مناقشة كتاب
" سليم تقلا : من بناء الدولة إلى معارك الاستقلال "
كلمة جميل جبران
في زمن التحولات الكبرى التي شهدت تجسد الفكرة اللبنانية بكيان سياسي مستقل، قدر لهذا الوطن رجالات كبار ، تمكنوا ، بالرغم من الصراعات الدولية ، والتجاذبات الإقليمية ، والانقسامات الداخلية ، من بناء دولة حديثة ذات دستور ، هو الأقدم في هذا الشرق ، مازالت قواعده الأساسية سارية لغاية اليوم ، وربما أهمها انه لم ينص لدين للدولة أو لرئيسها.
ومن بين رجال النخبة المؤسسة ، الذين قادوا هذا الكيان الناشئ نحو الإستقلال ، يبرز سليم تقلا الشخصية الأكثر تأثيراً في مسار نشوء الدولة اللبنانية ، وبناء مؤسساتها، وهو الذي كرّسى كل أيامه ، بعد تخرجه من الجامعة ، لخدمة هذه الدولة الفتية ، وفي مختلف الميادين : في الإدارة والقضاء والنيابة والوزارة.
ومن المحطات البارزة في حياته ، توليه رئاسة بلدية بيروت ، فقام بعملية تطوير القوانين البلدية من ناحية ، وتحديث العاصمة واعمارها من ناحية ثانية. ففي ظل رئاسته تمّ بناء فندق السان جورج ، والتياترو الكبير ، وعدة صالات للسينما ، ومبنى البرلمان وساحة النجمة ....
وبعد اعلان الإستقلال تولى وزارة الخارجية وقام بتنظيمها ، وفرض إجراء مباراة لملء وظائف السلك الديبلوماسي ، وأنشأ العلاقات الديبلوماسية مع الدول الكبرى والمؤثرة حينذاك ، بعد ان استحصل على اعترافها بإستقلال لبنان. وشارك في مؤتمر الإسكندرية ووقّع البروتوكول ، الذي صدر في اعقاب المؤتمر ، والذي تضمن قراراً " يؤكد احترام الدول العربية المشاركة ، ومن بينها سوريا ، لإستقلال لبنان وسيادته بحدوده الحاضرة ". مما فتح الطريق امام قيام الجامعة العربية " فهو كان يجمع بشخصه هذين الوجهين للهوية اللبنانية : نزعة مسيحية لبنانية من جهة ، والتزام عروبي طوعي من جهة أخرى " (جولييت هونفو ص 311)
سليم تقلا لم يصل الى ما وصل اليه : " لا من ملكية ارض ، ولا من موقع داخل طائفة مؤثرة ، ولا من خبرة في الإدارة العثمانية " . فصعوده المذهل ، يعود الى إرادته وطموحه وثقافته المستمدة من النموذج الجمهوري الفرنسي ، وعدته الدستورية والقانونية ، وقيمه في الديموقراطية والحرية.
لم يكن من السهل على الأجيال اللبنانية ، التي وُلدت بعد الإستقلال ، ان تتعرف على هذه الشخصية ، وعلى دورها المميز في مرحلة حاسمة في بناء الوطن اللبناني.
فهو لم يضع كتاباً أو مؤلفاً ، وربما وفاته المبكرة والمفاجئة (1945) لم تتح له الفرصة لوضع مذكراته . فالبحث عنه وعن افعاله ، هو في المحفوظات الإدارية ، وفي الجريدة الرسمية ، وما قيل عنه في الصحف الصادرة وقتذاك ، وفي ذكريات عارفيه . هكذا الرجال العظام يمضون بصمت ، ويتركون لأعمالهم ، وللآخرين ، بأن يتكلموا عنهم.
والكتاب ، موضوع ، ندوتنا هذه الليلة ، جاء في عنوانه " سليم تقلا - من بناء الدولة الى معارك الإستقلال " ، وفي مضمونه العميق والشامل ، ومصادره المتكاملة ، ثمرة جهد كبير لمجموعة من الباحثين والإختصاصيين ، وقام بإعداده فارس ساسين، وأصدرته دار النهار ، لشكل المرجع الأساس للتعرف على سليم تقلا ، وعلى تلك الحقبة التي شهدت نشوء دولة لبنان ضمن الصراعات الدولية المحتدمة .
ولعل في سيرة هذا الرجل الكبير ، الذي : " حياته ومماته " ، كما قال ميشال شيحا ، " تضيئهما خدمة لبنان وهي عليهما تهيمن " ، عبرة لمن يعتبر من متعاطي السياسة والشأن العام في ايامنا المكفهرة .
كلمة السفير فؤاد الترك
أود بادئ ذي بدء ان أوجه تحييتين: الأولى للحركة الثقافية في إنطلياس، من خلال الصديق العزيز الدكتور عصام خليفه، على الدور الحضاري المميّز والفاعل الذي تقوم به الحركة، والأخرى للدكتور فارس ساسين على الجهد الذي بذله لإعداد كتاب "سليم تقلا" من بناء الدولة الى معارك الإستقلال، وللكُتّاب والباحثين الذين ساهموا في تحقيق هذا السِفْر الطالع من "دار النهار" جرّاء إنكبابها على الشؤون الوطنية والثقافية والفكرية والتاريخية وتسليط الأضواء عليها.
أيها السادة،
الكلام عن سليم تقلا كلام عن كبير من عندنا واكب وأسهم إسهاماً بارزاً في الحياة الوطنية وفي صنع الإٍستقلال وترك بصمات دامغة في تاريخ لبنان المعاصر،
هذا الإنسان العصامي الذي جمع، الى الكفاءة العالية، سمو الخلق وعفة الكف والنفس واللسان.وإلى الرصانة والوقار، اللطف والكياسة. والى الحزم والصلابة، المرونة والليونة.
لم ينزلق الى الأحقاد والخصومات الدنيئة، ولم يقع في الإغراءات، بل تسربل، الى الذكاء والألمعية، بعالي المزايا ونبل الشمائل.
ان الإحاطة بهذا الرجل ادارياً وقاضياً ونائباً ووزيراً يتعذر أن يتولاها متكلّم واحد ولذا ستقتصر مداخلتي على سليم تقلا ودوره في تأسيس وزارة الشؤون الخارجية وترسيخ السيادة والإستقلال وإرساء سياسة لبنان الخارجية، التي كان هو أول وزير لها في العهد الإستقلالي، وإن كان سبق أن كُلّف بها في عهد الإنتداب في حكومة الرئيس خالد شهاب عام 1937، كما كُلّف بها خير الدين الأحدب في الحكومة التي شُكلت برئاسته، عام 1938، وحميد فرنجيه في حكومتي عبدالله اليافي عام 1938، وأحمد الداعوق وحبيب أبو شهلا في حكومة عبدالله اليافي الثانية عام 1939، وفيليب بولس في حكومة سامي الصلح عام 1942،
والجدير بالتأكيد أن ذلك التكليف كان شكلياً لأن السياسة الخارجية كانت حصراً على فرنسا الدولة المنتدبة ولم تبدأ في لبنان وزارة خارجية كاملة الأوصاف إلاّ مع سليم تقلا في أول حكومة شُكّلت بعد الإستقلال برئاسة رياض الصلح.
كان على سليم تقلا، مع توليه الفعلي شؤون وزارة الخارجية، أن يواجه مواضيع في منتهى الدقة والأهمية:
الأول: وضع نظام الوزارة وتحديد ملاكاتها وتعيين موظفيها الإداريين والسفراء والدبلوماسيين في الخارج.
وفي هذا السياق، تمّ إنتقاء شخصيات بارزة كسفراء من خارج الملاك فعيّن كميل شمعون في لندن وشارل حلو في الفاتيكان، وأحمد الداعوق في باريس، وجبران تويني في الأرجنتين، وشارل مالك في واشنطن، ويوسف السودا في البرازيل وسواهم.
وأجرى أول مباراة لإدخال أفضل العناصر في السلك الخارجي للدبلوماسيين المحترفين مع حرصه الشديد على إبعاد إختيارهم عن التدخلات السياسية.
الثاني: تأمين إعتراف المجتمع الدولي بلبنان السيّد المستقل وايلاء الإهتمام بالمغتربين اللبنانيين في العالم
وهو ما حصل بحيث انطلق التبادل الدبلوماسي مع دول العالم بدءاً بالدول الكبرى المؤثرة والبلدان التي يكثر فيها الحضور اللبناني ثم امتداداً إلى سواها.
الثالث: تطبيع العلاقات مع فرنسا
كان على لبنان المستقل أن يكون حريصاً على تأمين كل مقومات الإستقلال وإنهاء رواسب الإنتداب الفرنسي الذي كان يتولى السياسة الخارجية فيوقع البراءات القنصلية Exequature ويرعى مصالح اللبنانيين في الخارج ويمنحهم وثائق السفر الفرنسية (عام 1954 صدر القانون الذي أتاح للرعايا اللبنانيين ممن كانوا يحملون وثائق سفر عثمانية أو فرنسية من اختيار الجنسية اللبنانية ومُدّد هذا القانون لغاية عام 1959.)
كانت فرنسا تطمح إلى معاهدة مع لبنان يُبقي لها بعض الإمتيازات ومنها بصورة خاصة إعطاء الأولوية للغة الفرنسية والإعتراف بسفيرها في بيروت كعميد للسلك الدبلوماسي متقدماً على سواه من السفراء. وقد حل هذا الأمر بإعطاء هذه الصفة للسفير البابوي وهو العرف الذي ما زال متبعاً حتى اليوم.
وبدأ عهد جديد بين لبنان وفرنسا مبني على الصداقة والتعاون والإحترام المتبادل.
الرابع: العلاقات مع سوريا
كان بين لبنان وسوريا ما سُمّيَ بالمصالح المشتركة وبخاصة النقد والشؤون الإقتصادية والجمركية وسكّك الحديد والمواصلات وسواها من الملفات، وقد تسلّم لبنان ما يعود إليه من هذه المصالح، وإن كانت العلاقات بين دمشق وبيروت مرّت عام 1947 في عهد رياض الصلح وخالد العضم بمرحلة من الجفاء وبخاصة بعد توقيع الإتفاق النقدي بين لبنان وفرنسا، ثم عادت العلاقة بعد فترة غير طويلة إلى طبيعتها.
الخامس: المؤتمر التحضيري لتأسيس جامعة الدول العربية
لا بد من التأكيد على مبدأ بات اليوم من المسلمات بأن لا دبلوماسية فاعلة وناشطة للبنان الاّ بالتكامل مع سياسة داخلية توافقية وميثاقية تبنى عليها السياسة الخارجية.
واستناداً إلى البيان الوزاري الذي نالت حكومة رياض الصلح الأولى الثقة على أساسه والذي جاء فيه:
"إنّ لبنان مدعو كغيره من بلدان العالم إلى التعاون الدولي تعاوناً يزداد وثوقاً يوماً فيوماً. والعصر يأبى العزلة التامة للدول كبيرها وصغيرها. ولبنان من أحوج الدول إلى هذا النوع من التعاون وموقعه الجغرافي ولغة قومه وثقافته وتاريخه وظروفه الإقتصادية تجعله يضع علاقاته بالدول العربية الشقيقة في طليعة اهتمامه. وستُقبل الحكومة على إقامة هذه العلاقات على أسس متينة تكفل احترام الدول العربية لاستقلال لبنان وسيادته التامة وسلامة حدوده الحاضرة.
"فلبنان وطن ذو وجه عربي يستسيغ الخيّر النافع من حضارة الغرب". إن إخواننا في الأقطار العربية لا يريدون للبنان إلاّ ما يريده أبناؤه الأباة الوطنيون، نحن لا نريده للإستعمار مستقرّاً، وهم لا يريدونه للإستعمار إليهم ممرّاً، فنحن إذن نريده وطناً عزيزاً، مستقلاً، سيّداً حرّاً."
شارك لبنان في المؤتمر التحضيري لجامعة الدول العربية الذي انعقد في الإسكندرية في أيلول 1944 بوفد مؤلف من رياض الصلح رئيساً وسليم تقلا وموسى مبارك. وكانت الصيغة الفيدرالية هي المقترحة ولقيت معارضة من السعودية واليمن ولبنان. ورغم القرار الذي أصدره المؤتمر وأكّد فيه احترامه لاستقلال لبنان وسيادته بحدوده الحاضرة فإن المشكلة بقيت في موضوع التصويت بحيث كان المشروع الأول ينطوي على فقرة تنص على أن قرارات الجامعة تتخذ بالأكثرية وهو ما رفضه لبنان لاعتباره ماساً بالإستقلال والسيادة مما أثار ردات فعل سلبية ومعارضة قوية للشروع الجامعة وبخاصة لدى البطريرك عريضه ورئيس منظمة الكتائب الشيخ بيار الجميّل فضلاً عن يوسف السودا والعديد من القيادات وأهل الرأي الذين أعلنوا معارضتهم القوية لبروتوكول الإسكندرية بالشكل الذي انتهى إليه آخذين على المشروع انه ينتقص من الإستقلال لأنه اشترط إتباع لبنان سياسة تقبلها سائر الدول العربية والاّ برّرت سحب اعترافها به لاحقاً، كما يفسح لها المجال أمام تدخلها بشؤونه الداخلية فضلاً عن أن البعض اعتبر بروتوكول الإسكندرية خطوة باتجاه الوحدة العربية وذوبان الكيان اللبناني. ومضاف الى ذلك ما أشرنا إليه عن اعتماد الأكثرية في اتخاذ القرارات وليس الإجماع أو التزام من يوافق عليها.
ازاء هذه الحملة تولى سليم تقلا إعداد تعديلات وملاحظات لبنان على المشروع تمهيداً لتقديمه في الجلسة المقبلة للمؤتمر بحيث تُؤخذ القرارات أما بالإجماع او تلزم فقط من يوافق عليها وبعد التصديق عليها من المؤسسات الدستورية في الدول الأعضاء.
في كانون الثاني 1945 استقالت حكومة رياض الصلح وخلفتها حكومة عبد الحميد كرامي وعاد سليم تقلا إليها وزيراً للخارجية والعدلية وكان، من الحكومة السابقة، الوزير الوحيد الذي حافظ على منصبه، فجاء ذلك دليلاً على المكانة العالية التي يحتلّها عند جميع الفرقاء وعلى ما يرمز اليه على صعيد الميثاق الوطني.
ومما جاء في البيان الوزاري لكرامي:
"فالوزارة التي سبقتنا، وعلى رأسها دولة الوطني الكبير رياض بك الصلح، حقّقت في هذا الحقل أماني الأمّة بالإستقلال واستحقّت كلّ شكر، وسيكون رائد حكومتنا المحافظة والحرص على هذا التراث الوطني الغالي وتوطيد أركانه، وتشييد بنيانه، ألى جانب توثيق أواصر الولاء والتفاهم ومتانة العلائق مع الدول العربية الشقيقة ألى أبعد مدى في ضوء محادثات الإسكندرية، كلّ ذلك على أساس استقلال لبنان الناجز التام بحدوده الحالية وسيادته الكاملة، وسيضمن لنا التمثيل الخارجي الذي هو مظهر من مظاهر هذا الإستقلال، الإتصال الوثيق باللبنانيين المغتربين الذين نعتبرهم شطراً بارّاً صالحاً من أبناء الوطن ودعامة استقلاله".
الاّ أن المنية عاجلت سليم تقلا بعد عشرة أيام من إعادة تعيينه في 12 كانون الثاني 1945 فخلفه هنري فرعون.
مثل هنري فرعون لبنان في الإجتماعات التي عقدت في القاهرة في آذار 1945 حاملاً معه الورقة اللبنانية المتضمنة تعديلات لبنان على المشروع وهي التعديلات التي كان بدأ تقلا بتحضيرها ثم وضع فرعون صيغتها النهائية بعد الإستشارات القانونية والسياسية التي أجراها وآخذاً بالإعتبار ردّات الفعل على البروتوكول، فوافق المؤتمر على التعديلات وكان ميثاق جامعة الدول العربية الذي ما زال قائماً حتى اليوم.
أيّها السادة،
عندما نستذكر لبنانياً كبيراً كسليم تقلا أحد بناة الإستقلال ومؤسس وزارة الخارجية، يحقّ لنا أن نتساءل:
أين أصبح الإستقلال؟
وهل لبنان بالقول والفعل سيّد حرّ ومستقل؟
وهل بنينا دولة الإستقلال بعدما نلنا استقلال الدولة؟
وهل عندنا اليوم رجالات دولة يعرفون كيف يوصلون وطنهم الى مُبتغاه أم أهل سياسة يعرفون كيف يصلون هم إلى مبتغاهم؟
رجال دولة يعتبرون أنفسهم ملك ألأمة، أم أهل سياسة يعتبرون الأمة ملكاً لهم؟
أهل سياسة يعملون للإنتخابات المقبلة أم رجال دولة يعملون للأجيال المقبلة؟
ونتساءل أيضاً أليس ثمة حل لأزمات لبنان؟ ومتى تنتهي التسويات؟ وأليست التسوية هدنة بين حربين؟
ميثاق 1943 كان تسوية صمدت حتى 1958،
وتسوية 1958 صمدت حتى 1975،
ثم كان الطائف تسوية ثالثة صمودها اليوم على المحك.
المطلوب إذن استنباط الحل بدلاً من التسويات والحل هو:
الترجمة الفعلية للبنان الرسالة والدور. لأن لبنان المساحة والعدد ولبنان الجغرافيا والديمغرافيا فقط لا أهمية له ولا تأثير. الدور والرسالة هما اللذان يجعلان لنا مكانة تحت الشمس، وإني أراهما في بادرتين:
الأولى: في قرار تصدره الأمم المتحدة تعلن بموجبه لبنان مقرّاً نموذجياً لحوار الأديان والثقافات. فطالما يكثر الكلام عن هذا الحوار في أورقة هذه المنظمة وخارجها، يطرح السؤال:
كيف يمكن لهذا الحوار أن ينجح على مستوى الكرة الأرضية أي على مستوى 150 مليون كلم مربع إذا استحال نجاحه في بلد كلبنان على مساحة 10500 كلم مربع.
الثانية: في تحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية والدولية وعن تصفية حسابات الغير على أرضه باستثناء حالتين: ازاء إسرائيل وإزاء الإجماع العربي.
أفما آن للبنان أن يرتاح؟ وهل من العدل أن يتحمّل هذا البلد الصغير وحده وزر أكبر قضية؟
أأنا العاشق الوحيد لتلقى تبعات الهوى على كتفيّ؟
وبعد:
هذا الوزير والنائب الوافد من خارج النادي السياسي، المتنوّر، المنفتح والمحاور البارع،
هذا الإداري الشريف والقاضي القدوة والإنسان الأنوف الناصع الجبين،
هذا الذي عاش على الكفاف ومات على الكفاف،
هذا الذي أحبه مناصروه واحترمه خصومه ومنافسوه،
هذا الذي قيل فيه انه عقل الحزب الدستوري،
هذا الذي ناضل واعتُقل إلى جانب رجالات الاستقلال،
هذا الذي قضى في ريعان العمر والنشاط، وعز نضج العقل والقلب وأوج العطاء،
حرّي بنا أن نكون أوفياء لذكراه لأن بالوفاء للكبار وفاء للبنان.
كلمة الدكتور محمد العريبي
يبدو أن قدر لبنان أن يكون على فوهة بركان يمتد شعاعها من صيغة في المركز، وبنيان الدولة علي خط المحيط، وقد علّق الاستقلال بينهما تتقاذفه حمم الداخل الباطن، ورياح الخارج المحيط. هذا كان الانطباع الأولي عند قراءة عنوان الكتاب على وجه الدّفة الأولى. ورافق طي الدفة الأخيرة أمنية تعرّف اللبناني على تاريخه السياسي من خلال دراسات ترقى إلى مستوى الأبحاث التي تضمنها هذا الكتاب.
ثم أن هذه الدراسات صدرت (عن دار النهار) في خضم من المشاحنات، والانقلابات السياسية، والانقلابات على الانقلابات ، وشرعية أو لا شرعية المؤسسات الدستورية، وهواجس بناء الدولة وطبيعتها، والمخاوف المتنامية حول الإستقلال وحدود الوطن والمحافظات والأقضية، والريبة من مسالك الدعم القضائي والسياسي والمالي والعسكري، ومناطق النفوذ المربعة والمستطيلة، والحيرة في إختيار إستراتيجيات الضعف والقوة الدفاعية، والإختلاف على شكل طاولات الحوار والتشاور، وقوائم المدعوين إليها ومدى تمثيلهم لمحاور الفعل ورد الفعل النووي، وألوان أعلامه وقمصانه، وعُصَب الخير والشر، التي تُمسك بها الديمقراطية العسكرية الساحقة الماحقة، أوالأصولية الواعدة بجنات تجري من تحتها أنهار البترول والغاز.
فهل هذا الإصدار، والحالة هذه، هو محض صدفة، أم أنه رسالة، تدعو الشعب اللبناني إلى التبصر وسلوك الصراط المستقيم، باعتباره الطريق الأقصر، لبلوغ السلامة، بدلاُ من تسكعه في شوارع بيروت وساحاتها؟ ام هو رسالة توجيهية لحديثي نعمة القيادة السياسية، الذين يتخبطون في المنازع الشخصية والكيدية، ويقصرون في فهم أحجامهم الطبيعية في التحولات الجذرية في السياسات الاقليمية والدولية؟ أو هو مشروع خطة لهندسة إدارية وسياسية للبنان الغد، الحاضن لجميع بنيه كمواطنين متساوين في الانتماء والهوية؟ وذلك من خلال تقديم نموذج لسياسي لعب دوراً مهماً في بناء الوطن، في نظر ووجدان كل قاطنيه.
فالذي قدّمه سليم تقلا، مع ثلة من الشخصيات المتنورة المعاصرة له، يعتبر سبقاً إبداعياً، في إدارة شؤون الوطن ، والتخطيط لديمومة قيامته، وتحديد ثوابته، على المستوى البنيوي الداخلي، وعلى مستوى علاقاته الخارجية بمحيطيه: العربي والدولي...
والمعروف بأن الشعوب تعود في أزماتها، إلى ما تراكم في ذاكرتها من سير القياديين المبدعين، لعلهم يجدون عندهم ما تيسر من أفكار، ويستلهمون منهم الحلول الناجعة للمشكلات الحاضرة. وما يؤسف له إن عمر لبنان ككيان سياسي يستدعي الاعتقاد بأننا في بدايات مرحلة صناعة تاريخنا، وإغناء ذاكرته بتراكمات يفترض بها أن تكون ناجحة، قد يستفاد منها في ظروف شطط غير متوقعة في المستقبل البعيد، وإستنفاد الآن الحاضرة، لمخزون الذاكرة، إستهلاك عشوائي للحاضر والمستقبل معاً. إلا أن الواقع الراهن لا يسمح بالمكابرة، ويستدعي إستحضار ما في ذاكرة الوطن، من تجربة التأسيس والبناء، على قربها، لأنه قد يغني الفهم لما نحن فيه، ويساعد على تحصين ما تبقى من لحمة وطنية جامعة، وتشكيل التصورات الملائمة للفرادة التي تميز لبنان عن غيره من بلدان الجوار.
أما الكتاب فهو ثمرة جهود فريق من الباحثين الأكاديميين شاركوا في المؤتمر الذي عقد عن سليم تقلا في إكس - آن - بروفنس الفرنسية في الاسبوع الثالث من شهر حزيران عام 2003، وبرعاية مباشرة من الأستاذ يوسف سليم تقلا. وسبق ونشرت أبحاث هذا المؤتمر باللغة الفرنسية عن الدار نفسها (النهار). والمشاركون في أبحاث هذا المؤتمر، بالإضافة لمُعِد الكتاب باللغة العربية الدكتور فارس ساسين، والدكتورة كارمن أبو جودة ، والأستاذة كارلا إده ، والدكتور منذر جابر، والأستاذة آن - لور دوبون، والدكتورخالد زيادة، والأستاذ انطوان سلامة، والأستاذة شانتال فرداي، والدكتور رغيد الصلح، والباحثة جولييت هونفو. وجميع هؤلاء يتحلون بالصفات البحثية الآكاديمية، الحيادية، البعيدة عن العصبية السياسية، والذاتية، في تقدير الأمور وعرضها وتحليلها، وفي إستخلاص العبر وتوسعة الآفاق وتخفيف الآفات. ودخلت جميع الأبحاث، التي تضمنها الكتاب إلى عمق حياة سليم تقلا في الإدارة والسياسة.
وقد يكون من المفيد تسليط الضوء على بعض ما تعرفنا عليه، من خلال الدراسات التي تضمنها الكتاب، من مواهب سليم تقلا في المجالين: الإداري والسياسي ، التي أفادت الوطن ورسمت معالم وجوده.
وفد سليم تقلا (1895 - 1945) إلى السياسة من بوابة الإدارة وليس من ابواب الزعامة المعهودة في لبنان كالعائلية، والمناطقية، والطائفية، والإستئثار بالوطنية وبالقومية، أوالقوةالاقتصادية- المالية. فالقدرات الشخصية والمؤهلات العلمية ، التي تمتع بها، كانت الرافعة الأساسية، لإنتقاله من القضاء، إلى الإدارة، وصولاً إلى السياسة والديبلوماسية - كما تشير دراسة أنطوان سلامة - وشأنه في ذلك شأن معظم القيادات السياسية التي برزت مع إعلان "دولة لبنان الكبير"، مع إنتهاء الحرب العالمية الأولى، أمثال الشيخ بشارة الخوري (كان قاضياً، ونقيباً للمحامين) وكذلك بترو طراد، وفيليب نجيب بولس، وفؤاد الخوري وغيرهم. وكان له الفضل في تأسيس ورسم سياسة لبنان الخارجية بعد تجربة غنية مع أطراف البلاد (البقاع والشمال) التي طالما نادت بالإنفصال عن الجبل وبيروت. وبصماته في الواقعين: الإداري والسياسي الراهنين ما تزال ماثلة للعيان تبوأ سليم تقلا، منذ مطلع العشرينيات، عدة مناصب إدارية وسياسية، أهمها: متصرفية لواء البقاع ونظارة الداخلية، ومحافظة بيروت، ومحافظة الشمال - تأديبياً - والنيابة في البرلمان اللبناني، ووزارات الداخلية والخارجية والعدلية في حكومات الإستقلال الأولى. وأظهرت نجاحاته في الإدارة والسياسة قدرته المميزة على الاستقطاب والتسوية في مختلف الأوساط، وفي الأزمات، و"السمعة الجيدة كإداري كبير".
وقد كشف الدكتور ساسين عن الخلفية الفكرية التي حكمت سلوك تقلا في الإدارة منذ تسلمه وظيفة "المفتش العدلي" في بلاد العلويين. وذلك من خلال تسليطه الضوء على بعضٍ تصورات تقلا عن الإدارة وصفات الإداري الناجح.
فقد كتب - تقلا - بتاريخ 27 آب 1921 (أثناء وجوده في بلاد العلويين1920 - 1922)". إن صفات الرياسة تولد بالفطرة"، ولكن هذه الصفات وإن كانت فطرية فهي لن تكتمل وتتبلور من دون التدريب، فكتب أيضاً "..على أنني أتدرب على إدارة الموظفين، وذلك لأن عملي يتعلق بمساعدة مدير الدوائر العدلية.". ويقول فيه فارس، في معرض كلامه عن ملامح هذا الرجل النفسية: "كان يسعى إلى إرضائهم (الرؤساء) واكتساب عطفهم، بتعلم السلطة التي سوف يمارسها بنفسه، والتي شجعه عليها تمتعه بطعمها الأولي".
التقارير السرية السياسية، أو مذكرات الخدمة، التي كان يرفعها إلى الجهات المختصة، في الفترة التي تسلم فيها متصرفية لواء البقاع من1923 - 1924، (لحاكم لبنان الكبير، أو للمفوض السامي، أو لقائد الشرطة..) كانت تتخطى مجرد الوصف للوقائع، فكان يضمنها آراء سياسية متماسكة، وتصورات إيديولوجية متكاملة تقربه من الفلسفة، ولا غرو في أن يسميه البعض ب"المفكر الاجتماعي" أو المفكر السياسي". ولا شك في أن وجوده في البقاع قد أفاده كثيراً في فهم البنية السياسية والاجتماعية للبنان الكبير.
وقد شبه البقاع "برقعة الشطرنج للطوائف السورية". وقامت تصوراته السياسية على عمادين: الشعب والسلطة. فالشعب الحق هو "جميع الأشخاص الذين لا يفكرون إلا بالعمل وبالعيش الكريم"، وهم لا يبتغون من السلطة سوى الأمن في أموالهم وأرواحهم. أما مواصفات السلطة - كما يبينها فارس ساسين من خلال تقاريرسليم تقلا السياسية - فهي الحزم والعزم والصلابة، وموضوعها اللازم لوجودها هو العدالة. والدرس السياسي الذي حفظه - تقلا - للمستقبل من وجوده في لواء البقاع هو : "إن أفضل نظام للحكم في بلد ما زال فتياً مثل هذا البلد، حيث تتصادم الأعراق والجنسيات والطوائف وتتشابك، هو نظام العزيمة والسلطة. فلا يصح التردد في فرض الإرادة على الناس خصوصاً إذا كانت هذه الإرادة سليمة وعادلة. فالعدالة هي سمة السلطة الأساسية. و"تأمين العدالة ضروري لكل فرد، بغض النظر عن مرتبته وصفته". ويشدد علىعدم الخضوع لابتزاز الأعيان الذين يريدون البقاء فوق القانون. لأن ذلك من شأنه أن يعلي موقع السلطة في نظر "الرأي العام" وأن يزيد من إحترامه لها.
ويشير الدكتور ساسين إلى مقولتين سياسيتين، متوسطتين بين السلطة والشعب، ركز عليهما سليم تقلا هما: السواد أو الجماهير La foule من جهة، والأعيان والجمعيات من جهة ثانية؛ فمصير السواد، إذا كان مقموعاً من قرون، ومحروماً من سلطة شرعية، أن يحدث ما يسميه تقلا ب"فوضى الجماهير".
والصفة المشتركة بين الأعيان -الذين ينتمون إلى العالم القديم - والجمعيات - التي تنتمي إلى العالم الحديث - هي "الأذى الذي يلحقانه بكل سياسة "سليمة".
يضع الأعيان أنفسهم فوق القوانين، ويستفيدون من تساهل الدولة معهم للتلاعب بالناس لتحقيق مصالحهم. ولا يقل خطر الجمعيات الناشئة عن خطر الأعيان في تخريب المجتمع، ولاسيما في نظام ديمقراطي حديث العهد، "فهذه التجمعات - كما يقول تقلا - لم تكن قط مفيدة، فالبلد بحاجة إلى العمل وليس إلى الخطابات والكلام". وتركيز تقلا على السلطة يرجع بشكل أساسي لشعوره "بحاجة البلد الشديدة إلى أن يُحكم".
ويبدو أن سليم تقلا كان أدرك ضرورة حكومة "سليمة" محايدة [وجدها في فرنسا يومها] لتخفيف الأحقاد المتوارثة بين الطوائف المختلفة من قرون، والتي تفرق بينها. واستئثار أي طائفة بحكم البلد، مهما كانت حريصة عليه، لن يمكنها من دفن أحقادها القديمة، ولن تستطيع حكمه إلا على حساب الجماعات والطوائف الأخرى.
وبعد فترة التدريب الهادئة نسبياً في بلاد العلويين، ثم في لواء البقاع، ونجاحه الوظيفي الإداري، والسياسي، في هذين الموقعين، إنتقل سليم تقلا إلى بيروت ليفجر فيها طاقته الإدارية والسياسية على نطاق واسع، وأستحق لقب "الأستاذ في التدبيرات والنباهة"
حاول الدكتور منذر جابر، في دراسته عن الحقبة التي عاشها سليم تقلا في السرايا (1924 - 1928)، العبور إلى ما بعد مظاهر التوسع العمراني الذي شهدته بيروت في العشرينات من القرن المنصرم. فخاض في الخفايا وما كان يدور في بيروت "من إرتجاجات في الاقتصاد والإدارة والأمن، كانت تضرب إستقرار الإدارات والمؤسسات، رسمية كانت أم أهلية. فنُذر الاقتصاد السيء، وعنوانها الإفلاسات المتكررة، كانت "وجبات الصحافة" على إمتداد طويل من سنوات العشرينات. وكذلك فضائح الإدرة، وعنوانها إختلاسات كانت تحصل في وزارات النافعة والصحة والمالية، وفي مصلحتي سكك الحديد والجمارك". وعلى صعيد الأمن فقد شهدت البلاد فلتاناً مثيراً للدهشة إذ سجلت خلال أربعة أشهر من العام 1926 (من حزيران حتى أيلول)3935 مخالفة وحادثة أمنية. ولم تجدِ المشانق نفعاً في لجم الفلتان الأمني، ولا المكافآت التي كانت تصرف تشجيعاً لمن يسهل أمر القوى الأمنية، ولا العقوبات القاسية لمن يخالف التدابير الأمنية. واستطاع تقلا أن يدير هذه المشكلات جميعاً ويحظى برضى الناس وركونهم إليه.
ونجاح سليم تقلا في نظارة الداخلية في بيروت ثم في منصب "المحافظ" فيها ولو بالوكالة - وهو المنصب الأعز على قلبه - ورئاسة بلديتها،لاحقاً، جعله يمسك بتلابيب السياسة البيروتية، وبالتالي اللبنانية. لأن من يمسك ببيروت يمسك بكل لبنان.
ويسلط الدكتور منذر جابر الضوء على إسهامات سليم تقلا في مسودة مشروع الدستور اللبناني واقتراحاته حول دور السلطة التنفيذية وعلاقتها بالمجالس التمثيلية (حصر السلطة التشريعية بمجلس واحد)، ومدة ولاية رئيس الجمهورية (خمس سنوات، ولا يحق لرئيس الجمهورية الترشيح ثانية إلا بعد خمس سنوات)، والعلاقات اللبنانية والسورية (رهنها باتفاقات بين الحكومتين شرط إبرامها بمجلس النواب وموافقة ثلثي الأعضاء الحاضرين)، وقانون الجنسية، وقانون الموظفين، وقانون المختارين، وقانون الانتخابات وتقسيم الدوائر الانتخابية (اشرف على انتخابات 1925).
وتدين بيروت، بطلتها العمرانية، وأناقتها التنظيمية، ورونقها المدني الحديث، لسليم تقلا، وإليه يعود الفضل في تمايزها وفرادتها. فأنجزت بيروت العاصمة تخطيطها المدني الراقي في أثناء توليه منصب "محافظ المدينة ورئيس بلديتها" (من1928 إلى 1935)، ونفذت، بدعم من الحكومة، مجموعة من المشاريع التجميلية (إطلاق ورش شق طرقات، وحدائق، وملاعب..) والتحديثية لبيروت (قرارات تنظيمية واستصدارمراسيم تضبط الأمن، وتحافظ على البيئة والصحة العامة، وإنشاء "صندوق الاحتياط البلدي" وتحسين الاعلام، وإنشاء الاطفائية لمكافحة الحرائق.. والتوصل إلى نشر القوانين وتنفيذها في مجالات الصحة، والنظافة،والأخلاق العامة، والسير، وتحسين أداء الشركات صاحبة الامتياز، ومنعها من "إستغلال البلد" في المشاريع الخدماتية (الماء والكهرباء والتراموي ).
وتنقل كارلا إدّه ما أوردته Revue Du Liban 930 la عن علو همته إذ في عهده "إزدادت مدينة بيروت جمالاً واتساعاً ونقاءً بفضل ما بذل محافظها الشاب من جهد في دفعها إلى الأمام. هذا المحافظ الشاب هو سليم بك.. منظم من الطراز الأول، ذكي، صلب، لبناني غيور. فالسيد تقلا مصمم على جعل بيروت عاصمة جديرة بهذا الاسم ومدينة متوسطية كبيرة".
ونقل الدكتور خالد زيادة عن جريدة البيرق قولها بمناسبة انتقال تقلا إلى طرابلس في 15 - 12 - 1935: "إن سليم تقلا الذي يتولى محافظة بيروت منذ 1928 وقف عليها كل ما في صدره من صحة ونشاط وتجرد وعلم ونزاهة وإخلاص، حتى أصبحت في طليعة إدارات الدولة إنتظاماً ودقة. إن السواد من أبناء هذه العاصمة ياسفون جداً لمغادرة سليم تقلا منصبه، فهو الذي جدد شباب هذه المدينة وجعلها في طليعة العواصم نظافة وترتيباً وعمراناً. فقد ضبط موازنة البلدية وأصلح شوائبها ونظم الجباية وضاعف مواردها. وأنشأ شبكةالطرقات المزفتة. وفي عهده الطويل تم كل ما في بيروت من مشاريع ومنتزهات وشوارع وساحات وحدائق وتشجير وبنايات جميلة شاهقة".
هذا العرض البانورامي المختصر لواقع العاصمة والبلاد يبين الصعوبات التي واجهت سليم تقلا في منصبه الجديد بعد نجاحاته في إدارة الأطراف.فهو أول لبناني في الإدارة اللبنانية. و"كانت نظارة الداخلية ومنصب المحافظ ورئيس البلدية في بيروت تحتل لدى الأطراف اللبنانية بمختلف تلويناتها، ولدى طرف الانتداب، حجر الزاوية لتحديد وظائف الفشل أو النجاح. فمن ينجح في بيروت سياسة واجتماعاً وادارة وثقافةً واقتصاداً يعني أنه الفائز في كل لبنان".
ونقل سليم تقلا تأديبياً (السبب الظاهر: قضية الملعب البلدي، والباطن: الصراعات السياسية المحلية) إلى طرابلس وعيّن محافظاً لشمال لبنان (1935 - 1937) وكانت الفوضى قد عمت في طرابلس إثر زيارة الرئيس إميل إدّه للشمال الذي كان يرى فيه - إدّه - كل مساوئ السياسة الانتدابية، ومثال التسلط الماروني على المسلمين. وعلى الرغم من الاضراب العام (36 يوماً) في المدينة عقب هذه الزيارة إستطاع المحافظ الشاب، بما حصّل من خبرة وحنكة، أن يتجاوز القطوع ويبني علاقات حسنة وصداقات متينة مع الطرابلسيين، وبشكل خاص مع الزعيم عبد الحميد كرامي (الذي سوف يشاركه زنزانة السجن في راشيا). خرج سليم تقلا من الأزمة مع تمسكه بلبنان "بكامل أراضيه" دون القطيعة مع المعارضة العروبية النزعة.
ويبدو أن نجاحه في الخروج من أزمة 1936 مهد له الطريق إلى رحاب الندوة البرلمانية في انتخابات آخر صيف 1937 (تشرين الأول) بعد فرضه من الدستوريين على اللائحة الإئتلافية مع الكتلة الوطنية.
شكّل العام 1937 منعطفاً في حضور سليم تقلا في الحياة العامة، إذ انتقل، وهو في ذروة نجاحه في الإدارة إلى العمل السياسي من خلال وجوده في ندوة البرلمان. وفي العام نفسه تم تعيينه وزيراً في حكومة خير الدين الأحدب، ثم وزيراً للأشغال العامة في الحكومة الثانية. ونظراً لفهمه وحنكته في التعاطي مع اللعبة السياسية تمكن من إقامة الموازنة بين التيارين: اللبناني والعروبي وذلك في تقريبه بين بشارة الخوري ورياض الصلح.
"لقد استفاد سليم تقلا، السياسي الطارئ - كما تقول جولييت هونفو في دراستها
- من خارج النادي التقليدي، من هامش مناورة ضروري كي يبرز بصفة محاور يحترمه كل من فرنسا والوحدويين السوريين [من الغالبية السنيّة] والمسيحيين". وكان مثال السياسي الهادئ القدير، وعرف كيف يكون سيداً في اللعب على المتناقضات والنوازع في كواليس السياسة اللبنانية".
وساهم سليم تقلا في تأسيس وزارة الخارجية اللبنانية ورسم مداها لجهة رمزيتها، أي استقلال لبنان وسيادته، ولآن السياسة الخارجية في لبنان، وأكثر من غيره من البلدان، هي امتداد لرهانات السياسة الداخلية.
واللافت، في سيرة سليم تقلا السياسية، أن هناك كماً من الشعارات والمصطلحات السياسية المتداولة على الساحة اللبنانية، اليوم، ترجع في أصولها إليه ووردت في خطبه ورسائله القليلة، منها:
"إن إخواننا في البلاد العربية لا يريدون للبنان إلا ما يريده أبناؤه الوطنيون: نحن لا نريده للإستعمار مقراً، وهم لا يريدونه للإستعمار إليهم ممراً، فنحن وهم إذن نريده وطناً عزيزاً مستقلاً سيداً حرأً".
وتجلت ثوابت سليم تقلا السياسية، من خلال الدراسات التي تضمنها الكتاب، بالتزامه منذ 1920 بفكرة لبنان الكبير (اعلن غورو قيام دولة لبنان الكبير في الأول من شهر أيلول 1920 إثر معركة ميسلون في 24 تموز من نفس العام)، وهو العام الذي نال فيه، سليم، شهادة الحقوق من مدرسة الحقوق الفرنسية في بيروت. ففي صيف العام نفسه حصلت مساجلة عبر الصحف بين رشيد طباره وسليم تقلا، كشف فيها سليم عن تطلعاته السياسية، في صحيفة الحقيقة، والتي تتلخص بالتالي:
1) الاستقلال السياسي للبنان الكبير.
2) التعاون مع فرنسا.
3) التفاهم الاقتصادي مع سائر البلدان السورية.
وقد وجد طبارة في كلام تقلا دعوة إنفصالية عن سوريا، أو إقامة نظام فيدرالي.
وفكرة الاستقلال، كما يرى تقلا، ما كانت لتبصر النور لولا مساعدة فرنسا التي وجدت فيها خدمة لمصالحها في المنطقة، وذلك في فصل لبنان عن سائر المناطق السورية، والتي تلقى تجاوباً من شريحة كبيرة من اللبنانيين. لقد وازن بين وطنيته السورية، وقناعته بضرورة قيامة لبنان المستقل، ومحبته الخاصة لفرنسا.
وشارك سليم تقلا في صناعة "الإستقلال" وصياغة بنود صيغة"الميثاق الوطني"، (يبدو أن لا إستقلال بدون صيغة ميثاق) إلا أنه بقي في ظل الصاحبين الكبيرين بشارة الخوري ورياض الصلح، لا لشيء سوى أنهما يقودان الطائفتين الكبيرتين في لبنان. وتبقى العبرة في المرحلة التي عاشها، وهي على الرغم من تعقيداتها السياسية، محلياً وعربياً ودولياً، كانت مناسبة لازمة لصعود نخبة من المتنورين الصادقين في إدارة البلاد والعباد لتحصيل مستلزمات عيشهم، واستقرارهم، وثقافتهم، وكرامتهم، وترسيخ إنتمائهم الوطني الجامع.
وبنى سليم تقلا مشاركته في معارك الاستقلال، وبنود الميثاق على رؤية مشتركة وهي الموازنة بين الاستقلال ومشاطرة العالم العربي وحدة المصير. وأدت هذه الرؤية إلى دخول لبنان إلى جامعة الدول العربية الناشئة، بعد مشاركة فاعلة، من سليم تقلا، في صياغة برتوكول الاسكندرية (بين 27 ايلول و7 تشرين الأول) وتأسيسها.
وعبر رغيد الصلح عن فكرة تقلا الداعية إلى إحياء لبنان ذي الوجه العربي من جهة، وإعطاء وجه لبناني للعروبة من جهة أخرى......
ويعتبر سليم تقلا من المؤسسين لوزارة الخارجية اللبنانية ورسم مداها لجهة رمزيتها، أي استقلال لبنان وسيادته، ولآن السياسة الخارجية في لبنان، وأكثر من غيره من البلدان، هي امتداد لرهانات السياسة الداخلية.
وبرزت عبقرية سليم تقلا، كوزير مؤسس لوزارة الخارجية، في أمرين واجهتهما حكومة الاستقلال: الأول رسم العلاقة بين لبنان المستقل ومحيطيه: العربي والدولي، والثاني تركيز الصيغة اللبنانية الفريدة . ولعلنا ندرك الآن مغزى تهميش وزارة الخارجية ووزرائها منذ 75 وإلى ما بعد الطائف وحتى يومنا هذا...
شارك سليم تقلا في صياغة البيان الوزاري الذي القاه رياض الصلح وجاء فيه:
- "لبنان وطن ذو وجه عربي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب".
- و "لبنان من أحوج الدول إلى التعاون الدولي من أجل تأمين استقلاله وسيادته وسلامة حدوده الحاضرة"
و "على لبنان أن "يضع في طليعة إهتمامه العلاقة بالدول العربية الشقيقة".
وبقي تقلا أميناً على تمثيل لبنان والدفاع عن هذه المبادئ حتى وفاته(إثر نوبة قلبية في 11 كانون الثاني سنة1945).
وكان لحرية رأي سليم تقلا وحياديته الدور الكبير في تكرار توزيره في الوزارات التي أعقبت الاستقلال. وتبلورت هذه الحيادية في مساهماته في ترتيب بنود صيغة "الميثاق الوطني" الذي رعاه بشارة الخوري ورياض الصلح، كممثلين تاريخيين للبنان في هويتيه المسيحية والإسلامية. وكان الهدف من الميثاق ترجمة التوازن اللبناني الداخلي على الصعيد الخارجي في ذلك الزمان.
وهكذا يكون سليم تقلا قد عمل، من المواقع الإدارية والسياسية التي شغلها، على ترسيخ استقامته المبدئية في زحمة التجاذبات السياسية، وحرص على استخدام بوصلته الأخلاقية بدقة، وكان مقتنعاً بأن لا قيامة للبنان دون بناء الدولة العادلة وغير المنحازة، الجامعة لمختلف الطوائف تحت سلطة حكومة قوية، وإدارة فاعلة. لأن الدولة العادلة والإدارة الفاعلة عنصران مؤسسان للوعي الوطني الصحيح.
وعرف كيف يكون لبنانياً دون أن يكره سوريا والعرب.
وعرف كيف يكون استقلالياً ومدافعاً عن استقلال بلاده وكل البلاد العربية.
وعرف كيف يكون جمهورياً برلمانياً وصديقاً للمالك والامارات المحيطة.
والرجوع إلى ما تكشفه الدراسات التي يقدمها كتاب "سليم تقلا من بناء الدولة إلى معارك الاستقلال" يفيد في تصويب المفاهيم التي يرتكز عليها الفعل السياسي النافع للبلاد الرازحة تحت كم هائل من الشحن السلبي، واندفاع وتيرة الصراعات الاقليمية والدولية، الحاصلة بين الأنظمة التقليدية والجديدة، وإعادة رسم خريطة إدارية وسياسية للعالم الشرق - أوسطي. إذ ربما إختلفت القوى المتصارعة الداخلية والمحيطة لكن الثوابت الحية جديرة باجتراح قيامة الوطن ونقل الصيغة إلى خارج البركان، إلى خط البناء وتأصيل الإنتماء.