كلمة د. عصام خليفة في الندوة حول كتاب
الشاعر أنطوان رعد (لبنان صورةً وشعراً)
2013/5/14
ما سمعت شعرَ أنطوان رعد، أو قرأتُه، الا ووجدت نفسي أمام شاعر استثنائي كبير ينتمي إلى عمالقة الأدب اللبناني والعربي المعاصر.
ثم ان ابن الكورة الخضراء نقابي ومربٍ من طراز ندر مثيله. عنيد في الدفاع عن حقوق المعلم، وعن قيم الحرية والاستقلال. لا يساوم في الفن، او الوطنية، او السياسة او في العمل النقابي.
هامته العالية لم تنحنِ لترغيبٍ او ترهيب. الأمرُ الذي دفعه لمغادرة الوطن خمس عشرة سنة الى أوروبا، رافضاً تقديم أوراق الطاعة للمماليك وغلمانهم في الأزمنة الصعبة.
تحركنا معاً، من خلال المؤتمر النقابي الوطني العام، في مواجهة متاريس الاقتتال. كتبنا وهتفنا وتظاهرنا معاً دفاعاً عن السلم الأهلي وضد العنف ومع الإنسان وحقوقه. صغنا معاً التوصيات والتقارير والشعارات في المؤتمرات النقابية والمظاهرات والشعارات في المؤتمرات النقابية والمظاهرات الشعبية من اجل انتصار قضية التربية والإنسان والوطن.
ولم يتخلَّ شاعرنا الكبير يوماً عن رسالته الثقافية الموصولة. انه المبدع الدائم للشعر الراقي النابع من سليقة موسيقية تمتلك اصفى ما في لغة الضاد من فنون المعاني والمباني الأنيقة. في بلاد الضباب ترأس النادي العربي في لندن، وبموازاة ورشته الثقافية التي قادها هناك كان عنوان الضيافة والعاطفة الوقّادة والصداقة المخلصة لكل المبدعين العرب، وها هو اليوم يستمر في قيادة العمل الثقافي من خلال ترؤسه للمجلس الثقافي في بلاد جبيل.
أيها الحفل الكريم،
في التحفة التي نجتمع هذه العشية حولها (لبنان صورةً وشعراً) تتجلى عبقريات خمس:
عبقرية الشعر العربي الأنيق ببلاغة السهل الممتنِع.
وعبقرية الترجمة التي تجمع بين الدقة والجزالة الى اللغات العالمية الثلاث: الفرنسية والانجليزية والاسبانية. وقد قام بها الأكاديميون الكبار د. زهيدة درويش جبور، والدكتور انطوان سعيد خاطر، والأستاذة كارلا فرح.
وهناك عبقرية الصورة الرائعة الجمال التي أنجزها الأساتذة ريمون يزبك، الفرد موسى، جان بو غالب، اسطفان جمّال.
وثمة عبقرية الجغرافية المختارة التي هي الشرط الاول للتاريخ كما يقول المؤرخ العالمي فرنان بروديل.
وهناك عبقرية الإخراج والطباعة الفاخرة والأنيقة التي أنجزها كل من سيلين يوسف ومطابع معوشي وزكريا، والريادة في الطباعة كانت ولا تزال من مآثر اللبنانيين في خدمة الثقافة العربية.
ولا ننسى بلاغة التقديم لكبير من اسياد المنابر الأستاذ ادمون رزق.
في زمن الزلازل والبراكين التي تكتب بمذابح القتل والتهجير حدود الخرائط الجديدة في مشرقنا العربي،
وفي زمن الانحلال لمؤسسات الدولة اللبنانية وايغال بعضهم في التبعية لمخططات هذه الجهة او تلك،
يقف الشاعر الكبير انطوان رعد، بجبهته العالية "التي لا تنكسر"، مذكّراً بان جوهر الاجتماع البشري والسياسي في وطننا يرتكز على أولوية الإيمان والحرية "ترابك يا وطني عنبرٌ، بقلبي يُشمّ، يقبّل، يُعشق يُعبد، هذا التراب بأهداب عيني يُلم".
انه نداء الدفاع عن الوطن في مواجهة العواصف الآتية.
باسم الحركة الثقافية – انطلياس وباسم رابطة خريجي معهد الرسل جونيه نتشرف بتنظيم هذا اللقاء حول الكتاب – الحدث، ونرحب بكل المشاركين والحضور.
وما نتمناه ان يستمر انطوان رعد بالعطاء في مؤلفات مميزة بالشكل والمضمون.
كلمة رئيس رابطة خرّيجي معهد الرسل – جونيه
المهندس إسبر زوين في احتفال توقيع كتاب
الشاعر انطوان رعد : " لبنان صورة وشعراً "
أيها الكرام ،
يوم أطّلعت على أسماء المشاركين في هذه الندوة ، حول كتاب الشاعر أنطوان رعد : " لبنان صورة وشعراً " ، أصابني ما أصاب الكاهن زكريا عندما بشّره ملاك الربّ بأن زوجته أليصابات العاقر ستحبل في شيخوختها ... فقد عقدت المفاجأة لساني ، إذ أنّى لي أن أقف على منبر واحد مع كوكبة من أمراء الكلمة والمنابر .
ومع ذلك ، فقد سألت الله أن يحلّ عقدة لساني ، إيماناً منّي بأن ليس عند الله أمر عسير .
أيها الكرام ،
بين الشاعر أنطوان رعد ومعهد الرسل حكاية عمر ، وعلاقة هي باختصار شبيهة بعلاقة المتنبّي بسيف الدولة. فإذا ذكر أحدهما حضر الآخر تلقائياً في البال . وهذا ما عبّر عنه الشاعر في قصيدة " العودة " التي ألقاها في المعهد الذي درس فيه ودرّس ، إثر عودته من سنوات المنفى، إذ قال :
البيت بيتي والأجواء أجوائي أنا هنا بين أبنائي وآبائي
يا معهداً غلّتي من جود بيدره وخبز طلاّبه من قمح أهرائي
حللت فيه تماهينا فواحدنا شكلاً ومعنى هو المرئيّ والرائي
فإن تطلعت في المرآة أبصره وإن رأى كان الآراء آرائي .
وأتمنّى على الشاعر أن يلقي هذه القصيدة كاملة في نهاية الاحتفال .
إنها علاقة انتماء والتزام وعلاقة عطاء متبادل ووفاء مشترك . وهي تنسحب على علاقته برابطة خرّيجي معهد الرسل ، التي يرى فيها جسراً يعبر فوقه الطلاّب ذهاباً الى مدرسة الحياة ، ويعبر فوقه الخرّيجون إياباً الى أحضان المدرسة الأمّ ... والتي ترى فيه أباً ، وأخاً ، وصديقاً ، حاضراً ومشاركاً دائماً في كل نشاطاتها .
وتقديراً لدوره كشّافاً وبطلاً رياضياً يوم كان تلميذاً ، ودوره بالتالي معلّماً ومربّياً ، ونقيباً للمعلّمين، ورئيساً للنادي العربي في بريطانيا ، ورئيساً للمجلس الثقافي في بلاد جبيل مؤخراً ، رأت الرابطة أن تحتفل معه بمولوده الجديد: " لبنان صورة وشعراً " ، باللغات العربية والفرنسية والاسبانية والانكليزية...
وهو كتاب شعريّ ، يضمّ صوراً رائعة عن مناطق لبنانية ، ويمتاز بعفويته الأنيقة ، وبساطته العميقة ، الى كونه فعل ايمان بجمال هذا الوطن الصغير ، ووهجه الحضاريّ ، وأمجاده التاريخية عبر العصور .
ومن سمات هذا الكتاب أن قصائده قصيرة ، مختزلة ، مصفّاة ، سلسة ، دوزنها الشاعر على إيقاع القلب ، إنطلاقاً من المكان الذي تكتبه أو تتصوّره ، فلا تقع في التكرار بل تبتكر الصورة الحالمة المتهادية على غيوم الخيال والحبّ والترف الجماليّ .
لن أطيل عليكم أيها الكرام ، فجماليات الكتاب أتركها لأصحاب الخبرة في هذا المجال ، لكنني أكتفي من هذا الكتاب ، بهذين البيتين اللذين يختصران كرامة شعب ، وعنفوان وطن ، وابداع شاعر :
جبالنا تتحدّى الدهر صامدة عصيّة عن ذراها الطرف ينحسر
إن تسألوني عن أعلى الجبال أجب أعلى الجبال جباه ليس تنكسر
وشــكراً
كلمة ادمــون رزق
في تكريم انطوان رعد
سيرةُ نضالٍ وعِشقُ جمال
بإنسانِه يُعْرَفُ الوطنُ: هو القيمةُ الفاعِلةُ، تُفجّرُ الحياةَ في راسخاتِ الصخورِ ورواسي الجبال، تُخصِبُ الأرضَ، تُعلي القِـبابَ وتَدْفُـقُ الخيراتِ.
لبنانُ الأرزةِ والسنديانة، الزيتونةِ والصنوبرة، التفاحةِ والكرمة، انسانٌ متجذِّرُ الأصولِ مترامي الفروع !
من آياتِه أنَّهُ مهدُ حضارةٍ وحاضنةُ معرفة، أنجبَ شعراء، ألهمَ وأوحى، أفاض عليهم من مخزونِ جمالاتِـه ومضمونِ رسالتِه، فاذا للعربيةِ من بَوْحِهم عِماراتٌ، وعلى الذُرى شُعَلٌ تـتوهّج ! فيومَ يبطلُ أن يكون، لا يُجدي ادعاءٌ أو تغني طبيعة.
... ومن فضائلِهِ أنْ جَمَعَ، على اسمِ الثقافةِ، نُخَباً، أطلقَ في المحافلِ دواوينَ، عَقَدَ للكتابِ مؤتمراتٍ، أقامَ معارضَ وباسمِهِ زَفَّ أعواماً !
الفكرُ هو رافعةُ الشعوب في أزمنةِ الحِطّة؛ فلقاءُ العشيّةِ، بعضٌ من مواسمِ الخيرِ، في تكريمِ مستحقٍّ،
الاعترافُ ذروةُ المعرفة. الجحودُ والإنكارُ جَهالةٌ. وحدَهُ الكريمُ، يكرِّمُ من دون عُقَدٍ. المحبّةُ سَعَةٌ غيرُ مشروطة، والانانيّةُ ضيقٌ حتى الاختناق.
في موعدِ انطوان رعد، نستحضرُ درَّهُ السخيَّ: نبضَ حياةٍ، سيرةَ نضالٍ، وعِشْقَ جمال، الى عقودِ تعليمٍ، وَقَـفاتٍ ومواقفَ، في ساحٍ وعلى منابرَ؛ من لبنانَ الى عواصمِ العرب وعكاظاتِهم. شِعْرُه تجسيدُ أحاسيسَ، قيثارةُ حبٍّ، تطريبٌ وإهابةٌ... فللتفعيلةِ، على أوتارِه، إيقاعٌ وإرنانٌ. المعاني نضارةٌ وإثارة، والحميمُ المكتومُ من قصائدِه ينقلُ المتقصّيَ الى مراتِعِ الوجدانِ، ومراقي العنفوان، من دون تقيّة!
انطوان رعد شاعرٌ لبنانيّ، نِقابيٌّ ملتزم، حلّقَ في الأجواءِ، استشرفَ مواقِعَ التاريخِ ومواضِعَ الوَجْدِ، في مدنٍ وقرى، تملّى جَمالاتِها واستلَّ خصوصيّاتِها، سَكَبَها في وصفٍ جمّلَ الموصوفَ. يا لَـرَوْعَةِ رسّامينا بالريشةِ والقلم، شعراءِ الطبيعةِ الملهَمينَ، أضفَوا عليها، من وَصْلِ المخيّلةِ، لَمَساتٍ جَعَلَتْها أقداسَ عبادةٍ !
لقد أغنى انطوان رعد المكتباتِ باصداراتٍ جَمَعَتْ نضارةَ الكلمةِ وروعةَ الفنِّ؛ فمِنَ "السندباد" الى "تقاسيم على مَقامِ العِشق" حتى "لبنان شعراً وصورة"، في لوحاتِه الأخّاذة وترجماتِه الثلاث؛ بعد مجموعاتٍ من العطاءِ النوعيِّ، شعراً ونثراً، مسيرةٌ متميّزةٌ بالفرادةِ، كتابةً وإِخراجاً.
أخي انطوان، يا رفيقَ العقودِ والعهود، في شِعْرِك الهادفِ، المنشورِ والمطويِّ، التزامِك الوطنيّ، موقعِك الاجتماعيّ، صداقاتِك، دماثتِك وإبائك، لأنتَ جديرٌ بالتحيّةِ عرفاناً، وللحركةِ الثقافيةِ، معكَ وبكَ، صفحةٌ جديدةٌ في سجلِّ الذهب !
كلمة الرئيس غالب غانم
انطوان رعد في " لبنان صورةً وشعراً"
كلُّ قصيدةٍ صلاة
وفاءً لفتى الفتيان لبنان ، للملِك يومَ تتبارى الأوطانُ في ساحاتِ الحُسنِ لحبيبِ الشعراء وموطئِ أقدام الأنقياء ... والأنبياء ... كان هذا الأثرُ /القصيدةُ/ الحديقة ُ / المتحفُ/ الشهادةُ/التاريخ مكتوباً بماءِ المجد والجغرافيا بماء الورد /الفنُّ في أرقى تجلّياته ... واللّقاء المبارك يَجمعُ حشداً من ذوي المواهب دعاهُ انطوان رعد الى مُصَلاّهُ اللبناني بالطقس الشعري العربي ، فَلَبَّتِ اللغات ، وتألّقتِ اللوحات ، وازدانتِ الصفحات ... فكان هذا الكتاب ، لا صورة وشعراً عن لبنانَ وحسب ، بل كذلك دندنةَ أجراسٍ وأحقاق عطر ، تُسمع وتُشمّ ، وتُستطاب، وتُحاكي ما جاء في نشيد الأناشيد :
هلّمي معي من لبنـــان
شفتاكِ تقطران شهداً أيتها العروس
تحت لسانِكِ عسَلٌ ولبـــن
ورائحةُ ثيابِكِ كرائحة لبنان .
XXX
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحركة الثقافية – انطلياس ، الثلاثاء 14/5/2013، حول كتاب الشاعر انطوان رعد :لبنان صورة ً وشعراً .
غَنَّتكَ يا لبنانُ كوكباتٌ من صُنّاعِ النهضة ، وانقضَّت عليك عُصَبُ انحطاط .
اصطفاكَ عشّاقُ الحرّية مَلاذاً ، وغزا أرضك مُستكبرون ومُستعبدون .
افاض عليك ذو العلى نِعماً وبركات ، وغبطتْك أنفُسٌ لا رضىً فيها ولا انشراح .
شاءَكَ بعضُهم وطناً فكلّموك بالأشواق والمنابِض والأحلام ، واتخذك آخرون ضحيّةً وساحَة صراع فحاولوا اقتسام ثيابك وتبديد إرثك .
نَظَرَ اليك ذوو الرؤيا والايمان بقعةً صغيرةً من الأرض بوسعِ رسالةٍ عالميّة ، واستصغرك الناظرون الى الأوطانِ أحجاماً والى البَشرِ ارقاماً .
تلاقَحتْ ثقافاتك وتناغمتْ ألوان ثوبك وتآخى المختلِف فصارَ مؤتَلِفاً ، ثم أتى الآتون من دنيواتٍ لا خيرَ فيها ولا سلام لمحاولةِ ابطالِ المواثيق وتأجيج النّار .
الشعراء يا لبنان ، هم ، كلّما تعلق الأمر بك ، من الكوكبةِ الأولى . بعضُ حرّيتك هم ، وبعضُ نهضتك ، ورضى ربّك ، وأحلامك ، وفحوى رسالتك ، وبعض الأبيض اللَّيَاح في ثوبك ...
وشاعِرُنا الليلة ، نجيُّ تراباتك الغاليات ، من هذه الكوكبة ايضاً . بمثلِ كتابه يؤمِنُ بلبنان المشككون ، ويتشتَّتُ العَرَّافون ، وينكفئُ الهدّامون ، ويتنادى المؤمنون الى تمجيد اللّه في خَلقِهِ... سبحانَ ما صنعتْ يداه. واعرفْ ما انت في كتابِ الخالق ، وفي كتاب الشاعر ، يا جبل الأطياب ، و "جبل البخور واللّبان ":
" في جبلِ البخورِ واللّبانْ
في جبلِ صَلّتْ على تُرابِهِ
آلهةُ الأكوان ْ
كم تعبَ الإله في تكوينِهِ !
كم عرقَ الإزميلُ في يمينهِ!
الله كم تأنّى
في نحتهِ وجُنّا !
وجُنّ في إبداعه فكانْ
وفقا لما تمنّى
تُحفَتهُ على مدى الأزمانْ .
XXX
كلُّ لوحةٍ في الكتاب دعوةٌ الى التسبيح ، وكلُّ قصيدةٍ صلاة . لقد اجتنب الشاعِر ، في سبيل الوصول الى مُؤدَّاه ، الكلام الكثير وما قد يواكبُهُ من نوافلَ وقصائد عصماوات ، وطنّانٍ رنّان . ذهبَ الى المُبسَّط دون المعقدّ والمُصنّع ، وآثر الأيقونة على المعلّقة . الكتابُ قِطعٌ قِطع، ولمعٌ لمع، وشهقاتٌ شهقات، وجوهرة بعد جوهرة .
يدخُلُ الى التاريخ بلفتَة، والى الجغرافيا بطَرفة عين ، ويمرّ بالمدن والقرى مرور باعةِ الورد وحساسين الجُرد والعُشّاق ِ القدامى الذين يزورون مساكِنَ حبيباتهنَّ خِفافاً يستطلعون ولا يقتحمون .
ويَكتبُ صاحبنا وكأنّه من العوّادين . ويُخالُ ، أحياناً ، أنَّ الأسطرَ أوتار والكلمات نوتات. وفوق ذلك ، بامكانك ان ترى في النصّ ذاتِهِ حلبة رقص ، وتغاوي خُصُور . والشعر، كما علّمت المذاهب ، هو رأسُ الفنون ، وعُصارتها ، وموعدُ لقائها الجميل . إسمعوا هذه المقطوعة الموشّحة التي قالها في عمشيت :
أُخفي من الدلال ْ
أضعافَ ما أُبدي
أنا على زندي
يغفو ويصحو الجمال ْ
والحُسنُ في مرابعي يُعدي .
إسمعوها ، وقولوا لي، هل انتم أمام نقرِ عود، أم تمايُل قدود ، أم صنيعٍ شعريٍّ خياليٍّ غير محدود؟
وخذوا هذه الموشَّحَة المستوحاة من "دير حمَّاطورة "المعلّقِ في خاصرة الجبل :
كنيسةٌ عنها يَزِل الطَّرفْ
محفورةٌ في الصخر فوق جُرفْ
بإبرة الأناة والايمانْ
شيّدها النسّاك في لبنانْ
كي يعبد الانسانُ دون خوفْ
ودونما تقيّهْ
الله والحرّيهْ ...
خذوها ، تُدركوا جيداً عِلَّتي ْ وجود هذا اللبنان : الايمان ، والحرّية . وتُدركوا جيداً علّة وجود هذا الكتاب : لبنان ، والحرّية أيضاً .
لأجل الحرّية ، حبيبة اللبنانيين ، آخى أجدادُنا الصّعب والصخر والوَعر ، واستبسلوا، وبالعرق والدماء روَوا أرضهم ... واستشهدوا واقفين وفي أيديهم أقلامٌ وأسياف ، وظلّت جباههم مرتفعة كجبالهم .
تحت عنوان :" جبالنا " يقول:
جبالنا تتحدّى الدّهر صامدةً
عصيّةً عن ذراها الطرفُ ينحسرُ
إن تسألونيَ عن أعلى الجبال أُجبْ
أعلى الجبال جباهٌ ليس تنكسِرُ .
XXX
وبعد!
فهذا كتابٌ يطفحُ بالشّاعرية طفحاً .
في البدء، نقصد شاعريّة صاحبه . تاريخُهُ مملوء دواوينَ وأسفاراً في مدائن الخيال والجمال ، وحضوراً في أعراس اللّغة ، وأناشيدَ ومواعيدَ والتزاماً بالكلمة الى حدّ تحويل القلم سيفاً للدفاع عنها .
ونقصد أيضاً شاعريّة الفكرة . ان يَخطُرَ في البال ضمُّ القصيدة الى الصورة ، والمنابِضِ الى المشاهد، لأجلِ ن تشهدَ لفرادةِ وطنك ، فهذا يدلّ على أنّك تجوز أرض الجفاف والفظاظة واللامبالاة الى حيث النجمةُ الهادية والسّحابةُ الواعدة .
ونقصدُ شاعريّة الصّورة . كلُّ صفحة من الصفحات ، من الضِّمامة الى الضّمامة ، من الأولِ الى الآخر ، ومن الضّفافِ الى الأرياف ... كلُّها كلُّها " لوحات عامدّ النظر " كما جاء في أغنية وديع الصافي ... وهي دعوةٌ الى حراسةِ البيئة ، انطلاقاً من سهول الورق ، وصولاً الى المرابع وغوالي الدّيار .
ونقصدُ ، على الأخصّ ، شاعرية الكلمة . لقد جاءت طليقةً ، هيفاء القوام على ظلال خفيفة ، بنتَ اصالةٍ وحُسن ، ربيبة بساطة ، حَمَّالة رموز ، كما جاء في هذه اللوحة الشعرية عن طرابلس :
يحكونَ عن حَسناءْ
يدعونَها " الفيحاءْ"
الشمسُ في المساءْ
تَلثمُ خدَّها
والبحرُ في حياءْ
يخطبُ ودّها
عن مجدها التّليد عن رموزها
حَدّثْ ولا حرجْ
تاريخها قارورةٌ دهريّةٌ
إذا فضَضْت خَتمها
تَضَوَّعَ الأرَجْ .
XXX
لقد تضَوَّعَ أرَجُ كتابك حين فتحناهُ وشمَمْنا فيه _ يا للرّفيقين المضمَّخينِ بالطيب – رائحة لبنان ، ورائحة الحريّة .
كلمة الأمينة العامة للجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو
د. زهيدة درويش جبور
لبنان شعراً وصورة
لأنطوان رعد
كتاب يحتضن بين دفتيه الوطن أرضاً وروحاً وتراثاً
القول بأن العصر الذي تحكمه التقنيات الحديثة وتحقق فيه لغة الحاسوب الفتوحات المضطردة
ليس فيه مستقبل للشعر بوصفه فاعلية إبداعية محض مجانية، ينضوي على قدر من التسرع والحماس الاعتباطي لانتصار لغة الآلة وهي لغة مقوننة بامتياز، على لغة الإبداع التي تقوم في جوهرها على عنصر المفاجأة والإتيان بغير المتوقع والجديد. بل يمكن القول أنه كلما أغرق العصر في غيّه المادي، وكلما ازداد طغيان الآلة كلما أصبح العطش إلى ما يحرر أقوى، والحاجة الى ما يستثير في النفس التوق الى التجاوز نحو الأسمى والأكمل أكثر إلحاحا. في هذا الإطار بالذات تقع مجموعة أنطوان رعدالشعرية الجديدة وليس من المبالغة القول إن الشاعر يقدم لنا تحفة فنية بكل معنى الكلمة في كتاب يحتضن بين دفتيه الوطن بكامله أرضاً وروحاً، ساحلاً وجبلاً، تاريخاً وعراقةً. إنه لبنان يرسمه بالكلمات، ينسج له من سحر الخيال صوراً تتراقص في القصيدة على إيقاعات إحساس مرهف بالجمال، وتحاور في تناغم رائع صوراً من نوع آخر تخاطب العين بلغة اللون والضوء ولا تقل عنها سحراً وروعةً وإدهاشاً. فهنيئاً للقارىء بالمتعتين: متعة السفر على أجنحة اللغة ومتعة النظر الى أجمل ما يمكن أن تلتقطه عدسة مصور من جمالات المناظر الطبيعية الخلابة. ذلك أن الشاعر أراد لكتابه أن يكون حواراً بين القصيدة والصورة الفوتوغرافية التي ارتقت الى ذروة الإبداع الفني، كما أراده أن يكون حواراً بين اللغات التي تتقابل أو تكر كحبات مسبحة على الصفحات: العربية الأم، والفرنسية والإنكليزية والإسبانية؛ كأنه يهديه الى مواطنيه الكثر في بلدان الانتشار، يريده جسر عبور الى الوطن المهاجر، وحبل سرة يربط بالوطن الأصل أجيالاً ولدت في دنيا الاغتراب. مما لا شك فيه أن اعتماد التعددية اللغوية من خلال توسل الترجمة يضفي على الكتاب طابع الفرادة، ويفتح أمامه آفاق العالمية. لكنه يشكل في الوقت نفسه تحدياً مهماً ورهاناً صعباً سواء لناحية الإخراج أو لناحية تحقيق الانسجام بين الترجمات المختلفة. ويمكن القول إن أنطوان رعد كسب الرهان فكتابه يتمتع بمواصفات فنية عالية تنبي عن اهتمام دقيق بالتفاصيل: نوعية الورق، أنواع الحرف، طوبوغرافيا الصفحة، لون الغلاف وقد لفتتني البراعة في التغلب على صعوبة تصديره بعنوان مترجم الى اللغات الثلاث: لبنان صورة وشعراً، ثلاث كلمات تختصر الكتاب كله وتتحول بصيغها اللغوية الأربع الى مكونات للوحة خطاط مبدع يشع منها ضوء يعكس كالمرآة نور الشمس المتوهجة في لوحة تطل منها غصون الأرز مكللةً ببياض الثلج.
أما الترجمة، فمن المعروف أن كل ترجمة هي فعل خيانة فكيف إذا كان النص نصاً شعرياً مرصعاً بالصور المنحوتة بعناية والمتدفقة على إيقاع الأوزان والقوافي المنتقاة؟ فأنطوان رعد يمارس الكتابة كصائغ ماهر يصقل الكلمات كأحجار كريمة ثم يزاوج بينها لتشكل قصيدة سمتها التناسق والإنسجام بين مكوناتها لكأنها عقد فريد يجتمع فيه بأناقة وذوق الماس واللؤلؤ والزمرد والمرجان. القصائد قصيرة بعضها لا يتجاوز أربعة أو ستة أبيات يتكثف فيها المعنى فتشع جمالاً. فالشاعر يعرف كيف يلتقط اللحظة الشعرية وهي مفاجئة دائماً تلمع كالشهاب، ثم يعمل على بلورتها وعلى صناعة لغتها الفريدة بالضرورة. هذا التكثيف يزيد من صعوبة مهمة المترجم، اللهم إلا إذا استطاع أن يتماهى مع تجربة الشاعر، وأن ينفذ ببصيرته الى تلك الحالة الوجدانية المركبة والتي تتفاعل فيها ملكات الشاعر جميعها حواسه وأحاسيسه ومخيلته وفكره فيكون الإلهام. فلكي تكون ترجمة الشعر ممكنة لا بدّ من أن يكون المترجم أثناء ممارسته فعل الترجمة شاعراً أيضاً. وإذا أضفنا الى كل ذلك حقيقة بديهية وهي أن لكل لغة روح تميزها اتضح لنا أن المترجم قد يضطر أحياناً الى التدخل في النص كي يستطيع نقله الى اللغة الأخرى فلا تبدو تراكيبه هجينة أو دخيلة عليها. يقول الشاعر مثلاً متغنياً ببيروت: يانجمة القلب يا سر الجمال ويا / قصيدة آية أبياتها قبلُ. فهل نترجم قبل هنا حرفياً أم نعمد الى نقل الصورة المجازية التي أوحى بها الشاعر وهي أن بيروت القصيدة هي لغة للحب؟ أو يقول في وصف الينابيع المتدفقة من الصخور: فاضت دموع الصخر بلوراً جرى / وتفجرت قطع اللجين عيونا. إنها صورة ضوئية بامتياز ومهمة المترجم هنا هي أن ينقل حسياً هذا التفجر الضوئي، أو يقول في وصف مغارة جعيتا: في متحف جسد فيه الدهر / أحلامه حفراً وتنزيلا؛ القارىء اللبناني يفهم أن الإشارة هنا هي الى المقرنصات أو الهوابط والصواعد في مغارة جعيتا. فهل تفي الترجمة الحرفية بالغرض أم أن الترجمة بتصرف تفرض نفسها هنا؟ كذلك تؤثر عملية التلقي على الترجمة. فالمترجم هو أولاً متلقٍ ومتذوق للقصيدة وكل متلقٍ فريد بحد ذاته. فهل يعني ذلك أن النص الواحد يصبح نصوصاً مختلفة باختلاف الترجمات؟ قطعاً لا لأن شرط الترجمة ألا تخرج عن قاعدة الأمانة للأصل وشرط الحق بالتصرف أن يخدم إيصال المعنى الى اللغة الهدف. وخير برهان على ذلك الانسجام القائم في الكتاب بين الترجمات المختلفة التي تبدو كتنويعات للحن واحد تعزفه آلات مختلفة. تبقى ملاحظة لا بد من إيرادها وهي أن الترجمة الفرنسية لم تتقيد بالحفاظ على الوزن والقافية واستعاضت عنهما بالإيقاع الداخلي وقد يكون سبب ذلك علاقة طويلة بين المترجم والقصيدة الحديثة من جهة، وإدراكه أن أذن القارىء الفرنسي المعاصر لم تعد حساسة للموسيقى التي تولد من الأوزان والقوافي، من جهة أخرى. هكذا تفرض جمالية التلقي نفسها من جديد على المترجم الذي يجب عليه أن يأخذها بعين الاعتبار.
ختاماً يمكن القول إن هذا الكتاب يعطي دليلاً جديداً على أن لغة الشعر تخترق اللغات على اختلافها وتوحد بينها، بل أنه كتاب التنوع ضمن الوحدة، إنه بصدق على صورة لبنان الذي نطمح إليه، تتعدد مكوناته وتتمايز فيما بينها لا لكي تختلف بل كي تتلاقح وتتفاعل فتغتني الواحدة بالأخرى. نعم إن هذا الكتاب الذي لم يترك شاردة وواردة من جمالات لبنان إلا أحصاها وقدمها بلغة القصيدة والصورة هو خير سفير لنا الى العالم، فهو يختزن أجمل ما في بلدنا من مواقع طبيعية وأماكن أثرية ويروي حكاية العشق القديم بين البحر والجبل، ويعزف سمفونية ألحانها تكسر الموج على الشطئان وتفجر الينابيع من الصخور، وفيه صدى صلوات مرفوعة في المعابد تمجد سيد الأكوان ومبدع كل جمال. إنه خير ترجمان للبنان أرضاً وتاريخاً وشعباً، لذلك فهو جدير بأن يكون هدية قيمة يفخر بتقديمها المسؤولون في هذا البلد لزوارهم من كبار الشخصيات في العالم، كما يفرح بها كل صديق مؤمن مثلنا بأن خير جليس في الأنام كتاب.
شكراً لأنطوان رعد الذي أضاف الى المكتبة العربية والى الكتب الفنية اللبنانية هذا الإنتاج الراقي الذي يعكس الى حدٍ كبير بكل تفاصيله سمات صاحبه: إحساس مرهف، تهذيب عالٍ، تقدير كبير لأهل الفكر والقلم. وأنت أيها الصديق أنطوان في طليعتهم.
كلمة الاستاذ جورج مغامس
الوديعةُ البديعة
كتابُ أنطوان رعد: لبنانُ صورةً وشعرًا
بعضُ القاماتِ قمّاتٌ، تفيءُ إلى أشجارِها عصافيرُ الشّمسِ وأغنياتُ القمرِ، وتُفرِخُ في نخاريبِها النّسورُ وزهرٌ كعروقِ المَرجانِ وحُميّا العنَبِ، وتَنشَلُّ من ينابيعِها قصائدُ الماءِ اتّشحتْ بسَديمِ اللطفِ تقدّسَ بابتهالِ الصّبحِ وخَشعةِ المساءِ..
بعضُ القاماتِ بَوْصَلةٌٍ، تَقضِبُ الرّيحَ برقًا سيفًا جرحًا من ذَهب، تعرّي السّنابلَ لقُبّرةٍ توقظُ الفجرَ، توشّي السُّوسَنَ بأحلامِ العذارى، تلتمسُ خَضيبَ الرّمّانِ على أَسِرّةٍ تختلجُ بأنفاسِ يمامةٍ انبثقتْ من قصبِ النّايات..
بعضُ القاماتِ سراجُ علاءِ الدّينِ وأسفارُ السّندباد، وكأعمدةٍ من نارٍ وحمامٍ زاجل،.. كلقاءٍ على طريقِ عِمّاوسَ وكَسرِ خبزٍ وقلبٍ مُتَّقد..
بعضُ القاماتِ قُدموسيّةُ الأعراقِ، أَدونيسيّةُ الأشواقِ، أرزيّةُ الأعرافِ، وتَسكنُها أعصرٌ ودهورٌ من حقائبِ الحضاراتِ..
إنّ هذا البعضَ أسماء!
وقُلْ: أسماءُ الأفعالِ، وتَفكّرْ في أُلفةِ الاتّحادِ.. فَرادةِ الحضورِ المُتئمِ المِنْجابِ!!
ولكنْ، أَما لنا قولةُ القائلِ من زمنِ البشيرِ الكبيرِ:
إذا قلتِ الأميرَ ولم تُسَمّي فلا يحتاجُ سامعُكِ السّؤالَ؟
فكيف إذًا أسمّي؟!
بل أسمّي. أَقطعُ باليقينِ ظنًّا وتخمينًا ودعوى الأدعياءِ.
إنّه هو أنطوان رعد؛ وكفاهُ الاسمُ ألقابا!
فيا سيّدي الأَنطونْيوسيُّ: من الكبيرِ إلى البادوانيِّ، ومَن فَتَنتْه كليوبترا، وكان السَّلوقيَّ يَدفعُ غاليّين.. يَهزِمُ بطالسةً.. يَبسِطُ الرّاياتِ من سُهوبِ آسيا الصّغرى إلى سهولِ سوريا الكبرى، واليومَ يَغفو ويَصحو في عينِ «زَهواهُ» ويَلعبُ في ملعبِ الأحفادِ،..
إنّكَ البادعُ اسمَكَ بالسَّليمَينِ: عقلِكَ والجسدِ؛ وأُوتيتَ فوقَ قدرةِ القادرينَ: قَيدَمةً، فروسيّةً، يدًا سخيّةً، ذاكرةً رَغْدةً إلهيّةَ الثّباتِ، هوىً مِمراحًا وتَرحابا، شِعرًا من مزاميرِ الفرحِ الهَزِجِ بدُفٍّ وخلخالٍ..، أو من مساميرِ النّكبةِ والنّقمةِ والخيبةِ والغربةِ وطعمِ الرّمادِ..، ومن بيارقِ الثّوارِ وأكفانِ الشّهداءِ...
فلكَ طُغَراءُ مملكةٍ، بها خَتمتَ على الثّراءِ في معرِضِ المعالي والجمالِ ودوحةِ المجاني المدهشاتِ في تجلّياتِ معاني الحقِّ والحريّةِ وكرامةِ الانسانِ!
.. وإنّي إلى بيتِكَ دخلتُ، أَمرُّ بأبوابِ المنازلِ، أَستلمُ بالقلبِ عَتَبةً ومِفتاحًا.. رأيًا ورؤيا.. غبطةَ الدُّنى الزّهراءِ،.. أَذوقُ الّذي ذاقه العشّاقُ!!
فمِن لَديكَ.. لَنا:
في الهاهُنا نَفحٌ ولَفحٌ.. عواصفُ ثلجٍ ووَقدٍ.. غضبةٌ كبرى.. تحطيمُ أصنامٍ.. لصوصٌ على صلبانٍ.. صلبانُ قداسةٍ.. إكليلُ أمجادٍ...
وفي الهُناكَ غَيَدٌ مَيَدٌ وجهٌ صَبوحٌ، وما شَفَّ عينًا جِيدًا ووشاحا.. وأَقبلتْ مواسمُه في أقاليمِ الرّوحِ النّديّةِ تُرخي على الشّفاهِ قُبلاً من دِما التّفّاحِ..
وفي الهُنالكَ مرافئُ المنفى وشوارعُ الغرباءِ وأطيافُ أدباءِ البأساءِ والظّلماتِ، ومَقهىً ينكأُ الجراحَ يثيرُ الذّكرياتِ.. وحنينًا مريرًا إلى ترابٍ وأترابٍ وأحبّةِ الأرحامِ،.. كأسٌ تُريقُ السُّهادَ على مَشرَبٍ.. على صدرِ حسناءٍ.. توقظُ اللعنةَ تُقَفِّعُ أبدانَ الطّغاةِ..
ولنا بين منزلٍ ومنزلٍ بساتينُ زيتونٍ أو برتقالٍ.. ونهرٌ وبحرٌ وطائراتُ الورقِ بألوانِ المغيبِ وهُدهُدٍ تيّاهٍ.. حدائقُ أطفالٍ وعيونُ التّمائمِ الحارسة..
وإنْ في أفُقٍ تَبدّى شَررٌ قلْ لنا الرّعدُ يقصِفُ الشّرَرَ.. يَذودُ عن حقٍّ حقيقةٍ وأَعراضٍ.. يَتمرّدُ يقوّضُ كشمشمونٍ.. كصُوْريٍّ يَحترقُ بعزّةِ النّفسِ برفعةِ الرّأسِ يعانقُ العنفوانَ.. أو كأنّه طائرُ البَجعِ يُطعِمُ الكبدَ...
.. إنّ مآتيَك، يا سيّدي، كثيرةٌ؛ وأنا لا أحسنُ التّعدادَ.
فهل يَفيكَ بعضَ حقِّك قوليَ فيها ما قلتَه أنتَ في بيروت:
أَغرتْ سوانا وتُغرينا بساطتُها نَسعى إليها فلا نَعيا ولا نَصلُ؟!
أَلا إنّ ما نقولُ هو بعضُ مرايانا.. بعضُ حشانا!!
فيا شاعري الحبيبُ، أيّها المعلّمُ النّقيبُ، يا رافعًا في الملاعبِ أعلامًا وعلى المنابرِ الشُّهُبَ،..
إنّكَ، بوديعتِك البديعةِ: «لبنانُ صورةً وشعرًا»، لا تؤكّدُ تماهيَك بالوطنِ ترابًا تراثًا قيمًا أدوارًا رسالةً فحسْبُ، بل تجدّدُ وتشدّدُ إيمانَنا به، تَجلو عن وجهِه غبارًا ودخانًا، تَغسِلُه من دَنَسِ الخطايا، تعيدُه إلى براءتِه الأُولى، تُضمِرُ تضمينًا: الوطنُ هو ما أبدعَ اللهُ طبيعةً وطباعا.. وارتجاهُ الشّعبُ ناموسًا ونبراسا، لا ما يَبتغي أو يَبغي به الحكّامُ.. حكّامُ السّوءِ،..
وتعلنُ صراحةً باسمِ الأصالةِ وإخلاصِ المخلصينَ:
ترابُكَ يا وطني عنبرٌ
بقلبي يُشَمُّ
يُقبَّلُ يُعشَقُ يُعبَدُ
هذا التّرابُ بأهدابِ عيني يُلَمُّ!
ولقد فعلتَ ذلك كلَّه: من «الأرزِ جارِ السّماءْ»، إلى جبيلَ الّتي «صدّرتِ الحضاره ولم تَزلْ تحتلُّ بين المدنِ الصّداره»، إلى صورَ الّتي «تاريخُها أحداثُه في قلبِنا محفوره»، إلى صيدا الّتي «من مقلعِ الفداءْ والعزِّ والإباءْ قُدَّت»، إلى قانا الّتي «أرضُها مسكٌ بخورٌ وصلاه»، إلى بعلبكَّ الّتي «يتّكئُ الدّهرُ على أكتافِها»، إلى عنجرَ «سيمفونيا الهديلِ والزّئيرْ»، إلى طرابلسَ الّتي «تاريخُها قارورةٌ دهريّةٌ إذا فَضَضْتَ ختمَها تَضوّعَ الأَرجْ»، إلى ديرِ القمرِ الّتي فيها «خطَّ المعنيُّ أوّلَ حرفٍ في كتابِ استقلالِنا اللبناني»، إلى بيتِ الدّينِ الّتي لم تَزلْ في قصرِها «الحجارهْ ترصدُ في صمتٍ ومهابةٍ وقعَ خطى الأميرْ»، إلى نهرِ الكلبِ حيثُ «جمّعَ الزّمانُ ظلالاً في نقوشٍ وفي بقايا سطورْ»، إلى «معبدٍ أسطوره أُقيمَ فوقَ الماءِ في مغارةٍ مسحوره» اسمُها جعيتا، إلى «سَفارةٍ في الأرضِ للسّماءْ» هي سيّدةُ لبنان، وشلاّلٍ بليغٍ بجزّين «يَروي فيُروي ظمأَ المعجبينْ»، إلى إهدنَ الّتي الدّهرُ «يخافُ أن يدنوَ من عرينِها»، إلى بشرّي الّتي «لم تزلْ منابعُ الإلهامْ تَنهَلُ من نبيِّ جبرانِها»، إلى دُوما الّتي الشّمسُ «صاغت لها عِقدًا وإكليلا»، إلى جونيه الّتي «شاءها الحسنُ له عاصمةً»، إلى عمشيتَ الّتي على زَنْدِها «يغفو ويصحو الجمالْ والحسنُ يُعدي»، إلى زحلةَ حيثُ «أقامَ الشّعرُ مملكةَ الخيالِ»، إلى بسكنتا الّتي صخرُها المُمرِعُ «يُنبِتُ أعلامًا ومبدعينْ»،.. إلى ما شاءَ اللهُ قرىً لنا زمرّداتٍ لازَوَرْديّاتِ الجباهِ والشّرفاتِ.. منائرَ نُحِتتْ بالبَخورِ المصلّي، عن ذُراها الطّرفُ يَنحسرُ...
إنّها، هذه الطُّرَفَ، أيقوناتٌ مشغولةٌ بالحبِّ..، تُعلَّقُ بجدارِ الرّوحِ.. بكعبةِ الأعناقِ!
فهل أنا إذًا الّذي يدري لِمْ وكَمْ راودَه نَقطُ الوَجدِ في مَسرى رباعيّاتٍ، باحت بها عرائسُ الأجاجينِ والرّياحينِ والأنجمِ الزُّهْرِ، في إشراقاتِ عمرَ الخيّامِ؟!
أم أنا الّذي هَلَّ به رَجعٌ قُرميٌّ سَخيٌّ بَهيٌّ من «الجبلِ الملهمِ» أو آخرُ أبو شبكيٌّ عذبٌ نقيٌّ، من وادي الصّليبِ إلى قُبّةِ ديرِ الرّاهباتِ، في مطارفِ «الألحانِ»؟!
أَلا إنّه لبنانُ جُمّعَ يواقيتَ في جِيدِ الزّمانِ- وقد أجدتَ التّصويرَ والتّعبيرَ بدقّةٍ ورقّةٍ وبالبرقِ الكاشفِ العابر!!
فهذا الكتابُ قربانةُ قلبٍ، بَلسمَ الحبُّ جراحاتِه، من أشواكِ عمرٍ، استطالت به مكابداتُ الطّريقِ.. طريقِ الجهادِ والعطاءِ وإضاءةِ الشُّعَلِ.
بل هو كتابٌ موقفٌ ضدَّ بشاعاتِ العبثِ الأسودِ، يَخبِطُ خبطَ أعشىً وعشواءَ في حواسِّنا والأحاسيسِ؛ وقد جَمَّ ماءه من هَدأةِ النُّبوعِ لا من هَدرةِ الصَّبَبِ.
إنّه فعلُ إيمانٍ ورجاءٍ ومحبّة، في زمنِ الكفرِ والقنوطِ والكَراهِيَة.
إنّه الكتابُ الرّسولُ للعالَمينَ، وخيرُ السّفاراتِ بخيرِ اللغاتِ.. (أَنطونُ) «كم تأنّى في نحتِه وجُنّا»، وأَسعفَه المترجمونَ أيَّما إسعافٍ!
فيا سبحانَ اللهَ أَعطانا لبنانَ، وأعطانا الملهَمينَ كهذا الوجهِ كأنّه من إزميلِ الأغارقةِ، بل من جذوعِ زيتونِ الكورةِ اليَرشحُ الزّيتَ مَؤونةَ البركات..
شكرًا ربِّ، لأنّك أتحتَ لي أن أكونَ من أصدقاءِ أنطوان رعد.