاقبة من حِقبة إلى حِقبة، وتقلّباتها، ونزاعات القانونيّين حولها، وعرضها على أبناء زمانه خالصة من الشوائب والزوائد.
سار المؤلِّف في التاريخ. حاشداً أحداث الأوقاف، تنصبّ وفودها في حدود الزمن " كالخيلِ، جاريةً من حبل مُجريها".
أ-عرف الرومان الوثني الكثير من الأوقاف.
تابع:
ب-قرون الألف المسيحي الأوّل: نستخلص عناصر وقفيّة من قانون الرسل، وقوانين المجامع: خلقيدونية ( الرابع)، قرطاجة، المسكوني ( الرابع).
هل استكفى؟. كلا.
ج-القرون الوسطى: نقف على أبرز المجموعات القانونيّة التي عالجت الأوقاف. كتاب الهدى الذي لا يزال مؤلّفه مجهولاً- كتاب الهداية لابن العبري الذي تكلّم على عناصر الوقف، ونوع الألفاظ المستعملة، وقوانينه، والصدقات-كتاب الناموس الأوّل لابن العسّال، وفيه ثلاث فئات من الأنظمة حول الواجبات الروحيّة، والأحوال الشخصيّة والأمور العالميّة، ونقلٌ عن بعض قوانين كتاب الهدى- حواشي انجيل ربّولا التي هي كتابات وثائقيّة دوّنها البطاركة على فسحات النسخ الفارغة للإنجيل الذي يستعملونه، وذلك في تنقّلاتهم وترحالهم أبان الاضطهاد، تُضيء لنا جُملة أمور في موضوع الوقف.
ماذا غير ذلك؟.
د- العهد العثماني: شهد قيام الوقفيّات عند المسيحيّين على نحو مألوف. المجمع اللبناني 1736- مختصر الشريعة للمطران عبد الله قراألي الذي استمدّ الكثير من العوائد السريانيّة، ما أكسبه أهمّيّة بالغة فـي تاريـخ التشريـع الماروني- مجمع الشرفة للسريان الذي تناول موضوع أموال الكنائس- الأنظمة اللاحقة في السلطة العثمانيّة التي خوّلت رؤساء الطوائف غير المسلمـة مواصلة ادارة شؤون طوائفهم بحسب عوائدهم والتقاليد.
يصل المؤلّف إلى عهد الانتداب الفرنسي:
ﻫ-تضمّن صك الانتداب جُملةَ مبادئ عامّة، تحترم نظام الأحوال الشخصيّة والمصالح الدينيّة لكلّ الملل.
ويخلص:
و- إلى مرحلة ما بعد الاستقلال.
لا شكّ في أنّ المؤلِّف سبق على القانونيّين في هذه النبذة التاريخيّة ذات القيمة بذاتها التي لم يعدَّ مثلَها سواه، ولم تكن تتيسّر لمن قبله، فضرب قصب السبق وبلغ القمّة. إنّها سابقة مرشّحة لاقتفاء أثرها من قبل الخلف، والأخذ بزيّها التاريخي ذي الأصالة، وتلقّف أسلوبها الشيّق، والنقل عنها، وحذو حذوَها المشكور.
II
لا غُلُو في القول إنّ المؤلِّف فاق السابقين دقّة نظر وصواب نقد، في عصرنا الحالي البصير، ليس في نبذته التاريخيّة فحسب، بل بكتابه المتكامل من الجلد إلى الجلد. وهيهات أن يكبوَ يراعه في هذا المضمار. فأتى بما لم تستطعه الأوائل.
إنّ القانونيّين الأوائلَ غادروا من متردَّم في الكتابة عن الأوقاف. مَعذِرةً من عنترة بنِ شدّاد القائلِ بالخلاف في الشعراء... بنِ السبيّة " زبيبة " يومَ السلم، ومتى اشتدّ القتال بين قبيلته عبسٍ وأعدائها الذُّبيانيّين، بنِ الأطايبِ، وكان أبوه شدّاد العبسي أميراً مُقدّماً في بني قومه. إنِ الشعرُ كُتب فيه الكثير فأصيب بالتُخَمَة، فانّ شرعَ الأوقاف ليس من الشعر بشيء، وهذا غير ذاك. كُتب فيه القليل.. القليل، شكا من جوع في مراجعه التي قلّ عديدها فضمُر وتقلّص، تكاد أن تُعدمَ باستثناء نتفِ أحكام وبعضِ جزئيّات محشوٍّ في حيثيّات.
من أهمّ الأسباب لقَفر المراجع، هي أنّ الأوقاف تخضع للشرع الخاصّ المقصور على أهله وخليطه، لا يستطلعه مَنْ هو غير منتسب إليه أو في بُعدٍ عنه. وإذا استطلعه أو كتب فيه واحدٌ من غير أهله، فلا يتفوّق على كتاب " الأوقاف المسيحيّة في مضامين الشرع" الذي اشتقّه المؤلِّف من شرعه المستقلّ نبعتِهِ، المرتبطِ به ارتباطاً شعوريّاً. فأخرج بحدْسه القانوني الشرع الخاصّ من حدود ذاته في التطرّق إلى شرح قوانينه، خروجَ السرّ من خمرة في أصلها من العنب، جاعلاً الخفيَّ منه ظاهراً، والغائبَ من طبائعه الخاصّة حاضراً تبين فيه معالم الشرع العامّ الواسعة. وعلى الرغم من كلّ هذا الشِحّ في التوكّؤِ على مصادر، وعدم توفّر له الكثير من تجارب سواه، قدِر المؤلِّف أن ينطلق من نقطة ضئيلة في مراجعها وإنْ وافرةً في مراميها، فيوفّق في اقتحام أسوارها، ويُخصب، ويتّسع، ويُعدّل في عمر الأوقاف الطويل الذي كان قبله رمزاً لعقم النماذج، ونَدْرَتها، وشبه انعدامها. ولعلّ ما كان يشير إليه راسين فيما قال:" ينبغي أن تُبدعَ شيئاً من لا شيء، يصيب المؤلِّف المبدع.
إنّ المؤلِّف، فضلاً عن أنّه من أكثر الباحثين تضلّعاً في القانون الكنسي وأبعدُهم خبرةً إنْ فِقْهاً أو علماً أو اجتهاداً، تعمّق أيضاً في القانون المدني، فنَهض إلى مستوى الشهادة الجامعيّة والابداع في الولوج إلى رحمه. فنرى له وجهـاً كنسيّاً وآخر مدنيّاً في مواضيع الكتاب، وفقاً لطبيعة الوقف الذي يمارسه إنْ دينيّاً أو خيريّـاً أو ذِرّيّاً أو مشتركاً. ولو لم تكن له القدرة على الابداع في القانونين المدني والكنسي، لما تولّى التأليف في الأوقاف.
III
لمّا نتأمل في مواضيع الكتاب بعين المَعْدَلَة البعيدة عن الهوى، وبعين المعرفة التي ما ضلّ صاحبها وغوى، نجد في الكتاب- بعد نبذته التاريخيّة- صوراً ثلاثاً في أقسام ثلاثة:
أ-الصورة الأولى الكنسيّة في معظمها التي رسمها المؤلِّف للوقف الخيري: تعريفه، إنشاؤه، الفرق بين المؤسّسة التقويّة المستقلّة وغير المستقلّة، تسجيل الوقف لدى المحكمة الكنسيّة، الولاية على الوقف، تعرّض الوقف في سيره الطويل إلى عثرة: ما يطرح استبدال الوقف أو تحويل الوقف.
ب-يتحوّل الموضوع عن الصورة الأولى الكنسيّة في معظمها التي رسمها المؤلِّف للوقف الخيري، ويكمل المؤلِّف صورته القانونيّة، ويؤدّي لهـا إطارها المدني في تطرّقه إلى الوقف الذرّي. وما يُكسب المؤلِّف ثناء وفخراً هو تضلّعه بالقانونين المدني والكنسي، وهذا هو رصيده القانوني الذي يرمز إلى التكافؤ والعافية وقوّة الصُلب: نيّة البرّ والقُربة هي المحور الذي يدور حوله الوقف الذرّي، التأبيد لا يجوز في الوقف الذرّي، للواقف أن يرجع في الوقف الذرّي عن كلّه أو بعضه أو أن يغيّر في مصارفه وشروطه على ألاّ يخالف القانون الساري المفعول، وجوب تحرير الوقف لدى رئيس المكتب المعاون، الرفض والقبول، مسألة شمول الوقف على الحمل، ما عُرف بالشروط العشرة، قسمة الوقف، تصفية الوقف.
ج- مَنْ يرنو من منظار المؤلَّف بحدقة تقريريّة إلى لون الوقف الخيري الكنسي ولون الوقف الذرّي المدني، ينسلّ له لون الصورة الثالثة من الالتقاء بين الوقفين الخيري والذرّي في العديد من النقاط والخصائص: الواقف صاحب الولاية ما دام حيّاً على وقفه إلاّ إذا نفاها عن نفسه، اقتران الوقف بشرط غير صحيح، الشروط المطلوبة في الواقف، الشروط المطلوبة في الموقوف، محاسبة المتولّين وتحديد مسؤوليّاتهم، وقف المشاع.
* * * * *
هذا إيجازٌ لصور الأوقاف الثلاث التي ألمَّ بها المؤلِّف بتفصيل في هذا الشأن، كاشفاً الغموض في حسن تقديرٍ للأمور، وتقريرٍ لحقائقها التي تطالع كلَّ متبصّرٍ حكيم. وهذه الصور مثل اللافتات على مداخل القرى والمدن، يُسترشَد بها القارئ في تصفّحه الكتاب كي لا يضِلَّ سواء السبيل.
ويُنهي المؤلِّف كتابه بنموذج أحكام حديثة، هي تجسيدٌ لواقعٍ معاش. يكفي أن يتفرّس القارئ في مظاهره ويستقرئ حيثيّات أحكامه ومعانيها، بدون الحاجة إلى تعريف أو تقديم، وإلاّ أتت المقدّمة " كمن يفسِّر الماء بالماء".
IV
بصورة عامّة، إنّ مؤلَّفات الأب أنطوان راجح - وما أكثرها- عوامل إخصاب تتعمّق فيها التجربة. لم تُصبْ بآفة التقليد، لأنّها ليست منقولة عن مجموعة معلومات حفظتها الذاكرة واختزنها الذِهن. إنّما هي منقولة عن تلك الثقافة القانونيّة التي تنحلّ في عصب شخصيّة الكاتب، تنصهر وتذوب فيها، وتغدو جزءاً منها كما يغدو الطعام جزءاً من الجسد.
كما في الأدب العربي " روائع " للدكتور افرام البستاني- رحمه الله- جعلت العربيّة شامة في وجنة اللغات، كذلك في الشرع الكنسي " روائع " للدكتور الأب أنطوان راجح - أمدّ الله عمره - تسعى الى اقتناص سحر الحُجَّة والقانـون الحلال في حدائق الكلمة الرهيفة والمزهرة بالعلم المثقل ببليغ الرأي القانوني والبيان الفِقهي والاجتهاد الذكي. بل إنّها مؤلّفات فِقهيّة كاملة شاملة يجد فيها كلّ مطالع القانون ودارسه مطلبه، تستحقّ أن تُسمّى بنفس تسمية " محيط المحيط " للمعلّم بطرس البستاني، حُجّةِ طلاّب العربيّة ومرجعِهم الأمثل. إنّها " محيطِ المحيط" في عالم القانون، والأب راجح " المعلّمُ الحُجّة والمرجَعُ الأمثل "، لم يدّخر أيّ جَهد في سبيل إخراج هذا العمل بالمستوى العظيم. إنّ الرجال عملٌ يأتونه. هويّاتهم هي منجزاتهم. ألا في سبيل المجد ما هو فاعل!.
ما أشبهني في تقديم المؤلَّف بالواقف على الشاطئ. صحيحٌ أنّ الشاطئ هو البحر، لكنّه ليس البحرَ. كذلك المقدَّمة في التعريف ههنا هي من الكتاب، لكنّها ليست الكتاب، كونها تغشو سطحه بدون أن تغدو جزءاً منه. إنْ قلتُ فيه شيئاً، غابت عنّي أشياء. لا بُدّ للقارئ من أن يكتشف الكلَّ والعمق من خلال الغوص في لُجج الكتاب البعيدة الغور والقصيّة الأصقاع. هي البحر الساكن على الدُرّ، لا تُبدِ صدّا. غُصّ فيه، لن يعثر بالفتى. فلا تحذَرْه، إنّ الكتاب بحره ليس مزبدا.
قد طاب لي تقديم باعتزاز كتابِ " الأوقاف المسيحيّة في مضامين الشرع " للأب أنطوان راجح، المتفرّع من تراثه القانوني القيّم. إنّه أداة عمل لطلاّب القانون ومثقّفيه في كُلّ صُقع ومِصر. يضع بين أيديهم غنى العلوم، ومفتاح القانون. وما هذا بالصنع اليسير.
كلمة شكر للأب أنطوان راجح
أحيّي أوّلا حركتنا الثقافيّة وأركانها، شاكرا باحثيها الذين لا يخدمون الاّ المعرفة والحرية، وقد امتازوا بسعة الاطّلاع وحسن التدبير ورصانة الاطلالة، ولم تزدهم سنوات حركتهم التسع والعشرون الاّ عنادا ونبلا ووقارا، خدمة لقيم الحقّ والخير والعدالة. وهم بذلك يشهدون انّ الثقافة، في علاقتها الجوهريّة بالحقيقة والخير، لا يمكن أن تقتصر على الأبعاد التقنية المصلحية، أو المعرفية المتبرجعة، بل هي، في مداها الاوّل والأساسي- وعلى حدّ قول المثلّث الرحمة قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني أمام الاونيسكو- المناقبيّة السليمة، أي الثقافة الاخلاقيّة. انّي أفاخر بانتمائي الى هذه الحركة التي أرجو لها دوام الازدهار وضمان الحيويّة، خدمة متواصلة للوطن وللعالم، وأخصّ بالذكر رئيسها وأمينها العام والهيئتين الاداريّة والعامة على اعلائي منبر مهرجانهم الاحتفالي السنوي بالكتاب.
أحيّي أيضا جمهور هذه الحركة ورواد مهرجانها. فالشكر لكم جميعا على حضوركم ومشاركتكم، شكرا لاصحاب السيادة ولقدس الرئيس العام والرؤساء والمحامين والاصدقاء...الخ
ولا أخفي فرحي باصطفاف كتابي الجديد جنب ما سبقه من منشورات جامعتنا الانطونيّة التي تعوّل على تشجيع الابحاث والانتاج المعرفي وتعمد بعناد وسخاء الى اغناء تراثها بسلسلة من المنشورات، تحثّ عليها وتتبنّاها وتدعمها. ويطال الشكر أيضا منشورات صادر الحقوقيّة التي تبنّت طباعة سائر الابحاث ونشرها وتوزيع السلسة بأكملها.
امّا الشكر الخاص هذه الامسية، فأوجّهه أوّلا الى الاصدقاء الاستاذ جورج ابي صالح على تقديمه وادارته هذه الندوة، فانّ ما قاله بمثل هذين الوضوح والترصّد ليس سوى محصّلة قراءة مدقّقة وشاقّة، والى سيادة المطران المنتخب ايلي حدّاد والاستاذ نايل ابو شقرا والمحامي بطرس حبيقة، على تكرّمهم بقراءة الكتاب والتعليق عليه بالاحتراف والموضوعيّة الموصوفتين، ولي مع كلّ منهم أكثر من رحلة درب وأعمق من ارتباط أخوي صادق، كما أدين لكلّ منهم بالكثير الكثير سواء في تكوين هذا الكتاب أم في تكوين المزيد من الايمان بالصداقة والروابط الانسانيّة المنـزّهة والملتزمة في آن. لصاحب السيادة أصدق أدعية التوفيق في تدبير شؤون ابرشيتّه والكنيسة بما فيه صلاحها وكلّ التهاني للمحظوظين برعايته والافادة من علمه وحكمته واتّزانه والوفاء، والشكر المميّز له لما كرّسه لقراءة هذا الكتاب على الرّغم من ازدحام انهماماته هذه الفترة بتحضير سيامته الاسقفيّة وتنوّع الاحتفالات والمشاغل التابعة. وللاستاذ نايل الذي تشرّفت بالتعرّف اليه في مؤتمر الاردنّ لشؤون الاوقاف في بلاد الشام، حيث خطف سريعا اعجاب الجميع بخلقه وسعة اطّلاعه ودقّة ابحاثه وأسلوبه الشيق، أخلص مشاعر الوفاء والفخر بتواصل فكريّ اجتماعي يحرص عليه كلانا. وأضاعف الشكر للمحامي بطرس حبيقة على قراءته للكتاب قبل طباعته والتعليق عليه بعباراته المنمّقة والمحترفة، وعلى قطعه الادبيّة التي لم تمنع نفعا في موضعة وقائع الكتاب وأراحت المستمعين فجعلتهم يتجلّدوا. ولا أغفل شكر الاستاذ جوزف صفير على قراءة الكتاب وتقديمه.
وبعد، فانّي أقرّ بانّ اتّساع موضوع هذا البحث، حال دون الغوص في التحاليل العميقة والمعالجات الدقيقة التي تقتضيها الامانة لايفاء هذا الموضوع حقّه من الوضوح والشفافية، الاّ انّ مبتغاي كان ولمّا يزل، فتح المجال، انطلاقا من اشارات هذا الكتاب، أمام عمليّات تنقيب مفصّل ومتخصّص، لكلّ حقبة تاريخيّة، بدراسة اجتماعيّة اقتصاديّة، تدلّ على التطوّرات في المعتقدات والسلوك، أو على تحوّلاتها بين حقبة وأخرى، وبين تشريع وآخر أو سلطة وأخرى، أم لموضوع من موضوعات الوقف، سواء لناحية نشوئه أو لناحية دوافعه أو طرق ادارته أو كيفيّة الانتفاع بريعه وغيرها من المسائل الشائكة والمعقّدة والشديدة الحساسيّة، وصولا الى اقتراحات عمليّة مفيدة، تشكّل ارثا أساسيّا لسياسة نموّ محتملة على اكثر من صعيد.
امّا ما نقص في هذا الكتاب فأكل الى غيرتكم اكماله بما أوتيتم من معرفة وحبّ وتشجيع. وشكرا.