"بعض ريف لبنان الشمالي في قرن، بقلم شربل داغر"
ندوة الحركة الثقافية- انطلياس – 6/ 11/ 2013 –16h30
رسم الكاتب شربل داغر في كتابه الجديد، صورة قرى تنورين، وهي بعض ريف لبنان الشمالي خلال قرن، إبتداء من منتصف التاسع عشر.*أعاد تكوين صورة هذا الريف، بنسيجه السكاني وكيفية تحصيل القاطنين لعيشهم وبتجربتهم التي ربطها بالعام، خصوصاًنظامالمتصرفية. قدّم الكتاب صورة حيّة وغنية لمنطقة بعينها، تصلح للتعميم على كل ريف لبنان.
تم ذلك للكاتب باستخدام سجلات العماد والتثبيت وتقارير "الزيارات الرعائية" لقرى تنورين، الموجودة في مطرانية البترون وفي بكركي، ومن خلال السجل العقاري الذي وفرته المتصرفية عام 1870. أوضح الكاتب أن تكوين السجلات كان يتم إنفاذاً لتعميم بابا روما الصادر أثناء "المجمع التريدنتيني" بين 1545 و 1563، الذي عقد لمواجهة إنشقاق مارتن لوثر عن الكنيسة. فُرِض على الكنائس تكوين سجلات عماد وتثبيت وزواج وتقديم تقارير دورية عن أحوال الرعايا، تحت إسم "الزيارات الرعائية". وقد أظهرت حالة الأرشيف في بداية القرن العشرين، أن رجال الإكليروس المعنيين بتكوين هذه السجلات لم يتنكبوا لمهماتهم بالجدية الكافية (ص 32).
الجزء الأول من الكتاب، أي نحو 200 صفحة، هو عرض وقائع ومعلومات بحت محلية، اعتمد الكاتب فيها المراجع التي سبقت الإشارة إليها. أما في الجزء الثاني منه، فربط الكاتب بين الخاص والعام، أي عرَض الواقع المحلي، رابطاً إياه بما كان يجري في المتصرّفية ولبنان الكبير. يروي الكاتب سيرة إجهاض عملية دخول ناجح لهذا الجزء من الهلال الخصيب إلى الحداثة، ومساراً له على حافة الهاوية على امتداد الحقبة المذكورة.
1. الوضع السكاني
إستخدم الكاتب لتعداد السكان، لوائح "المثبّتين"، وهي ست لوائح خلال النصف الثاني من التاسع عشر، أهمها العائدان لعامي 1852 و 1894. وهي تُظهِر ارتفاع الأعداد بين هذين التاريخين، أي خلال 42 عاماً، بنسبة 86 %، ما يُظهِر نمواً سكانياً قوياً خلال النصف الثاني من التاسع عشر (ص 82). وقد بلغ عدد السكان 3000 عام 1883، وفقاً لتقرير "الزيارة الرعائية" (ص 103). وارتفع إلى 4100 في 1903، ثم إلى 5600 عام 1913 (ص 104). أي أن النمو السكاني حافظ على وتيرة عالية خلال العقد الأول من القرن العشرين، رغم الهجرة الكثيفة آنذاك. أما بين 1894 و 1939، فقد نقص العدد بنسبة 37 %. وإذا قارنا السنة الأخيرة هذه بأرقام 1852، تكون الزيادة بنسبة 16 % فقط خلال 90 عاماً (ص 88). تعاونت المجاعة مع الهجرة لضرب إمكان تراكم ديغرافي جدي لهؤلاء الناس.
2. النخب والإدارة العامة
النخب التي يتحدث عنها الكتاب نوعان، تقليدية وجديدة. الأولى يمثلها المقاطعجية، أو جباة الضرائب، أو المتحدرون منهم، كحلقة كانت تربط المنتج المحلي بالسلطان. أما الجديدة فمثّلها أبناء رجال الدين، أو كهنة الرعايا، وهي نشأت في التاسع عشر وليس قبل. مثّل الأولى على امتداد حقبة المتصرفية شخص واحد، هو أنطون بك طربيه، الذي كان مدير الناحية، التي ضمّت قرى البترون الأعلى. وحين مات استعاد إبنه المركز بعد انقطاع قصير. إستمد أنطون طربيه سلطته على الناس من كونه "إبن شهيد"، قُتِل والده في بيصور في أحداث 1841. يصعب على القارئ أن يجد شيئاً إيجابياً في سيرة هذا الشخص الذي كان مسكوناً بتصوّر محبِط للعالم قائم على التراتبية والإخضاع (hierarchy and domination). أمضى عمره في التناحر مع أقرانه لإثبات وجوده، وفي التنكيل بأبناء بلدته. وقد هرب منه آل مرعب، وهم جب من آل حرب طيلة 17 عاماً واستوطنوا "شير الحرية" في الجرد العالي، على علو ألفي متر عن سطح البحر. ولعل القارئ كان يرغب بمعرفة شيء عن الأفراد الذين كان يستخدمهم "البيك" (retainers) لفرض سلطته.
أما النخب من الفئة الثانية، فهم ممن أوفدهم آباؤهم الكهنة للدراسة في الخارج. أصبح أغلبهم محامين وموظفين كباراً في الإدارة العامة. وكان قسم منهم رجال دين. وسوف يخرج من هذه الفئة نواب الأمة وممثلوها في عهدي الإنتداب والإستقلال.
ذكر الكاتب العديد من الوقائع حول فساد وطمع المتصرفين. وذكر أنهم كانوا يبيعون ألقاب "البيك" التي اشتراها العديدون (ص 349). إستخدم مراجع عدة أتاحت وصف بعض إداريي المتصرفية، من دون أن يوفر صورة متكاملة للإدارة العامة خلال تلك الحقبة. بدا الإداريون منخرطين في منازعات وشد حبال وعمليات رشوة. وبدت فكرة الدولة بوصفها معنية بتقديم خدمات عامة غائبة عن إدراكهم.
3. التعليم والبنى التحية للمواصلات
هناك بضعة أفراد كانوا يتعلّمون على امتداد الحقبة. أما الكثرة الساحقة فلا. يعرض الكاتب وقائع كثيرة حول التعليم، أولها اتفاق الأهالي منذ الثامن عشر، مع رهبان "دير حوب" على التخلي لهم عن أرض "حوب" مقابل تعليم أولادهم. ولو أخذنا صورة الوضع أول القرن العشرين في عز الثورة الصناعية في الغرب، لبدا هذا الريف في عالم آخر، خارج أي سياق يتيح له الدخول بفعالية إلى الحداثة.تعلّل الرهبان بأن ليس ثمة تلاميذ لكي يقفلوا المدرسة. لكن الحقبة نفسها شهدت افتتاح مدرسة للإناث، بناها الأب طوبيا يونس وأدارتها راهبات فرنسيات حتى الحرب الأولى.إجتازتتنورين القرن العشرين بمدارس إبتدائية. لن يعرف أهلها المدرسة الثانوية إلا في مطلع سبعينيات القرن العشرين.
النقاش القديم هو أن الناس هم المسؤولون عن عدم تعليم أولادهم لأن هؤلاء قوة عمل. والكلام الدقيق في هذا المجال، هو أن التعليم كان في تجربة الغرب مسؤولية الدولة، وكان إلزامياً، وأنه كان يوفر تأهيلاً يمكن استخدامه في اقتصاد قادر على تشغيل القوى العاملة الوطنية. لماذا يتعلّم الناس إذا كان علمهم لن يوفر لهم عملاً؟ والتعليم في لبنان منذ المتصرفية هو الطريق الأقصر للهجرة النهائية، لأن النخب لم تكن في وارد بناء إقتصاد منتج.
المذهل أن زعامة أنطون بك، ومكوثه على رأس تلك المديرية قرابة نصف قرن، لم يؤديا لتحقيق إنجاز واحد في التنمية والمواصلات. سوف تنتظر تنورين قرناً كاملاً بعد إقامة المتصرفية قبل أن تصل الطريق إليها. استخدم الكاتب مراجع حول أوضاع الطرق في المتصرفية. وهي أوضاع بائسة لأن هذه الأخيرة لم يكن لديها إنفاق عام في أي ميدان. أورد تعميماً صدر عن مجلس إدارة المتصرفية عام 1879، يطلب من السلطات المحلية إلزام كل قاطن في نطاقها تخصيص أربعة أيام في السنة للمساعدة بدون بدل في شق الطرقات (ص 429).
لكن الأكثر بؤساً من طرقات المتصرفية كانت طرقات تنورين. أنجز أهل دوما جارة تنورين، الطريق من بزيزا في الكورة إلى بلدتهم بجهدهم وعلى نفقتهم خلال حقبة الإنتداب. وأكمل أهل تنورين التحتا الطريق إلى بلدتهم. وأُنجِزت الكيلومترات العشر من تنورين التحتا إلى وطى حوب عام 1946 (ص 433). وانتظر أهل تنورين الفوقا 17 سنة إضافية لإنجاز وصلة لا تتجاوز الكيلومتر الواحد توصل الطريق إليهم من جهة البترون. وصلت الجرافة إلى ساحة البلدة عام 1963. أما من جهة جبيل، فقد أوصل أسعد بك يونس، أخ النائب أيام الإنتداب، مسعود يونس، الطريق من إهمج إلى اللقلوق مكان اصطيافه (ص 427). واستكمل الأهالي الكيلومترات العشر حتى شاتين، بمبادرة من الأباتي مرتينوس طربيه. ووصلت الطريق إلى مدخل تنورين الفوقا أول الستينيات بـ"عونة" من الأهالي ومبادرة من النائب آنذاك، جان حرب. ماية عام بكاملها انقضت منذ إقامة المتصرفية قبل أن يصبح لأهل تنورين طريق تصلهم بالساحل. ماية عام، كان الأهالي خلالها يحاولون بشق النفس البقاء في أرضهم الصعبة، ويخلّفون ويرسلون أولادهم إلى المهجر.
4. مصادر العيش
تبدو واضحة منذ الجزء الأول من الكتاب، من خلال تقسيم الأرض الذي وفّرته الوثيقة العقارية الصادرة عام 1870. وهي توزّعت بين سليخ يخصّص لزراعة الحبوب، ومختلف يحتوي على أشجار مثمرة، خصوصاً العنب والتين، وأراض مخصصة لشجر التوت المستخدم في اقتصاد الحرير. يقول الكاتب أن الجانب الأساسي من المحاصيل كان مخصّصاً لتأمين الإكتفاء الذاتي، وأن زراعة التوت بقيت ضعيفة مقارنة بالأنحاء الأخرى للمتصرفية (ص 126). وكان يضاف إلى ذلك تربية قطعان كبيرة نسبياً من الماشية، توفرت لها مساحات للرعي في الجرد العالي. وهي كانت تقدّر بمئة ألف رأس أيام الإنتداب، نقلاً عن الخورأسقف يوسف داغر(ص 129)، وقد قال المؤرخ كمال الصليبي أن الموارنة كانوا رعاة غنم وماعز وفلاحين.كان الناس "يزرعون القمح والذرة والحمّص والبطاطا واللوبياء ويحضرون البرغل والكشك"، ويأكلون "الرشتة والمخلوطة والمجدرة والمعكرون" ، يضاف إلى ذلك "الدهن والجبن واللبن واللبنة"، نقلاً عن الخورأسقف يوسف مرعب حرب ( ص 450 و499). تظهِر هذه المعطيات تنوعاً في السلة الغذائية، وقدرة لهذا الريف على تحقيق الإكتفاء الذاتي الغذائي.
5. الهجرة والمعطيات حول المجاعة
في الكتاب بضعة معطيات حول الهجرة، أهمها التي أوردها تقرير "الزيارة الرعائية" عام 1913، حيث ثمة 2470 مهاجر، مقابل عدد إجمالي للسكان هو 5600 نسمة (ص 172-173). أي أن المهاجرين مثلوا آنذاك نسبة تساوي 44 % من القاطنين. يورد الكتاب أسباباً غير إقتصادية لهجرة البعض، منها صراعات مع المتنفّذين أو ملاحقات قضائية ( ص 456 و 466). وأفضل تعبير عن ما باتت تمثله الهجرة من خطر آنذاك، إرتياع كاتب تقرير "الزيارة الرعائية" لعام 1913، أمام هجرة 70 شخصاً خلال أسبوع واحد إلى الولايات المتحدة، وتحضّر عدد مماثل للأمر ذاته. لا نجد لدى النخب إدراكاً لخطورة الكارثة المتمثلة بالهجرة. لكننا نجده لدى رجال دين. في رسالته المنشورة في مجلة "البعثات الكاثوليكية" في آب 1914، يصف الأب اليسوعي جوزيف دولور بطريقة مأساوية الخطورة التي باتت عليها آنذاك عملية إفراغ الريف بالهجرة من أهله (دولور، 1914).
غابت معطيات كان لا بد منها حول المجاعة التي أبادت نصف شعب لبنان. من الـ 500 ألف ضحية التي تسبّبت بها المجاعة في عموم الهلال الخصيب، كانت حصة لبنان الشمالي المطل على البحر، 200 ألف. تؤكّدالباحثة ليندا شاتكووسكي كيلكر، أن الحصار الذي ضربه الحلفاء على ساحل المتوسط الشرقي، كان العامل الأهم في افتعال المجاعة (كيلكر، 1992: 234). بقي الحصار مضروباً حتى آخر يوم من الحرب، رغم معرفة الفرنسيين أن المجاعة تبيد "جماعتهم". ترد في الكتاب إشارات حول المجاعة، أهمها ما ذكرته رسالة الخورأسقف بولس عقل في 1916 إلى مطران الموارنة في مصر، والتي يقول فيها أن "منطقة البترون تكاد تكون مقفرة لولا وجود 200 شخص في تنورين" (ص 183). والمار في بلاد البترون، الموحِشة حتى الساعة، تأخذه القشعريرة . تعاونت الهجرة والمجاعة لإفراغ البترون وجبيل وكسروان من أهلها. مثّل المهاجرون من هذه المناطق الثلاث، مضافاً إليها المتن، 60 % من المجموع العام للمهاجرين قبل 1914، وفقاً لأرقام المؤرخ الإقتصادي شارل عيساوي. وأورد الباحثان كارلا إده ويوسف معوّض معطيات مقتضبة حول الكارثة في البترون. من الوقائع أن ثمة 3800 جثة مدفونة في قبر جماعي قرب كنيسة مار جرجس في إهدن، لهاربين من بلاد البترون آنذاك ( إده ومعوّض، 2007: 104). وفي عدد شباط 1922 من مجلة "آسيا الفرنسية"، صوّر يصعب النظر إليها لعائلات جلست بكامل أفرادها تنتظر موتها، لأنها لم تعد قادرة على الحركة. وفي صيف 1916، كان جرس الكنيسة يقرع حزناً كل يوم في تنورين، معلناً موت شخص. وكان أحياناً "يأتي خبر" عائلة بكاملها بقيت تجالد صامتة حتى ماتت عن بكرة أبيها.
6. رجال الدين
خصّص الكاتب صفحات كثيرة لرجال الدين على اختلافهم. الأب طوبيا يونس هو الأقرب إلى القلب. عاد من فرنسا بعد أن شغل منصب النائب البطريركي فيها، وشيّد مدرسة الراهبات وعلّم فيها الصغار والكبار ( ص 401). والخورسقف يوسف مرعب حرب، المولود عام 1909 عاش مئة عام وعام، ولم يعد فيه على امتداد كهولته وشيخوخته الطويلتين سوى الوداعة.صمد إلى جانب أهل بلدته حين امتلأت بالناس حتى ستينيات القرن العشرين، وحين أصبحت شبه خالية، بل أثراً بعد عين، في آخر القرن ذاته. لم يكن يبكي، أو يشتكي أو يقارن أو يجادل. ربما لأنه كان يأخذ الأمور على أنها "إرادة الله وقسمته". أغفل الكاتب إيراد ولو نصف صفحة عن المونسنيور اغناطيوس داغر، رئيس الرهبنة المارونية خلال الحرب الأولى، الأقرب بين رجال الإكليروس كلهم إلى وداعة المسيح وفحوى رسالته.
روى الكاتب فصلاً من قصة لم تُختم بعد. وهي قصة حكمتها حتى الآن، ثوابت قرن ونصف قرن، من التحاق نخب هذه المجموعة البشرية بالأجنبي الغربي، وخروج هذه الأخيرة من هويتها العربية لصالح لا شيء، وعجزها عن إقامة دولة تحمي وجودها في المدى الطويل.
------------------
المراجع
DeloreJoseph, « Immense détresse matérielle et morale au Liban », in Les Missions Catholiques, Paris, no 2357, 7 août, 1914, pp. 373-374.
Documents économiques, politiques & scientifiques / publiés par l'Asie française,« La famine au Liban et l'assistance française aux Libanais pendant la Grande Guerre (1915-19) », L'Asie Française, supplément, février 1922.
EddéCarla, « La première guerre mondiale : une catastrophe sans précédent au “Liban” »,inLévonNordiguian (dir.), Les “petites écoles” du Mont-Liban, Joseph Delores.j. (1873-1944), Presses de l'Université Saint-Joseph, 2007, pp. 93-100.
MouawadYoussef, « Quatorze-dix-huit ou la guerre de la famine », in L.Nordiguian (dir.), Les “petites écoles »…, 2007, pp. 101-107.
SchatkowskiSchilcher L.,” The Famine of 1915-1918 in Greater Syria”, in J. Spagnolo (ed.), Problems of the Modern Middle East in Historical Perspective: Essays in Honour of Albert Hourani, Ithaca press, 1992, pp.229-258.