تحية الى جورج يمين بمناسبة صدور مجموعته الشعرية
كلمة المحامي ريمون عازار
رحل قبل الأوان، ولم يكن قد أفرغ، بعد، ما في جعبته من روائع، فجذع الشعر، وبكت الكلمة.
رحل وعينه على أهدن ، مدينة الجمال والبهاء ، والنبوغ والأباء ، وقلبه على لبنان ، المثخن بالجراح ، والخاشع ابدا" على ابواب القيامة المجيدة .
يوم فاجأه صديقه رياض شراره بالرحيل ، وهو من العمر في العنفوان ، هاله ان يسقط المبدعون سريعا" ، فكتب يقول ، وكأنه يصف رحيله بالذات :
" ثمة قبيلة لا يرحل اهلها الا فجأة، يومضون وينطفئون ، ولأجسادهم حضور النيزك ، انها قبيلة الورق والحبر ، والصوت المرسل موجات موجات . فجأة فتح رياض شراره باب الخريف وراح ، يتبعه الصيف ، وضباب يمحو الباب والطريق والوقت .
" كان جورج يمين شاعرا" في كل ما كتب " هذا ما يقوله النقاد . كتب شاعرنا بالفصحى فأجاد ، وبالعامية فأبدع ، كتب قصيدة النثر ، والقصيدة المفّعلة ، وقصيدة الحداثة ، فتوهج .
أنشد الطفولة ، والبراءة ، والبطولة ، وغنّى في المواسم ، وتوغل في تجليات الشعر الحديث ، وغاص في اعماق النوازع الأنسانية ، واستشرف الآتي ، فكان شاعرا" طليعيا" .
تعددت مصادر الألهام في شعر جورج يمين ، كان ابن البيئة الطبيعية والأدبية التي نشأ وترعرع فيها ، تأثر بالكبار من شعراء العامية ، وامراء الشعر الحديث ، ولكنه حافظ عى فرادته وتمايزه .
غير ان اهدن وطبيعتها كانتا مصدر إلهامه الأول ، ولو لم يطف ذلك على صفحة شعره، بل ظل غالبا" يلوح خلف الكلمات .
قال في طبيعة اهدن التي توحي وتدهش ، في كلمته عن ابنها الفنان العالمي صليبا الدويهي :
" وفي ريشة الدويهي ، على مدى ستين سنة رسما" ، دور هائل لطبيعة الجرد اللبناني . ففي جردنا تتنافس الأشكال والألوان والظلال والأصداء ، لتكوين المشهد الذي كلما نظرت اليه وجدته ثابتا" ومتحركا" ، ومفتوحا" على المرئي واللا مرئي .
واذا وقفنا على مشارف شعر جورج يمين ، وسرّحنا نظرنا في ابعاده ، المرئيّ واللا مرئيّ منه ، بدت لنا خلف الغلالات الموحية ، قمم اهدن الشامخة التي تعانق السماء ، واوديتها السحيقة، التي تموج بالأطياف والأسرار ، العابقة برائحة القداسة ، وسمعنا صهيل الأرز والسنديان ، وكرّة الحسون ونقلة الحجل ، وحداء الأبطال ، وتمتّعنا بالجمال الرائع الخلاّق الذي يجعلنا نصدق ما قيل من ان الفردوس الأرضي كان في هذه الديار .
ولم تكن اهدن الطبيعة وحدها مهبط الإلهام ، بل اهدن الموغلة في التاريخ ، وزغرتا، التي يسميها الشاعر قارة ، وما اعطت وتعطي من اعلام ، فترجّعت في كتاباته ، النثرية والشعرية ، آنا" في الجهر ، وآنا" في الخفاء ، اصداء البطريرك القديس الملفان اسطفان الدويهي، وبطولات يوسف بك كرم ، والوان صليبا الدويهي ، وغيرهم من المتوّجين القدماء والجدد .
ومع جورج يمين تطرح إشكالية الشعر ، والأزمة التي يمرّ فيها هنا وفي العالم . فبعد ان كانت القصيدة تشعل ثورة في العالم العربي ، الذي ارتبط تاريخه القوميّ الى حد بعيد بالشعر والشعراء ، كما فعلت قصيدة اليازجي : << الا هبوا واستفيقوا ايها العرب >> ، التي اطلقت النهضة العربية الثانية ، في مستهل القرن العشرين ، وأضرمت الثورة التي قادت العرب الى الاستقلال ، خفت صوت الشعر ، وكاد التواصل ينقطع بينه وبين القراء .
ربما كان السبب التقدم التقني العملاق الذي حققه العلم ، وحوّل كلّ شيء في الكون الى مادة ، وسلب الأنسان الأحلام ، ولم يترك له شيئا" حتى القمر .
وربما كان هناك سبب آخر ، وهو عاصفة الشعر الحديث ، التي حفرت هوة عميقة بين القصيدة والقارىء ، وحاولت ان توجّه صدمة قوية الى الرتابة والتسطح في الشعر ، فأدخلته الكهوف المظلمة .
قيل في جورج يمين ، انه يحتل موقعا" مهما" في حركة الشعر الحديث ، وانه شاعر من قماشة المحدثين ، وهذا صحيح ، ولكنّ فرادة هذا الشاعر ، تكمن في انه شعر بفجيعة عدم التواصل بين النص الحديث والقارىء ، فحاول ان يسترد القصيدة الحديثة من الغموض المطلق ، والصقيع ، والغربة حتى بينها وبين الشاعر نفسه ، الى النبض والحرارة والحياة ، الى النوافذ المسحورة المفتوحة على تماوج الظلال والأضواء والدهشة ، وكان في ذلك رائدا".
فاليك ايها الشاعر الفذّ ، تحية الحركة الثقافية - انطلياس ، التي ما فتئت ترعى الأبدع والمبدعين ، تكرّمك اليوم في كنف مهرجانها السنوي للكتاب ، لتقول للبنانيين : ان الخلاص بالثقافة والأبداع ، لا بالسياسة والأقزاع .
والسلام على الشعر والشعراء، والسائرين في مواكب الضياء.
كلمة الأستاذ طلال سلمان
يحتضننا وجع الغياب، في مهرجان الفرح بالإبداع، فنستعيد الذين غادرونا متعجلين، وبلا وداع، لأن حزننا طري كالدمع، ولأنهم باقون معنا، لا هم على سفر بعد، ولا نحن على موعد مع النسيان.
وأعرف ان جورج يمين مشغول عنا الآن، بالجلوس الى من تركنا ليذهب اليه وصحبه في العنوان الذي لا يمكن تبديله، وانه مشغول عنا بالترحيب بالقلم الأخضر الذي أخذه الصمت في أحضانه، قبل ان يكمل المعنى... ولسوف يفرح القلم الذي نضب حبره وما انكسر بهذا الرفيق الذي يسمع أكثر مما يتكلم، ويقرأ أكثر مما يرى، ويعشق في الحياة الحياة... وسيقرأ جورج من قصائده فيستزيده جوزف ليعيش معه قصة حبه التي ما تزال تدر شعراً ونثراً وقصصاً ولوحات وتطيل قامتي رامي وماهر ليلامسا ما قبل الذكريات وما بعدها... بينما ينسل جوزف بهدوء ليقذف القدر بكرة بليارد فلا يصيبه ويكسر العصا.
سيتلاقيان، حتماً: الذي أتعبه البوح فنظم رحيله مغناة، والذي أرهقه الكتمان فكتب كل الناس ولم يترك لنفسه الا التوقيع.
ذلك ان جوزف سماحة الذي أنار عقولنا بتحليلاته السياسية التي أملاها وعيه المعزز بثقافته الواسعة واجتهاده المفتوح على أفكار الخصوم والمختلفين معنا وعنا، قد ترك مساحة من النور تساعدنا على استكشاف طريقنا الى غدنا الذي يكاد يضيع عنا بعدما أضعناه وضعنا عنه.
وأما جورج يمين الرقيق كطيف محمول على نسمة صيف فيها شميم تفاح اهدن فان روحه ترف علينا عبر أجنحة كلماته آتية من الشعر فتأخذنا الى بهجة الحياة حتى وهي تسابق الموت فتسبقه وتبقى بعده وتستبقيه معنا، في وعينا كما في ذاكرتنا المتعبة بالفقد.
ولأن الموعد لجورج ، وجوزف طارىء عليه بالمصادفة القدرية، فعليّ ان اعتذر عن هذا التوغل داخل حزنين بينما الكتب، هنا، في معرض الحركة الثقافية في انطلياس للكتّاب، تزغرد بأسماء الذين يسبقون موتهم الينا فيبقون فينا.
أيها الأصدقاء،
أستأذن في استعادة بعض الصور العتيقة التي تجعلني ازداد تقديراً لجورج يمين وتلك الكوكبة من المبدعين الذين أنجبتهم زغرتا في أيامها السود، فجعلوا يغمسون أقلامهم في الجراح الغائرة من اجل أن يطعموا الناس فرحاً مغسولاً بأحزان طفولتهم، خصوصاً وأنه كان عليهم ان يقفزوا دفعة واحدة الى قسوة الرجولة التي لا تقبل الانكسار.
يافعاً كنت حين سمعت اسم زغرتا يرن في بيتنا، لأول مرة، تاركاً صدى مجلببا بالخوف. ثم صار اسم هذه البلدة الشمالية البعيدة، آنذاك، يستدر دموع الأم في بيت الدركي الذي كأنه أبي. فبين فترة وأخرى كانت تحشد قوة من رجال الدرك الموزعين على المخافر في مناطق شتى لتوفد الى زغرتا فتفصل بين أهلها المشتبكين في اقتتال طال كل بيت بالأذى، وتأخر علاجه زمناً طويلاً لأنه تحول الى استثمار سياسي مجز ٍ، للكبار الذين في البعيد، بينما مقابر زغرتا تلتهم في كل اشتباك المزيد من أبنائها.
كان الدركي الذي كأنه أبي يذهب " مفصولاً في مهمة" من مخفره في الشوف، الى زغرتا للمشاركة في مهمة تبدو خارج أيدي العسكر، وتظل أمي متقوقعة داخل همها ونحن من حولها ليل انتظار حتى يعود بحكايات أولها وجع، وآخرها وجع.
وفي بلدتي البعلبكية كان الأهالي يتناقلون أخبار المواجهات بين الأخوة- الأعداء في زغرتا وكأنها حكايات عائلية.. وكانوا ينقسمون بين مناصرين لهذه الجهة ومخاصمين لتلك، حتى لتشعر في لحظات معينة وكأن السامرين هنا يعرفون المقتتلين هناك، عائلة عائلة وفرداً فرداً، بل ربما أخذك التوهم، أحياناً، الى أن هؤلاء الفلاحين الذين لفحت الشمس وجوههم حتى باتت كالنحاس، الشوارب فيها تنتصب كالأعمدة، قد عادوا لتوهم من الميدان.
فالتشابه في السلوك العشائري يكاد يكون متطابقاً وان اختلفت الجغرافيا والمسافة من واحات الحضارة، وأخطرها البحر، والأسماء الدالة على الدين: اقتلهم قبل أن يقتلوك، واقتل أبناءهم حتى لا يقتلوا أبناءك... أما الترمل فقدر النساء الذي لا مفر منه.
ثم جاءت السياسة فبدلت كثيراً في التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا والاقتصاد، وكان أن أنبتت زغرتا جيلاً من الفتية المجبولين بالألم، الذين طالما ساروا في مواكب تشييع الأعزاء، والذين لم يقبلوا ذرائع تلك الحروب داخل الصدر الواحد، فإذا هم يطلقون وجعهم دواوين شعر وروايات تضج بموهبة كتابها وقصصاً تستعيد ذكريات زمن الموت، ولوحات أبدعها الخوف على الغد من أمس طالما جلل الرجال والنساء والبيوت والكنائس بالسواد ودقات الأجراس المتقطعة بالحزن الذي بات بعض صوت زغرتا المكوية بالفقد.
أيها الأصدقاء،
لو أن جورج يمين معنا الآن لكنت طالبته بحقوق الملكية الأدبية عن إطلاق تعبير " القارة" على هذه المدينة التي توأمت نفسها فغدت زغرتا هي اهدن ثم استولت على مستعمراتها تحت زغرتا وتلك التي تعلوها لكنها تظل تحت اهدن.
ربما لهذا عندما ذهبت رئاسة الجمهورية الى زغرتا أمكن، من بعد، التنازل عن الرئاسة لكن الجمهورية لم تعد ابداً من هناك. ويقال أنها تاهت عن طريق العودة، اذ انها لم تجد طرابلس ، ثم ان حاجز البربارة منعها من العبور في اتجاه الساحل وقال حارسه ان عليها ان ترجع الى شعارها الذي يعلو بشري فتسكن فيه ، ومنذ ذلك اليوم ضاعت آثارها.
وإذا كان أهل السياسة قد صادروا الجمهورية فتناتشوها ارباً، فان أهل زغرتا- أهدن اثبتوا إنهم يعرفون كل شيء ويتقنون كل المهن من السلطة بكل مواقفها الى الثروة بكل أنواع عملتها الصفراء والخضراء والبيضاء، بقدر ما اثبتوا ان فيهم المبدع رسماً او نحتاً او كتابة او شعراً او تأريخاً او تلحيناً وغناء... وها هو جورج يمين نفسه يقدم لنا مجموعة من العباقرة الذين أنجبتهم قارته الغنية فلا نملك إلا أن ننحني أمام إبداعاتهم التي قد تنسينا "الآخرين" ممن أبدعوا في المجالات التي يستحسن ان نغض عنها الطرف حتى يواريها مأواها.
في الخربشات التي تقارب الشعر والتي جمعت في كتاب " نقطة في الفراغ" نكتشف ان الشعر كان يجيء الى جورج يمين مرة بالعامية ومرة بالفصحى، وكثيراً ما وقف على بابه فلم يسمح له بالدخول لأنه كان مشغولاً عنه بما بعد الشعر.
كانت الحرب التي تعددت ألقابها وبدلت جلدها كثيراَ قد لفحت برياحها كل الناس في كل الأمكنة... حتى في القارة التي كانت تظن أنها تؤثر ولا تتأثر.
لكن جورج يمين كان هناك رجلاً قاعداً على حجر مكسور، ظهره الى حافة الهواء، ظله مبعثر. سبحته مقطوعة ورأسه منحن كغصن مثقل بالنعاس . يتسلى بحروف اسمه الأربعة يقولها، يفرطها، يكرجها ، يصفها كيفما اتفق،يقرأ بصوت بطيء ثم يفقع من الضحك.
كان جورج يمين يعرف ان زمنه ليس من هذه العقارب.
ولذا كان يغني ليوصد صمتاً، ليبقى منه ما هو أكثر من عظمة مبيضة.
بين حروب الزغرتاويين في ما بينهم، وبين الحرب التي أخذت الجميع الى جحيمها كان جورج يمين قد صار رجلاً.. لكنه سرعان ما اكتشف انه محكوم بأن يخلع ذاكرته ويرميها حتى لا تكون مقتله.
لقد وقفت الحرب سداً بينه وبين الآخرين في القرب القريب، كما طرابلس، وفي البعد البعيد كما بيروت. لكن طرابلس السيدة الطاعنة في السن، هذه الحلوة النائمة بين شراشف البحر والتي احترق فستانها الذهبي في سوق القمح، لا تغيب عن البال او عن القلب فيصلي لها.
" السلام عليك يا ام الفقير . العيد اقترب فافتحي ذراعيك ولتعل' ابتهالات المآذن. آه ما أوسع قلبك وما أضيق غرف الأبجدية"
كان الولد العاري يريد قميصاً من طرابلس، لكنه وجدها وقد عريت وانتهكت، وتركت مرمية على رصيف النسيان، يدعيها من لا يملكها، ويعجز عن حمايتها من لا حياة له إلا بها وفيها، ويتغافل رجال السلطة عن سقوطها منها فيمضون بعيداً عنها، وكأن العاصمة الثانية مجرد جملة معترضة لا يؤثر غيابها على معنى الدولة التي عجزت عن حماية عاصمتها الأولى وحماية اسمها، فكيف بحدودها التي اخترقها العدو الف مرة حتى أقفلت المقاومة بواباتها التي منها كان يأتي الهوان والحرب الأهلية.
في زغرتا التي استولدتها الحرب على ذاتها، ثم عمرتها حرب الدولة التي تستبطن دولاً على الوطن الذي يستبطن كيانات عدة، أخذت السلطة من يرغب فيها ويقدر على استثمارها وجاهة ومالاً ونفوذاً،
لكن نفراً من ابناء هذه القارة ذهبوا الى الكتابة التي هي عادة سرية يمارسها شهوانيون يخافون الاختناق.
وجورج يمين الذي قاربته السلطة ولم يقربها ظل منفياً في عشيرته ومطلوباً من أعدائه: انا يا صاح كذبة فاتنة مشلوحة على الطعنة الابدية.
فمنذ ان دفشته حرب الشمال الى الجرد صب جسده المقزز خيمة تحت بيت جده وصار يشرب النهار البارد كالحليب الانكليزي كعبة واحدة.
ولما اكتشف جورج يمين ان رجال الحرب قد عفوا عنه توجه اليهم بالشكر:
شكراً والف شكر للذين يقتلون ، لأنهم لم يقتلوني حتى اليوم. وما زالوا قصداً او سهواً يهبونني الحياة، مع انني صرت عتيقاً علىوجه هذه الارض، ارضهم.
على ان جورج يمين الذي كان يخاف من اهل الحرب، لم يخف منا نحن في " السفير"، وهكذا فانه بعدما ادعى انه اخترع لزغرتا هويتها الجديدة، القارة، فانه تجرأ على شعارنا:
حضرتنا من الرأي العام،
صوت اللي ما الهن صوت
ولأن " السفير " هي "صوت الذين لا صوت لهم"شرعاً وشعاراً منذ اربع وثلاثين سنة كاملة، فإننا نخالفه فلا نقول أننا نعيش من قلة الموت، بل اننا نعيش في قلب الموت.
أيها الاصدقاء،
بين الوجوه العديدة لهذا الموهوب الذي حبس عمره في قلمه فظل يكتب ويكتب حتى نضب الحبر- العمر، وجه الشاعر بالعامية، وأحياناً بافصحى اليمينية، سيراً على هدي شعرائنا الجديد الذي يبتدع كل منهم فصحاه واوزانه ثم يضرب القوافي على قفاها فتفرنقع.
ولقد غنى العديد من المطربين والمطربات أزجالا لجورج يمين فتخطت اسوار قارة زغرتا ووصلت الى الجمهور باصوات كثيرين اغزرهم ال البندلي الذين احتكروا معظم ما صادفوه من ازجاله، وكذلك راغب علامه واحسان صادق وانطوانيت نحاس وزياد عيروت وسامي حواط وعازار حبيب.
كذلك اختار صوت الطرب في بلادنا وديع الصافي بعض كلماته فترنم بها، بينما عب مارسيل خليفة بعض صوره الفلسفية ليذهب بها الى العالمية... وغازلته صباح ببعض المضمر من غزله في صباها بينما اخذ خالد الهبر من كلماته ما يمكنه من الصمود على الجبهة.
نحن الآن في مواجهة الأبناء الشرعيين للمأساة التي وجدت خاتمتها أخيراً بين الزغرتاويين، فانتبهوا الى أن الحياة أبهى من ان تضيع في طلب الثأر من الذات.
وجورج يمين واحد من الذين أسهموا في ترويج الصورة الجديدة لزغرتا: غيره اصطنعها بالرواية، او بالشعر، او بالقصة القصيرة. أما هو فقد حاول ان يقدم طبعتها الجديدة عبر إنسانها، وبمختلف ما جرى به قلمه من فنون الكتابة... يخيل اليك ان جورج يمين قد اختزل عمره في قلم لا يكف عن الكتابة... حتى لتحسب انه كتب حبه ثم جاء اليه ليعيشه شعراً بالعامية وشعراً حراً، وخواطر وحكايات وتعليقات سياسية تقتل الضجر ويقتلها، في حين انه كان قد قرر الا يدخل في السياسة وان ادخلته ميدانها معلقاً فظل قريباً منها على بعد، بعيداً عنها الى قرب، ولكنه لم يصرابداً فيها.
كان كمن يتعجل ان يقول كل ما لديه ثم يصعد حافياً الى الدفتر يفتحه من الذراع الى الذراع، ويتسطح، ويمد رجليه حتى آخر الورقة واخر الكلام.
وكان يخربش اشجاراً تلبس قامات الريح وتمشي على ضفاف البياض فتمتلىء الورقة وتتجعد كشرشف عاشقين.
كان يعرف انه سيعبر سريعاً كوميض، مثل المسيح، مع فارق ان عمر السيد الفان وعمره وجعان.
في لحظات كان الشعر بالعامية يخطف منه قلمه ليستكتبه:
جايي الشعر عريان مثل الميّ،
عالي مثل دق الجرس.
ردوا الكتب
جايي الشعر ع حصان اسمو الصوت
يفتح اللغة على الهوا، ع الناس، ع بيروت
بيروت لغتنا وتنزل عليها صواتنا مثل النهورا عالبحر
ومرات مثل النار، وتفتح جهنم بابها وجهنم جنوب.
أيها الأصدقاء،
لم يحترف جورج يمين بين كتابة السير، بل لانه وجد نفسه ذات يوم الناطق باسم قارة زغرتا، فقد وجد لزاماً عليه ان يؤرخ لرجالاتها ثم ان يحتفي بكل من يأتي اليها ويقف أمام بابه طالباً تأشيرة الدخول.
باشر بكتابة سيرة أهدن الموصوفة بعروس الشمال وبمدينة الرئيسين، فجرى بقلمه في الميدان والبركة ذات الحجر السماقي الزهري الذي لا يتشقق ولا يعشب ثم دخل كاتدرائية مارجرجس فتورط اذ وجد ان عليه ان يزور 23 معبداً.
ثم حاول ان يحيط بصليبا الدويهي الذي كانوا يسمونه في القارة "البابا" والذي لا يستطيع الزغرتاويون الذين يمكن ان يكونواايضاً اهدنيين ان يشتروا لوحاته... لكن هذا لم يمنعهم من الاعتزاز بهذا الذي كلما ضرب فرشاة زهّرت نجمة، والذي رسم على امتداد ستين سنة الطبيعة وأعطى دوراً هائلاً للجرد، ثم ثبت ايمانه بان جعل سقوف الكنائس وبعض جنباتها لوحات تأخذ الى الإيمان او تأخذ منه.
وكتب جورج يمين عن الذي علمنا من دون مدارس محروسة بالعلامات والعقاب ومن دون سنديانة تئن لوجع الصغار : ميشال طراد
وكذلك حيا بقلمه الخوري الكفر صغابي يواكيم مبارك، الدماغ المغموم والوردة الكامنة التي لا تنفتح أكمامها الا في الرأس .
ولأنه كان بوابة الشمال جميعاً فقد كان عليه ان يقدم الكبار من الضيوف ولو في ميناء طرابلس لا سيما من المبدعين وهكذا قدم زياد الرحباني؟ بالسؤال: ليش عم يعمل هيك؟! ثم أجاب عليه بنفسه: حتى يطلع بالموسيقى برا السياج. ولم نعرف هل السياج الأب عاصي ام العم منصور ام الذرية الصالحة التي كرجت من خلفهما وكلها تنظم وتلحن وتغني وتخرج وتخدم القداس وتجيء بالمتنبي صاغراً الى دبي ليخدم الشيوخ كما العمال الهنود، حتى لا نذكر المغرب ومن تستورده وهج الثروة من أهله.
كذلك فهو قدم عقل العويط الذي يعبث بجسد اللغة ويضرم الفوضى في ثوابتها المقدسة ، الازعر، الشيطان الشبق..
وكرم انطوان كرباج الذي يحول الخشبة فضاء،
على ان هذا القلم الذي لا يعرف الصمت جاد بحبره ايضاً على بعض الذين مضوا من رجال الدين والسياسة قبل يوسف بك كرم وبعده، وقبل البطريرك الدويهي وبعده وقبل جواد بولس المكاري وبعده بغير ان ينسى كبيرا من العائلة هو الاب يوسف طنوس يمين مؤسس الرهبنة الوردية في الناصرة في فلسطين ، ومحسن يمين الذي يخبىء الوطن في قجه وحين يأتي عيد الاستقلال يكسر القجة ويعلق الصور على جدران من ورق فيصير الوطن كتاباً مقدمته طرابلس.
أيها الاصدقاء،
هو الحب من جعل جورج يمين شاعراً
أما الكاتب الصحافي- الإذاعي فكان اندفاعاً الى ترف اشغال الوقت.
والحب هو تلك المرأة التي خلقت اغانيها المعلنة والمكتومة ونهضت كطفلة ، كسهم جامح/ لتهدي معه الذين لا نعرفهم اسماءنا الاخيرة لكي لا يحتاروا حين ينجبون.
الحب هو شعره الذهبي: القمح الاول، صهيل ابيض المنام،
فكيه، افلتيه خارج الأبجدية ، ودعيه يتدفق في شرايين الهواء..
لماذا انت خائفة وصوتك البرتقالي مثل ساقية في الظل،
كان السرير الذي ضمنا انشطر شبحين والتفاحة التي اقتسمناها صارت خوذتين، وماذا اذا جعلكت صوتي كجريدة عتيقة ورميته في معطف الأرصفة الشتائية.
ولأنه الحب فكل امرأة تشتهيها تدخل جسد زوجتك، وكل رجل تشتاقه زوجتك تلبسه انت سهواً، وتلتقيان ، وتفترقان في فضاءات الاجساد. لا تكن جبانا بقوة الأخلاق، امنحها رجالك والتهم نساءها! الم يقل: كلوا هذا جسدي.
لكنه الزمن.
الزمن الذي ليس من هذه العقارب.
انه العاري الا من رنين الحجارة المتساقطة في صناديق صدره العاري الا من ثياب الأعياد التي اشتهاها ولم ينم معها مرة واحدة.
أيها الأصدقاء،
لم يسعدني حظي بلقاء جورج يمين فانا من قارة أخرى، لكن كتبه جعلته صديقي، وأسكنته بيتي ... مع الوجوه المسحورة بالنار ذات المناديل الزرقاء تأخذ شكل التفاح، وهناك هناك ثمة طفولة تحفظها الأشعار.
وسنحفظ في حبرنا وفي أوراقنا التي جعلناها سكننا ذلك المنفي من عشيرته المطلوب من أعدائه... تلك الكذبة الفاتنة المشلوحة على الطعنة الأبدية.
سلاماً أيها الغريب في قارته العجيبة جورج يمين،
لا تنس ان تقرىء جوزف سماحة الذي ذهب اليك بآخر دواوين الشعر، السلام ممن ضجر من انتظارهم السلام.
كلمة الأستاذ جوزف ابي ضاهر
بيولدو الشعرا تَ يعيشو جوّات حالن، برّات الوقت والمطارح.
وليش بدّنا نرسم ع التراب غياب..؟
جورج يمّين، مرحبا
عم نتطّلع فيك، وانت واقف عم تقلّب ذاكرة الورق، ورقه ورا ورقه، صوره ورا صوره. وجّ ورا وجّ، وكلمه حدّ كلمه، بتنشلا من الغرق بـ بحر الحبر، بتخاف عليها تختنق، وتصير «نقطة بـ الفراغ».
عم تبتسم؟ ... وانت اللي شدّ الوجع ع قلبك، حتى ما عاد فيك تقول: آخ.
سرّك معك، ما بعرف اشرحو.
بعرف إنّك كتبت حالك نص فيه «شعطا بيضا»، متل ما بتقول. وقفت ع شبّاك الشعر، صار الزمن صحو، زهّر الحكي بـ العينين، قبل ما تحملو شفاف المارقين غنيّه، وتدور توزّعو ع البيوت، متل ما بيوزّعو الخبز اللي انعجن بـ خميرة «الدايم دايم».
بين شبّاكك والمدى، كان في نقطه، بس هـ النقطه عم تنزل طلوع، لـ فوق، صعبي اللي ما مسحو جبينن بـ الحلم يعرفو كيف المي بتنزل لـ فوق.
«نقطه بـ الفراغ»؟ وما وقفت بـ مشهد واحد. «سهل الورقه» واسع، وانت عم تتسلّى بـ حروف الأسامي، قبل ما تبعت «رسالة الملعون لإمّو»... وقبل ما الضباب يمحي الوقت ويتغيّر البيت، «شمّرت الشمس فستانها... وشطفت الأحلام».
جوّات «نقطه بـ الفراغ» بيحسّ العم يقرا، بدّو يسرق كل هلّلي انكتب، ويخبّيه بـ جيبتو، متل ما كنّا نسرق اللوز والزبيب ونخبّين بـ جياب مراويلنا. بيسرقن مش تَ يكونو إلو وحدو، بس لأنّو لازم يضيّف اللي بيحبن كلمات طعمتها غريبه، ما داق متلها من قبل، وما قادر يعرف إذا كانت مغمّسه بـ السكّر، أو بـ المرّ.
بتطلّع فيك من جديد، بعدك مطرحك، ملهي بـ ذاكرة الورق، بيوقع «الصبي بـ قصر الساحره» بتلمّو من المرايه، بيهرب من بين صابيعك، ما تاري هـ الصبي ما وقع، ركض من قصر الساحره ع المسرح تَ يقول عن الكل، كل الـ كان بدّن يقولو. ويمكن ما انتهبو يقولو، أو ما عرفو، أو، خافو يقولو.
وع غفله بيتحوّل المسرح روزنامة سفر، من وقت ما الصبيّه خطفها التلج، لحدّ ما زهّر اللوز وكان الربيع ناقص. وجّ الصبي ما طلّ بـ القمريات، نعس السهر. الصبي هرب مع الهوا وبشنطتو الكبيره أحلام، وصور أصحاب، وشعرا، رسّامين وضيع، ووطن، وصبايا كإنن وقعو من سقف كاتدرائيه. وقعو من أيقونه، ويا حظ المؤمن، واللي بيعرف يصلّي.
ع سيرة الصلا، تذكّرت، اتطلّعت فيك من جديد شفتك ماسك بـ ايدك خيط، والهوا ع طرفو طيارة ورق ملّون، وعم تعلّي وتعلّي، وع شوي رح تدّق بـ السما.
ع مهلك، بركه اللي فوق نقزو؟
سمعت ضحكتك، وكأنّي فهمت إنّك قلت: اللي فوق هنّي القسم الأكبر من القصيده اللي كتبتا.
الله، شو حلوه تتلاقى بـ كل قصايدك، تلمح وجوهن، تفتح صدرك لـ عطرن، وايديك لـ قلبن... ويوقاع قلبن ع ايديك. ما ايديك هنّي الدفتر الما بيتسكّر إلا ع الحب والفرح، ولو زهّرت فيه وردة الوجع.
خيط الصلا؟
معقول الصلا تصير خيط؟ مرّا منشدّو صوبنا، ومرّات بيشدنا ع الدهشه الما منقدر نترجما، ومنسمّيا شعر... وشعرك قبل ما يشدّ فينا رحنا معو، لملمنا أساور الشتي عن الأرض. جرّبنا نكتب صوت الجرس، متل ما عملت، وخبّيت علينا كيف قدرت حبستو بـ كتاب، وضحكت وقلت: ما تصدّقو.
ما قدرنا ما نصدّق. بـ عينينا وقلبنا شفنا الشتي عم يفرّخ ع الورق، مرّه لابس تياب ومرّه بلا تياب، والبيوت عم تنشقع. شوف كيف واقفين حدّ بعضن، من دون رفوف، مين زاح الرفوف من مطرحن؟ فتنا ع القصايد، شفنا المكتبه ملاني حروف، وصبي قاعد ع طراف الورق، عم ينزّل الحروف بـ القجّه. ومن دون ما يعرف ينزّل صبيعو معن، عم يصمّدن كلّن ليوم اللي يعطين اسمو، ويقلّن: حملو لهفتي ودورو بـ هالأرض، بشّرو كل النّاس، دقّو ع كل القلوب، والقلب اللي بيفتحلكن زيدوه قصيده.
المجد للشعر.
«خيط الصلا»، خاف الصبي يشركلو الهوا، وتنغرم فيه شي غيمه مارقه، وتاخدو معا، متل ما خبرونا وقت الكّنا زغار.
ـ إذا ضلّيتو برّات البيت دغوش الدني، بتمرق الغجريّه، بتسرقّكن، بتخبيكن بتيابا، ومدري لوين بتاخدكن!
خاف الصبي، لف «خيط الصلا» ع ايدو، صار الخيط كركر خيطان خبّا فيه وجّ البيحبّا، وعملو مخدّه. الليل من دون حلم بيخوّف. وصارو كل الصبيان يعملو خيط الصلا مخدّه، ويخبّو فيه قلوب حبيباتهن ووجوهن... وبعترف قدّام الكل: أنا كنت واحد منن.
الغجريّه فلّت مع الطفوله الما ممكن ترجع. ولو خبّينا كل صورها بـ قلبنا وبـ عقلنا... «وراحو الغجر». رحلتن نهر وكارج صوب البحر الواسع، عم يغنّو ع الطريق، عم يقفزو تلال، عم يوشوشو وديان، عم يطرطشونا بـ النغم، ونحنا راكضين خلفن، منّفض تيابنا، ومنلحقن، نتعلّم غنانين. وكل غجري عم يغني بـ الصوت اللي بيشبهو.
كتار اللي سمعون وقالو: يا ريت عنّا صوت بيشبه صوتن، كان أحلا، وكان بيوّدي لبعيد أكتر.
كيف قدر جورج يمّين يخلّي الكلمه تصير نغم، وكيف خلاّ النغم يصير كلمه؟
سرّ الموهبه، مش سرّ المهنه.
موهبتو كانت ساحاتها أوسع، من ساحات اللي بيمتهنو الكتابه، وبيكتبو، وبتضلّ الموهبه واقفه بعيد، تتفرّج علين، وما بتقرّب.
ع دفاتر الغجري ـ النهر، كانت ضيعتو ساكنه. الضيع الحلوه متل الناس بتسكن بـ المطارح الأزغر منّا، وما بتتضايق، بـ العكس، في مطارح منحسّها زغيري، وهي بـ الحقيقه أوسع من الأرض.
جورج يمّين،
عم برجع بتطلّع فيك منيح، عم بتطلّع ع «ذاكرة الورق»، شايف بصمات صابيعك صارت خطوطن ناس، مرّات مكسورين، ومرّات مشدودين لـ فوق، ومرّات ضهرن متل حنوة الجسر اللي بتمرق عليه الإيام، ومرّات هـ الخطوط غرقانين بـ بعضن البعض، وعم تزهّر الحياة جوّاتن.
نيالك، ونيالن هالناس اللي رسمتن ع الحياة.
نحنا الحياة عنّا صارت لفظه فاضيه من معناها.
صارت شِعَار، واقفين تحتو، عم نحلم يجي يوم نرجع فيه للحياة، العم نراهن عليها هويّه إلنا، ونستحقّا.
جورج يمّين،
انتَ جوّات الحياة ملهي بـ «ذاكرة الورق» ونحنا ورق ما عاد عم ينكتب عليه شي، أو ينرسم. والأبشع؟ إنّو في ناس صدّقو الكذبه البتقول: «النسيان نعمه»، يمكن.
يمكن النسيان نعمه علين. نحنا ذاكرتنا موقفتنا بـ الشمس، وعم تجلدنا تنضلّ واعيين، وما ننصاب بـ النسيان.
جورج يمّين
يا العايش برّات الوقت والمطارح والنسيان:
نيّالــك.
* مؤلفات جورج يمّين:
ـ نقطة في الفراغ، خيط الصلا، راحو الغجر، صبي في قصر الساحرة، ويضلّ القمر.