كلمة المحامي هيكل درغام
في تكريم العلم الثقافي
الدكتور هيام ملاط
أيها الأصدقاء،
نرحب بكم في الحركة الثقافية – انطلياس في يوم الدكتور هيام جورج ملاّط العلم الثقافي في المهرجان اللبناني للكتاب السنة التاسعة والثلاثين – دورة مئوية دولة لبنان الكبير.
نجتمع الليلة لتكريم العلم المثقف مسلكاً وممارسة د. هيام ملاط، متألق في ذاته ثقافة وعلماً وقيماً. محامٍ مخلص للنص وللقضايا المؤتمن على صيانتها والوصول بها الى مربع العدالة غير المشوبة بالأهواء والتزلّف. جدير بالاحترام ابن الدوحة الملاطية متفوقٌ مبدع، له صلابة الوقفة وكرامة الموقف هو شريان التواصل الخلاق بين الابوة والاخوة والاحفاد. وحسبي منها ما بين المودة واواصر الثقافة إنها مدرسة الشهامة والشجاعة والمناقب. أمن بأن الالتزام قاعدة في العمل والمحبة وحسن التعامل منهجاً له والصبر وطول الأناة طريقه الى النجاح
يشرفني ان أشارك في إدارة هذا الاحتفال التكريمي الذي ارتضيناه في الحركة الثقافية – انطلياس للإضافة إلى مناهل العظمة في بلدنا لبنان حفاظاً لذكراة الوطن الرسالة وذخائر تاريخيه ولتراكم مخزون ذاكرتنا الثقافية في الحركة.
علم مثقف، من الصعب وضعه داخل إطار واحد حتى ولو اشتغلناه بالذهب.
في هذه المئوية الأولى لدولة لبنان الكبير، وفي هذا الاحتفال بالذات إسمح لنا ان نردد ما قلته في رثاء جدك الشاعر شبلي ملاط: "نشعر بأن رسوخ جذور لبنان وقدرته على تجاوز المحن والمصاعب تكمن في ثراء ذلك التراث الذي هو عماد مشروع ثقافي نطمح اليه ومخزون ذاكرة جماعية ملتزمة بعظمه الفكر وقيم الحياة"
انكم، وبالحق نشهد، قيمةٌ مضافة متجلية بالحب والعنفوان والثقافة لذاكرتنا الثقافية الوطنية.
الدكتور هيام محام واستاذ جامعي مارس العمل الإداري بكفاءة عالية. مثل لبنان في الكثير من المؤتمرات المحلية والدولية كتب في مختلف الصحف والمجلات متعدد اللغات. صاحب احدى اكبر المكتبات في لبنان ورثها عن جده الشاعر شبلي الملاط. له اكثر من عشر مؤلفات باللغة العربية وثلاثة عشر كتاباً باللغة الفرنسية متنوعة الاختصاص حول التنمية، وتنظيم البيئة، والمجال الجغرافي وحول الضمان الاجتماعي، وعن شخصيات بارزة.
4 مؤلفات باللغة الإنكليزية حول قانون المياه في لبنان، والضمان، والسياحة والتأمين.
غزير العطاء واسع الثقافة، فرض احترامه في العالم الفرنكفوني، ما أدى إلى منحه جائزتين من الاكاديمية الفرنسية.
أستاذ جامعي مارس رسالة التعليم العالي في مؤسسات عدة.
محام ركن صاحب مكتب محاماة.
السيرة الذاتية منشورة في الملف المعدّ خصيصاً لهذه المناسبة.
ابن بيت يطبّق قول جده "ان الجدود تعيش بالاحفاد".
ما احزن هذه البلاد وهي تنظر الى نفسها بعد مئة عام على ولادة دولة لبنان الكبير تعيش بؤسها الكثيف الشديد المرعب.
ما أنصع القول إننا ما زلنا نلحُ على التفاؤل بالمستقبل. فلا اليأس خفف حماستنا ولا مناظر الانهيار الحال بمؤسساتنا اثنانا عن هذا الطموح – الامل.
جميلة المواعيد الثقافية الوطنية هي زينة نقاط الجذب في هذا الوطن هي ملتقى الاضداد بدونها عودة الى اللاشيء.
كثير منا يتفاءل بالثقافة المغيّرة التي عليها نبني آمالنا بالغد المشرق. اللقاء الثقافي المهرجان اللبناني للكتاب رمز يسطع ويلمع ويبث الفكر في التلاقي والثقاقف. حدث يأتي بعد انتظار عام، الى حياة الناس المفعمة بالقلق والتمنيات. هذه الرمزية لم تعد وهماً بل واقع مرير ومنير.
نحن والعلم المكرم نعقد العزم ونحشد الطاقات ونوحد الجهود في عمل ثقافي جبهوي ملتزم بقضايا الانسان والوطن والحرية والابداع. نسعى لتحرير الانسان ورفض استغلاله ونشدد على اعتباره غاية بذاته واعتبار حقوقه الطبيعية الأساسية التي حددتها شرعة حقوق الانسان وملحقاتها هي الحد الأدنى الذي لا يجوز المساومة عليه. كما نسعى لاقامة نظام ديمقراطي يؤسس لبناء الدولة اللبنانية المدنية القائمة على الحرية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين، ورفض النظام الطائفي في كل المجالات وإبراز البعد الثقافي لجميع القضايا الوطنية والإنسانية واعتبار الثقافة الواسعة والعميقة الوسيلة الأساسية للتغيير.
علم ثقافي مميز كرمته الحركة الثقافي في الدورة السابقة يشرفنا ويسعدنا ان يشارك الليلة في هذا التكريم وان يتحدث عن صديقه ومثله في الثقافة والمحبة، انه صوت مدو في ساحات العدالة والثقافة في الوطن وفوق منابر الكلمة الرئيس غالب غانم
____________________________________________
المحامي الدكتور هيام جورج ملّاط
قامَةُ ثقافيّةٌ ذات أفياء
غالب غانم
في ملتقىً ينعقدُ لتكريم قامةٍ ثقافيّة ذاتِ أفياء، جَلّتْ في علم الاجتماع والتاريخ والفكر السياسي، وفي الأبحاث المسوّرةِ بالموضوعيّة والرصانة، المعزّزةِ بالوثائق واللوحات الإحصائيّة، المتّكئة على أمّهاتِ المراجع وبطونِها ومتونِها، الضّاربة في ميادينَ عصيّةِ الاقتحام... في مثلِ هذا الملتقى، هل عليّ جُناح إذا انسقتُ مع جَمَحاتِ القلم، فانعطفتُ إلى حيثُ نبراتُ الأدب وأطيابُ اللغة ودفقاتِ الوجدان... لا جُناحَ عليّ، أقول... فبعضُ ما حملَهُ إليّ المكرّم من مؤلّفاته نقلني الى زمن جدّه الكبير، شاعراً في الطّلائع، مُجلَّلاً بأمجاد الضاد، وشاهداً على مَخاضِ عصرٍ أدبيّ وَلود... ثمّ إنّه ليسَ من قدرتك ومن شِيَمِكَ، إذا تسنّى لك الاحتفاء بأيٍّ فرعٍ من فروع هذه الأيكة، وهذه الأجمة، أن تغضّ الطرف عن الجذور، وعن الآساد، مهما بلغ شأوُ الأبناء والأحفاد.
هذا، وصدرُ الحركة الثقافية في انطلياس، ومِنبرها، يتّسعان لما لا تتّسع له صدورٌ ومنابر. سنظَلُّ معها على مواعيد الرّيادة وشجاعةِ المواقف، وعلى موائدِ الفكر والعلم والأدب... وسنظلُّ ندلُّ عليها كما يدلُّ المنتظرون على القمرِ المُنير.
***
_________
في تكريم المحامي الدكتور هيام جورج ملّاط، الحركة الثقافية- انطلياس، السبت 7/3/2020.
رجوتُكَ خَلِّ الورقةَ على حالها، وعلى اختيالِها مع رفيقاتها، قال... حينَ هممتُ بطيّها في مؤلَّفٍ من ثمار قلمه، لتُذكِّرني، عند الضرورةِ، بخاطرةٍ لافتة من خواطره. كان الكتابُ من إهدائه، فلم تَعدْ له يدٌ قانونيّةٌ عليه. ولكنّه ما برحَ في دائرةِ عنايتِهِ، روحاً وجسداً... مضامينَ وأضاميم تَنشَّأَ على مغازلتها، وعلى شميمِ حبرها... أليسَ أنّه تدرّب على هذين الرِّفقِ واللَّيان في منازلِ العبقريين، وتمرّسَ بهما في صيانةِ الإرث الوطني، ودفعه الشّغف الى جمع الطريفِ والنّادر من كلّ منشورٍ ومخطوطٍ ومغمور، وإلى التفرّد في اقتناء مجموعاتٍ من إصدارات آبائنا الأوّلين، صحفاً ومجلّات، فباتَ بعضُ منزله جَناحاً من "دار كُتب"، وبات، هو، إلى تشعّب مواقِعِهِ ومواهبه، ورّاقاً عصريّاً؟ لم تعُدْ له على الكتاب يدٌ قانونيّة، ولكنّ يدَهُ الحضاريّة ظلّت تتفقّدُهُ وتكلؤُهُ... المتحدّرُ من أروماتٍ بَنَت أمجادها بالكلمة: أنهارَ شعر، روافدَ علم، مغاني بلاغة، فرائدَ عدالة، وأيديَ مبدعةً في غيرِ فنِّ ومطلب، من حقّهِ أن يقدّم أماثيل في حصانةِ الأوراق، وشمَمِ الأقلام.
***
سمّيتها أماثيلَ وما هي بالأماثيل. إنّها سجايا تُلازم العلماء وتنشرُ ظلالها وأنسامَها ورذاذها بلا ابتهارٍ ولا خيلاء. سليلُ الدّوحةِ المُعرّقة، وأحدُ المؤتَمنين على قطوفها وكنوزها وما سطّرتْه في حبّ الوطن والاستبسال في سبيل عزّته... كان يكفيه التلفّتُ الى قامةِ جدّيَةِ الشّبلين، وقُلِ الأسدين... بل إلى اجدادهِ من الصّوبين، وإلى مآتي والده والعَمَّين، وإلى سائر الفروع والأغصان، بل إلى إضمامةِ الكتب التي حملتْ توقيعه، في غيرِ لسان... كان يكفيه ذلك حتى يتيهَ دَلّاً على الصّحب لو شاء. ولكنّي أشهدُ أنّني قلَّ ما طالعني امرؤٌ، بل قلَّ ما طالعني لبنانيٌّ، على غِرارِهِ، اختزنَ كلّ هذه العلوم وأقرّ بأنّ نهاية علمِهِ هي بدايةُ جهلِهِ، وتنشَّقَ الترفّعَ في المهد وظلَّ يتوجّه الى النّاس بكلّ هذا التواضع، وتربّى في حمى الأدواح وغلّب على طبائعه انحناءةَ البنفسج.
***
كان الروّادُ اللبنانيون، في الأدب والشعر وسائر مضاربِ الجمال، يهلّونَ قصيدتهم وصنيعتهم النثريّةَ هلّاً ويصدّرونها رُغفاناً تُثير الشهيّةَ في ولائم النّهضةِ العربيّة. وحينَ وقعوا في هوى لبنان، لم يكتفوا بالترويج لمحاسنَ سكبتْها اليدُ الربّانية عليه، بل ألقَوا على اللغة أوشحةً ومناديلَ من نسجِ مغازلهم وأناملهم، فتنافستِ الطبيعةُ واللغةُ في اجتذابِ عشّاقِ هذه الأرض. كان جدُّك شبلي واحداً من هؤلاء. عبّرَ في بعض أبياته عن هدايا الحسنِ تلك، وعن هدايا الحريّة والترقّي، يرسلها وطنه إلى "الملأ الشقيق" سبّاقاً كما هم فرسانُهُ وأفراسُهُ... كما هو تاريخهُ وقدرُهُ... كما هي عقولُ بنيه وريشاتُهم... قال:
يُلقّنُنا هوى لبنانَ آياً طبعناها على القلبِ الخَفوقِ
ترعرعنا على عهدٍ وثيقٍ وقد شِبنا على العهدِ الوثيقِ
مَرَحنا في فضاءٍ مستقلٍّ غداة الجارُ يرسفُ في مضيقِ
نهضنا نهضةَ للعلمِ غُرّاً حملناها الى الملأ الشقيقِ
وجُلنا في ميادينِ الترقّي على فَرَسٍ بفارسِهِ سَبوقِ
بثثنا النّورَ في أدبٍ وفنٍّ على شِقّينِ من قلمٍ صدوقِ.
***
لم أكنْ لأحشدَ هذه الأبيات إلّا لأُثبتَ أنّ هوى لبنان تناهى اليك كابراً عن كابر، وطفرَ في سهولِ أوراقكِ كما يطفُرُ مرجٌ من مرج... كما يتجدّدُ موسمٌ من موسم... وجيلٌ من جيل.
في مقدّمة كتابك الموسوم "لبنان-نشأةُ الحريّة والديمقراطيّة في الشرقِ الأدنى"، صدى رنانٌ لأبيات جدّك الكبير هاتيك. فها إنّي إخالُكَ تنثرُ، ببصيرةِ المؤرّخ وعالم الاجتماع ، ما صاغه السّلفُ شعراً، فتقول:
"قد يظهر تاريخ لبنان محدود الشأن قياساً الى أحداثٍ طبعت القرون الخمسة الاخيرة. غير أنّ تاريخ الرجال والنساء فيه، على امتداد تلك القرون الخمسة، يشهد على مواقف واكتسابات سياسية وتربوية وثقافية واجتماعية واقتصادية فريدة، تتيح بتكدّسها وتآلفها فترتئذٍ، أن يخرج المفكّر السياسي والباحث والمحلّل اليوم، باستخلاص صورة واقعيّة لمجتمعٍ متعدّد الطوائف تطوّر في الجبل اللبناني وشعّ أثره في المدى المجاور، فضيلتُهُ الأولى تجنُّب الإمّحاق، والشهادة على بزوغ فجر الحريّة والديمقراطية في الشرق الأدنى."
وتروح تبسُطُ ما أَجْملتَهُ في المقدّمة، مدفوعاً بهمَّ يتصدّر سائر الهموم، هو: نزعُ أَغلفةِ الأحداث الطافية، وصغائرِ السياسة، وعتوِّ الغزوات، والشِّقاقِ العارض، والشهواتِ الإقطاعية والفرديّة عن تاريخ لبنان، لتستبينَ الأسبابُ الأصليّة التي جعلته ينمو وينهضُ ويتخطّر في هذا المشرق تخطُّرَ مَنْ توثّقت خطواتهم، ويرشُّ في ترابه قمحاً جديداً وفكراً خضيباً... وفي رأس هذه الأسباب الحريّة التي تلقَّنَ دروسها من بحر الانسياح والنظرِ إلى الأبعد، ومن جبل المهابة والنظرِ الى الأعلى، الذي قال عنه الجغرافي Etienne de Vaumas:
Aucun autre relief ne peut lui être comparé. Il est vraiment le Mont Blanc du Proche Orient (من الكتاب ذاته ص 61).
وعندما تمكّنتِ الحريّة من ابتناء دارتها في لبنان، بل في أفئدةِ أبنائه، خصّتِ الديمقراطية بإحدى الأرائك، وحفظتْ أريكة أخرى للملكيّة الفردية التي لا يزال دستورنا يحيطها بهالةٍ من التقديس، والتي أتاحت للفلّاح اللبناني الذي "يمشي مع الحظّ الى لُقمةٍ/جائعةٍ من لحمهِ تأكُلُ"، كما جاء في قصيدة للوالد عبدالله غانم... أتاحت له أن يفخر بأنّه لا يأكل إلّا من مخابز الكرامة، ولا يتنشّق إلّا النّسماتِ الطّلقةَ الطوافةَ بين الأريافِ والضّفاف، وبين الشواهِقِ والمنبسطات. والحريّةُ ذاتُها، كما يُستقرأ من الكتاب، جعلت أرضنا ملجأ، وملتقىً ومشتكىً، وجامعةً، ومصرفاً، وصحيفةً، ومطبعةً، ومُتنفّساً لنصفنا الآخر... لأميرات الجمال وأميراتِ السّلام، وأرضاً خصيبة لبَدَوات استقلال القضاء... وجعلتْها كذلك تُطلق أوّلَ ثورةٍ طالبيّة في العالم العربي انطلقت من الكليّة السورية في بيروت عام 1882 (اي الجامعة الأمريكية منذ 1920) حين ألقى أحد أساتذتها، القسيس أدوين لويس، محاضرة سلّط فيها الضوء على علماءَ جعلوا التاريخ ينعطف ويفكّك سلاسل الفكر، ومنهم داروين الذي امتدح المحاضرُ منهجيّته في التحليل... فقامت القيامات بوجهه، وتفتّحت آذان الطلّاب على حريّة الرأي والمعتقد، فناصره الكثيرون منهم، وقاطعوا الدروس وتنحّى بعضُ معارضيه من الاداريين والاساتذة. ثورةٌ من ثورات القرن التاسعَ عشر... طلّابٌ في بيروت... وفلّاحون في كسروان... وأفواجٌ من الأحرار تتلوَ أفواجاً، تُصغي لنداء البحر وأبعادِهِ، ونداء الجبل وأعاليه... ومن تلاقُح الأعلى والأبعد وُلدَ العمق التاريخي –الذي تشير اليه- للشخصيّة اللبنانية... لا بل وُلدَ فتى الحريّة والديمقراطيّة لبنان... الذاهبُ الى الجلجلةِ كفّارةً عن سياساتِهِ المترنّحة، لا بل عن تعاسَةِ شعبِهِ وَيئَاسَةِ شبابه.
***
وما لم تَصُغهُ بيدك عن لبنان، رحتَ تتقصّاه في محفوظات الأكاديميّة الفرنسيّة، فرصدتَ في كتابك الذي نال جائزة هذه الأكاديمية عام 2002، L’Académie Francaise et le Libanنصوصاً لسبعةٍ وأربعين عضواً من أعضائها، منذ مونتسكيو في أواسط القرن الثامن عشر، حتى Hélène carrère d’Encausseفي أيّامنا... شهدت للبنان الجمال والحريّة والفكر فوق ما شهدَ بَنُوه.
فلنتأمّل كيف نظروا إلى لبنان... لامرتين (Lamartine) "يرفعُ عينيه ليبصرَ قِمَمَ الثلج في صنّين تشقّ كبد السّماء كصفائحَ من نور. ورينان(Renan) يُشيد بصُور "مدينة أولى نافحت عن الحريّة في وجه الملكيّات المستبدّة التي هدّدت بإخماد جذوة الحياة على البحر المتوسّط". وملكيور دي فوغيه (Melkior De Vogüé) يشهد للبنان "الأكثر تقدّماً على دروب الحريّة من أيّ بلدٍ آخر خاضع للباب العالي". وجورج دوهاميل (Georges Duhamel) يرى فيه "وطناً صغيراً إذا قيس بعدد السكّان، ولكنّه على الصعيد الثقافي والفكري يتربّع في الصفّ الأوّل بين الأوطان الشرقيّة." والجنرال ويغان (Wegand) يدعو اللبناني الى أن " يحبّ أشجاره كما يحبّ إرثاً عائليّاً ثميناً". وفرنسوا مورياك (Francois Moriac) يتبصّر "أرز لبنان مادّاً ظلاله السحرية أبعدَ بكثير من حدوده الضيّقة."
والفيلسوف جان غيتون Jean Guittonيقول عن وطننا أيضاً:
Y a-t-il lieu, sur la terre, me disais-je, où il y a plus de bonheur à vivre ?
"هل ثمّةَ مكانٌ على الأرض، كنتُ أقول، يوفّر سعادة الحياة فوق ما توفّرها الأرضُ اللبنانية؟"
ويا صاحبي!. هل ثمّةَ مكانٌ على الأرض بات، بأيادي أبنائه، يوفّر تعاسة الحياة فوق ما توفّرها أيّ بقعةٍ من بقاعِ الأرض!.
***
وتُطلقُ الجامعة اللبنانية في باكورة منشوراتها، منذ حوالى أربعة قرون، كتابك السبّاق المعنون "مياه لبنان-نفطُ لبنان" حيث تُلقي الضوء، لا على نِعَم المياه الجارية في أعراق أرضنا الطيّبة وحسب، بل على أنّ أيّ خَلَلٍ في التعامل معها يقضي على كامل البنية المائيّة. وتختُمُ كتابك الرائد حول بيئة لبنان، المنشور، باللغة الفرنسية، منذ ثلاثة قرون، بالقول إنّه حتى يحتفظ المدى الجغرافي اللبناني بسكونه وسلامته يقتضي ألّا تفتك به يد الإنسان فتكاً مُبرماً. وفي باب المحاماة والحقوق، وأنتَ من أرقى وجوههما، يُحفل باللُّقَيّات كتابُك الصادر حديثاً عن "الحقوق والمحاماة والقضاء في لبنان قبل تأسيس نقابة المحامين عام 1919". ومن ذلك أنّ إحدى المحاكم تشكّلت على الوجه الآتي:
الرئيس: سعادتلو نعّوم أفندي قيقانو.
الأعضاء المنتخبون: مكرمتلو محمد أفندي بدران، ورفعتلو نخله أفندي نابلسي، والعضو الملازم عزّتلو بشاره أفندي نحّول.
ومن ذلك أنّ أحد أسلافي في رئاسة محكمة كسروان هو "عزّتلو تامر أفندي ملّاط" الذي قال، على قبرِ المتصرّف واصا باشا:
قالوا قضى واصا وواروهُ الثرى
فأجبتُهُم وأنا الخبيرُ بذاتِهِ
رنّوا الفلوس على بلاطِ ضريحِهِ
وأنا الكفيلُ لكم بردّ حياتِهِ.
وإذا كنتُ لم أصلْ بعد إلى حدود جراءته، فبإمكاني القول، على الأقلّ، لكلّ من هو في السياسة برتبةِ سعادتلو ومكرمتلو ورفعتلو وعزّتلو... ناضلنا كثيراً ومديداً حتى ينأى القضاء عن متناولِ أيديكم... والنّضالُ مستمرٌّ اليوم.
***
أيُها السيّدات والسّادة
ويا أصدقاء المحتَفَى به، العزيز الدكتور هيام جورج ملّاط، المستحقّ، المستحقّ...
اعتبروا بعضَ فِلّذِ القهر التي عبَرَتْ كلامي، صرخةً، واعتراضاً، ولَومةً، ولا تأخذوها مأخذ الحقيقة المرّة.
لأنّنا لسنا من لبنان الطينِ والماء، ولبنانَ الفناء، بل من لبنان الدوحةِ الملّاطية، ولبنان الرسالة، والرّمادِ المتحوّل جمراً، ثُمّ أَربِعَةً وأصيافاً وأناشيدَ حياة.
غالب غانم
_________________________________________
كلمة هيام جورج ملاّط يوم تكريمه
الحركة الثقافية انطلياس
7 آذار 2020
أشكر الحركة الثقافية انطلياس برئيسها الأباتي انطوان راجح وجميع أعضائها على تكريمها لي هذا المساء، هذه الحركة التي رافقتها منذ انطلاقتها الأولى عام 1981 وهي تغطي اليوم مساحة الوطن شاهدة على هذا البلد كرمز حضاري ونموذجي على مراحل تاريخه الطويل منذ العصور الأولى ولا يزال في منطقة متخبطة بقلقها وتحدياتها وآلامها.
وأخص بالشكر العزيزين الدكتور عصام خليفة، أمين عام الحركة وزميلي الأستاذ هيكل درغام. وقد تجاوبت مع هذه المبادرة التكريمية بعد تردّد لأنني تعلّمت من خلال مسيرتي الفكرية ان أعمل وليس أن أكرمّ.
كما أشكر جميع الحاضرين الذين رغبوا مشاركتي هذه المناسبة الغالية على قلبي والتي لا أرغب منها سوى أن تكون حافزاً حاسماً لأجيالنا الناشئة في الالتزام والشهادة لهذا الوطن الذي ورثناه بمختلف إشكالياته.
أما بعد،
أشكر الرئيس القاضي الدكتور غالب غانم الذي التزم تكريمي وهو الذي تربط بين عائلتينا منذ جدي شبلي ووالده عبدالله روابط التقدير والصداقة والمحبة واعتبارنا المشترك للقيم نفسها وهو الذي تبوأ على المناصب القضائية ملتزماّ فيها إحقاق الحق بحكمة وشجاعة وملتزماً أيضاً جعل الثقافة في صلب مسيرته العملية والفكرية خدمة لتراث الوطن ولتراثه العائلي، وإنني أشكره خاصة لهذا الجهد بإبراز مراحل رحلتي الثقافية من إصدار أول كتاب عن إشكالية البيئة في لبنان عام 1971 إلى تنظيم قطاع المياه عام 1982 إلى معالجة القضايا القانونية والإدارية الخاصة بالبيئة والمياه والتنظيم المدني والمجتمع الريفي وهي جرح الوطن النازف والذي يتحمل المواطن في كل يوم من أيامه أثارهم السلبية من خلال تحركاته ونشاطاته وسكناه،
كما رغبت الإلتزام بالشهادة للتاريخ وللثقافة لخصوصيات نشأة المجتمع اللبناني ومزايا لبنان في العالم من خلال رصد ما أنتجه كبار أدباء ومفكري العالم العربي والغربي بشهادتهم للبنان.
ولكن لا بدّ لي أن أسلط الضوء على مؤلفي الجديد الذي صدر منذ بضعة أيام والذي سيكون لي الشرف أن أهديه إلى كل واحد منكم في نهاية هذا الإحتفال. إلا وهو كتاب "لبنان نشأة الحرية والديمقراطية في الشرق الأدنى – جذور لبنان الكبير".
لماذا هذا الكتاب؟
في يوم من الأيام طلب مني كبير أحفادي هيام أن أشرح له بعض الأمور الخاصة بتاريخ لبنان. ففعلت وتأكد لي لاحقاً وسريعاً ان سرد تاريخ لبنان من الوجهة السياسية فقط في مختلف مراحله ليس فيه الجدوى الكافية لدفع الحماس إلى التعرّف إلى هذا التاريخ. فتاريخ لبنان السياسي ليس تاريخ اليونان ولا حتى تاريخ روما ولا تاريخ بعض الدول الكبرى الأخرى.
ولكن تأكد لي ان تاريخ الإنسان في لبنان في مختلف مراحله هو أعجوبة حضارية وثقافية مميّزة بالرغم من أنانية حكامه على مرّ العصور والفساد والحسد والعجرفة وفي نهاية الأمر عدم الإلتزام الشريف لمصلحة الوطن والمواطن.
وبالتالي رغبت إبراز الإنجازات العظيمة التي تمكن هذا المجتمع الصغير من إحرازها في السياسة مع أول انتخابات في الشرق عام 1868 واعتماد المناصفة المحقة بين مختلف طوائفه وإقرار التنوع الطائفي كنموذج سوسيولوجي إيجابي لإنجاح المجتمع قبل وضع يد الطوائفيين على هذا النظام وإفساده إلى المكتسبات الإقتصادية والإجتماعية والتربوية والثقافية – وبالتالي رغبت بأن يكون هذا الكتاب مدخلاً إلى لبنان الحقيقي الذي يشمخ بدور إنسانه إلى مستوى الحضارة العالمية التي نصبو إليها مع تضمينه شهادات في نشأة مكونات نظامنا السياسي والحرية من مفكرين وأدباء منذ أواسط القرن الثامن عشر.
أما بعد أيضاً،
تبدو الثقافة للبعض في مظهر الكتب والمخطوطات المكدسة لدرجة اعتبار المكتبات مقبرة الأفكار والعمل ودون علاقة مع واقع الحياة ومواجهة التحديات،
ان هذه النظرة البدائية التي تميز لسوء الحظ المجتمعات غير الراغبة بمواجهة جذور القضايا وبمجابهة التحديات وبتحقيق الطموحات تؤدي إلى خفة في التصرّف لإثبات الحلول الملائمة لحماية المجتمع من القلق والأزمات ومساعدته في رفع أدائه مع مراعاة التقنيات الحديثة المتعددة وسرعة تنقل المعلومات والأخبار الصحيحة وغير الصحيحة،
وإنني أود الليلة ان أؤكد لكم أن الثقافة المتجذرة يفترض أن تكون الدعامة الأساسية لكل مسوؤل على مختلف مستويات حضوره، إن على المستوى العام أو الخاص في اتخاذ القرار، واتخاذ هذا القرار يجب ان ينسحب على مختلف المتطلبات الخاصة والعامة.
فلا رحمة لمن يتخذ قراراً خاطئاً وغير مناسباً في الوقت الذي عليه ان يقرر،
وكم من إنهيار في مجتمعاتنا السياسية والمدنية حصلت من جراء إتخاذ قرارات غير مناسبة أو عدم اتخاذ قرار عند اللزوم.
والثقافة التي كانت تنبع عندما تفتحت على الحياة الثقافية في أواسط خمسينيات القرن الماضي كانت تستند إلى الكتاب،
وهذا الكتاب شكل هدفاً فتح لنا مجال المعرفة ومعاصرة القضايا،
وكان من حسن حظي معاصرة جدي شبلي والعيش معه لسنوات طويلة وقد فتح لي مجال مقاربة أترابه في عالم الأدب والسياسة من أحمد شوقي إلى حافظ ابراهيم القائل عند زيارته لبنان:
عليّ أجاودكم في القول مقتدياً بشاعر الأرز في صنعٍ واتقانٍ
إلى شكيب ارسلان، إلى أمين تقي الدين وخليل سركيس ونجله رامز إلى خليل مطران إلى عبدالله غانم إلى سعد زغلول إلى جمال باشا إلى متصرفي جبل لبنان إلى رؤساء الجمهورية، الذين كان البعض منهم شركائه في الصحافة كأيوب تابت أو في الثقافة والسياسة كشارل دباس وحبيب باشا السعد واميل اده وبشارة الخوري وغيرهم، فكانوا جميعاً وكأنهم لي من أهل البيت.
وقد شاء القدر أن أتعرف شخصياً إلى وجوه نيّرة من مجتمعنا الثقافي اللبناني من أبرزهم الفيكونت دي طرزي وجرجي نقولا باز وكرم ملحم كرم والأخطل الصغير وخليل رامز سركيس ومارون عبود ومن ثم رياض حنين وجورج نقاش وهكتور خلاط وفؤاد كبريـال نفاع وريجيس بلاشر وغيرهم عندما انفتح أمامي مجال ممارسة الكتابة في صحف "الاوريان" بين 1962 و1970 وجريدة "الجريدة" و"لسان الحال"،
وقد تأكد لي تدريجياً ومن خلال التأمل بمقومات مجتمعنا اللبناني ان سلامته تكمن في عبقرية تأقلمه مع المخاطر،
هذا كان قدر من سبقونا وهذا هو قدرنا اليوم وهذا سيكون قدر أحفادنا إذا لم نتمكن من بناء مجتمع يرفض المزيفين والفاسدين وعديمي الثقافة لأن هذه الأمور بالذات هي ميزة الفساد الذي يؤدي إلى جعل الشرفاء في الوطن مزعجين لحكامه،
أما بعد عليّ ان لا أطول لأن همومنا الليلة هي مشتركة وقلقنا أيضاً على واقعنا هو مشترك،
ولكن ان الفسحة الحضارية لهذه الحركة الثقافية انطلياس وهذه الوجوه النيرة المشاركة والحاضرة والتي أكرر شكري على حضورها، تشكل مدخلاً حقيقياً إلى جعل الأمل والحلم في صلب تطلعاتنا المستقبلية،
وهي تحملنا إلى ترقب بصيص النور في ظلمة النفاق والجهل،
لأننا حاملي تراث نفتخر به ولأن من سبقونا هم بجانبنا ويهمسون في قلوبنا بضرورة التشبث بالشجاعة كلما كبرت المخاطر،
وان الثقافة هي ما يبقى منّا عند المغادرة، ولأن التراث هو الكنز الذي نسلمه لأولادنا وأحفادنا عند المغيب.