تقديم محمد أركون في "قراءات في القرآن"
الدكتورة نايلة أبي نادر
تتمايل هذه العشية حورياتُ الحكمة فرحة بذكرى كبيرٍ زار أرضنا وانخرط في إشكاليات واقعنا المأزوم. لوّن تاريخ الفكر العربي الاسلامي بحبر النقد وانخرط في مسيرة النهوض من سبات طالت سيطرته واستفحلت زمناً طويلا. اخترق حدود المسموح التفكير فيه، مسافراً في رحاب التأويل والبحث عن المعنى في عملية استنطاق للنص لا تقف عند نقطة ختامية. رفض التشرنق داخل المسلمات، والتحجر في الأحكام المسبقة. طرق بإزميل العقلانية طبقات التراث العتيق عله يحطّم الصنمية. نفخ في الضمائر صرخات تَنشد الحرية الفكرية، وتبكّت الضمائر المخدّرة، علّها تنتبّه الى خطورة الواقع وما يخفيه من أورام خبيثة. انه محمد أركون، هذا المتوغل في الانسنة والباحث النهم عن الحقيقة. لم يقبل بحصرها في مكان، ولا بتأطيرها في تعليم، ولا بسجنها في مذهب. لم يمنعه حبه للتراث من الانخراط في الحداثة ومواكبة آخر إنتاجاتها. سكن في الترحال واستقر في التنقل بين المنابر والصروح الأكاديمية الكبرى، رافضاً التقوقع داخل السياجات المغلقة، مشرّعاً أفق العقل، ومحلقاً في رحاب البحث والتحليل والتنقيب.
اشتغل على تفكيك التركيبات المفهومية منتهجاً استراتيجية تهدف الى تحرير العقل من الأوهام، وفضح الهيمنة الممارسة من قبل السلطة، أدينية كانت أم سياسية. حثّ في أكثر من مناسبة على النضال بغية التخفيف من الاكراهات التي تضغط على البشر، وعلى اختراق السياجات العقيدية المغلقة، وزحزحة حدود ما هو مسموح التفكير فيه، ليتم تجاوزها في مرحلة لاحقة. هاجسُ إعادة إدخال الاسلام في ركب الحضارة العالمية سكن وعيه وضميره، ووجه خطواته النقدية، بحثاً عن مكمن الخلل.
صاحب مشروع هو، بدأ بالتبلور منذ أن أعدّ أطروحة الدكتوراه. صاحب رؤية هو، تجلت في أكثر من كتاب ومحاضرة وحوار. ما يجمعنا اليوم أبعد من ندوة حول كتاب صدر، أو تحية لكبير رحل. إنها الرغبة في استحضار وهج العقلانية وتألق المقاربة النقدية بعد أن لمسنا مدى الحاجة الى ذلك في وسط هذا التصحر الكاسح، والتراجع المدمر، والتفحّم القاتل، في زمن "الانحرافات الإيديولوجية" هذا. نحن بحاجة الى فسحة تخترق الواقع لتؤسس فيه نبضاً من أمل، ونسترجع ولو لدقائق معدودة لحظات مشرقة من تاريخنا المعاصر، نفتقدها كمن يبحث عن أنفاسه قبل الاختناق.
القرآن هو الخبر، والوحي هو الحدث، والمقاربة المتجددة هي الهدف. المهم تقديم ليس قراءة واحدة لنص تأسيسي في غاية الأهمية، إنما تسليط الضوء على التعدد، على الاحتمال، على الاختلاف في مقاربة الظاهرة الواحدة، نعني بها: ظاهرة الوحي. "فالوحي ليس كلاماً معيارياً نازلاً من السماء من أجل إكراه البشر على تكرار نفس طقوس الطاعة والممارسة الى ما لا نهاية، وإنما يقترح معنى للوجود. وهو معنى قابل للمراجعة والنقض (أنظر الآيات الناسخة والمنسوخة في القرآن). كما أنه -أي هذا المعنى- قابل للتأويل داخل إطار الميثاق أو العهد المعقود بكل حرية بين الانسان والله".[1]
بعد أن نظّر أركون في المنهج، وفي ضرورة المقاربة النقدية، وبعد أن بلور ما أسماه بـ"الاسلاميات التطبيقية"، كمشروع نقدي يردّ فيه على ما قام به المستشرقون من خلال "الاسلاميات الكلاسيكية"، قدّم لنا في العام 1982 الطبعة الأولى من كتابه "قراءات في القرآن" الذي صدر في باريس لدى ميزون نوف اي لاروز، ومن ثم في تونس العام 1991، في محاولة جادة ورصينة لكي يطبق مناهج اللسانيات والسيميائيات على النص القرآني. اختار في العام 2001 ثلاثة فصول من كتابه هذا لكي تترجم الى العربية مضيفا اليها في البداية فصلا حول "المكانة المعرفية والوظيفية المعيارية للوحي"، ثم نشر الكتاب بعنوان: القرآن من التفسير الموروث الى تحليل الخطاب الديني. كذلك نجده يُصدر في العام 1991 عن دار الساقي كتيباً بعنوان: "من الاجتهاد الى نقد العقل الاسلامي"، يطرح فيه قراءة جديدة لمسألة توريث النساء، نجدها اليوم من ضمن "قراءات في القرآن" منشورة في الفصل الخامس تحديداً.
يبدو أن الكتابين لم يأخذا حقهما كما يجب في الساحة العربية الاسلامية، إذ إن كثيرين رشقوا أركون باتهمات تفيد بأنه بقي منهماً في مجال التنظير، وفي إملاء ما يجب فعله على الباحثين، من دون أن ينزل الى حيّز التطبيق ليرينا جدوى ما تفلسف به حول المنهج النقدي، والمقاربة الحديثة المبنية على علوم اللغة والانسان والمجتمع. وبعد رحيله، والفراغ المدوّي الذي خلّفه الغياب، جاءت رفيقة دربه، وحاملة فكره التي انحنت على حاسوبه تقلّب بدراية واحتراف ما خزنته الشرائح الالكترونية من إبداعات فكرية. قرّرت الاستاذة توريا اليعقوبي أركون، الزوجة والرفيقة التي مسّها شغف البحث في مجال الاسلاميات، أن تجمع نصوصاً كان قد اشتغل عليها هو قبيل الرحيل، فنشرتها باعتبار أنها "الوصية الأخيرة لمحمد أركون" في 12 فصل، مضيفة في الأخير حواراً كان قد أجراه مع محمد أركون أحد طلابه حول موضوع الكتاب، أي القرآن.
الى روح محمد أركون نقول: شكراً على الجهد المبذول، وعلى كل نفحة أنسنة بثتها في كتبه كما في محاضراته وطلاته العديدة. الى هذه الروح المتجلّية في هذه العشية، نرسل من على منبر الحركة الثقافية انطلياس باقات التقدير والوفاء والوعد بمتابعة التحدث عن المشروع النقدي الأركوني ونشره في رحاب لغة الضاد.
[1]- محمد أركون، القرآن، من التفسير الموروث الى تحليل الخطاب الديني، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الطليعة، ط1، 2001، ص 85
___________________________________
كلمة الطالب في أستاذه : محمد أركون
الدكتور شربل داغر
ذات يوم، في مقهى قرب "محطة جوسييه" الباريسية، أبديتُ لأستاذي محمد أركون إعجابي بما انتهيتُإلى قراءته في أحد كتبه الجديدة وقلت له : "ها أنتَ قد تقدمتَ كثيرًا في فهم المسألة الإسلامية". فأجابني بصرامته -المعهودة من قبلي : "ليس المهم أن يتقدم فهمي ويتحسن، المهم أن تتقدم أحوال مجتمعاتنا وتتحسن".
أجد في هذا الحوار القديم، في حواري الممتد معه في سنوات الدراسة وفي سنوات الزمالة، ما يلخص، في حسابي، مسار أركون، بل شيئًا من أزمة الخطاب الأركوني بمعنى من المعاني : عينٌ على الدرس، وعينٌ على المجتمعات المعنية نفسها، لو شئت التبسيط.
يجتمع خطاب أركون في ثلاثة مفاهيم أساسية : نقد – عقل – إسلامي، ما يلتقي ابتداء من عنوان أحد كتبه : "من أجل نقد العقل الإسلامي" (1984).
لم ينقطع أركون، منذ بداياته التأليفية، عن الخطاب الإسلامي درسًا له، وتغييرًا له. هذا ما يَظهر منذ كتابه الأول : "جوانب من الفكر الإسلامي الكلاسيكي" (1963)، وهو ما استمر في جميع كتبه، بما فيها كتابه الأخير : "قراءات في القرآن".ولا يختلف عن ذلك إلا في كتاب وحيد : "الفكر العربي" (1975)؛ وهو كتاب مطلوب من أركون في السلسلة الشهيرة (que sais je ?).
لهذا يمكن للمتتبع لفكره أن يلحظ وجود خطين متوازيين ومتلازمين : يتابع رصد الزمن التاريخي، من جهة، ويتابع إعمال الفكر ومناهجه في الخطاب المناسب لهذا الزمن التاريخي.
لا يجد المتتبع في كتبه ومحاضراته الوفيرة رصدًا دقيقًا أو متناميًا لتغيرات الزمن، ولا سيما في السياق الإسلامي، إلا في إشارات سريعة تخترق سوية النص، إلا أن في إمكان المتتبع أن يلحظ أحيانًا متابعة لقضايا تشغل هذا السياق، أو يجد في ثنايا النص الأركوني إشارات بالغة أو خافتة لما يجري خارج الخطاب ويلحظه الخطاب.
ذلك أن شاغل أركون الأساس يبقى الخطاب. وهو في ذلك اختلف مع معاصريه، بين مسلمين وعرب وأجانب معنيين بمسائل الإسلام. اختلف معهم في كونه طلب تعاملًا منهجيًا مختلفًا يستند إلى إخراج الخطاب الإسلامي من نطاقه الضيق، اللغوي وفق معنيين مختلفين، عند المسلمين والأجانب : خرج من خطاب الفيلولوجيا، من جهة، ومن خطاب الإعجاز القرآني، من جهة ثانية. القرآن نص تاريخي، معيدًا وصل ما انقطع مع نظرية "خلق القرآن" لدى المعتزلة. والأهم من ذلك أنه تعامل مع القرآن بوصفه نصًا، ما رافق صعود النظريات والمناهج المرتبطة باللسانية الحديثة، وما رافق أيضًا احتياج النص إلى مقاربات مسعفة له، من الأنتروبولوجيا وغيرها.
يحلو لي التوقف عند لفظ أساس في هذه المقاربة، وهو : النقد.
لا أريد التوقف عند معاني ودلالات هذا اللفظ الفائق التعيين، سواء في العربية القديمة أو في أكثر من لغة أوروبية. ما يعنيني - باختصار - هو التشديد على انبناء الخطاب الأركوني عليه؛ وعنى في حسابه أكثر من عملية فحص أو استخراج معايب أو تناقضات في الخطاب... عنى أكثر من إعمال العقل في مسائله، كما نلقاها في الخطاب الفلسفي الحداثي الأوروبي ابتداء من الفيلسوف كانت : عنى النقد لديه إخراج القرآن مما فعلته الجماعة فيه، من كيانه الموروث، المتراكم، المبعَد عن النظر الدقيق والسليم...
هذا ما بدأ منذ دراسة أركون في السوربون، إذ لاحظ، كما قال لي ذات يوم، أن جدران الجامعة كانت سميكة للغاية، لا تصل أبدًا بين ما يقوله المحاضر المستشرق وأستاذ محاضر في الغرفة الملاصقة. قال لي : "كان مشهد الاستشراق مزريًا، ودراسته ضحلة، وغائبة تمامًا عن مجادلات العصر، وعن التجديد المنهجي في أدوات العلوم الإنسانية". ثم أكمل : "كان المستشرقون شارل بيلا وريجيس بلاشير وروبير برنشفيك وهنري لاوست يتابعون ما افتتحَه سيلفستر دو ساسي قبل نيف ومئة وخمسين سنة في فقه اللغة، وفي كتابة تاريخ وقائعي، مجزأ، من دون نظرة تفكيرية جامعة". أماأركون فقداستوقفتْه أعمال كلود ليفي-شتراوس في "بنى القرابة"، وفرنان بروديل في "المتوسط والعالم المتوسطي"، ولوسيان فيفر في مجلة "الحوليات"، أو الكتب الدينية "دين رابليه: أو مشكلة عدم الايمان في القرن السادس عشر"، وكتاب آخر عن مارتن لوثر...
لهذا يبدو مشروع أركون في النظر متساوقًا مع تجديدات البنيوية التي ما كانت قد اخترقت جدران "السوربون"، ولا سيما في الإسلاميات. وهو في ذلك رسم خطة منهجية للبحث، أكثر مما انصرف إلى معالجات موضعية أو "قطاعية"، إذا جاز القول. ولعله أفاد خصوصًا من نظرية "الإرسال" (أو البث، أو التلفظ)، (l'énonciation)، التي جعل منها مرتكزًا لفهم حقيقة الانتقال من القول المنزل وشروطه إلى تدوينه وتلقيه في لحظة تالية.
"بانفتاحي على هذه العوامل الجديدة، قطعتُ تمامًا مع عالم الاستشراق المغلق، لم يشجعني أحد منهم على دراسة ليفي شتراوس من أجل فهم مجتمعاتنا العربية" ! كان يتابع دروسه في السوربون، مثلما اعتادت قدماه على ارتياد محاضرات القسم السادس من "المدرسة العملية للدراسات العليا"، الذي كان بروديل يشرف عليه. الى جانب هؤلاء، ذكر لي أركون أستاذا آخر، غبريال لوبرا، استاذ مادة القانون الكنسي الذي أسس في العام 1953 مجلة "أرشيف علم الاجتماع الديني"، وعمد إلى تطبيق قواعد هذا العلم لفهم الظاهرات الدينية.
لهذا يُعد كتاب أركون المتأخر، "قراءات في القرآن"، كتابًا جديدًا على قدمه، إذ عمل عليه وزاد فيه ووسعه؛ واقترح قراءات متنوعة المناهج والمقاربات لبعض سور القرآن، ما يعد إطلالات تُظهر قيمة المنظور والحاجة إليه، من جهة، وتُظهر نتائج مختلفة في النظر إلى بعض معاني ودلالات القرآن، من جهة ثانية.
ما يعنيني التشديد عليه في بناء أركون النقدي هو أنه وسع مدونة الدرس دومًا، مثل أي دارس رصين، كما لو أنه لا يزال في مرحلة إعداد الدكتوراه، حيث نجده بخلاف كثيرين وكثيرين يرصد ويتابع ويفند ما يقع عليه من بحوث وكتب جديدة في ميدان الإسلاميات. وهو ما لا نجده عند غيره بمثل هذا الشمول والحرص والأمانة والجدة.
قد يكون لفظ : "العقل" لفظًا إشكاليًا في الخطاب الأركوني. أي عقل ؟ ما المقصود، خصوصًا وأنه درج الحديث عنه في الخطاب الفلسفي الحداثي الأوروبي، ثم في بعض الخطاب العربي المتأخر ؟
أذكر، في محادثة معه في بيته الباريسي، نقاشًا طويلًا حول معاني ودلالات "عقل" في العربية، وتاليًا في الخطاب؛ حول معناه المادي الملموس : أي "عَقَل" الناقة، ما يعني الإمساك بها، وإبعادها عن التهور. وهو ما يشير إلى معنى سلبي للعقل، بمعنى من المعاني، أي الإمساك والتنبه والحرص.
قد ينساق البعض إلى القول بأن أركون شارك، بعد غيره ومع غيره، في إعلاء "العقل" بوصفه مرتكَز النظر الفلسفي بل غايته أيضًا. وهو قول صحيح في جانب منه، إلا أن أركون خفف بل انتقد "غلواء" هذا العقل، إذ لم يجده واحدًا، بل متغيرًا بين غالب ومغلوب؛ كما لم يجد له قيمة متعالية إلا بالقدر الذي نعمل فيه على توفير شروط العقلانية السليمة للعقل. لذلك هو عقل تاريخي ومتعين، ويحتاج إلى بلورة، لا إلى تقديس واتباع.
أركون، بخلاف الكثرة الكاثرة من مؤرخي الفكر الإسلامي ودارسيه، لم يجعل "العقل الاسلامي" صيغة فكرية، منها ما هو عقلاني وغير عقلاني، بل جعله ملكة نقدية، "عقلا عاقلا" لكل ما أوتي من ثمار العقل: لا يقدم تفسيره للتراث، ولا يختار حيّزه فيه، بل يخضعه لنقد العقل في شرطَيه، التاريخي والمعرفي؛ أي أننا لا نجد "مفكِّرا" بل ذاتًا مفكِّرة، تتفحص ما تقول، وتُعمل الفكر فيه.
يبقى أن أتوقف عند اللفظ الثالث، وهو "الإسلامي"، في منظور أركون. وهو أكثر من لفظ، أكثر من صفة لاصقة أو ناعتة للعقل. وقد جرى نقاش غير كاف في أحوال كثيرة، حول التناظر والتباين بين "العربي" و"الإسلامي" في المنظورين. وهو نقاش مفتعَل في جانب منه، ولا يتبين في صورة وافية حقيقة الفصل والوصل بين اللفظين : فما هو مدعاة إلى النقد هو اعتقاد البعض بأن التشديد على "عربية" العقل، تأكيد على "قومية" فيه، خافية أو طالبة ظهور، مثل حق مبدد أو ضائع. فعربية ابن المقفع أو الفارابي أو ابن سينا وغيرهم ليست عربية أقوامية، بل هي عربية بالمعنى الديني والثقافي. كما أن استخلاص القومية من هذه "العربية" القديمة لا يجدي نفعًأ، بل يضلل سبيل نظر العرب الحاليين إلى أسباب تمكنهم من النظر العقلي، ومن إقامة شروطه.
يبقى أن أشير إلى أن "الإسلامي" ما عنى عند أركون المتن السني وحده (وهو ما يروج في كثير من الدراسات حتى يومنا هذا)، بل كان أركون – على ما أعتقد - أول من أدخل المتن الشيعي إلى نطاق الدرس في العقل الإسلامي، مع المتن السني وغيره أيضًا من المذاهب.
في المقدمة، التي ألحقها بكتابه الشهير، "الفكر العربي"، في طبعته الرابعة في العام 1991، كتب أركون : "جميع المثقفين العرب يبحثون عن مساحات حرة، ولو كانت ضيقة ومؤقتة،ويحملون في نفوسهم شروط تاريخ شديد الوجع، وهم يعرفون أن الخلاص غير وشيك(...). هذا المثقف العربي لا يفهمه أهله في غالب الأحيان. مهمش، أو منبوذ، أو مدفوع إلى "الاندماج" في المساحات الحرة التي يبحث عنها في الغرب. لهذه الأسباب مجتمعة، يصبح المثقف، على غرار كبار الفنانين، امتحانًا لوجود الحرية في العالم، طالما بقي وفيا لوظيفته النقدية".
هكذا احتكم الى العقل، لا إلى العقل في استعمالاته الجارية، وفي قيمه الاستنسابية، بل إليه بوصفه ملكة نقدية تقوم على مسافة بيّنة، هي مسافة التبعيد والنظر، من التاريخ والخطابات، وفق مقتضيات المعرفة والحرية. كما لو أنه راهنَ، في نهاية المطاف، على قدرة العقل في إقامة مناهجه، وفي التزامه شروط الدقة العلمية، في الإنصاف، في إحقاق الحق، في دفع المهانة عن المغلوب، وفي تعيين حيزه المستعاد في حوار الثقافات.
أنجحََ أركون في ما طلبه، في ما درسه ؟ الجواب أكيد في خطابه، أما الجواب في السياق الإسلامي فعلينا أن نجيب عنه بأنفسنا.
(من كلمة في ندوة حول كتاب محمد أركون، الصادر بعد وفاته : "قراءات في القرآن"، في مهرجان الكتاب اللبناني الذي تنظمه "الحركة الثقافية"، في انطلياس-لبنان، 14-2-2018).
________________________________
محمد أركون: مشروع القطيعة التاريخية
وجيه قانصو
في زمنٍ اكتسح فيه يقينُ الفكرِ الساحات العامة، وعمت التقوياتُ (جمع تقوى) مظاهر السلوك، وملأت الثقةُ بتفوق النموذج الديني وفرادتِه أوراق الكتب ومنابرَ الكلمة. في قلب هذا الزمن النبؤي والوثوق المقتحم كالسيل الجارف، كنا نسمعُ ترداداتِ صوتٍ آخر ذي إيقاع مختلف ، بل مناقض ومُشوِّش ومشاغب وصادم وحتى منغص، يحذر من علامات موت (حضاري وفكري وروحي) حالةٍ فينا، من ارتكاسٍ محصنٍ بالمحرمات، من عدميةٍ مزينةٍ بالزهدِ والمُثُل، من غفلةٍ مُسوَّرة بالطمأنينة، ومن دمار وشيك تحمله رايات الجهاد وطهريات الشهادة، من يقين ساذج بأن زمن أسلمة العالم قد آن أوانُه، من نرجسية عدوانية واغتراب طوعي عن الواقع وتنكرٍ لضروراته الموضوعية.كان هذا صوت محمد أركون.
لم يكن أركون مجردَ صوتٍ احتجاجي، أو داعيةً لنبؤةٍ أو مُثُلٍ بديلة، بل راكم رصيدَ تجاربٍ واختبارات ومقترحات حل، ورسم خارطة طريق لإطلاقِ طاقة التفكر والتقصي إلى أقصاها بدل الامتثالية الجافة والإذعان الطوعي ، وتحفيزِ الحياة الروحية وإغنائها بدل الشكلانية المسطحة والجوفاء، وتفعيل الرغبة الإنسانية التي لا تهدأ في الإتصال باللامتناهي وحيازة الأبدية والخلود، لكن هذه المرة:
على ارضية البحث في الكيف لا البحث في الماهو، أي البحث في نظام الأشياء وقواعد اشتغالها واستراتيجيات عملها، لا الغوصُ في جوهرها.
أرضيةِ البحث في شروط الإمكان، أي التحقق من الشروط البشرية والطبيعية للظواهر، لا ادعاء المعجزة والتفنن في صياغة الأيديولوجيات والشموليات.
أرضية الشفافية في النظر إلى المرآة، من دون أوهام الاصطفاء أو الفرادة، والعيشِ في الحاضر لا الاغتراب عنه، فهمِ التاريخ وتأويلِه لا العيشِ في ماضيه أو توهم استحضارِه.
تميز فكر محمد أركون بإيقاع مزدوج: إيقاع التعرية والتفكيك من جهة، وإيقاع الاستكشاف والتركيب من جهة أخرى.
ففي ايقاع التعرية والتفكيك، اعتبر أركون أن البداية تكون في نقد النظام الفكري المُوَلِّد لهذا للترث التكراري، وتفكيك بناه التركيبية والتكوينية، والكشف عن وظائفه النفسية، وتعرية إسقاطاته وتلاعباته وممارساته الإيديولوجية، وزحزحة مسائله الإنغلاقية والحرفية والجوهرانية، وتخطي نظرياته الاختزالية إلى إطار آخر من "الأشكلة التعددية والمتنوعةِ" التي تمهد "لولادة فكر تأويلي جديد" .
ميز أركون بين الظاهرة القرآنية والظاهرة الإسلامية، فالظاهرةُ القرآنيةُ عبارة عن "العبارات الشفهية التي تلفَّظ بها النبي لتبليغ القرآن"، وهي ظاهرة كانت في لحظات ظهورها الأولى، بنظر أركون، متحركةً ومتموجةً ومفتوحةً ومليئةً بالاحتمالات.
أما الظاهرة الإسلامية فهي التجسيد النظري والعملي للظاهرة القرآنية داخل حيز الإسلام التاريخي والاجتماعي، تمثلت في بلورة مبادئ وقواعد لاهوتية مشتركة بين المسلمين تُحكِم توثيق الوحي وتداوله وتفسيره، وتمارس دورا مُوجِّهاَ يتحكم بكل مجالات الفكر العربي. وهي مبادئ وقواعد اتخذت، بفعل التضامن بين الدولة والثقافة الرسمية، وعبر عملية "تاريخية بطيئة من الإنتقاءات والحذف ونشر بعض الاسماء والمؤلفات والمدارس والأفكار دون غيرها"، وضعيةً أرثودكسية صارمة، أخذت تضغطُ بكل ثقلها على القراءات والتفاسير، وتعمل على ترسيخ سلوك تكراراي في إعادة الإنتاج السكولاستيكية للمعايير والتعاليم التي حددها الفقهاء المؤسسون.
ترسخ داخل هذه الأرثودكسية، اعتقادٌ بأنّ النظام للاهوتي الموجِّه والمنظِّم لتداول القرآن وقراءته يمتلك وحده المبادىء والمنهجية "الصحيحة"، وصاحب الصلاحية المطلقة في ممارسة أستاذيته العلمية ومرجعيته الشرعية في تقديم أجوبة منسجمة مع القيم والعقائد الإِيمانية ومع نماذج الممارسة التي تجعل المؤمنين يسيرون دائماً على الطريق المستقيم المؤدي إلى النجاة. وهي وضعية أدت إلى التعالي بمبادئ وقواعد قراءة النص القرآني باعتبارها ذاتُ قِوامٍ متماسكٍودلالاتٍ ومعانٍ فوق تاريخية، وإلى تحصينها داخلَ سياج دوغمائي يحرم السؤال أو التفكر في فرضياتها المسبقة، وإلى سيادة حقلٍ معنويٍ سيمانتي ثبَّتَ نهائية وآحادية معنى النصوص الدينية، وأكد مطابقة التفاسير التفاسير التي وصلتنا عبر التراث لها.
وهو أمر أضعف التنظير الفكري والحس النقدي، وأسهم في هيمنة الدوغمائية الحرفية للدين، وفي تعميم الثقافة الأصولية الشعبوية وتقويات التبجيل وطقوسيات الأسطرة وفنون الإنبهار بالنص القرآني، بالإضافة إلى رواج الوعي بأن أداء الفرائض يعفي المؤمنين من أي فهم عقلاني للدين.
كل ذلك تسبب بتسطيح أبعاد القرآن، وطمس طبقات معناه، وتعطيل استراتيجيات تواصله مع العالم. بل جعله عرضة لتسييس معاصر، واستعمال فوضوي واعتباطي لتسويغ معارك سياسية وتبرير مطامح وأهواء وحاجات شخصية وتأكيد تفوق هويات جماعية، وتغطية كل تصرف إرهابي وإجرامي.
أما إيقاع الاستكشاف والتركيب: فقد عمد فيه أركون إلى شق الطريق باتجاه أفق تفكير مختلف ورهانات إنسانية تسمح بتولد تأملية ثيولوجية جديدة، تمكن الفكر من التخلي عن وثوقيته، ومن الدخول في قلب المغامرة الحداثوية، بأن يتلقى أسئلتها ويعيش تحدياتها ويتكيف مع قلقها ولايقينها، ويكون لدى هذا الفكر، جرأة مواجهة الذات، ونزع أقنعتها أمام الملأ، والرغبة الدائمة في تجاوزها.
آمن أركون بأن الكتابات المقدسة (توراة إنجيل وقرآن) عموماً القرآن خصوصاً، تملك التحفيزات والبذور الأولى التي يمكن الاعتماد عليها لإلهام الفكر والحياة الروحية وإغنائهما.
لكن ذلك لا يتحقق إلا بتموضع الذات الباحثة داخل موضوع البحث الذي هو الخطاب أو النص القرآني، والتسلح بعدة اشتغال مركزة ومكثفة تشمل كل زوايا التفاعلات والإدراكات البشرية، بالأخص المنهجية التاريخية –النقدية والمنهجية السيميائية-الألسنية. كل ذلك لغرض إفساح المجال لمتلقي النص في توليد المعنى القرآني واستجلاء إثاراته المتنوعة، فلا يعود النص يتفرد بملكية المعنى، بل يصبح جزءاً من جماليات التلقي التي تعطي جمهور المتلقين حصة ودوراً في تشكليه.
عمد اركون إلى العبور من الإبستمولوجيا إلى الإبستمية، أي العبور من منطقة الثنائيات والتضادات، التي يحكمها منطق الصحة والخطأ، أو الإستقامة والانحراف، إلى أنظمة التفكير وأطر الوعي ونظام العلاقات وآليات الربط والإنتاج والمسلمات. لذلك لم يقتنع أركون بالوقوف عند حد تفكيك منظومة الوعي الديني القائم، أو الإكتفاء بضخ كم هائل من منهجيات التحليل والكشف داخل فضاء التفكير الإسلامي بهدف إغرائه واستدراجه إلى ساحة الحداثة. بل تجد أركون يصر على الدور الإستكشافي الذي لا يكتفي بالزحزحة، أو تفكيك منظومة الوعي وترك عناصرها مبعثرة ومرمية في كل اتجاه، بل ينزع، إلى العبور بك إلى الأزمنة الممتلئة، ويجول بك داخل منطقة العجيب المدهش والخلاب، ليعيد مسائلة شروط تحققها الراهنة، ويعيد صياغة رهانات الدين ووعيه الخاص بالعالم.
فالبحث الجدي في خصوبة راهنة للنص الدين، يتحقق أولاً بالتفلت من قبضة ورقابة الدوغمائية المتحكمة بالوعي الجمعي والمُوجِّهة له، وثانياً بالتحرر من سلطة النص القرآني نفسه، الذي لا سبيل للكشف عن رهاناته الكبرى وإثاراته الروحية، إلا بالوقوف على صلاحية نطقه بإسم الله أو نقله وتعبيره عن واقعة الوحي، وبالإشتباك معه والكشف عن ألاعيبه وتحويراته وتنكيراته وتساميه وتقنيات تفلُّتِهِ من أسر التاريخية وحدود الزمكان الخاص.
بذلك، لم يكتف أركون بتعرية التحويرات والتحويلات الفكرية والابتكارات الطقوسية التي مورست حول النص القرآني ونزعته من سياقه التاريخي وسهلت إسقاطه الساذج على الأزمنة اللاحقة. بل ألقى أركون كماً هائلاً من المفاهيم وأدوات التفكيك وعدة الإشتغال والمقاربات واستراتيجيات الكشف، التي ابتكرتها ساحة العلوم الإنسانية الحديثة. وهو جهد نقل البحث القرآني من العمل التفسيري الذي ينحصر نشاطه بمعرفة أوامر الله ونواهيه، إلى البحث الذي يقتحم مناطق اللامفكر فيه، ويقف على خطط خطابه الخفية والمضمرة، وينتهك محرماته، ويقفز فوق اسوار القداسة التي شُيِّدَت حولُه، كل ذلك لغرض إظهار خصوبة القرآن وديناميته وسحره وحيويته الراهنة في إثارة المعنى الراهن، والكشف عن الرهانات الأنطولوجية الكبرى والإثارات والمؤثرات والإكراهات والتحكمات التي يمارسها النص على المتلقي. (تمايز عن المنهج الاستشراقي الذي وقف عند حدود البحث الفيلولوجي التاريخاني، الذي يكتفي بالدراسات الوصفية والسردية للوقائع وللأحداث وللنصوص الإسلامية ولا يقوم بحفر أركيولوحي للكشف عن الأعماق المختبئة وراء خطابات الفاعلين الاجتماعيين أي المسلمين أنفسهم).
أحدث اركون قطيعة شبه كاملة مع آليات وعدة اشتغال الفكر الكلاسيكي، وهي قطيعة لا تقتصر على منطلقات التفكير، بل تطال المفردات والمصطلحات نفسها. فصار هنالك لغتان ومنطقان وفضاءان منعزلان، لا لغةَ تفاهمٍ أو تحاورٍ مشتركة بينهما، ولا إمكانية لتواصل وتفاعل ما بينهما. ما يضعُنا أمام دائرتين متضادتين من التفكير في النص القرآني، الدائرة الأرثودكسية (بتعبير أركون) المؤطرة تأطيراً قروسطياً، والدائرة ما بعد الحداثوية، ولا سبيل للإنتقال من الأولى إلى الثانية، إلا بالقفز فوق الفجوة السحيقة الفاصلة بينهما، أو زحزحة الاولى بالكامل لصالح الثانية. ما يضعنا، لا أمام مسار انتقالي، تتعاقب فيه الأطر الفكرية، بل أمام جزر فكرية متجاورة تنمو وتستمر بشكل متزامن، من دون أي اتصال تحاوري، أو تغذية متبادلة بينهما.
مشروع أركون، إعلان صريح بأن القطيعة الابستمولوجية مع التراث التفسيري والتأويلي، لم تعد خياراً بل باتت ضرروة حتمية، للخروج من السبات الدوغمائي، الذي ما يزال الكثيرون يرون فيه ميزةَ تفوقٍ وعلامةَ اصطفاء.