ندوة حول كتاب الدكتور فيصل سلطان
"كتابات مستعادة من ذاكرة فنون بيروت"
كلمة الدكتورة نجاة الصليبي الطويل
2014/3/5
مساء الخير،
وأهلاً وسهلاً بكم في رحاب الحركة الثقافية-انطلياس التي تحاول التقاط انفاس الوطن وعاصمته النابضة مسلّطة الضوء على مبدعين، يشكّلون ارضيةَ تميُّـزِها ونبضَ ألوانِها وديناميكية زوابعها. وتحمل الحركة هَمّ ذاكرة الوطن الثقافية كالدكتور فيصل سلطان وصحيفة السفير، ومن هنا كان انجازها هذه السنة الجزء الأول من مجموعة أعلام الثقافة المكرّمين الموجود في المعرض.
تكثر الأبحاث والكتب وتبقى مبعثرة ويتفوق فنانون وادباء وشعراء ويظلّون مغيّبين يبذلون الجهود ليس فقط لتطوير انتاجهم وإيصاله للآخرين وانما لامكانية الخروج من الركود المحيط بهم والذي يمنعهم من التألق ويحرمهم الأمان والاكتفاء. يناضلون ورغم حرمانهم الشخصي يشيعون الأمل بعظمة الانسان وبحسّه الجمالي وعزوفه عن الآني، فهم يصبون دوماً الى آفاق بعيدة لا تحدُّ التوقَ اليها أي قيود أو اعراف أو قوانين. حقُّهم علينا الاعتراف لهم بانجازاتهم، وحق تراثنا وحضارتنا اغناءُها بتأريخ الأعمال المبدعة وتوثيقها. فأين متحفنا للفنون واعمال الفنانين ؟ هل يُعقل أن تبقى بيروت دون متحف بينما هي بحد ذاتها كما يقول دكتور سلطان متحف بلا جدران ؟
يحمل تاريخ هذا الوطن الكثير من الحروب والاحداث وتداخل المصالح والأهواء ومعها العديد من الحضارات وتبقى ذاكرته مشتتة لأنها لم تُجمَعْ في موسوعات موحدة الطرح والمعالجة، بالرغم من الحاجة الملحّة لها. فكيف الحال اذاً بالنسبة للفنون؟ فهنيئاً للدكتور فيصل سلطان جهوده لجمع هذه الكتابات المستعادة من ذاكرة فنون بيروت، والتي هي بحدّ ذاتها، ذاكرة شاملة ومرجع علمي وفني اكيد.
تشكّل محاور الكتاب الثلاثة : سيرة - حوار – معرض، المشهد التشكيلي خلال مرحلة الحرب ومشاريع اعادة الإعمار أي بين 1976-1993 "ويستعرض مسارات الفنانين ويروي حكايات الفنون في مواجهة اقدار الحروب المفتوحة" كما يقول الكاتب ويضيف انه يؤكّد "قدرة الثقافة على التصدّي للإنهيارات الكبيرة وللخراب".
إن ظننتَ ان هذا المرجع وثائقي استعراضي تكون خاطئاً، فدكتور فيصل سلطان، الفنان والناقد، يتعامل بحذر وتأنٍ مع "فروع شجرة العائلة الفنية اللبنانية التي ينتمي اليها". فهويته الفنية المرهفة المصقولة، هي بلا شكّ المرجع الأساسي والأكيد في هذه الدراسات، وانما تتفاعل ايضاً مع عاطفته وحبه لأفراد هذه العائلة وشغفه بتَميّزهم. فيأتيك أسلوبه شعرياً، ملوناً، راقصاً، موسيقياً، فلا تجرؤ على التنفس والتوقف عن متابعة قراءته، وكأنه يمسك بهذا السحر الذي يبقيك دوماً على عطشك لا ترتوي، تريد ولوج زمانه ومكانه العابقَين بالأصوات والذكريات. أسلوب آسر ربما يجدر بالكتب المدرسية والمراجع الجامعية اللجوء الى هذا الكتاب وبصورة خاصة الى الفصل الاول منه وهو بعنوان "جولة تذكارية في خرائب بيروت القديمة، آثار المدينة في متحف بلا جدران". فيكتشفون من خلاله مفاتن مدينتهم الأثرية وخصائصها التاريخية. فهذه الجولة تجمع بين التاريخ والجغرافيا والآثار والفنون، الى الأدب، وتصبح درساً في الوطنية والمواطنية بمعنى الانتماء المعرفي واللغوي والروحي المنتج والفعال.
لا تفي هذه الكلمات القليلة مدى اعجابنا بهذا الكتاب الأنيق الصادر عن دار الفارابي – فهو مُلفت بدءاً بغلافه الذي يتربع الى جانب العنوان المثير واسم كاتبه المتألق- ذكر صحيفة السفير، التي تستهوي القارئ العارف بما يكنّه لها من احترام وتقدير وبالاخص لصفحاتها الفنية والأدبية، الى مجمل صفحاته والصُوَر واللوحات والرسوم والمخطوطات المُدرجَة في الكتاب.
فمبروك لنا هذا الكتاب الفني والأدبي وللأجيال القادمة وأترك لضيوفنا المتخصصين بالفنون الكلمة، للغوص في غور خصائصه والتجول في جوانب صفحاته وبين خفايا كلماته.
-------------------------------------------------------
كلمة الدكتورة مهـى عزيزة سلطان
(ناقدة تشكيلية وأستاذة في معهد الفنون الجميلة)
فنان وناقد متمرس هكذا تعرفت إليه حين كنت في مقتبل العمر، قبل أن نرسم معاً الدرب الطويلة التي مشينا فيها سوياً كزوجين وصديقين متلازمين في قدرية الكتابة ثم زميلين في التعليم في معهد الفنون الجميلة- الجامعة اللبنانية. ولو لم يكن فيصل سلطان صديقي لسعيت لمصادقته، ليس لأنه مثقف مرهف الحس بل لأنه عميقٌ وحميم: هو شاعر على ما وصفه الراحل الكبير أنسي الحاج. ولئن كانت المناسبة هي الاحتفاء بكتاباته المستعادة من ذاكرة فنون بيروت طوال سبعة عشر عاماً من إنتاجه النقدي في جريدة السفير، إلا إننا نستعيد معه ذلك الوجه المضيء لبيروت عاصمة الألم والحب والفن والإبداع، عاصمة الثقافة التي ظلت طوال الحرب بعيدة عن الانقسامات المذهبية والطائفية. تلك التجربة رسخت لدى فيصل قناعةً بأن أهلَ الثقافة هم عائلة واحدة غير متنازعة كما أوجدت في سلسلة أعماله الأخيرة مفهوماً صاغه في شعار: "أنا لا أومن بالسياسة أنا أؤمن بالثقافة". فقد وجد فيصل انه طوال سنوات الحرب الأهلية كان كل شيء يتداعى في خرابه ما عدا الثقافة التي ظلت حية تعيش على صحوة فكرية مندفعة نحو السلام والحرية.
فيصل سلطان من خميرة مثقفي وفناني طرابلس- الفيحاء في عصرها الذهبي، نشأ منذ طفولته على حب الرسم والمطالعة وهواية الموسيقى، بدأت تظهر مواهبه حين انتسب الى دار المعلمين والمعلمات، التي وطدت علاقته بالفن والأدب والشعر والمسرح، كما ظهرت ميوله في الكتابة الأدبية المنبثقة من وحي الجبل المُلهَم لشارل القرم ومؤلفات بودلير وأمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وسواهم. وفي كنف مدينة العلم والعلماء مدينة التعايش والتسامح الديني في ذلك الزمن الجميل، كان الكتاب رفيقاً لفيصل في نزهاته الحلوة بين البساتين المنتشرة على حافة تلك المدينة التاريخية، وكان بيت العائلة على ربوة معلقة بين قلعة سان جيل الصليبية التي تشرف على المدينة المملوكية بأحيائها التراثية، وفضاء المدينة الحديثة ببيوتها ومساجدها وكنائسها المتعانقة في تواشج يغيم ويمتد حتى يبلغ زرقة البحر. على تلك الربوة الطليقة بين الغيوم المحملة بالوعود وطيور المواسم وأناشيد الطبيعة أنشأ فيصل محترفه الأول وراح يطارد أحلامه اليافعة ويقطف حلاوة نتاجه الفني المبكر حين انتسب إلى معهد الفنون الجميلة في بيروت، دون أن يدري يوماً أن هذا النتاج الأول من الأعمال سوف يؤول إلى النار. فأثناء جولات المعارك تعرّض محترفه للاحتلال من قبل المسلحين الذين استخدموا تلك اللوحات لتغطية النوافذ المكسورة أو لحاجات التدفئة. قليلة هي الأعمال التي نجت من الهلاك، فسلمت منها بعض اللوحات الجدارية التي شكلت معرضه الأول في جمعية الفنانين للرسم والنحت عام 1974، كان موضوعها جلسات الذكر ورقص الدراويش التي وصفها الناقد جوزف طرّاب بأنها تعبّر في نشوتها الروحانية عن تقصيّات فكر مثمر.
أتاحت له سنوات الدراسة في معهد الفنون الاحتكاك مع كبار أساتذة الفن الذين أضحوا أصدقاءه المقربين ومعارضهم محط اهتمامه ومتابعته. إلا انه تتلمذ في النقد التشكيلي على نفسه، معتمداً على تشجيع بعض أعلام الثقافة والفكر العربي من أمثال الشاعر العراقي بلند الحيدري، الذي اعتبر أن الإلهام الشرقي في نتاج فيصل قد أضاف دينامية جديدة إلى تيار الحروفية، واكتشف ان لديه موهبة في الكتابة بمقدورها أن تمد الحركة التشكيلية في لبنان بدفق جديد من شأنه أن يتنافس ويتكامل مع من سبقه من الأساتذة من نقاد ذلك الزمن.
فيصل سلطان هو من حملة الدكتوراه في تاريخ الفن له العديد من المؤلفات بالعربية والأجنبية التي تناولت الحركة التشكيلية في لبنان على مدى مئة عام، ولكنه تميز كناقد تشكيلي أنشأ مفترقاً جديداً للكتابة النقدية قائمةً على الاحترافية والمخزون المعرفيّ الذي يمتلكه أساساً كفنان. فقد أخرج النقد من باب التأويل والانطباعات المسطحة والمحاباة أو المجافاة والمزاجية الحادة التي كانت تسود العلاقة بين الفنان والناقد، إلى نهجٍ من التحليل والتقييم للإنتاج الفني. كما أن فيصل سلطان شكّل جزءاً من إشكالية العلاقة الجدلية بين التراث والحداثة، كونه من مؤسسي تجمع الفنانين العشرة في طرابلس الذي أنشئ في العام 1973. إلا أن تداعيات الحرب أخذت تفكك عناصر تلك الجدلية بامتدادها العربي الشاسع، لصالح استيعاب المآسي الإنسانية الآتية من مقتربات الواقع اللبناني المأزوم. لذا فقد عكست لوحات فيصل التي تعود للعام 1977، مناظر الخراب ودمار الأسواق وسقوط الضحايا في أول معرض نظمته جانين ربيز مع عارف الريّس في الصالة الزجاجية في الحمرا تحت عنوان: "لبنان 1978". فكان أول معرض أيقظ الشعور بضرورة المواجهة بعد حرب السنتين.
منذ ذلك الحين لم تتوقف المعارض ولم تتوقف كتابات فيصل في جريدة السفير التي واكبت أهم النتاجات الثقافية التي شهدتها سنوات الحرب. فكان معظم العاملين في الشأن الثقافي ينتظرون الإحصاء السنوي والتقييم الذي يكتبه في نهاية كل عام. وكم كانت نتائج تلك الإحصاءات مدهشة وغزيرة وكم كان الجو الثقافي تنافسيّ وطليعي وعميق لكأن الثقافة كانت الوجه الحقيقي والعميق لبيروت وليس سواها كما يقدم فيصل لكتابه يقول: "استعيد في هذا الكتاب وجهين عايشتهما بعمق: وجه الصحافة الثقافية ووجه الفن في بيروت. الوجه الأول اكتسبت من خلاله سر التعرف الى وهج الحياة الفنية، والوجه الثاني ناضلت معه دفاعاً عن الصورة المشرقة لذاتيتنا الثقافية في أزمنة التصدي لجنون الحروب المفتوحة على أهوال المتاريس والدمار وفقدان الذاكرة. كانت الثقافة حينها رئة التنوع والانفتاح وسط تحديات العيش والإصرار على الإنتاج الفني ورفض الاستسلام".
كتابات فيصل سلطان ليست سوى بصمات يده المشتعلة بالفكر، الآتية من زمن الحبر والورق والسهر في الليالي البيض في ارتقاب صدور الجريدة مع الخبز الساخن صباحاً، قبل أن نفيق على أحداث جديدة تلتحم فيها أخبار السياسة ومحاور القتال مع نشاطات المعارض في مفارقات غريبة. كانت مقالات فيصل تجمع متناقضات الأحداث وتخترق خطوط التماس بين البيروتين، في مسارها التصاعدي حين في ظلمة الحرب الحالكة لم يكن ثمة من نور سوى نور الكلمات. كانت الكتابة بمثابة حالٍ دفاعية لذا ظلت تعيش في إشراقات دائمة، وكانت الثقافة ملجأنا ومتراسنا ودليلنا إلى الأمن في وجه الشقاء. كنا نصدق نبلها وتعاليها على الأحزان وروحها المتمردة على الاستسلام وقدرتها على مقاومة الموت بالحياة. لذا تميز النتاج الثقافي خلال الحرب الأهلية بالأهمية والتفوق والتجاوز لمكونات المجتمع اللبناني وانقساماته السياسية، نحو قواسم ابداعية مشتركة حفاظاً على وهج بيروت الثقافي في وجه القنوط والانحدار.
من يقرأ كتابات فيصل سلطان على مدى تلك الأعوام، يجدها مليئة بنبض غريب، مثل أجنحة وأعماق وذاكرة على الماضي ومتابعة للحاضر بين المحلي والعربي والعالمي ناهيك عن الحوارات التي أجراها مع الفنانين في محترفاتهم والمقالات التي تناول فيها إطلالات الجيل الجديد المنبثق من أعماق جراح الحرب. وكانت جريدة السفير في تلك الحقبة "صوتَ الذين لا صوت لهم"، نداً ومرجلاً للأفكار وموئلاً لأهل الثقافة من أدباء وشعراء وفنانين ومسرحيين لبنانيين وعرب، كانوا يقصدون القسم الثقافي في الجريدة، التي كانت تضم وقتئذٍ نخبة من الأقلام في شتى الميادين، حيث تنعقد اللقاءات وتدور النقاشات وتُضرب المواعيد مع الزمن الآتي وتنبثق الأفكار التي تبدأ في السفير ومن ثم تنتقل إلى المقاهي المنتشرة في شارع الحمرا. كانت السفير منبراً حراً مفتوحاً على لبنان ودنيا العرب.
ثمة لحظات لا تمحى من ذاكرتي حين كنت أزامل فيصل في الصفحة الثقافية في السفير (بإدارة الكاتب الصديق إلياس الخوري) وكان القصف العشوائي قد أودى بحياة الشاعرة سامية توتنجي التي كانت من ابرز سيدات المجتمع والمعروفة بتنظيمها للمعارض الفنية في دارتها الكائنة في منطقة المتحف. إزاء هذه الصدمة كان لا بد لنا من نقل هذا الحدث على صفحات الجريدة ولم نجد بداً برغم القصف على منطقتي الحمرا والروشة من الذهاب الى صديقتها جانين ربيز للحصول على نسخة من ديوانها المفقود. واتذكر ان جانين ما إن رأتنا حتى اتهمتنا بالجنون ولكنها رتّبت لنا فيما بعد موعداً للمساهمة في معرض "بيروت طبعاً". لم يكن يهمنا شيء كنا طوباويين مثل كل مثقفي ذلك الزمن العرفانيّ، مندفعين للعطاء بحثاً عن ذواتنا الضائعة وكانت الكتابة لنا نوعاً من الوجود وملاقاة الآخر. فقد مشينا في حقول ألغام وتنقلنا بين الحواجز والمتاريس وفقدنا أصدقاء وزملاء ومصورين صحافيين... تجاوزنا الكثير من المحن. كان بيننا وبين الموت شعرة الحياة. كان الموت يحاذينا يحوم حولنا ولكننا نجونا بمعجزة الخالق وإيماننا بالقدر.
لئن كانت كتابات مستعادة هي جزء من ذاكرة فيصل سلطان وذاكرة معارض بيروت على السواء، فمن يحمي ذاكرة الفن اللبناني من الضياع والتشتت في غياب متحف للفن الحديث، ومن ينقذ كتابات النقاد من الاندثار، لاسيما وان كبار نقادنا أمسوا يعيشون في عزلة. تلك الصرخة نطلقها ونحن في مرحلة الفوضى الكبرى التي تكتنف الفن المعاصر نعيش مرحلة تقهقر مهنة النقد التشكيلي والتسيب الحاصل، الذي أدى إلى استبدال النقاد بتجار الفن ومدراء المعارض الأجانب أو المحليين الذي أصبحوا باتوا يمسكون بزمام الأمور ويتحكمون بالسوق الفنية والمشاركات في المعارض العالمية واختيار أسماء الفنانين وانتقاء أسماء الجيل الشاب وفق اعتبارات غالباً ما تكون غاياتها تجارية، بما يؤدي الى غياب الذاكرة التشكيلية العائدة إلى مرحلة الحداثة وما بعدها. أليس غريباً أن يكون النقد مزدهراً في مرحلة الحرب، ويؤول إلى الذبول والتقهقر في الزمن الراهن؟ هنا مكمن الخطر.
---------------------------------------------------------------------
ذاكرة فنون بيروت/ذاكرتي
د.الياس ديب
لا بد من تحية لجريدة السفير ولصاحبها الاستاذ طلال سلمان لتبنيه جمع المقالات الفنية التي كتبها الناقد والفنان فيصل سلطان ونشرها في كتاب "ذاكرة فنون بيروت". نتمنى أن تحذو باقي الصحف اليومية والمجلات حذو السفير في عملها هذا بهدف تظهير ما تركه نقادها الذين كتبوا عن الفنون على صفحاتها. ونذكر في هذه المناسبة الناقد والشاعر زهير غانم الذي كتب في "اللواء"، ونزيه خاطر الذي رافق من على منبر "النهار" لأكثر من نصف قرن الحركة الفنية والثقافية، كما نذكر أيضا جو طراب وفيكتور حكيم ونيكول حرفوش وماريا شخطورة وغيرهم...
ما كتبه هؤلاء النقاد جدير بالتقديم الى الجمهور للحفاظ على الذاكرة الجماعية. الرغبة المؤسساتية الرسمية لجمع وتوثيق الفن التشكيلي اللبناني تبدو غائبة لذلك يطالب فيصل سلطان دوما عبر كتاباته بإنشاء متحف للفنون التشكيلية. وقد كتب: "كنت ولم أزل واحدا من الحالمين بقدرة الفن على تجاوز الاهمال"؛ فإنشاء المتحف حسب رأي الناقد والفنان والاستاذ فيصل سلطان هو رغبة صادقة للحفاظ على الذاكرة الجماعية. إنها صرخة أطلقها في مقدمة كتابه وعلى غلافه الانيق كي تظهر للقراء الاهداف الدائمة في النصوص وهي الحفاظ على الفن التشكيلي اللبناني وعلى ذاكرة بيروت.
لقد اختار فيصل سلطان محاور ثلاثة (سيرة، حوار، معرض)، وهي تدخلنا من الباب الواسع الى متاهة القرن العشرين الفنية في لبنان حيث يتقاطع المكان والزمان في بيروت، وبيروت ليست وحدها بل حيث ذهب الفنانون اللبنانيون سعيا خلف الحلم الهارب والوطن الهارب منذ بدايات القرن وحتى آخره.
كتب فيصل سلطان عن ذاكرة فنون بيروت ولكن أخذنا ايضا عبر كتاباته الى أصقاع الارض حيث حطت رحال الفنانين اللبنانيين؛ من باريس "رودان" و"الحويك" الى لندن "بلايك" الى بوسطون "جبران" والى القاهرة حيث "حبيب سرور" و"رشيد وهبي" درسا، ثم نعود الى باريس "قيصر الجميّل" و"عمر الانسي" وثم الى بيروت.
كان محترف خليل الصليبي في بيروت العشرينيات وسعدي سينوي الثلاثينيات والأربعينيات وقت كانت بيروت في ظل الانتداب وقد دخلت إليها الفنون الاستهلاكية كما سماها فيصل سلطان ويعني بذلك الفنون الطباعية والاعلانية. هذا ما كان يعكس هاجس تحويل بيروت الى مدينة عصرية حيث رأى الكاتب الشيء الملفت في سيرة الفنان سعدي سينوي لأنه أصدر ما بين عامي 1942 و1946 مجلة "صوت الفنان" باللغتين العربية والفرنسية.
لقد عمل فيصل سلطان على محور السيرة فأخبرنا الكثير عن الفنانين الذين نجهل سيرهم وربما أسماءهم. في النصف الأول من القرن العشرين وقبل الاستقلال حاول الكاتب رصد الحركة الفنية في بيروت بالعودة الى سير فنانيها وظروف حياتهم ونسيج علاقاتهم وهمومهم اليومية. لقد دخل الى التفاصيل الاجتماعية والتاريخية والسياسية والثقافية كما حاول تكثيف اللحظات الابداعية عبر القبض على الزمن الهارب، وهنا يذكرنا بكتاب غاستون باشلار "حدس الهنيهة" L’intuition de l’instant حيث كتب عن المكان والزمان والضمير واعتبر أن هذه الثلاثية المركبة تشكل عناصر الوجود الأولية (حسب فلسفة ليبنتز)، أضاءها باشلار في وحدتها وفي وحشتها واعتبر ذلك دون اتصال مع الاشياء ودون اتصال مع الماضي ودون اتصال مع الارواح الغريبة.
تعاطى فيصل سلطان في كتاباته الفنية مع الواقع المعرفي الذي جمع بلغته التواقة الى الكشف عما يحركه كفنان وكناقد صاحب ضمير ابداعي كي يلتقط اللحظات الحدسية والحداثية في المكان/بيروت وفي الزمان/ النصف الأول من القرن العشرين.
نسافر مع فيصل وضيوفه واصدقائه الفنانين ومع اساتذة النهضة الفنية في لبنان فنزور المواقع الفنية المختلفة ونتلمس اللقاءات المرصودة كرحلة رائعة وكأنها تنحدر من الخيال العلمي أحيانا. نقارب مع فيصل المجالين المحلي والعالمي، نتعرف، نُفاجأ، نُدهش ونشارك الكاتب همّه في التكثيف وهمومه في الكشف. نشارك فيصل فكرة المتحف للقاء الماضي في الحاضر في الواقع لا افتراضيا فقط في الذاكرة، ولكل منا طبعا متحفه الخاص. إنما هذا اللقاء يشكل حسب رغبة الكاتب الناقد جمع التراث اللبناني التشكيلي وضمه في مكان حسب المعايير المتحفية الاساسية أي الترتيب التاريخي للأعمال والفنانين والمراحل والعهود كي يستقيم منطق البحث لاحقا عند المجتهدين في هذا الاتجاه.
هل بالامكان حصر الزمان في مكان أم انها مفارقة ولا مجال لرصد المكان في الزمان؟ وهنا نعود الى اللحظة الى الهنيهة التي تجمع دهرًا، والحقبة التي تحتوي على أساطير الماضي والحاضر وربما المستقبل، فتُضاء الذاكرة الجماعية التي يحاول فيصل سلطان استنطاقها عبر كتاباته الفنية، وهي تشبه الى حد بعيد تحليق السنونو في أوائل الربيع ربيع بيروت، وتشبه صفاء السماء فوق لبنان وتشبه انحلال الغيوم بين تلة وواد ندى ورذاذا يلبس شال الشمس فيتلوّن قوس قزح، والقرميد العتيق تحت أشجار الصنوبر ينتظر تودّد الزمان وتجدّد الثواني؛ هذه المرئيات تشكّل مصادر إلهام الحلم الفني في النصف الأول من القرن العشرين.
لكن بعد الاستقلال أي تشكيل جاءنا وأية نتاجات أشرقت مع الاستقلال، فأحلام الفنانين أشارت الى سنوات ذهبية عاشتها بيروت مع عودة الذين هاجروا للدراسة وعادوا حاملين معهم ذكريات الغربة؛ لا بل غربتان، غربة عن واقع بيروت الاجتماعي والاقتصادي والسيادي بعد الاستقلال، وغربة أخرى عن معرفة وافية للتحولات الفنية التي كانت تحيط بهم خلال دراستهم في الخارج. والغربتان كان لهما وقعا ايجابيا على الحركة الفنية. عاد الفنانون الى لبنان والى الفنون الشرقية، عادوا الى الهموم الوطنية والقومية في حوار واجتهاد وانتاج تتجاذبهما الحداثة والتراث.
عمر الانسي، مصطفى فروخ، رشيد وهبي، صليبا الدويهي، سميح العطار، ميشال بصبوص، سلوى روضة شقير، رفيق شرف، حليم جرداق، جان خليفة، أمين الباشا، ابراهيم مرزوق، هيلين الخال، حليم الحاج، رضوان الشهال، وفادي براج، هؤلاء الفنانون عايشهم فيصل سلطان وكتاباته عنهم تشبه الحوار رغم ادراجها تحت محور السيرة، وكتاباته أقرب الى الكلام الحميم مع أشخاص حاضرين أمامه اقترب منهم بالحوار وابتعد عن الاستقصاء والتفتيش عن حقائق مخفية ربما لفها الزمن بمنديله الرمادي في السيرة.
هذه الفترة، فترة ما بعد الاستقلال حصلت ولادة الحداثة اللبنانية والحداثة العربية التي تجسدت بالاتجاه الحروفي. كان لأجوبة الفنانين في نصوص السير الذاتية وفي الحوارات دلالة على ذلك، أعني الدخول في مرحلة الحداثة. وقد كتب فيصل:"أيقن جان خليفة أن حبه للوّن نابع من جذوره القروية أن كل ما وجده من حداثة فنية في باريس وروما مغروس في تربة "حدتون" (مسقط رأسه) وفضائها الرحب المطل على البحر". أما في حواره مع حليم جرداق حيث يرصد الناقد مرحلة الفنان الأخير يقول:"يدمج جرداق بين التصوير واللا تصوير، يلغي التواصل ما بين حركة الواقع والتجريد ليعبّر عن القدرة في اختراق الذات. ويقول جرداق المهم هو الغوص الى الذات الخلاقة فينا، والذات الخلاقة هي غير الذات العادية التي نعرف بها أن نستمر بيولوجيا".
أما أمين الباشا فيعترف لفيصل في لقاء أجراه معه عام 1984: "أرسم تلقائيا كحاجة يومية للتنفس، للتعبير..وأذكر أني خلال حصار بيروت واجتياحها عام 1982 انتابني حزن شديد كأن في وجهي حائطا دون منفذ". وفي مكان آخر يقول الباشا لفيصل سلطان: "عندما تعرفت لاول مرة على مدينة قرطبة القديمة (اسبانيا) تذكرت طفولتي البيروتية لكثرة الحدائق في كل منزل ... فالبركة الموجودة في بيوت الأندلس، هي ذاتها البركة التي عاشت في كل بيوت بيروت ومع حدائق الرمان والياسمين".
حول تجربته الفنية يقول ابراهيم مرزوق في المقدمة التي كتبها في دليل المعرض الذي أقامه في صالة جمعية الفنانين اللبنانيين بعد عودته من ايطاليا (في العام 1968)... "فجأة على اللوحة المائلة أمامي فوق الحامل بيضاء من غير سوء أعود الى أيامي البيض، طفولتي، وتحملني الذاكرة الى التلال، الى البيوت القديمة، تحمل الي معها طائرات الورق الملونة...". هكذا يفسر مرزوق سر تمسكه بأحلام طفولته في عملية بناء لوحة تعبيرية جديدة تنقله من موقع الشاهد الى موقع المتمرد حسب سلطان هذه المرة... ويضيف الناقد: "كل ذلك محاولة لكسر الطوق الخانق في عالم المدينة اللا إنساني والعودة الى زوايا الذكريات البيروتية الحميمة". هذه العودة الى الذكريات هي نفسها التي اجتازها فيصل سلطان للقاء الرفاق الفنانين الذين عاش وإياهم وعايهم وتشارك معه هم الحرب والسلم في لبنان، في بيروت؛ وقد آمن سلطان أن الثقافة والفنون هي السلاح الأفعل في صناعة وصياغة الحياة.
أسلوبه في النقد والتقديم يخلو من الاستفزاز بعكس الكثيرين من الكتّاب في النقد الذين يعتمدون معادلة العصا والجزرة أي التشجيع والترغيب ثم الترهيب خاصة في الكتابة عن الفنانين الشباب، وذلك لغايات ما في نفس يعقوب. الروح الايجابية التي يتمتع بها نقد فيصل سلطان وكتاباته هي مقدمة للدخول الى مجال البحث الفني والذي نحن اليوم بحاجة ماسة له وإن هو ترك كتابة المقالات الصحافية بعد سبعة عشر عاما فلأنه الاستاذ الذي يتابع العديد من الطلاب في أبحاثهم الفنية وكتاباتهم البحثية هي حاجة اليوم الماسة لوعي المراحل المعاصرة لتحولات الفنون في بيروت.
الناقد فيصل سلطان وخلال لقاءاته مع العديد من الفنانين كان يحاور ولا يناور، يحاور الى درجة الالفة والحميمية.
الفنان حسن جوني في حوار مع فيصل يعترف فيقول: "دخلت في الوطن وخرجت من اسبانيا (حيث درست) جسدا لكن ثقافتي ودراستي الأكاديمية بل ثقافتي النظرية والتطبيقية ووسائل تتبّعي للقضايا واستعمال المعايير فهي إسبانية، أعني غربية بكل معنى الكلمة، أما روحي فهي مشرقية. هذا هو الوطن على امتداد الدمعة في العين وهو يعاني ما يعانيه"...في مكان آخر يضيف حسن جوني: "الجنوب حس اختباري في لوحتي... هو مخزون بين إصبعَيَّ هاتين... ويبقى الموضوع... مضمون اللوحة والموضوع هو الجنوب... الجنوب الفنان الموحي والمستوحى. الجنوب بالنهاية هو أنا وأنا هو الجنوب". هذا اعتراف حميم صميم صادق وفيصل يستدرج هكذا محاوريه الى الصدق والعهد.
في بعض الاحيان تمحو الأيام ما يبوح به القلب أما الكتابة فهي الذاكرة ذاكرة فنون بيروت. وقد سأل فيصل حسين ماضي (رئيس جمعية الفنانين سابقا عام 1984 وفنان أيضا): لماذا لم يعرض حسين ماضي منحوتاته في بيروت حتى الآن؟ كان الجواب:"النحت مهنة مكلفة جدا يلزمها محترَف واسع كمساحة وعال كسقف...في الحقيقة لم تتوفر لدي الامكانات المادية لبناء محترف للنحث في بيروت لأني لا أريد محترفا مسخا".
ردا على سؤال فيصل: ماهو موقف الجمعية من الاتجاهات الفنية السائدة في التشكيل اللبناني؟ قال حسن ماضي (رئيس جمعية الفنانين سابقا عام 1984): "العمل الفني السائد موجود كما هو وإنما ليس من الضروري أن تتبناه الجمعية وتعرضه كما هو دون اختيارات... طموحنا كهيئة ادارية جديدة أن تكون جمعية الفنانين المنبر الفاعل في تصحيح الحركة الفنية اللبنانية، وتقديم المفاهيم الصحيحة والتعريف بالفن في شكله الصحيح. منذ سنوات ووسائل الاعلام تشوه الفن اللبناني عبر أشخاص يدّعون معرفتهم للفن. أعتقد أن هذا التشويه مفتعل ومقصود ويصب في خانة تغريب إنسان هذا البلد وجعله رهينة التابعية للفكر الغربي.
دور الجمعية في هذه المرحلة هو الانفتاح على الناس وتقديم المعارض التثقيفية التي تحمل طابعا نوعيا وشرح خصائص التقنيات والتعريف بالاساليب. جميع نشاطات الجمعية المقبلة متوقفة على الامكانات المادية. وقد وعدنا وزير التربية...بتجاوز هذه العقبة. وهنا كرئيس جمعية، أنا، وخارج موضوع الكتابات المستعادة أقول: لا يوجد في الفن "صح وغلط" هناك حقيقة إنسانية تظهر بأشكال مختلفة. أما الاعلام فليست الجمعية ضده اليوم، بل هو عصب إيجابي والبرهان على ذلك هذا الكتاب الذي رعت انتاجه جريدة السفير وهي اعلام رئيس في بيروت. نخالف الرئيس السابق في هاتين النقطتين ونتلاقى معه في نقطة الوعود التي تبقى وعودا. أما اليوم فنسأل: هل رؤساء الجمعية يلتفتون إليها ويلتفّون حولها كما هو لازم للانتباه الى الابداع والجيل الجديد؟ أعتقد أن كلا منهم ينسج عباءته والانانية تشكل أنامل الجيمع. الجمعية هي من عُمر الاستقلال وتسكن بيروت وتحمل هموم الفنان في لبنان، وتشاركه دوما احلامه، واحلامه هي احلامها، وهناك دوما صعوبات لتفسير الحلم ولتحقيق الحلم متحفا كان ام ورشة، عملا ام سمبوزيوم ام معرضا فرديا.
مَن غير فيصل يستطيع استقراء النوايا، ألم يطالب فيصل رصد وتنفيذ الوعود وتحقيق الاحلام ؟ جرأة فيصل هي ما دفعته الى إعلان بيروت متحفا بلا جدران، وجرأة فيصل ذهبت الى أبعد من ذلك، وخطابه التشكيلي لا يخلو من نصيب للمرأة الفنانة في حواراته. حواراته مع هيلين الخال وجوليانا ساروفيم وسيتا مانوكيان وسليمة زود ونادية سيقلي وأخريات كان من جوهر سياق العاشق للفن وإخلاصه لدوره كناقد.
هل مطروح عندنا في لبنان مفهوم الانوثة في الفن؟ في باريس هناك كل عام معرض يقام للنساء فقط. هل هذا هو الوضع عندنا؟ سوف نستعرض بعض الاجابات المختارة من حوارات فيصل مع الفنانات.
هن بين أنامل فيصل
كان للمرأة مكانة بارزة في الحركة التشكيلية اللبنانية لم يغب ذلك عن اهتمام قلم فيصل سلطان؛ فقد خص في كتابه من ذاكرة فنون بيروت الفنانات اللواتي ساهمن جنبا الى جنب مع الفنان الذكَر في دفع الفنون التشكيلية نحو الحداثة، نعدّد منهن بالاضافة الى اللواتي ذُكرن: سلوى روضة شقير ومع سلوى روضة شقير تكلم فيصل عن طراوة الشكل، اي ليونة الشكل، وعن هذه الليونة قال فيصل: "هي الشعر والروح والمعادلة الحية التي تقرّب الابتكار التجريدي من الرؤية الشاملة للطبيعة وهي (حسب سلطان دائما) من الفنانين القلائل الذين يؤمنون بامكانية التفاعل مع التراث والطبيعة للوصول الى قناعات جديدة في الرؤى النحتية في العقد الأخير من القرن العشرين".
أما هيلين الخال فهي دخلت مرحلة التحولات المتسارعة عبر علاقة الانسان بجذوره وذكريات طفولته: "ذكريات تتقاطع بين لبنان وأميركا وتقول هيلين الخال لفيصل سلطان تقصدت في عملي كباحثة ومحاضرة عن الفن العربي في أميركا أن أبرز أهمية انتاج الفنانات في لبنان اللواتي يشكلن قسما مهما من الحركة الفنية. وجمعتُ هذا الهم في كتاب عنوانه "المرأة الفنانة في لبنان" صدر بالانكليزية عام 1987". ويضيف فيصل إن الدراسة هذه لم تكن الا محاولة لتكريم المرأة الشرقية التي تشبه باندفاعها وحيويتها شرجة التين التي نمت (في حكايات الطفولة) وهي تحلم بالشمس والحرية.
يدور حوار آخر مع جوليانا ساروفيم حول الحروفيين العرب وهذا ما يدفع للتساؤل عن تقاطع هوى الحروف عند جوليانا والمرأة الزهرة والمرأة الفراشة التي رسمتها جوليانا في مرحلة الستينيات والسبعينيات. فهل اللغة امرأة بالنسبة لجوليانا؟ وهذه المعادلة كانت مضمرة في الحوار.
أما ناديا سيقلي الحالمة الشفافة، هي التي حاولت الامساك بذكريات عن أمكنة ووجوه غابت وقد قدَّمتها في معرض عام 1979 تحت عنوان "رسائل الى بيروت والاماكن التي غابت عنها". وهي تبوح ربما في مقالتها: "أفتش عن عالم انساني حميم أعيشه، أريد أن اعبر عن اشياء داخلية. من أجل ذلك، اخترت اليد كرمز تشكيلي يختصر مأساة الوطن".
أما عن معرض إيفيت أشقر في "بلات فورم" عام 1984، فقد كتب فيصل في السفير دائما: "لغة أشقر التجريدية آتية من الشعر اللوني لجغرافية الطبيعة (المناخ والمدى) والانفعالات (الاحاسيس الانسانية) لذلك تظهر في لمساتها اللونية حيوية الاداء العفوي الايمائي لشطحات اليد التي تشكل اقصى عبارات الحرية".
أما عن اعترافات سيتا مانوكيان، فيرصد الناقد ما تقوله: "من بعيد تبدو بيروت شاحبة وضئيلة من وقت الى آخر يتراءى ضوء الذكريات. من لوس أنجلوس الى باريس تفسر سيتا مانوكيان وبشكل غير مباشر ايقاعات لوحاتها الجديد (توازن ولا توازن) من حلال معايشة هذه الازدواجية بين الرغبة في التعرف والانتماء وبين رفضها الشديد لمحيطها الجديد والحنين الى بيروت، فنتيجة هذه الازدواجية ستعيد مانوكيان الى فصول بدايات أعمالها التشكيلية في بيروت في معرضها "رحلة حول غرفتي".
سليمة زود تعبّر لفيصل سلطان الناقد خلال معرضها في غالوري دامو في انطلياس خلال شهر نيسان 1983 تقول: "صفحة التجربة الفنية عندي مختلفة تتراوح من الرسم على الزجاج وتتخطاه الى تجربة أيقونية ذات شفافية مادية... وفضولي القلِق إزاء الرسم جعلني أتوغل في جميع المواد الجديدة التي تشمل التلوين والأرضية (بلاكسي غلاس) وورق الذهب والفضة، تجربتي هذه أستمر بها الان بضوابط أقل وبانفلات أكثر سلك حتى الوصول بالمادة الجديدة الى التجريد اللوني المشرقي في تحضير اللوحة لتحقيق جماليات الانطباع الموضوعي. أما التجربة الجديدة فمزيج مواد على مساحة ورق".
هل يملك فيصل سلطان في كتاباته المستعادة نبرة خاصة تبدو فيها التجارب الفنية النسائية متمايزة عن غيرها؟ وهل له نظرة تفرق بين منتوج فني ذكوري أو انثوي؟ أعتقد أن فيصل يتعامل مع الفنان بصفته المحايدة وبحالته الابداعية وبحلته المتجددة التي تتجسد أيضا في جيل الشباب، جيل طلابنا فهناك نظرة بعد هذه الالتفاتة الى أن المرأة الفنانة تملك في قرارة ذاتها الابداعية مناح ذكورية من قوة وبطولة وجراة كما في أعماق كل فنان ذكر توجد أطياف الانوثة فهو الحنون الحساس الشغوف الرؤوف وهنا يكلل دوما الابداع بهالته الانسانية التي تميزت بها كل الروائع الفنية...
كتاب السفير "كتابات مستعادة من ذاكرة فنون بيروت" يبقى مجموعة مقالات صحافية اعلامية ثقافية فنية وهي لا تشكل أبحاثا متخصصة بل خطابات ذكية وهي بالتالي تصلح أن تكون عناوين لابحاث أكاديمية، ومن أقول إن الكتاب هذا موسوعة من الممكن أن تفتح بتعميق كل مقال باتجاه بحثي أكاديمي جديد. وكما جاء في التحية لجريدة السفير ودعوة باقي الصحف والمجلات اللبنانية الأخرى بجمع مقالات نقادها بهدف انشاء النواة البحثية الضرورية بالتالي تحقيق الحلم الذي يتراءى إلينا ممكنا بالتعاون مع سائر الصروح الثقافية (نذكر هنا الحركة الثقافية في انطلياس المنظمة لهذه الندوة) لإحياء الذاكرة الجماعية والمطالبة بمتحف للفنون التشكيلية المعاصرة في لبنان ولاستنهاض والقبض على الواقع والاشارة الى المستقبل الثقافي والفني في هذا الوطن.
رئيس جمعية الفنانين اللبنانيين
د.الياس ديب
5/3/2014