تكريم الدكتورة زهيدة درويش جبّور
إدارة الدكتورة تراز الدويهي حاتم
الأربعاء 14 آذار 2018
أيها الحضور الكريم،
يُسعدني أن أشارك في هذه الندوة المخصصة لتكريم البروفسور زهيدة درويش جبور كعلمٍ من أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي – الرعيل الثالث والثلاثون – في المهرجان اللبناني للكتاب – الذي تنظمه الحركة الثقافية – انطلياس، منذ سبعة وثلاثين عاماً.
أيها السادة،
غالباً ما تختار الجهة المنظمة لمعارض عدة في العالم، بلداً يحل ضيفاً على معرضها، وتكون مناسبة لإبراز تراث هذا البلد والتعريف به. أما الحركة الثقافية، فتكرّم في معرضها صانعي الثقافة أنفسهم، ممن ساهموا في إغناء تراثنا الثقافي وعملوا على نشر المعرفة خدمة للإنسان. وتخصص لكل منهم يوماً من أيام المهرجان، فيحمل اسمه. واليوم هو يوم البروفسور زهيدة درويش جبّور. في هذه المناسبة، لن اتناول سيرة ومسيرة السيدة المكرمة، فهي مطبوعة في كتيّب خاص بعنوان "أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي"، كما سيقوم بهذه المهمة الدكتور مصطفى الحلوة وبعض من عارفيها وقادري إنجازاتها سيضيئون في شهاداتهم على جوانب من شخصيتها. والفيلم القصير الذي عرض للتو يندرج ايضاً في هذا السياق.
لذا سأحاول فقط ان اشارككم سمةً واحدة تطبع، كعلامة فارقة، مسار هذه السيدة المثقفة والمنفتحة واتوقف عند شغفها بالحوار تنشده وتتلمس مبادئه في تحصيلها العلمي وكتاباتها الأنيقة وتجسده في حياتها اليومية. الدكتورة زهيدة فتشت دوماً عن مواضع التقاء، عن خيط رفيع مشترك يجمع بين اللغات، الآداب والبشر في أرض تعايش الأديان وتفاعل الثقافات والحضارات، في لبنان. هكذا فعلت في مقاربتها لأصالةِ اللغة العربية والحداثة في اللغة الفرنسية هي الحائزة اجازةً في اللغة الأم ودكتورة دولة في اللغة الفرنسية. فغاصت في خفايا اللغتين، محاولةً الولوج الى اسرارها والاضاءة على وجوه الاتصال بينها. ومن هذا المنطلق، هي تبعث نفساً حوارياً في مؤلفاتها وابحاثها. فتحت عناوين الأدب الفرنكفوني والأدب المقارن، تنكب على أعمال أدباء من لبنان ومن العالم العربي اختاروا اللغة الفرنسية لغةً للكتابة والتواصل مع الأرحب من البلدان، إعلاءً للحوار والانفتاح ومعرفة الآخر. كذلك الترجمات التي انجزتها هي مدى رحب للتواصل الثقافي والحضاري.
أما حوار الأديان فجسدته وعاشت قيم الإسلام والمسيحية من خلال تربيتها العائلية وزواجها من الدكتور جان جبّور. حتى في الأماكن الجغرافية لسكنها، تفتش الدكتورة جبور عن تكامل بين بيئة ساحلية وأخرى في الأعالي، بين خصائص مدينية وأخرى لمجتمعات جبلية.
هكذا هي، ملتزمة مبادئ الحوار والقيم الأخلاقية والوطنية، صورة مصغرة للبنان الثقافة، المتعدد، لبنان الرسالة، تعمل على نشرها على مدى الوطن من خلال دورها الأكاديمي وموقعها الأدبي وكأمينة عامة للجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو.
فهذا التكريم من الحركة الثقافية هو تحية لك، سيدتي، ولدورك النهضوي الذي نتطلّع اليه كهدف من أهداف حركتنا. هو تحية للعائلة التي تربيتِ في كنفها ونهلت من قيمها الأخلاقية والوطنية. وللعائلة التي أسستِ وزوجك الدكتور جان جبور – المدير الأسبق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية – الجامعة اللبنانية – الفرع الثالث، وللدكتورة جنى وزوجها. هي تحية لطرابلس العلماء والأرث الحضاري الغني، التي قاومت القوى الأصولية، الى طرابلس قلب الشمال النابض والعاصمة الثانية للبنان.
فهنيئاً لكِ هذا التكريم، إنك لجديرةٌ به ومستحقة.
وشكراً.
______________________________
كلمة د. مصطفى الحلوة في تكريم البروفسور زهيدة درويش جبّور
ضمن برنامج تكريم أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي
الحركة الثقافية- انطلياس/ الأربعاء 14 آذار 2018
أن يلفظَ البحرُ عند أقدامه حبّاتٍ من دُرّ مكنون، فالدرُّ في أعماقِهِ كامن!
وأن يأتينا بلؤلؤ ومرجان، فاللهُ- تعالى- " مرج البحرين يلتقيان... يُخرجُ منهما اللؤلؤ والمرجان، فبأيّ آلاء ربكما تكذّبان"(الرحمن: 19 و22 و23)
.. وأن ينشقَّ البحرُ، فينجلي عن حورية... هو أمرٌ عَجَب!
لقد فعلها بحرُ الميناء، ثغرُ طرابلسَ الأبديُّ، فإفترّ عن حوريةٍ، في أحسن تقويم، مُنادياً، بهدير موجه، أنْ صدِّقوا وآمنوا: عصرُ الأعاجيبِ لمّا ينتهِ، وهاكُمْ بُرهاني إن كنتُم من المنكرين!
أجل! هي حوريةٌ، من نحتفي بها اليوم، لها حكايات مع البحر وحكايات!
هي في حوارٍ مع البحر دائم؛ وللبحرِ لغتُهُ التي لا يفقهها إلاّ من كان له بالثغورِ صلةُ نسب! ولِمَ العجب؟ فمسقِطُ حوريتنا، بل ميناؤها- على ما يقولُ الدرباسُ رشيد- هي تلك المدينة التي "عقدت مع البحرِ صداقة، فكانت البيوتُ تستضيفُ، في باحاتها، الزبدَ والصدفاتِ التي تُوشوش أهل الدار بأسرار المحبة!" (ناقوس في أحد، ص 240).
وها هي الميناء، عَبْرَ أروع تجلٍّ ، في الرابع والعشرين من تشرين الأول، من ذاتِ سنة، تُشرِّع أبوابها لحوريةٍ، صيغتْ من دُرّ أعماقه، ولتزدادَ تألقاً على الزمن، فيكتب لها ابحارٌ بعيدٌ بعيدٌ، في أوقيانوس الإبداع، ويكون لها كلمةٌ عليا في فضاءات الفكر، كلمةٌ يتردّد صداها في الآفاق، بالغةً السبعَ الطباق!
قُلتُها يوماً، وأردِّدُها اليوم، فحوريتُنا قد تفتّح وعيُها على ربين، من دون شِرك: ربِّ العزة، بارئ هذا الكون، وربِّ الأسرة عدنان درويش- رحمه الله- إحدى القامات التربوية الكبرى في بلدي؛ فأحسنَ والوالدة تأديبها، وراحا ينفحانها، إلى حرية الروح، قيم الحق والخير والجمال، تستهديها أقباساً إلى سواء السبيل!
كما قُلتُها مرةً وأثنيِّ: اللهُ لم يُغادِرْها، فهو ساكنُها، آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار، تُسبِّحُ بحمده، ومن لدُنه المدد! ولِمَ العجب، فالزُهّادُ الدراويش، في أذكارهم وفي حالات وجدهم" يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكّرون في خلقِ السماواتِ والأرض، ربّنا ما خلقت هذا باطلاً سُبحانك" ( آل عمران/191 ).
.. ومن مقلبٍ آخر، هي حورية، تعهّدتها مدينةٌ للتسامح عنوان، وللعيش الواحد غير الزائف فضاء، ولعفوية أهلها مكان وسيع... وما علينا إلا أن نفزع ثانيةً إلى الدرباسِ رشيد، فيُنبئنا بما يعلم، علم اليقين، عن هذه المدينة التي "لا تعرف التعصب، لأن أسماعها والأفئدة مفطورةٌ على الأذان المرتفع إلى السماء وعلى إيقاع أجراس كنائسها، ولم تميّز بين فقير وميسور، فأهلها جميعاً أبناء التسعة أشهر، يتخاطبون بغير ألقاب،ويتعاملون فيما بينهم على قدرٍ ومساواة" (ناقوس في أحد، ص 241).
ومصداقاً لذلك ، فمن مقابلةٍ لمكرمتنا، مع إحدى الصحف ، يتحصّل أنها "بسيطةٌ جداً، وطبيعيةٌ جداً، وجدِّيةٌ جداً، تدركُ ما لها وما عليها، وهي حازمةٌ في طموحاتها، تحدّد الهدف وتسيرُ بخطىً ثابتة، وعندما تحققه ترسم هدفاً آخر وطموحاً آخر" (صحيفة البيان الطرابلسية).
.. هي ليست من الحالمات، وإن حققت في مسيرتها الظافرة ما يتجاوز الأحلام، فالواقعيةُ تُوقِّع خطواتها بحُسبان،والمنطق السليم أبجديتها العاقلةُ المتبصِّرة، تتقنُ عملها بمحبةٍ، بروحيةٍ جبرانيةٍ، حتى حدود التفاني.
.. وأما عن الأسرة النواتية، فعن الزوج جان بداءةً، فهو، إلى الزوج، الحبيبُ والصديق والشريكُ في كل إنجاز، ولولا تشجيعُهُ ووقوفُه إلى جانبها لما استطاعت أن تحقق أي شيء! ذلك ما أدلت به زهيدة في احتفاليةٍ تكريمية لها.
مهلاً ، زهيدة، فوضعاً للأمور في نصابها الصحيح، فإن كلاً منكما ظلٌ لقرينِهِ ظليل! لا يغيبُ الظل وإن انتصف النهار، بل كل واحدٍ لصاحبه، كما هارون لموسى، يشدُّ به أزره ويُشركُه في أمره!
.. وعن زرعهما الزوجي- هنا بيتُ ا لقصيد وقمةُ التجلّي- فقد انجلى ذلك الزرعُ عن أروع "جنى"، ما فتئ يُباركه هلالٌ وصليب، تعانقا ولا افتراق! وكأننا بإزاء قدرٍ يُحاكي قوله – تعالى – في محكم التنزيل" ولتجدنَّ أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنّ نصارى" ( المائدة /82 ).
وعن الجنى ثانيةً، بل عن تلك الـ"جنى"، فقد تجاوز الحصادُ ما ارتقب الزارعان، والمؤشرات واعدةٌ واعدة، "فمن آثارهم تعرفونهم"، كما يقولُ الإنجيل المقدّس.
ولعلها مفارقةً، بل قدرٌ، أن تعود الأمور سيرتَها الأولى، وليتجذّر، مع جناهما ومحمد ، ذلك العناق الأبدي بين هلالٍ وصليب!
أما بعد،
إذْ نعبُرُ إلى التشكيل الفكري والحراك الثقافي والسعي البحثي الدؤوب لدى مكرّمتنا، فهو حديثٌ لا يفيه لقاء! فزهيدة تُختصر بلقاء، إذا كان لعطر الوردة أن يُستوفى جميعُهُ بشمة، وإذا كان للعاشقِ أن يبلغَ نهاياتِ عشقه للحبيبةِ بضمة! فما أقساها عليَّ من مهمة! ولكن ما حيلتي، فليس لي إلا التوقف عند محطاتٍ بازراتٍ، علّني أحيطُ بغيضٍ من فيضِ سيرتها الثرّة، ومسيرتها المبدعة، عبر المواقع التي أطلت منها والفضاءات التي كان لها فيها تحليقٌ، وأيّ تحليق!
فهاأنذا، أحدّثكم عن تلك التي ترى إلى القراءة متنفّسَها، فأدمنتها حتى زوغ البصر! يسألها الشاعر هنري زغيب عن كلمة معينةٍ بالذات: ماذا تعني لها وبِمَ تُوحي، فتردّ: كثيرةٌ هي الكلمات التي أحبها وتُخاطبُ فيَّ الفكر والمخيلة والحواس.. ولكن الكلمة التي تلحّ عليّ في هذه اللحظة هي "إقرأ"، الكلمة التي هبطت على نبي الإسلام. فكل قراءة هي انتصار على الوحشة وتمرُّد على العُزلة وإثراءٌ للفكر" (صحيفة النهار- 28/7/2010).
ها أنذا، أحدثكم عن تلك القابضة، في الزمن الصعب، على جمر الكتابة، وقد وقر لديها أن الكتابة هي وظيفة تُرسِّخُ العلاقة بين الإبداع والمجتمع. بل هي الذاتي، وكذلك العام المرتبط بأسئلة الإنسان وبأزمات التاريخ الكبرى.
ها أنذا، أُحدِّثكم عمّن كان للكلمة عندها معنى خاص، وللشعر سحره الخاص، وللتعلّم فرحُهُ الذاتي، وللمعرفة وللبحث تجدُّد. بل أحدثكم عن تلك التي طبعت شخصيتَها شخصياتُ شعراء فرنسيين قلقين كبار أمثال: بودلير ورامبو ومالارميه والكونت لوتريامون (Lautréamont)، إلى كبار السورياليين، وصولاً إلى سان جون بيرس وجماعة (tel quel) وسواهم.
ها أنذا، أحدثكم عن زهيدة الناقدة الأدبية المرموقة التي لم يفلت من قبضة فكرها أيُّ حدث فكري أو ثقافي راقٍ، تناهى إلى علمها. ولقد مثّل أرشيفها ، في عالم النقد الأدبي، ذاكرة فكرية ثقافية جامعةً لأربعة عقودٍ من الحراك الفكري، على المستوى اللبناني والعربي، كما على المستوى الفرنكوفوني.
ولم يكن ذلك بمستغربٍ، فزهيدة قرأت تجارب كثيرين من الشعراء المبدعين، أمثال: أدونيس وناديا تويني وأنسي الحاج وشوقي بزيع وجودت فخر الدين، والقائمة طويلة طويلة، وما زال في الجعبةِ الكثير!
وإذْ نتوقف عند مراجعاتها النقدية لهؤلاء الشعراء، وسواهم من الشعراء الفرنكوفونيين، نرى أن مكرّمتنا تمحّي أمام النصوص التي تتعاطاها، تفكيكاً وتحليلاً، ولتصل إلى مُنتهى الشوط! فكتاباتها – والقول لها- تأخذ من جسمها ومن عصبها ومن قلبها، ذلك أنه لا يمكن التعامل مع الشعر إلاّ بهذا الاستعداد والتهيّؤ.
ومن جهتنا نرى، عبر تفحص دقيق لمنهجها في مختلف مراجعاتها النقدية، أنها لا تترك شيئاً من ذاتها خارج ذاتها، ولا من نفسها خارج نفسها! تدخل إلى النص بعقلها، بمجسّات أحاسيسها، بحواسها الخمس، فيتخلّقُ بين يديها نصٌّ آخر سويّ، قد يربو جمالاً أحياناً على النص المنقود!
وإذْ نأتي بشاهد من أهله، فشاهدُنا العدلُ هو الناقد عبده وازن، فهو في استعراضه قراءة زهيدة لأدونيس في "الكتاب"، يرى أن نصوصها النقدية تستحيل نصوصاً أدبيةً بدورها، غايتُها الكشف والإضاءة والتصنيف والتحليل، عبر أسلوب، يُسميه رولان بارت "لذة النص". وكأنّنا بها- والقول لوازن- تغوص على الكتاب غوص الصيادين القُدامى، لتصعِدَ من لجته بصيدٍ وفير (راجع، الحياة، 25 آب 2001).
.. وزهيدة، بقدرِ ما أبدعت في نقد الشعر المكتوب بالفصحى، فقد كان لها مؤخراً، عَبْرَ تجربة جنينية، أن تُبدع أيضاً في نقدها الشعر بالمحكية اللبنانية، مع ديوان الشاعر جرمانوس جرمانوس "يا ريت خليت العمر بالبيت" (ندوة أُقيمت في جامعة الروح القدس – الكسليك في 17 حزيران 2017).
... وعن الحيِّز الفرنكوفوني، من عالَم مكرّمتنا الفكري، فثمة سؤالٌ إشكاليّ وقضيةٌ فيها نظر!
لقد طفقت زهيدة، عبر كتاباتها النقدية الإبداعية، تُزاوج بين البُعد الفرنكوفوني والبُعد العربي المشرقي، فكان تلاقحٌ، وكان استنسالٌ سويّ لأعمالٍ نقدية، تستضيء من أقباس ذينك البُعدين الثقافيين والحضاريين، وبما جعلها بحق سفيرتنا فوق العادة إلى ذلك العالم الفرنكوفوني!
وفي الإطار الفرنكوفوني، كان لزهيدة إطلالاتٌ نقدية متميزة على نماذج روائية في الأدب الإفريقي والجزائري واللبناني والسوري المكتوب بالفرنسية.
.. في جلاءٍ لهذا الازدواج الثقافي الحميد، فإن زهيدة تصدر عن اقتناع راسخ بأن تنميط الفكر واختزال الثقافة في أنموذج واحد، لهو الفقر المدقع بعينِه!
إيضاحاً، فإن الكتابة بالفرنسية لم تعُدْ- وفق ما ترى- تنكراً للعروبة. بل على العكس، فهي قد غدت تعبيراً عن تجذّر معظم الأدباء الفرنكوفونيين لدينا بهويتهم العربية المنفتحة على الثقافة الفرنسية. فالأدب الفرنكوفوني- في عُرف مكرّمتنا- هو فضاء واسع لحوار وتفاعل خلاقين بين ثقافات كل الشعوب الناطقة بالفرنسية، في أربع جهات المعمورة.
وفي هذا المجال، نتمثّل بقولٍ فصل لواحدٍ من كبار الفرنكوفونيين في العالم، هو الشاعر والرئيس السنغالي سنغور: "الفرنكوفونية ثقافة، تتجاوز مجرّد النطق باللغة الفرنسية لتُصبح وسيلة، تعتمدها الشعوب الناطقة بهذه اللغة، لتُشارك في صُنع ثقافة إنسانية، ترتكز على مجموعة من القيم المشتركة".
هكذا، كمحصلةٍ، تغدو الفرنكوفونية لدى زهيدة، نقيض الهوية الأحادية المنغلقة على ذاتها، بما يُسقطُ كل الدعاوى التي ترى إليها خياراً سياسياً، وليس خياراً ثقافياً صِرفاً!
.. أما عن الهوية "الأونسكويّة"، لمكرّمتنا، فحدِّث عن الرسالة التي تتنكبها في واحدٍ من المواقع المؤثرة، كأمينةٍ عامةٍ للجنة الوطنية للأونسكو. فقد كان لهذا الموقع، الذي استحقته عن جدارة، أن يجلو شخصيتها أكثر ويُثريها، بفتحه أبواباً واسعةً على مؤسسات المجتمع المدني، وليكون ربطٌ توثقت عُراه بين هذا المجتمع ومنظمة الأونسكو، في إطار نشر أفكار هذه المنظمة وتحقيق أهدافها المتمثلة في قيم العدل والسلام وحقوق الإنسان والديمقراطية، هي وقيمٌ إنسانية عالمية.
ولا ريب أن هذا الموقع الثقافي الأسمى شرّع أمام مكرّمتنا ساحات القطاع التربوي والقطاع الثقافي وقطاع العلوم والاتصال، وهي الميادين التي لمنظمة الأونسكو فيها كبير حضور واهتمام.
... وعن الازدواج الوظيفي المهني، فإن زهيدة "اليونسكوية": وظيفةً ورسالة، لم تُطِحْ زهيدة البروفسورة الراسخة علّو كعبٍ في عالم التدريس الجامعي. فهي ما زالت قوية الحضور في الجامعة اللبنانية، موفقةً بين الرسالتين: رسالة اليونسكو ورسالة الجامعة الوطنية. إشارةٌ إلى أن موقعها في الجامعة اللبنانية هو الذي عبّد أمامها السبيل إلى سائر المواقع التي تشغل، والمهام الكبيرة التي تتقلّد، وهي كثيرةٌ كثيرة، بما يجعلها شخصيةً متعددة الشخصيات، إذا جاز القول!
.. وعن سجلها العلمي الطامي ، نستلّ بعض عناوين، أبرزها: هي حائزةٌ دكتوراه دولة من جامعة ليون -3- فرنسا، في العام 1985، عنوانها "القلق في الشعر الفرنسي في القرن التاسع عشر"، إلى دكتوراه حلقة ثالثة من الجامعة نفسها، وإلى إجازتين في الأدب الفرنسي والأدب العربي من الجامعة اللبنانية.
هي أستاذة في مِلاك الجامعة اللبنانية منذ العام 1979، وقد حاضرت في جامعتي البلمند والكسليك. وهي تشغل منذ تشرين الثاني 2011 الأمانة العامة للجنة الوطنية لليونسكو.
لها العديد من المؤلفات، بالفرنسية والعربية، نذكر منها:" الشعر والكشف في أعمال ناديا تويني"، "دراسات في الشعر اللبناني الفرنكوفوني"، "التاريخ والتجربة في الكتاب Iالأدونيس " الخ.
وعن مترجماتها، فأبرزها "حزيران والكافرات" لناديا تويني، "ليل القُرّاص" لفينوس خوري-غاتا، "الجغرافيا السياسية للمتوسط" لإيف لاكوست، وسوى ذلك من مترجمات.
وأما عن الأبحاث المنشورة في مجلات متخصصة، وعن المؤتمرات المحلية والدولية، وعن الندوات فحدِّث ولا حرج. وعن أي مؤتمر للفرنكوفونية فثمّت زهيدة في الغالب!
وعن عضويتها في اتحاد الكتاب اللبنانيين وعن مشاركتها في هيئات تحكيمية لجوائز أدبية، فإن لها حضوراً بارزاً.
وهي، إلى كل ذلك، حائزة وسام السعف الأكاديمية الفرنسي، من رتبة فارس، وذلك في العام 2002.
.. وإذْ ينتهي بعضٌ من إبحارٍ في سفين مكرّمتنا، وبإزاء ما وقفنا عنده من عظيم سيرة وجليل مآثر... كل أولئك يضعها في مصاف الكبار الكبار، يحضُرُني بيتان من الشعر لأبي الطيب المتنبي، أتمثّل بهما، في هذا المقام، مُتصرِّفاً بكلمة واحدة، وعُذراً من الرجال الرجال:
ولو كان النساءُ كمن (عرفنا) |
|
لفُضِّلت النساءُ على الرجالِ |
.. زهيدة درويش جبور سيدةٌ عظيمة من بلدي، بها فخارُنا والاعتزاز، رفعت اسم الفيحاء، اسم طرابلس والميناء، كما لبنان، في سماء الفكر. وقد تعدّى حضورها إلى العالم الفرنكوفوني الواسع، مما جعلها تتفلّتُ من أسار المحلي إلى العالمي، اللذين ما انفكّا يتجادلان تفاعلاً في أتون فكرها الخلاّق.
ويحلو لي قبل أن أختم، فأثبت كلمة رائعة لزميلنا المشتغل بالفلسفة الباحث اللبناني- الروسي د. سُهيل فرح، إذْ بعث بهذه الكلمة إلى مكرّمتنا، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، فقال: "كم أنتِ مميزة وعظيمة، أيتها الزميلة زهيدة! مميزة في طفولتك وشبابك الدائم، وفي خِياراتك الخاصة، وفي أسرتك النموذجية، وفي حياتك العامة.. في عطاءاتك الفكرية والثقافية التي لا حدود جغرافية ومهنية وإبداعية لها.. وأنتِ أنت العالمة جداً بمقولة أرنولد توينبي "التحدي والحضارة"! عظيمة في تمثّلك الإشراقي الصوفي للقيم الإنسانية والروحية المشتركة، ولمنطقة النور الواسعة الآفاق التي تشعّ من قلبك وعقلك، وتنشر حولها هالة رائعة الألوان في ثقافة نظر لآخرين...في عيد المرأة إليك، أيتها اليونسكوية بامتياز كل الود والتقدير". (منقول من صفحته على الفايسبوك، 8 آذار 2018).
ختاماً، إذْ نتوجه في هذا الحفل التكريمي إلى زهيدة وجان وجنى ومحمد بأسمى آيات التبريك والمحبة الخالصة، وإذْ ندعو للوالدة السيدة مُنيرة بطول العمر، نستمطر شآبيب الرحمة على الوالد الأستاذ عدنان درويش؛ وخيرُ تعزية نتقدم بها إلى زهيدة- وفي هذا الزمن الرديء- ما قاله شاعر فلسطين الأكبر محمود درويش:" كل الذين ماتوا نجوا من الحياة بأعجوبة!"
___________________________________
كلمة الدكتورة زهيدة درويش جبّور
في حفل تكريمي
في إطار تكريم أعلام الثقافة
في الحركة الثقافية أنطلياس
2018-3-14
الأصدقاء الأعزاء
بدايةً أوّد توجيه شكري العميق للحركة الثقافية أنطلياس أميناً عاماً وهيئة إدارية وأعضاء على التفاتتهم الكريمة، فقد منحوني شرفاً كبيراً من خلال إدراجي ضمن كوكبة من المساهمين في إثراء الفكر والثقافة في لبنان، وحمّلوني بذلك مسؤوليةً أرجو أن أبقى دائماً على قدر تحملها.
كما أعرب عن امتناني للأصدقاء الأعزاء الذين جاءوا وبعضهم من مسافة بعيدة ليشاركوني هذه المناسبة السعيدة. وهل أجد الكلمات التي تختزن شحنة المشاعر التي أثارتها في نفسي، شهادات هي أوسمة تكرّم بها عليّ أحباء تجمعني بهم زمالة فكرية، وتشدني إليهم مجموعة من الثوابت الوطنية والقيم الأخلاقية وفي طليعتها حرية الفكر، واحترام الحق بالاختلاف.
أنا إنسان تربى في مدرستين، الأسرة الصغيرة، والأسرة الأوسع المكونة من أدباء وشعراء ومفكرين أسهموا في تكوين قناعاتي ونظرتي الى نفسي وإلى الحياة والإنسان عامةً.
نشأت في عائلة تنتمي الى الطبقة الوسطى، والديّ نذرا مسيرتهما المهنية للتربية والتعليم، والدتي أورثتني كما تلامذتها الكثر حب اللغة العربية، ووالدي الذي تتلمذ في دار المعلمين على يد فؤاد إفرام البستاني وتدرج في حياته المهنية من أستاذ الى مدير لمدرسة ابتدائية قبل أن ينتقل الى التعليم الثانوي ثم الى رئاسة دائرة التربية في الشمال، علمني أن سر النجاح في الحياة هو الإلتزام والإخلاص في العطاء، وأن لا شيء أغلى من الحرية والكرامة.
أنا الأخت الكبرى لثلاث إخوة تقاسمت معهم كل شيء، مساعدة الوالدة في المهام المنزلية، كما اللعب وحتى لعب الصبيان. لم يكن بيتنا يميز بين صبي وبنت بل ربما كان هناك تمييز إيجابي، لذلك فإن وعيي لنفسي كان دوماً وعياً لإنسانيتي. فأنا أولاً إنسان ثم أنثى. في بيتنا تعلمت حب الوطن من خلال الأناشيد الوطنية التي كانت والدتي تتلوها على مسامعنا بصوتها الجميل، وأذكر أن عيد الاستقلال كان محطةً سنويةً ننتظرها فنبقى متسمرين أمام شاشة التلفزيون لمتابعة العرض العسكري. ولا تزال صورة الرئيس فؤاد شهاب التي تتصدر الحائط في مكتب أبي مطبوعةً في ذاكرتي، عنواناً للشعور بالعزة والكرامة. في بيتنا، لم نكن نتحدث عن الدين لكن الله كان موجود دائماً. في بيتنا الله هو الرحمة والمحبة والعمل الصالح. لذلك عندما التقيت بالرجل الذي ملك عليك كياني واخترته شريك حياتي، لم يكن اختلاف الدين ليقف حاجزاً بيننا، خاصةً وأن مباركة الأهل كانت السند والدرع الواقي من سهام وجهها بعض المغرضين في فترة كانت العصبيات الطائفية قد وجدت طريقها الى النفوس. جان وأنا مشينا خطواتنا الأولى على درب شراكة مبنية على الحب والثقة والاحترام المتبادل. فهو الداعم الأول والقارىء الأول والعين الساهرة. وأجمل ما جنيناه معاً هو جنى التي تعيش من جديد تجربة والديها مع شريك حياتها الدكتور محمد، ليؤسسا معاً عائلةً يسودها التوازن والانسجام وتختبر في حياتها اليومية جمالات الحوار والعيش مع الآخر المختلف. ولكن أليس كل إنسان مختلف وفريد في حد ذاته. الاختلاف هو جوهر الإنسان وهو المعنى الحقيقي لوجوده.
أربعة تركوا أثرهم في تفكيري: الأول هو الشاعر شارل بودلير الذي اكتشفته على يدي أستاذي في المرحلة الثانوية والذي أدين له بحبي للغة الفرنسية وشعرها، وهو كان شاعراً بدوره جوليان حرب، رحمه الله. وأول ما رسخ في ذهني في تلك الفترة من شعر بودلير هو قوله في إحدى قصائده: L’Art est long et le temps est court، إذ أدركت حينها أن معنى الحياة هو في السعي دوماً الى التجاوز حتى لو كنا موقنين بأن الهدف يستمر في الابتعاد.
الثاني هو الفيلسوف الفرنسي ميشال دو مونتانيي الذي علمني أن الطبيعة تكره التطرف، وأن سر السعادة هو في التوازن والاعتدال.
الثالث هو أنطوان ده سانت إيكسوبري الذي اتخذت من تعريفه المقتضب والعميق للحب قاعدة لبناء علاقتي مع شريك حياتي: Aimer ce n’est pas se regarder l’un l’autre c’est regarder ensemble dans la même direction.
أما الرابع فهو من أعتبره آخر عمالقة الزمن الجميل، ومن يجسد في نظري المثقف الإنسانوي والشامل بامتياز إنه غسان تويني الذي منحني ثقته وله أدين بولادتي الثانية، أي الولادة على عالم الكتابة والنشر.
ليس المثقف في رأيي من توفرت لديه المعرفة بل من تمثّل المعرفة واختمرت لديه فحولها الى سلوك وممارسة. إنه في رأيي الشخص القادر على الوقوف على مسافة من الواقع تمكنه من تحليله واتخاذ موقف نقدي منه وصولاً الى تكوين تصور عن مشكلاته واقتراح أفكار تتحول الى ممارسات يتبناها المجتمع. بهذا المعنى يكون المثقف عامل التغيير الأساسي في المجتمعات، وصمام الأمان الذي يضبط حركتها ويصوب مسيرتها.لكن ذلك يفترض تفاعلاً مستمراً مع الجمهور، وهذا ما ليس متحققاً في أغلب الأحيان لمعوقات عدة. لعل من أهمها أن الثقافة العربية بشكل عام لا تزال أسيرة رؤيا للعالم تقوم على التناقض والتضاد. إن منطق الثنائيات: القديم/الجديد، الأصالة/الحداثة، الأنا/الآخر، ينتج خطاباً يراوح بين توفيقية توليفية، وأحادية تتمظهر تقوقعاً في الماضي وغربةً زمنية من جهة، أو على العكس، تماهٍ أعمى وسطحي مع الحداثة، من جهة أخرى.
كما أن النزوع الى المسلمات والى تصنيم الأفكار ينعكس انحساراً للفكر النقدي. وكلنا يعرف أن المجتمعات الأوروبية لم تحقق الانتقال من التقليد الى التجديد إلا بعد أن نجحت في القيام بمقاربة نقدية للواقع بدأت في عصر النهضة نتيجة للاكتشافات العلمية التي أدت الى زعزعة الرؤية القديمة للعالم، ولحركة الإصلاح الديني وما نتج عنها لاحقاً من فصل بين الدين والدولة، وهذا ما لم يتحقق بعد في مجتمعاتنا عامة، وفي لبنان، خاصة حيث تطغى حقوق الجماعة على حقوق الفرد، ويحول نظام المحاصصة الطائفية دون قيام الديمقراطية الحقة التي تتأسس على المساواة بين المواطنين الأفراد في الحقوق والواجبات.
ومما لا شكّ فيه أن النظام التعليمي القائم يسهم الى حدٍ كبير في المحافظة على الأمر الواقع، لأنه لا يعتمد على بناء الرأي المستقل، ولا على تعويد المتعلم على التفكير بحرية وعلى إيجاد الحلول المبتكرة للمسائل المطروحة أمامه، وما يزيد في الطين بلة، هو أن وفرة المعلومات على الإنترنت عوضّ أن تحث معظم طلابنا في الجامعات على الاستفادة منها بتطوير معارف جديدة إنما تدفعهم الى الاستسهال والاكتفاء بنقل المعلومة دون تمثلها. هكذا يقبعون في أسر التكرار. لا أنفي بالطبع أن هناك استثناءات خاصةً في المجالات التي تقع خارج العلوم الإنسانية.
زدّ على ذلك التباس الهوية والذي يعود في رأيي الى المنطق الاختزالي الأحادي الذي يحول دون تحقيق الانسجام والتناغم بين مكونات الهوية التي لا بدّ أن تكون مركَّبة. فإذا اختُزلت الهوية في بعد واحد أو في أحد مكوناتها دون الآخر، تحولت الى هوية خانقة بل قاتلة. ويطيب لي هنا أن أستشهد بما كتبه شاعر لبناني باللغة الفرنسية، في أربعينيات القرن الماضي، في قصيدة نثرية، إنه فؤاد أبي زيد الذي يقول: "في عروقي دم لاتيني، وعربي، كذلك، وفارسي، ويوناني وروماني، وبيزنطي. كل الدماء لي وهي محمَّلةُ بالذكريات"
استطراداً، هناك أسئلة عديدة تطرحها الحضارة المعاصرة وليس أقلها تلك المتعلقة بالمادية المتوحشة، وتسليع الكائن البشري، والتهافت على الاستهلاك، وتفاقم العنف ونمو العصبيات والنزعات المتطرفة، تضاعف من مسؤولية المثقف، كما من الجهود التي يجب أن يبذلها، لأن عليه أن يمشي عكس التيار وأن يتحلى بالجرأة والشجاعة ليواجه الضغوط كما المغريات الهادفة الى تدجينه. يبقى أن سلاحه الأبقى هو التمسك بكرامته والحفاظ على استقلاليته وإخلاصه لقناعاته، في سعيه الدؤوب الى التغيير والتجدد. إن سرّ الينابيع في تدفقها المستمر، فيما الجمود هو حقيقة الحجر.
أحبائي
أود أن أختم بالقول أني مدينة للمدرسة الرسمية التي احتضنتني منذ أن كنت طفلة قي الثالثة من العمر، وللجامعة اللبنانية التي أعتز بأني من نتاجها وأفتخر بالإنتماء إليها، وللجنة الوطنية لليونسكو التي سمحت لي بالإطلالة على مجالات جديدة والتي أضافت بعداً جديداً على ثقافتي وأثرتني على المستوى العاطفي إذ صارت تربطني بكل فردٍ من طاقمها الوظيفي المتميز أواصر صداقة ومحبة صادقة، فأصبحت بمثابة عائلتي الثانية لي. وأدين بهذا التكريم لكل واحد منكم، الإخوة في الحركة الثقافية أنطلياس، الزملاء والأصدقاء الذين عبّروا في شهاداتهم عن عواطفهم الصادقة تجاهي، الأخوات والإخوة الذين شرّفوني بحضورهم. أما الصديقة العزيزة د. تريز دويهي حاتم فقد أغدقت عليّ من لطف عاطفتها، ما له كبير الأثر في نفسي، فلها مني كل المودة والمحبة.
ويسرني أن أهدي هذا التكريم، إلى من لم يبخل علي يوماً بالدعم والتشجيع ومن أستمد من حبه المتجدد كل يوم الثقة والأمل، الى جان شريكي في الحياة كما في الفكر، وأهديه إلى الإنجاز الأحلى والأغلى ابنتنا الدكتورة جنى.
شكري الخالص لكم جميعاً وكل الامتنان.
أيها الأحبة،
أرجو أن لا أكون قد أطلت عليكم، مع تجديد شكري وامتناني لكم.