كامل مهنّا:
سيرة ذاتية في أرشيف ملحمة خيارات صعبة
بقلم: أنطوان سيف
الرهانات الكبرى وحدها تستدرج الخيارات الصعبة وتحوّلها زاد طريقٍ لا وقوف فيه باتجاه سمائها المفتوحة. الإرادة المولّدة صلابتها وعنادها من نصاعتها، عندما تتجسّد مواقفَ نضال ومعاناة وتماسّاً مع جفن الردى، تغدو المجازفةُ روحَ المعتقد لا تستقيم في الوعي بوضوحها بل بحمأة توثُّبها.
السيرة الذاتية التي أودعَها كامل مهنّا الصفحات الأربعماية والخمسين من ملحمته جعلها رسالةً لعناوين مغفلة من الشرقيين والغربيين على حد سواء، تجمعهم تلك السمة النبيلة المعززة لهويّة الانسان في الالتزام بمحو الألم والفقر والظلم والعوَز، هي دليل للعبور في دروب حضارة أخفى مستغلّوها أصوات الأنين فيها، ومرجعٌ أشبهُ بمضبطة إتهام لجرائم ابتدعت لها طرقٌ شتى للتهرّب والاحتماء. سيرة ذاتي مدبلجة من الشفهي الحيّ النابض بحرقة الراوي الى المكتوب الذي أوصله شوقي رافع روايةً أخّاذةً، كما وصفتها بصدقٍ لافت عبارة ابراهيم بيضون، استحقّت بالضرورة العبور من اللسان العربي الذي شهد عياناً ومعاناةً أقسى أحداثها، وتطوّع لمعاناة "خياراتها الصعبة" وتحويلها إلى "ملحمة"، إلى اللسان الفرنسي المشارك هو بدوره، والمتواطئ أيضاً، مع العديد من مجازفاتها.
ها هي حياة انسانٍ فرد تنفلش على الورق، وتغدو رواية على ألسن الأقربين، لتسري بالضرورة المنطقية والاخلاقية الى كل من يشرف على عالمنا ويحرص ان لا تغدر به مؤامرات الصمتُ على شركائنا في الانسانية الكبرى، حيث لا تمييز في الأمكنة والمعتقدات وسائر انماط الحياة. بهذا النموذج تحولت سيرة الدكتور كامل مهنا إلى مدرسة في العلاقات البشرية يقوم على العطاء، تلك المقولة التي جعلها بعض علماء الانثروبولوجيا الأساس في لحمة البشر، والتي أصرّ الراوي، صاحب السيرة، على ألاّ يراها إلاّ بصورة مشرقة ناصعة عاصية على كل التباس، هي "التطوع" الذي يحمل المجانية النبيلة في ماهيته، ويزجّه في الأمل بتغيير نمط الحضارة المعاصرة ومجتمعها المدني الملازم ومماهي لحياة البشر فيها.
فلسفة حياة، بل معتقد جامع، يحمل اتباعها هويةً واحدة تتكلم كل اللغات. إلاّ أن قليلهم يعرف بعض جذوره العميقة البعيدة حينما كان مغامرةً كبرى ومجازفة بالحياة الفردية في سيرة انقاذ حيوات أكثر، ومعاناةً لا تعيقها الآلام الخاصة، الجسدية والنفسية القمينة بما عُرف به بعض الأولياء والقديسين وانقياء الروح المحيي. سيرة هذه الرواية ذاتها رواية هذه السيرة:
هذه الرواية أبت معاندة التاريخ، حافظت على القبل والبعد، والخيط الواصل مراحل العمر كخيط السبحة الجامع حبّاتها، لتعطي للحياة معنىً، وللصخب الهادر من غير توقّف انسجاماً لم تسمح به فورات الاندفاع الشبابية. راوية يشعر كل واحد منّا ان شيئاً منها قد فاته وكان يمكن ان يكون في أحد مشاهدها، مرافقاً ولو لفترة لصاحبها الذي فاجأنا بها وجعلنا نكتشف فيه ما يزيدنا به حبّا وصداقةً ورفقة دربٍ ان لم تكن واحدة بالجغرافيا فهي واحدة ومتماهية بالانساني الذي لا يلغز على أي انساني، كما قيل.
هنيئاً لك كامل مهنا إنك في المطاف الأخير أمطتَ اللثام عن أرشيف جراحك وخيباتك وانجازاتك بل انتصاراتك في "عامل" واترابها الكثر، وفي عائلتك الصغرى والكبرى، واسمح لنا بأن نكون معك لأنك كنت مع كل ما وددنا ان نكون معه، ولا تزال.
أنطوان سيف
انطلياس 4 آذار 2014
----------------------------------------------------
أ.د. مصطفى حجازي
كامل مهنا
ملحمة العطاء الملتزم بقضايا الإنسان والقيادة الريادة في التنمية المجتمعية
الصديق كامل مهنا كان لي، ولا يزال فرصة اللقاء الانساني الغني معه ومواكبة مسيرته لما يزيد عن أربعين عاماً مع التبادل المثمر للأفكار والرؤى في قضايا التخطيط والممارسة. إنه يمثل نموذجاً للعطاء الملحمي الملتزم بقضايا تنمية الانسان والقضايا المجتمعية الكبرى. وهو في الآن عينه يمثل نموذجاً رائداً في قيادة العمل الاجتماعي. وهو في الحالتين يعطينا مثالاً في الدافعية الأصيلة للعطاء والقيادة التحويلية المنمية اللتين تقدمان أكثر دروس علم النفس الايجابي معاصرة وأهمية.
لن تكرر هذه الكلمة القصيرة سيرته الملحمية التي يصعب أن توفى حقها، إذا هي معروضة بكل غناها في الكتاب موضوع هذا اللقاء. نكتفي بإشارات سريعة الى بعض جوانب هذا العطاء الملتزم بقضايا إنساننا. إنه طبيب أطفال معروف، وكان بإمكانه أن يختار حياة نخبوية مالياً واجتماعياً. إلا أنه اختار توظيف الطب لرعاية صحة الناس والتنمية الصحية. بدأ حياته مناضلاً طالبياً خلال دراسة الطب في فرنسا حيث ترأس اتحاد الطلاب العرب، وقاد نضالات ضد الاعتداءات الاسرائيلية في حرب حزيران وعلى الجنوب اللبناني بعدها. وعرّض مساره المهني لتهديد جدي في آخر سنة دراسية للطب حيث صدر قرار طرده الذي لم ينفّذ. ما كاد أن يتخرج حتى التحق طبيباً ميدانياً بثورة ظفار لشهور عديدة. عاد بعدها الى لبنان حين بدأت الحرب الأهلية وما رافقها من تهجير ومجازر جماعية. اشتغل في عدة مخيمات فلسطينية محاصرة معرّضاً حياته لخطر داهم ودائم ويومي. وتفانى في خدمة المصابين. ثم أسس مؤسسة عامل لأعمال الإغاثة هو وصحب له في المناضلين، فقام بأعمال إغاثة لضحايا الاعتداءات الاسرائيلية في أقسى الظروف وأشدها خطورة على الصعيد الأمني، حيث تعرّض عدة مرات لخطر اصابات مميتة.
إنه الحاضر دائماً للعطاء والخدمة في كل المواقع التي تتعرض الاعتداءات الحربية على المواطنين، حيث أن شعاره: الطب هو لخدمة صحة الناس، وليس للوجاهة الاجتماعية والثراء المادي. إنه يعيش حالة التزام عميق بخدمة المستضعفين والمهمّشين والمتروكين لمصيرهم، حيث يصل عطاؤه أقصاه في نوع من الإقدام الذي لا يقف عند أي أخطار، والحماسة للعمل، مع ارتفاع فائق للمعنويات والحيوية.
يعيش في القضية ويجد ذاته فيها حتى أنه أصبح هو وقضية خدمة هؤلاء الناس من ضحايا الاعتداءات صنوين.
بعد توقف الحرب تحول هو ومؤسسة عامل الى التنمية المجتمعية (الصحية، النفسية والاقتصادية). إذ أسس ولا يزال العديد من مراكز التنمية الشاملة في مختلف مناطق لبنان. وكان عليه بعد خوض المقاومة ضد العدوان العسكري أن يخوض مقاومة أصعب وأشد شراسة ضد تدخلات أطراف النفوذ السياسي التي تجد في عمله منافسة لها على مناطق نفوذها. تعرّض عمله لشتى أنواع الحصار السياسي، إلا أن إيمانه الراسخ في تنمية الانسان هو دائماً الأقوى.
يرفع في عمله شعار التفكير الايجابي والتفاؤل الدائم انطلاقاً من إيمانه بقدرات الناس على العطاء. يفتش دوماً عن الايجابيات عند المساعدين والزملاء والجمهور الذي يخدمه؛ يؤسس عليها وينطلق منها لإطلاق طاقات النماء. يرى أن السلبيات هي معوقات لا يجوز التركيز عليها، لأنها من طبيعة العمل، كما أن القصور هو من طبيعة البشر. يعتبر أن إطلاق الايجابيات وإتاحة المجال للمبادرات الفردية المعطاءة وتحمّل المسؤولية، هو الكفيل بتجاوز كل المعوقات البشرية أو المادية.
الإيمان بالانسان وحقوقه في الصحة والحرية والتنمية، وقدرته على العطاء وتحمّل مسؤولية الذات والمصير، هو ما يشكل فلسفته الموجهة للعمل، وصولاً الى بناء إنسان حر التفكير، كامل المواطنة. تلك بذور التغيير التي يحاول غرسها واستنباتها، يجمعها مبدأ تعزيز ثقافة إنسانية الانسان. خياره المفضل هو الوعي بالقضية الحق التي تحتاج الى الاقتاد للقيام بأعباء خدمتها. يردد شعار: ليس هناك إنسان ضعيف وإنما هناك إنسان لا يعرف موطن القوة لديه. تركيزه ينصب على الشباب وطاقاتهم الحية والعمل معهم على إطلاقها. ذلك أن القضية هي التي تعطي معنى للوجود، وكل السلبيات والمضايقات تهون من أجل القضية.
ولقد بنى من أجل ذلك كله أسلوباً منمّياً في القيادة: الاستماع، التفهم، القبول، تفويض السلطات وتوفير فرص تحمل المسؤوليات، تشجيع المبادرات، الروح الرفاقية التي لا تعرف إلىالتعالي وميول التمريّس(Bossism)(حب الترأس) سبيلاً، ويتوجّها السؤال: أين الخير لدى الناس وكيف ننمّيه؟
لقد نجح كامل مهنا في بناء مؤسسات تنمية مجتمعية أصبحت نموذجاً يُحتذى في العمل العام. ونجح في أن يعيش انسانيته ويحقّقها بكامل كثافتها وغناها من خلال دافعية جوانية تمارس العمل بحماسة وفرح مكرّسة لخدمة تنمية الانسان. كل ذلك من موقع دماثة الخلق، وطيب المعشر، ودفء العلاقات، والاقبال على الحياة بكل زخمها، وخلق أجواء الفرح والانطلاق في كل ملتقى اجتماعي يوجد خارج العمل.
كامل مهنا في عطائه لقضية الإنسان اللبناني المهمش والضحية، وكذلك لكل اللاجئين ضحايا العدوان والاستبداد من الأخوة العرب يمثل ما يعرف في علم النفس الايجابي بالدافعية الجوانية الأصيلة: أي ليس العمل من أجل الجاه والوجاهة الاجتماعية الشائعة في أوساط العمل الاجتماعي، أو من أجل الكسب المادي. بل العطاء الذي يجد مكافأته ورضاه الذاتي في العمل ذاته.
كما أنه في أسلوب قيادته يمثل مقومات المنحى المعاصر في القيادة التحويلية المنمية: تقديم النموذج المثالي للعاملين في شخصه وسلوكه من خلال تقدم الصفوف في العطاء. وخلق الدافعية الملهمة للعاملين حيث يثير حماستهم لتقديم أفضل ما عندهم وتشجيعهم وبث الثقة بقدراتهم على الانجاز بحيث يتجاوزون ما كانوا يعتقدون أنهم عاجزين عن تحقيقه. ويتمثل أيضاً فيما يقوم به من تشجيع العاملين على تشغيل أذهانهم وشحذ أفكارهم واطلاق مبادراتهم الى ابتداع حلول لمشكلات العمل. وهو ما يعزز لديهم الاحساس بالعطاء والرضى عن الذات وانجازاتها. ويتمثل كذلك في التقدير المتفرد لكل من العاملين بشكل شخصي تبعاً لقدراته وامكاناته، من موقع الرعاية والحماية والتفهم والانفتاح التواصلي؛ مما يولد أفضل حالات الروحية الجماعية المؤسسية.
من خلال أسلوب القيادة التحويلية المنمية هذا أصبح العاملون في مؤسسة عامل بدورهم نماذجاً في العطاء كل في مجاله.
يمثل كامل مهنا في دافعيته الأصيلة للعطاء، والتمسك بشعار التفكير الايجابي والتفاؤل الدائم في العمل وفي أسلوب قيادته الريادية المنمية للعاملين وثقته الأصيلة بالإنسان المهدور والمقهور وقدرته على النماء أحد أرقى ضيع التنمية المجتمعية. ولذلك فهذا اللقاء ليس مناسبة للاحتفاء بشخصه وبعطائه، وإنما هو مناسبة للتعلم منه في بناء اقتدار إنساننا واستعادته لإنسانيته.
----------------------------------------------------
كتاب الدكتور كامل مهنا بالفرنسية
"طبيب لبناني مسكون بقضايا الشعوب : الخيارات الصعبة"
“un médecin libanais engagé dans la tourmente
des peuples: les choix difficiles”
حســن عواضـــة
قبل ان اطلع على السيرة الذاتية للدكتور الصديق كامل مهنا، من خلال كتابه الصادر باللغة العربية، ثم ترجمته للفرنسية، كنت شديد الاعجاب به كطبيب مناضل تمكن أن ينشىء – مدعوماً بنخبة من الاصدقاء المتفانين مثله في سبيل المصلحة العامة – عشرات المراكز باسم مؤسسة "عامل"، في جميع أنحاء لبنان، متعالياً على الاتجاهات المذهبية والطائفية والحزبية: مراكز ناشطة وناجحة كلياً تقدم الخدمات المتنوعة في المجالات الصحية، والاجتماعية، والتدريب المهني، ومكافحة الامية، وحتى المجال الحقوقي، بالاضافة الى الارشاد والتوعية والبرامج التنموية، وأخيراً الاعتناء بالنازحين السوريين وتعليم الالوف من أبنائهم الخ.. بحيث حازت "مؤسسة عامل" ثقة الجميع محلياً ودولياً، وأصبحت معترفاً بها كمؤسسة دولية لها صفة استشارية لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للامم المتحدة، وممثلة في مختلف الهيئات الدولية ذات الاهداف الانسانية.
ولكن عندما صدر كتابه بالعربية تحت عنوان "ملحمة الخيارات الصعبة"، تم ترجمته للفرنسية متخذة عنواناً آخر: "طبيب لبناني مسكون بقضايا الشعوب: الخيارات الصعبة" :
“un médecin libanais engagé dans la tourmente des peuples: les choix difficiles”
واطلعت عليه بكل شغف، أضيف الى اعجابي دهشة كبيرة من هذا الانسان الاستثنائي غير العادي، بحيث تستحق سيرته الخارقة العنوانين... "فالملحمة" لغة تعني "قصيدة متعددة الاناشيد تسرد حوادث بطولية، وتصف مغامرات مدهشة أبطالها بشر متفوقون وآلهة، وهي تعتمد خصوصاً عناصر الادهاش والخوارق والخيال"، كما ان الالتزام بقضايا الشعوب من الخيارات التي لا يكن ان يتحملها انسان إلا اذا كان "مسكوناً" بها كالدكتور مهنا.
وهكذا اكتشفت في الدكتور كامل مهنا شخصاً مناضلاً غير عادي، لا يمكن الا ان تطلق على أحداث سيرته صفة الخوارق والخيال.
ولعل نشأته في بلدته "الخيام"، القريبة من فلسطين، وتجارة المرحوم والده بين "الخيام" وفلسطين، غرست في نفسه، وهو طفل، الاحساس المر بالمأساة الفلسطينية وهو يشاهد اللاجئين الفلسطينيين واطفالهم الهاربين من العدوان الاسرائيلي، الى جانب مأساة الجنوب، مما أثار فيه روح النضال والتضحية التي رسخت في روحه المتمرده، ومكنته بعد ذلك من اجتياز "الخيارات الصعبة"، بل أحياناً المستحيلة، والتوق الى العدالة والحرية بروح قيادية أهلته، وهو يدرس الطب في فرنسا، الى قيادة "اتحاد الطلاب اللبنانيين" موجهاً النضال من أجل فلسطين وتأييداً لثورة الجزائر، مما أدى بالطلاب تحت قيادته الى احتلال السفارة اللبنانية في باريس احتجاجاً على العدوان الاسرائيلي على مطار بيروت. وقد تعرض بسبب هذه النشاطات الى اصدار قرار من السلطات الفرنسية بطرده من فرنسا، وهو على أهبة الاستعداد لامتحانات التخرج من كلية الطب. ولكن روحه النضالية دفعته الى عدم الرضوخ لهذا القرار، بل قدر على تجنيد اتحاد الطلاب الفرنسيين والطلاب العرب، وبعض السفارات العربية للضغط على السلطات الفرنسية مما أجبر هذه السلطات على الرجوع عن قرارها.
وكان من الطبيعي بعد تخرجه، ان يعود الى لبنان ويفتح عيادة طبية ناشداً الراحة والحياة المترفة، ولكنه "كمسكون بنضال الشعوب" قرر، خلافاً للمنطق المريح، اسوة بـ "تشي غيفارا" ان ينضم بصفة طبيب من "الاطباء ذوي الاقدام العارية" Médecins aux pieds nus، متنقلاً مع الثوار بين جبال ووديان ظفار، معرضاً نفسه الى جانب اخطار الحرب، لاخطار اكبر بمعالجته امراضاً خطيرة ومعدية مثل : السل، وحمى التيفوئيد، والملاريا، والرمد والجرب وحتى مرض الجذام...
ثم اضطر الى العودة الى لبنان، مفتتحاً عيادته قريبا من المخيمات الفلسطينية، حاملا بالرغم من أوجاع ظهره أدويته لمعالجة الفقراء في الفاكهاني، وتل الزعتر، وأخيراً في محلة النبعة حيث كاد أن يقتل فيها عندما وقعت قذيفة بالقرب منه ألقته أرضاً فاقداً وعيه، وظن رفاقه انه قد قضي عليه، ولكنه أفاق وكان خلاصه من محلة النبعة المطوقة بفضل استاذه الذكتور مجدلاني وتلميذته الدكتورة صهيون.
ولكنه لم يسترح بعد ذلك، بل انتقل مع معالجته وأدويته الى مخيم المهجرين في الدامور. وأنشأ في هذا الوقت مؤسسة "النجدة الاجتماعية"، ثم في عام /1979/ انشأ "مؤسسة عامل"، مع نخبة من الاطباء والمثقفين المناضلين، وتمكن بفضل صلاته مع جمعيتي "اطباء بلا حدود" و"اطباء العالم" ان ينقل أكثر من خمسمائة جريح مصابين في الحرب اللبنانية القذرة للاستشفاء في اوروبا. كما تمكن حتى الان بفضل الثقة التي نالها من مؤسسات أجنبية حكومية وغير حكومية، من انشاء /24/ مركزاً لمؤسسة عامل منتشرة في الشمال والجنوب والبقاع وبيروت، مراكز وطنية بكل معنى الكلمة تطمح الى عالم أكثر عدالة وانسانية. وقد تطورت مؤسسة عامل، بفضل الثقة والتضحيات التي يقوم بها الدكتور مهنا الى أن تصبح مؤسسة دولية كما سبق بيانه. ويكفي ان نعرف ان الدكتور مهنا يخصص أقل أوقاته لعيادته ومعظم أوقاته للمؤسسة والاتصال مع العاملين فيها، الذين يبلغ عددهم المئات من لبنانيين وعرب واوروبيين وكنديين.
وقد سأله أحد الاصدقاء مرة، نظراً للشهرة المحلية والدولية التي يتمتع بها، هل يطمح لان يكون زعيماً سياسياً، فأجاب بشيء من الحدة: "من قال ذلك؟ ان ارنستو تشي غيفارا" ترك الزعامة في هافانا وذهب ليقاتل في غابات يوليفيا، أمامي العالم كله أناضل فيه وتريدني ان اصبح زعيماً على زاروب؟"
هذا الانسان "المسكون" فعلاً بالنضال وقضايا الشعوب، ومثال للتضحية بوقته وجهده في سبيل مساعدة الفقراء واللاجئين، يستحق ان ننعت سيرته الذاتية بـ "الملحمة"، لانه لا يمكن لانسان عادي أن يتحمل أعباء المراكز التي أنشأها وزودها بأحدث الاجهزة والآلات الطبية وغير الطبية، والتي جعل شعارها "التفكير الايجابي والتفاؤل المستمر". والمدهش انه يجسد هذا الشعار بابتسامته الدائمة المشرقة والنكات الذكية، بالرغم من القلق والصعاب التي يتحملها من خلال قيادته لهذه المراكز المنتشرة في جميع انحاء لبنان.
ولعل ما يشجعه على المضي في هذه "الملحمة" وهذا التفاؤل ما يحيط به من اصدقاء مخلصين ومعجبين بسيرته واخلاصه، ومن عائلة كريمة وأولاد متفوقين يدعمونه ويساعدونه في خياراته الصعبة.
ان سيرة الدكتور مهنا رواية اسطورية مدهشة وجذابة بل فيلم وقائعه أقرب الى الخيال، وما إن تبدأ بالصفحات الاولى من كتابه حتى تشدك اليها وتستغرق في قراءتها منبهراً بمغامراتها الخارقة، ويزداد اعجابك ودهشتك كلما تقدمت في قراءتها، فتحية صادقة للمناضل الدكتور مهنا واعجاباً بلا حدود والسلام عليكم.
حســن عواضـــة