المسرح والمواطنة
الجمعة 16 آذار 2018
كان اللقاء مع الممثل الأستاذ جورج خبّاز ممتعاً للغاية بسبب رقيّ تفكيره ورحابة صدره. علا التصفيق عند دخوله مسرح الأخوين رحباني وبعد أن هدأ الجميع ارتأيتُ العودة الى مسرحيات عاصي ومنصور الرحباني الغنائية (أي جسر القمر وهالة والملك وصحّ النوم وموسم العزّ) التي تشكّل حقبة مهمة من تاريخ مسرحنا الوطني قبل أن أعدّد مسرحيات جورج خبّاز الأربعة عشر وأن أجزمَ انها تشكّل أيضاً ظاهرة مهمة في مسار المسرح اللبناني. سألتُ ضيفنا عن علاقة المسرح بالمواطنة بعد أن توقّفت على معنى هذه الكلمة اذ أنها لا تقتصر على احترام النشيد الوطني وعلى تحية العلم اللبناني بل هي شعورٌ عميقٌ بالانتماء إلى الوطن والتزامٌ بالحفاظ على كيانه وتطويره. وجورج خبّاز بالتحديد فنانٌ ملتزم يسعى الى تفهم مشاكل الناس وإلى مداواة الأمراض المتفشيّة في مجتمعنا كالطائفية والفساد والمحسوبيات.
أفصحَ ضيفنا عن متعةٍ اكتشفها منذ الصغر وهي قدرته على إمتاع الناس والترفيه عنهم. دَفَعَهُ هذا الشعور إلى اختيار التمثيل والمضيّ في كتابة النصّ المسرحيّ.
ثم راحَ يحثُّ الصغار على اكتشاف مواهبهم وعلى توظيفها في المكان المناسب: "الموهبة سلاحٌ وحافزٌ لكلٍ منّا حتى يؤدي دوره في هذه الحياة. "علينا أن نكتشفَ هذه الموهبة فإذا وجدناها علينا بتعزيزها بالعلم والثقافة ومن ثمّ يجدرُ بنا توظيفها لخيرنا ولخير بلادنا لأن لبنان جديراً بعطائنا".
وبعد أن ثَبُتَ على اختياره النهج الكوميدي في التمثيل المسرحي اكتشفَ انه لا يفي بغرضه إلاّ إذا كان مقروناً برسالة اجتماعية ثقافية، إنسانية ووطنية. فالمسرح بنظره هو منبر تواصلي يتفاعل المُشاهد من خلاله مع النص ومع الشخصيات المسرحية وبخاصة يتفاعل مع نفسه، إذ أنه من خلال الشخصية التي تشبهه يتفاعل مع ذاته فيضحك من عيوبه أو يبكي على مصيره. فدور المسرح مشابه للمرايا التي تبرز لنا عيوبنا وآفات مجتمعنا. ومن هذا القبيل يتبيّن لنا دور المسرح في تغيير المجتمع. المَشاهد المسرحية مرآة ناصعة تعكس هواجس الناس وجدلياتهم، وتبرز همومهم اليومية الاقتصادية والوجودية. فللمسرح ثلاثة ابعاد: بعدٌ ترفيهي وبعد عاطفيّ مبنيّ على التفاعل مع الشخصية المسرحية. أما البعد الثالث أي البعد الفكري فهو قائم على قدرة النص المسرحي والمَشاهد المسرحية على ولوج ذات المُشاهد لتغييرها حتى يصبح هو بالذات قادراً على تغيير مجتمعه.
يسمح لنا الفنّ بالغوص في أعماق البشر فيقرّبنا ذلك من الانسان الآخر ويجعلنا نتقبله كما هو على علاّته ومشاكله. فنتروّى ونفكّر ملياً قبل محاكمته والنظر اليه بفوقيّة او بشفقة. ومن علل مجتمعنا الأساسية، النظرة المتخلّفة للمختلف غير اننا جميعاً مختلفون، كلٌ منا عنده اختلاف يميّزه عن الآخر والأديان ليست موضوع خلافٍ فاذا أردنا التقرّب من الله فعلينا التقرّب من الآخر حتى نعيش بسلام مع الآخر ومع ذاتنا.
روى جورج خبّاز لجمهوره زيارته المطوّلة لمدرسة الأولاد ذوي الاحتياجات الخاصة (Sesobel) وبرّر قبوله بدور الأب في فيلم غدي للمخرج أمين درّه: "من خلال هذا الدور أردت أن انطلقَ من الاختلاف الجسدي الى اختلاف من نوع آخر، فتقبّل الآخر على اختلافه هو هاجسٌ لا يتركني". ثم شدّد على وجوب اقتلاع النظام الطائفي المعوجّ من جذوره حتى نصل الى نظامٍ انساني والى قانون يتساوى فيه الجميع.
عندما أعطى الكلام للتلامذة تتالت الأسئلة وأتى على ذكر مسرحيته الأخيرة "إلاّ إذا..." وهي تدور حول مبنى على وشك الانهيار، ينتمي سكانه الى طوائف وأحزاب مختلفة. وبسبب خلافاتهم لم يتمكنوا من الوصول الى الحلّ المنشود. فبدلاً من أن يكون التنوّع عاملَ تقدّمٍ وغنى أضحى سلاحاً نستعمله ضدّ أنفسنا وضدّ المصلحة العامة. لقد قال أحد الصحافيين في هذه المسرحية. "إلاّ إذا... تُبرزُ جمالَ الطوائف وقُبح الطائفيّة".
هدى رزق حنّا
________________________________